العدة شرح العمدة [42]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد:

لا زلنا مع كتاب الحج والعمرة من كتاب العدة شرح العمدة للإمام موفق الدين بن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى.

قال: [ والتمتع: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ].

الحاج المتمتع يحرم بالعمرة في أشهر الحج، وأشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، والعشر الأوائل من ذي الحجة، هذه هي أشهر الحج.

وربنا يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، فمن أدى العمرة في هذه الأشهر: في شوال أو ذي القعدة أو العشر الأوائل من ذي الحجة ثم بقي في مكة وأحرم بالحج يسمى: متمتعاً.

وهنا سؤال: رجل من مصر أدى العمرة في شهر رمضان وبقي في مكة إلى أن جاء الحج فأحرم بالحج، هل يعتبر متمتعاً؟

الجواب: لا؛ لأنه أدى العمرة في رمضان وليس في أشهر الحج، فالمتمتع هو من يؤدي العمرة في أشهر الحج.

وهنا سؤال آخر: رجل أدى العمرة في شوال وهو من جدة ثم عاد إلى جدة وأحرم بالحج في ذي الحجة، فهل هو متمتع أم مفرد؟

الجواب: في هذا خلاف بين العلماء، فهو من جدة وأدى العمرة في شوال، وشوال من أشهر الحج، لكنه عاد إلى بلده ثم أتى من بلده محرماً بحج، فلا يعد متمتعاً؛ لأنه يشترط في المتمتع أن يبقى في مكة.

أيضاً سؤال آخر: رجل من مصر أدى العمرة في شهر ذي القعدة ورجع إلى مصر ثم عاد إلى مكة لأداء مناسك الحج، هل هو متمتع؟

لا يسمى متمتعاً؛ لأنه عاد إلى وطنه.

إذاً: المتمتع هو من يؤدي العمرة في الحج ويبقى في مكة، فإن أدى العمرة في أشهر الحج وبقي في مكة إلى أن جاء الحج ولبى بالحج يسمى متمتعاً، وإن عاد إلى بلده ثم لبى بحج بعد أن أتى موسم الحج أو في ذي الحجة فنقول: هو مفرد وليس بمتمتع.

ولو أن رجلاً أدى العمرة في رمضان وبقي في مكة إلى أن جاء الحج، فلبى بحج في يوم الثامن من ذي الحجة فيسمى مفرداً؛ لأنه أدى العمرة في أشهر ليست هي أشهر الحج.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والتمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه، والإفراد: أن يحرم بالحج وحده، والقران: أن يحرم بهما معاً، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج ].

نسك الحج: تمتع، وإفراد، وقران.

والنبي عليه الصلاة والسلام حج قارناً بلا خلاف، وتمنى أنه لو حج متمتعاً فقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة)، وهذا معناه: أنه يجوز لمن لبى بحج أن يدخل على الحج العمرة، وليس العكس عند الإمام أحمد ، فعنده لا يجوز إدخال العمرة على الحج، وإنما يجوز إدخال الحج على العمرة؛ لأن الصحابة الذين حجوا مع النبي عليه الصلاة والسلام حجوا قارنين فلما أدوا العمرة أمرهم أن يتحللوا ويدخلوا الحج على العمرة.

وهم في الميقات ما لبوا متمتعين وإنما لبوا قارنين، فأمرهم بالتحلل وأن يجعلوها عمرة، وأن يدخلوا عليها الحج.

قال الشارح: [ ويستحب أن ينطق بما أحرم به ليزول الالتباس، وتتأكد النية كما قلنا، ويشترط لما سبق من حديث عائشة وابن عباس ].

يعني: هنا المذهب يرى جواز النطق بالنية، فيقول: لبيك عمرة، أو لبيك حجاً، أو لبيك حجاً وعمرة، هذا نطق بالنية عند الإحرام ليبين النسك الذي أراد، وبعض العلماء يرون أن التلفظ بالنية حتى في الحج لا يجوز؛ لأن النية من أعمال القلب ولا تنصرف إلى الجوارح، والتلفظ بالنية يخالف المنقول ويخالف المعقول، يعني: هل رأيتم رجلاً حينما يخرج من بيته يتلفظ بما يريد أن يفعل فحينما يذهب إلى عمله يقول: باسم الله نويت الذهاب إلى العمل، أو إذا وضعت المائدة بين يديه يقول: باسم الله، نويت طعام الغداء؟ لا يمكن ذلك.

وكل الأعمال تحتاج إلى نية، والنية من أعمال القلب التي ينعقد عليها القلب فلا يصح لإنسان أن يتلفظ بالنية قبل عمله.

فالنسك ثلاثة: تمتع، وإفراد، وقران، وإذا أردت أن أحج متمتعاً فألبي بعمرة في الميقات: لبيك عمرة، ثم أؤدي العمرة، وأنتظر إلى يوم الثامن من ذي الحجة فألبي بحج، فأؤدي العمرة منفردة والحج منفرداً، وهذا جاء في القرآن: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196].

إذاً: المتمتع يؤدي العمرة منفردة ثم يتحلل ويبقى على تحلله، ويجوز له كل شيء إلى أن يأتي الثامن من ذي الحجة فيلبي بحج.

أما المفرد فيقول في الميقات: لبيك حجاً، فلا يلبي إلا بالحج ويأتي بمناسك الحج في موسم الحج، هذا حج مفرد.

أما القارن ففي الميقات يقول: لبيك حجاً وعمرة، ويؤدي طواف القدوم، ثم السعي إن أراد ويبقى على إحرامه ولا يتحلل أبداً إلى أن يرمي جمرة العقبة في يوم العيد، يعني: القارن يظل لابساً لإحرامه طول النسك ولا يتحلل أبداً؛ لأنه قرن بين حج وعمرة.

وكل من المتمتع والقارن عليهما هدي، وأما المفرد: فليس عليه هدي.

قال المصنف رحمه الله: [ ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم ينعقد إحرامه بالعمرة ].

ومذهب الإمام أحمد أنه لا يجوز أن يدخل العمرة على الحج، يعني: أنا أريد أن أحج مفرداً ونويت أن أؤدي نسكي مفرداً، فلا يجوز أن أدخل العمرة على الحج.

لكن إن حججت قارناً فيجوز أن أحول الطواف والسعي إلى عمرة وأتحلل وأحج متمتعاً، فأنا هنا أدخلت الحج على العمرة، فهنا نقطة مهمة جداً: يجوز إدخال الحج على العمرة، ولا يجوز إدخال العمرة على الحج.

ثم قال: [ فإذا استوى على راحلته لبى فقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، والتلبية في الإحرام مسنونة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر برفع الصوت بها، وأقل أحوال ذلك الاستحباب.

وروى سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا)، رواه ابن ماجه .

ويستحب أن يبدأ بالتلبية إذا استوى على راحلته؛ لما روى أنس وابن عمر : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل) أخرجه البخاري .

وقال ابن عباس : (أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته، فلما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل)، يعني: لبى، ومعنى الإهلال: رفع الصوت من قولهم: استهل الصبي إذا صاح ].

أهل يعني: رفع صوته بالتلبية؛ لأنهم كانوا إذا رأوا الهلال صاحوا بأعلى أصواتهم، ومنه استهلال الطفل صارخاً، نقول: استهل الغلام، يعني: رفع صوته؛ وهنا نقطة مهمة جداً يبينها ابن تيمية : أن الهلال لا نسميه هلالاً إلا إذا استهل به أهل الأرض وصرخوا به، يعني: عرفوه، وأخبر بعضهم بعضاً أن الهلال قد ظهر وبدا.

فلو ولد الهلال ولم يستهل به لا يسمى هلالاً.

إذاً: هنا نقول: العبرة في ثبوت الهلال هي استهلال الناس به وليس ميلاده.

ولذلك إذا استهل الصبي صارخاً بعد مولده تثبت له الأحكام الشرعية، فإذا استهل صائحاً بعد ميلاده ثم مات يرث؛ لأنه ثبتت له الحياة باستهلاله صارخاً، فالاستهلال هذا يثبت له به أحكام شرعية، أما إن نزل من بطن أمه ميتاً فلا يثبت له الميراث؛ لأنه لم يستهل صارخاً.

ثم قال: [ والأصل فيها أنهم كانوا إذا رأوا الهلال صاحوا فيقال: استهل الهلال، ثم قيل لكل صائح: مستهل.

وإنما يرفع صوته بالتلبية؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية) ].

رفع الصوت بالتلبية هذا بالنسبة للرجال، أما بالنسبة للنساء فتسمع المرأة نفسها ولا ترفع صوتها، وكان الصحابة إذا ما أحرموا عند الميقات بقوا يلبون حتى تذهب أصواتهم، أما نحن فأول ما نحرم من الميقات حتى نصل إلى الكعبة لا أحد يلبي إلا من رحم الله، وإذا لبى أحد الناس تعجب الناس منه وقالوا: ماذا يصنع هذا؟ فالمحرم يرفع الصوت بالتلبية إلى أن يبلغ الكعبة وحينئذ تنقطع التلبية إن كان معتمراً، وبعض الناس لا يلبي إلا إذا دخل مكة، وهذا غير صحيح، فالسنة: أنك بعد الإحرام من الميقات تستمر في تلبية، وانظر إلى فعل ابن عمر ؛ فقد كان ابن عمر يرفع صوته بالتلبية فلا يأتي الروحاء حتى يضمحل صوته.

وفي الحديث: (أفضل الحج العج والثج)، والعج هو رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة الدماء.

وقال ابن عباس : رفع الصوت زينة الحج، فزينة الحج أن يرفع صوته بالتلبية فيلبي بعد إحرامه.

قال: [ ولا يجهد نفسه في رفع الصوت زيادة عن الطاقة؛ لئلا ينقطع صوته فتنقطع تلبيته ]. يعني: أن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، فتجد بعضهم أول ما يأتي الميقات يحرم ويرفع صوته فوق الطاقة فلا يلبث إلا قليلاً حتى يذهب صوته، فلا رفع فوق الطاقة ولا خفض بحيث لا يسمع أحداً، وإنما تلبية بصوت معتدل.

ثم قال: [ وجاء في الصحيحين عن ابن عمر : (أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ].

والتلبية مأخوذة من قولهم: لب بالمكان إذا لزمه ]. يعني: إذا لزم المرء مكاناً يسمى لب بالمكان، يعني: لزم المكان وأقام به ولم يفارقه، فتقول: أنا يا رب! ملازم لطاعتك، ومفارق للمعصية.

ثم قال: [ فكأنه قال: أنا مقيم على طاعتك وأمرك غير خارج عن ذلك ولا شارد عليك ].

كرر لفظ (لبيك) لأنه أراد إقامة بعد إقامة، يعني: أنا أستجيب لأمرك إجابة تلو إجابة.

(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، أن الحمد والنعمة لك) يعني: ألبي لأنك لك الحمد، ويجوز: (إن الحمد والنعمة لك) أي: الحمد لك، فتكون (إن) أعم و(أن) أخص؛ ولذلك ابن حجر يقول: (ربنا ولك الحمد) عند الاعتدال من الركوع أفضل من: (ربنا لك الحمد)؛ لأن فيها ثناءين على الله عز وجل: الثناء الأول: (ربنا) أثبت أن الله رب، الثناء الثاني: (ولك الحمد)، وأما (ربنا لك الحمد) فجملة واحدة، إذاً: الأولى أفضل، هذا كلام ابن حجر ، وهذا صحيح.

استحباب الإكثار من التلبية

قال: [ ويستحب الإكثار منها على كل حال؛ لما روى ابن ماجه عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يضحي لله ويلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كيوم ولدته أمه)، ويستحب رفع الصوت بها؛ لما سبق، ولا يستحب ذلك للنساء؛ لأنهن عورة، فالإخفاء في حقهن أستر لهن ].

المرأة تلبي فلا تسمع إلا نفسها.

وصوت المرأة ليس بعورة، لكن إن ارتفع الصوت عن الحد المطلوب فيعتبر فتنة، إنما قولنا: صوت المرأة عورة هذا الكلام غير صحيح من وجوه كثيرة شرعية، فإن الله عز وجل قال في سورة البقرة: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282].

فإذا كنت مديناً لك وكتبنا الدين واستشهدنا رجلاً وامرأتين على الورقة، فجحدت الدين وأنكرته، فرفع الأمر إلى القاضي، والقاضي طلب الشهود الرجل والمرأتين وسألهم: هل أقرض هذا الرجل هذا الرجل بهذه الورقة؟ فهل تجيب المرأة أم تتنحنح لأن صوتها عورة؟ هذا لا يمكن أبداً، فالقرآن أباح لها أن تشهد، إذاً: هنا نقول: صوتها ليس بعورة.

ولننظر في حديث البخاري : (هل على المرأة غسل إذا هي احتلمت يا رسول الله؟! قال: نعم، إذا رأت الماء) وقالت النساء: (يا رسول الله! اجعل لنا يوماً كما للرجال أياماً).

إذاً: تحدثن، وقد ثبت هذا من طرق عدة لكن المنهي عنه هو الخضوع بالقول، قال عز وجل: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، إذاً: المنهي عنه هو الخضوع، وإنما المطلوب أن يكون صوتها على طبيعته، وبعض الإخوة يأمر زوجته -وهذا غير شرعي- أنها تخشن الصوت، وإذا تكلمت لا تعرف هل هي رجل أم امرأة، وهذا غير صحيح، بل اتركها على طبيعتها فلا تلين ولا تغلظ، فالمنهي عنه للمرأة الخضوع بالقول وليس النهي عن القول.

فصوت المرأة ليس عورة إلا إذا كان في معصية الله، أما إذا كان في الطاعة فنأمرها أن تخفض الصوت، فما بالك بالمعصية بأن تقف وتغني وتهيج الدنيا؟! نسأل الله العافية.

قال المصنف: [ وهي آكد -يعني: التلبية- إذا علا نشزاً ].

النشز: العلو والترفع، ومنه النشوز، قال تعالى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النساء:34] النشوز هنا: العلو والترفع على الرجل، ومنه نشزت الأرض، أي: ارتفعت، وأرض ناشزة، يعني: مرتفعة.

فنشوز المرأة: ترفعها على الزوج، فلا تسمع له كلاماً، ولا تطيع له أمراً.

فتتأكد التلبية إذا علا مكاناً مرتفعاً.

قال المصنف: [ أو هبط وادياً أو سمع ملبياً أو فعل محظوراً ناسياً أو لقي ركباً وفي أدبار الصلوات المكتوبة وبالأسحار ].

هذه أوقات يستحب فيها أن يكثر من التلبية؛ لحديث جابر ، وحديث جابر بن عبد الله في مسلم هو العمدة في حجة الوداع؛ لأنه روى الحج كما رآه في صفحتين أو ثلاث في صحيح مسلم ، فحديث جابر هو مرجعنا في حجة النبي عليه الصلاة والسلام، وفيه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي في حجته إذا لقي ركباً أو علا أكمة أو هبط وادياً وفي أدبار المكتوبة ومن آخر الليل).

قال إبراهيم النخعي : كانوا يستحبون التلبية دبر الصلاة المكتوبة وإذا هبط وادياً، وإذا على نشزاً، وإذا لقي ركباً، وإذا استوت به راحلته .