تفسير سورة القيامة [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أول بلا ابتداء، وآخر بلا انتهاء، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن نبينا ورسولنا سيدنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.

ثم أما بعد:

فلازلنا مع كتاب ربنا سبحانه نعيش مع سورة القيامة، وهي سورة مكية، عدد آياتها أربعون آية، والقرآن المكي يتصف بسمت خاص، وهو معالجة قضية العقيدة؛ لذلك تبدأ الآيات بالقسم بيوم القيامة.

يقول ربنا سبحانه: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:1-15].

تبدأ الآيات بالقسم بيوم القيامة.

فقوله: (لا أقسم) قال ابن الجوزي في زاد المسير: وأجمع جمهور المفسرين على أن نفي القسم قسم؛ لأنه ربما يقول قائل: يقول الله: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ [البروج:1-2] فأقسم بيوم القيامة، وهنا قال: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1] فكيف نجمع بين الآيتين؟ وحاشا لكتاب الله أن يتعارض، ولذلك صنف العلامة الشنقيطي كتاباً سماه: (دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب) بين فيه أن البعض لسوء فهمه يتوهم أن في آيات الله تضارب، ومنها: قول ربنا في سورة الكهف: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [الكهف:53]، ففي الآية إثبات لرؤية المجرمين للنار، وفي سورة طه: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]، فكيف يحشر أعمى ويرى النار؟ فنقول: يستحيل أن تتعارض الآيات، ولكن المعنى: أنه تارة يحشر أعمى، وتارة يحشر مبصراً، وهذه أحوال للحشر يوم القيامة.

ويقول ربنا سبحانه أيضاً: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1-2] وقال: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3]، فأقسم في موضع بالبلد الآمين، وفي الموضع الآخر قال: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1]، فهل هذا تعارض؟ نقول: لا تعارض: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، فنفي القسم هنا هو بمعنى القسم، وقوله: لا أُقْسِمُ [البلد:1] أي: أقسم.

والله سبحانه يقسم بما شاء، أما نحن فلا نقسم إلا بالله، والقسم بغير الله شرك، فلا يجوز لموحد أن يقسم بالكعبة، ولا بخير البشر محمد صلى الله عليه وسلم، ولا بحياة شيخه، ولا برحمة أبيه، ولا بولده، كما نجد هذا في زماننا هذا من أرباب التصوف وأدعيائه؛ فإنك إذا حلفت له بالله لم يصدقك، فإن قلت له: وشيخي! فلان، قال: صدقت، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فالله عندهم أقل قدراً من شيوخهم! وهذا شرك واضح بين، ولذلك لابد أن نتخلص من هذا، فلا نقول: والنبي، ورحمة أبي، ورحمة أمي، وحياة ابني، والغلاوة، والإخلاص، فإنها أيمان كلها باطلة، لا ينبغي أن تخرج من فم موحد، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، فالله يقسم بما شاء، وللعلامة ابن القيم مصنف قيم في أقسام القرآن، أفرد فيه الأقسام في القرآن بالتصنيف، وذكر كل قسم ورد في القرآن.

أقسم الله بآيات، منها قوله: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا [الشمس:1-3].

وقوله: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2]، بل أقسم بحياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك ربنا يقسم بما شاء.

قوله: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1]، يوم القيامة اسم لليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين من قبورهم، وقد تعددت أسماؤه في القرآن، حتى عدها القرطبي في التذكرة أكثر من سبعين اسماً، والشيء كلما عظم تعددت أسماؤه، لذلك تجد السيف تعددت أسماؤه عند العرب؛ لعظمه، فالقيامة في القرآن وفي السنة أسماؤها متعددة، فهو يوم التغابن، وهو يوم الحشر، وهو يوم الفزع الأكبر، وهو يوم الحسرة، وهو يوم الطامة، والصاخة، والواقعة، والغاشية، وكل اسم من أسمائه له مدلول يدل عليه، فسمي بيوم الحسرة؛ لأن الجميع يتحسر فيه، يتحسر المؤمن على ضياع وقت دون أن يزداد إيماناً إلى إيمانه، والكافر يعض على أصابعه ويتحسر، قال عز وجل: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39].

قال عز وجل: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:2]، والنفس اللوامة الراجح من أقوال المفسرين فيها: أنها النفس التي تلوم صاحبها، تلومه على ضياع أوقاته دون أن يعمرها بطاعة الله أو بذكر الله، فالنفس واحدة وصفاتها متعددة، يقول شيخ الإسلام : النفس واحدة ولها صفات متعددة، فقد تكون نفساً لوامة، وقد تكون نفساً مطمئنة، وقد تكون نفساً أمارة بالسوء.

ولا فرق بين النفس والروح عند السلف؛ لأن الله قال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي [الفجر:27-29]، فالنفس هنا هي الروح، ولذلك ربنا يقول: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:7-10].

وكيف نزكي النفس؟

نزكيها بالطاعات التي وردت عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتزكية النفوس عند السلف وعند أهل البدع موضوع طويل، فمن أهل البدع من يزكي نفسه بالرقص، والطبل، والتمايل يميناً ويساراً، وبإحياء البدع، وللعلامة ابن حجر كتاب: (تبيين العجب بما ورد في شهر رجب) وذكر أنه لم يثبت في فضله حديث صحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام، وقد كانت الجاهلية تعظم رجباً، والآن عندنا أناس ينسبون إلى أهل العلم ظلماً لا يتقون الله عز وجل، يقول أحدهم: ولقد جاء في شهر رجب الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله!

فنقول: يا رجل! من صحح هذه الأحاديث؟

وتجد مثل هذا في وسائل الإعلام المرئية، والمسموعة، والمقروءة.. وغيرها، حتى إن بعضهم عند رؤية هلال رمضان يذكر الأمة بحديث موضوع: (رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي)، وهذا حديث موضوع مكذوب، فنقول له: كيف تنسب إلى رسول الله ما لم يقل؟

وسأقرأ كلام العلامة ابن حجر في كتابه الذي بين يدي: (تبيين العجب فيما ورد في شهر رجب)، بل إن البعض في ليلة السابع والعشرين يقيمون السرادقات؛ لإحياء ليلة الإسراء والمعراج، وهذه بدعة محدثة.

وأقسم بالله! إن أضعف الأقوال هي في رجب، وما قال بها أحد من أهل العلم المعتبرين، إنما الراجح أنه كان في ربيع الأول، يقول شيخ الإسلام في ذلك: إن ليلة الإسراء والمعراج ليس لها خصوصية، ولم يقم دليل على أن السلف كانوا يحتفلون بها، ولا بقيام ليلها، ولا بصيام نهارها، فلماذا تلبسون على الناس؟ ولماذا تبتدعون؟ أما تخافون أن تكونوا جسوراً يعبر على أجسادكم إلى نار جهنم؟ أما تتقون ربكم؟

فهؤلاء دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، باعوا دينهم بدنيا غيرهم، وهم يعلمون الصواب، فهؤلاء لا يقرءون ماذا قال حفاظ الأمة؟ أما يقرأ طالب العلم في الرحيق المختوم: واختلف العلماء في الإسراء والمعراج إلى ثمانية أقوال أضعفها أنه في رجب، ومنهم من قال: كذا، ومنهم من قال: كذا؟

وخديجة رضي الله عنها صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلاة، فموت خديجة كان بعد الإسراء والمعراج، وهذا هو التحقيق التاريخي، وموت خديجة كان قبل الهجرة.

إذاً: الإسراء والمعراج كان قبل موت خديجة وقبل الهجرة، وبالتحقيق عند العلماء تبين أنه في شهر ربيع الأول، وما قال أحد: إنه في رجب، إلا أقوال ضعيفة شاذة، ولكن هناك من يصرون على هذا، ويقحمون الأمة في البدع والأهواء، ويلبسون على العامة، نسأل الله العافية.

فربنا أقسم بالنفس اللوامة التي تلوم صاحبها بعد كل فعل، فالنفس: إما مطمئنة، أو أمارة بالسوء، أو لوامة.

قال تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ [القيامة:3]، أي: أيظن أننا لا نقدر على أن نبعثه بعد الموت، وأن نجمع تلك العظام المبعثرة النخرة المشتتة؟

ثم قال تعالى: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة:4] وهذه نعمة عظيمة، فانظر إلى خف الجمل كيف حاله؟ تجد أنه مستطيل طبقة واحدة، فهب لو أن الأصابع هذه ملتصقة ببعضها، وليس هناك أصابع منفصلة عن بعضها، وأن يدك كالحافر أو كالخف تماماً، كيف تستطيع أن تأكل؟ هل تأكل بفمك لا بأصابعك؟ وكيف تستطيع أن تكتب؟ لا تستطيع إذا كانت اليد قطعة واحدة، فيوم أن تلتصق اليد ببعضها وتصبح كحافر البعير يعجز الإنسان عن الطعام، والكتابة.. وغير ذلك، لكن من الذي فرق هذه الأصابع، وجعله يكتب، ويأكل بها، وتخيل قبح منظره حينما يأكل بفمه مباشرة دون أن يستخدم اليد.

فقوله تعالى: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة:4] المعنى: أن الأصابع التي خلقها الله مختلفة البنان، والله قادر على أن يلصق بعضها ببعض فتصبح كخف البعير، ولكن الله سواها، وأحسن خلقته، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8].

قال تعالى: بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ [القيامة:5]، يلتمس لنفسه الأعذار، ويسوف التوبة، ويظن أنه لا بعث.

يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [القيامة:6] يستهزئ، ونحو ذلك: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس:48]، استهزاء، كما يستهزئ بعض الجهلة اليوم بالموحدين وأصحاب الدعوة، فتقول لأحدهم: يا رجل! تعال إلى الصلاة، فيقول: خذني على جناحك يوم القيامة، فيستهزئ، ورجل يسخر من يوم القيامة، ويسخر بالموعد، ويسخر باللقاء، فهذا طبع الله على قلبه؛ ولذلك يقول ربنا: بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [القيامة:5-6]، مَتَى هُوَ [الإسراء:51]، يقول الله سبحانه: قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء:51].

قال تعالى: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ [القيامة:7] وبرق: فزع، وشخص، وتحير يميناً ويساراً.

وَخَسَفَ الْقَمَرُ [القيامة:8]، الخسوف والكسوف للشمس والقمر على السواء، والإمام البخاري في صحيحه يقول: باب الكسوف للقمر والشمس والخسوف أيضاً.

قال الله تعالى: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [القيامة:9]، يجمع الله الشمس والقمر ويكورهما، قال تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:38-40]، إلى أن يأتي أمر الله فيخسف القمر، وتكسف الشمس، ويجمعهم الله سبحانه: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ [القيامة:9-10].

في يوم الزلزال فر الناس من الطابق السابع إلى الطابق الأرضي، وفر الناس من الأماكن المرتفعة إلى المنخفضة، هرباً من الزلزال وآثاره، إنما في يوم الزلزلة الكبرى أين ستفر؟ والمرضعة كانت ترضع ولدها الصغير فجاء الزلزال، واهتزت العمارة فهرعت إلى الصغير تحضنه وألصقته إلى صدرها، ونزلت مسرعة إلى الأرض، لكن في يوم الزلزلة العظمى تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].

قال عز وجل: يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ [القيامة:10]، أين أذهب؟ أين أختبئ؟ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة:12]، أي: المآل والمرجع إلى الله عز وجل: إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى [العلق:8].

ثم قال تعالى: يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة:13]، بما قدم من طاعات، وأخر من معاص.

(يُنَبَّأُ الإِنسَانُ) أي: يخبر يومئذ بأعماله، فالسعيد من أخذ كتابه بيمينه، ونظر في صحيفته، فوجد فيها الصلاة، والصيام، والزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإحياء السنة، والتمسك بعقيدة السلف، وبمنهج السلف في العبادة، عندئذ يرفع الصحيفة بين الناس جميعاً ويقول مفتخراً متباهياً: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20] كتابي بيميني أبيض كالصفا، فيه أعمال وطاعات.

والآخر يأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، ووجهه أسود كالح، ذليل، منكسر، فيه ربا، وفيه زنا، وفيه حرب لله ولرسوله، وفيه حرب على الدعاة والموحدين، وفيه إجرام وظلم، فماذا يقول لربه؟

قال تعالى: بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14]، كل إنسان يعرف أعماله، يعرف أنه أغلق الأبواب، وأغلق النوافذ، واختبأ في الحجرات المظلمة، يعرف أعماله.

ثم قال تعالى: وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:15]، لو اعتذر إلى ربه يوم القيامة عن أعماله يختم الله على فمه، فتنطلق الجوارح لتشهد على العبد العاصي، فلسانه يشهد، ويده تشهد، وفرجه يشهد، وفخذه يشهد، وعينه تشهد، وجوارحه تشهد، والأرض تشهد عليه؛ لذلك يقول سبحانه في سورة الزلزلة: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:4-5]، قالوا: (يا رسول الله! ما أخبارها؟ قال: تأتي الأرض يوم القيامة وتشهد على من فعل عليها معصية)، فتشهد عليك أيها العبد.

قال تعالى: وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:15] أي: اعتذاراته.

جاءت الآيات بنداء إلى خير الأنام عليه الصلاة والسلام؛ فقد ثبت في صحيح البخاري في كتاب بدء الوحي من حديث ابن عباس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه خلف جبريل حينما ينزل عليه؛ خوفاً من تفلت القرآن من صدره، فقال له ربه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ [القيامة:16-17]) ، وهذا الجمع في صدر الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم هو الجمع الأول للقرآن.

وقوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16]، في الآية أدب لطالب العلم، يقول السعدي في (تيسير الكريم الرحمن): وفي الآية أدب لطالب العلم ألا يتعجل العالم، وألا يقطع عليه موعظته، فإن كنت في درس علم وتريد أن تسأل سؤلاً فانتظر إلى آخر كلامه، فربما أجاب عما تريد أثناء الحديث، وهذا كثير يقع، فبمجرد أن ندخل في موضوع إذا بطالب العلم يرفع يده يريد أن يقطع الكلام؛ ليسأل عن شيء سيأتي بعد قليل، فلا تتعجل، فهذا أدب بين العالم وبين المتعلم، ومثل ذلك قول الله في سورة طه: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].

واسمع العجب من بعض من ينسبون إلى التصوف في عهدنا حيث قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحفظ القرآن قبل أن ينزل عليه جبريل؛ لأنه كان يحرك لسانه، وكان يتعجل به قبل أن يقرأه جبريل، فكان يعلم القرآن قبل أن ينزل عليه.

نقول: يقول سبحانه: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48]، ولما قال له جبريل: اقرأ، قال: (ما أنا بقارئ).

هذا قول أحد أقطاب الطريقة البرهانية في أحد كتبه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم القرآن قبل أن ينزل عليه فهو يفهم من الآية فهماً خاصاً لم يفهمه أحد من السلف على الإطلاق، وما قال به أحد من العلماء المعتبرين في الأمة، ويقولون: إن علمهم علم لدني، بوحي وإلهام، ويقولون: أنتم لكم علم الورق ونحن لنا علم الخرق.

قيل لرجل منهم: ألا ترحل لتسمع الحديث من عبد الرزاق صاحب المصنف في اليمن؟ قال: وما يصنع بالسماع من عبد الرزاق من يتلقى من الخلاق؟ هؤلاء أقوام يقول أحدهم: حدثني قلبي عن ربي. حتى إن أحدهم ذهب إلى الصعيد ثم جاء يقول لي: ما لنا وما للبخاري ، ومسلم ، وابن كثير ؟ احرق الكتب يا شيخ! فقلت له: لم؟ قال: العلم اللدني هو طريق التعلم.

ففي عصرنا من يقول هذا، وتفتح له كل المجالات ليضل الأمة، ويبتدع في دين رب العالمين.

وللحديث بقية في اللقاء القادم إن شاء الله.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين، ورازقهم.

أيها الإخوة الكرام! يقرر علماء الأصول أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، واليوم هو غرة شهر رجب، وشهر رجب من الأشهر الحرم، وهو رجب الفرد، وأسماؤه عند السلف متعددة، وصلت إلى ثمانية عشر اسماً، كان الجاهليون يعظمون شهر رجب.

قال ابن حجر في كتابه (تبيين العجب بما ورد في فضل رجب): لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيء منه ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة، وما ورد إما ضعيف وإما موضوع، وأما ما يعتقده البعض أن الإسراء والمعراج في رجب فهذا أضعف أقوال العلماء، ولم يؤثر عن السلف في القرون الثلاثة الأول بحال أنهم كانوا يحتفلون بليلة الإسراء أو يخصونها بصيام أو باحتفال كما يفعل البعض، هذا الأمر الأول.

الأمر الثاني: أفتى شيخ فقال: إذا كان تعليق الصور والتماثيل لا يدعو إلى عقيدة فلا بأس به؛ فإن أمنا عائشة كان عندها تماثيل وشيء من هذا فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على هذا.

فنقول له: أتريد أن تلبس على الأمة؟! قبل ذلك طعنت في المهدي على الشاشات فعذرناك وقلنا: ربما تعود عن قولك، رغم أن أحاديث المهدي بلغت حد التواتر، وأفردها العلماء بالتصنيف، فلشيخنا العلامة الدكتور عبد المحسن العباد مصنف في أخبار المهدي ذكر فيه أكثر من خمسين حديثاً، وأنت تظهر على الشاشة وتقول: لم يثبت حديث واحد في المهدي المزعوم! فهل أنت تراجع حفاظ الأمة؟ أما تتقي الله؟! واليوم تقول: تعليق الصور والتماثيل طالما لا يدعو إلى عقيدة فلا بأس به، أما قرأت أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل علياً فقال له: (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته)، ولم يقل له: يا علي ! التماثيل التي لا تحمل عقيدة اتركها، وإنما قال: (ولا تمثالاً) وهذه نكرة تفيد العموم، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب)، والصورة عامة، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم عند عائشة ستارة فيها تصاوير فجذبها ومزقها، فجعلتها عائشة وسادة. وقال عن خميصة بها خطوط: (إنها شغلتني عن الصلاة).

وقال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)، وأول ما دخل الشرك إلى البشرية دخل عن طريق صورة وتمثال لرجال من الصالحين عبدهم قوم نوح، فلما طال العهد عبدوهم، كما روى البخاري في صحيحه.

والتماثيل لمطربة الغناء الشعبي، ولزعيم فقيد الأمة الذي جوعها وقذف الموحدين في غيابة الجب، أو لرجل لم يتق الله، أو لرجل نادى بتحرير المرأة، وبأن تخلع النقاب والحجاب.

وآخر أمر جاء من محافظة بور سعيد أن هناك اقتراحاً بإنشاء تمثال لـدي لسيبس ، أتدرون من دي لسيبس ؟ إنه الذي سخر آباءنا وأجدادنا في حفر القناة بدون مقابل، حتى كان من يخرج يعتبر في عداد الأموات، هذا المهندس الفرنسي الكافر المجرم يريدون أن يعظموه بإقامة تمثال له في مدخل المدينة الحرة، ولا أدري فربما ينشئون تمثالاً لـعمرو بن لحي ؛ لأنه أعاد عبادة الأصنام إلى مكة.

فهذا المفتي يقول: إن عائشة كان عندها تماثيل، فنقول له: يا دكتور! إنها ألعاب الأطفال يعفى عنها، أما كلامك هذا فيلبس على الأمة، فاتق الله في نفسك.

جلس ابن الجوزي يوماً في العراق ليحدث الناس فرأى بين يديه أكثر من خمسين ألفاً يحضرون درسه، فنظر إلى نفسه ثم قال: اللهم إن قدرت علي عذاباً في الآخرة فلا تخبرهم بعذابي؛ حتى لا يقولوا: عذب من دل عليه، فهؤلاء علماء يهابون الله ويخافونه.