تفسير سورة القلم [7]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سللاة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون.

خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة سوداء للناظرين، ثم خلق العلقة مضغة بقدر أكلة الماضغين، ثم خلق المضغة عظاماً كأساس لهذا البناء المتين، ثم كسا العظام لحماً هي له كالثوب للابسين، ثم أنشأه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، ثم إنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، يغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، فهو مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف شاء وحسبما أراد.

فاللهم يا مثبّت القلوب ثبت قلوبنا على دينك.

وأشهد أن نبينا ورسولنا وشفيعنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.

ثم أما بعد:

فيا أيها الإخوة الكرام الأحباب! تحدثنا في اللقاءات السابقة عن التدابير والوسائل والسبل التي وضعها الإسلام ليغلق على الناس تلك الجريمة ألا وهي جريمة الزنا، ومن التدابير والسبل التي ذكرناها: تيسير أمر الزواج، والزواج كما بينا في اللقاء السابق سنة ربانية وحتمية طبيعية؛ لأن الإنسان لا يمكن بحال أن يعيش منعزلاً أو منفرداً بدون زوجة، ولذلك لما خلق الله آدم خلق له حواء، كما قال ربنا سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1]؛ ليطمئن إليها، ويسكن إليها، وجاءت الأحاديث وأقوال الصحابة تبين ذلك.

يقول ابن مسعود رضي الله عنه: لو لم يبق من حياتي في الدنيا إلا عشرة أيام وكان بي مقدرة على الزواج لتزوجت.

وقال عمر لرجل عزف عن الزواج واعتزل النساء: لا يمنعك من الزواج إلا عجز أو فجور.

وقال الصديق رضي الله عنه: أيها الناس أطيعوا الله فيما أمركم، ينجز لكم ما وعدكم. كما قال تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، والمعنى: أطيعوه في أمر الزواج ينجز لكم ما وعدكم في أمر الغنى.

وقد وضع الإسلام كما بينا أسساً لاختيار الزوجة، وأسساً لاختيار الزوج، وكان العرب قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام يقولون: لا تأخذ الأنانة ولا المنّانة ولا الحنّانة ولا الحدّاقة ولا البرّاقة ولا الشدّاقة، ما معنى ذلك؟

الأنانة: كثيرة الشكوى والأنين، كل ساعة تشكو بحق أو بغير حق.

أما المنّانة: فهي التي تمنّ على زوجها بمالها أو بحسبها أو بجمالها وتعيره.

الحنّانة: التي تحن لغير زوجها.

والحدّاقة: التي تنظر إلى كل شيء فتشتهيه، فتكلف الزوج ما لا قبل له به، كلما رأت اشتهت.

والبرّاقة: التي يهمها بطنها بمفردها، ولا شأن لها بزوجها ولا أولادها.

والشدّاقة: أي الثرثارة كثيرة الكلام.

ينتظر الجميع أن نتحدث عن حقوق الزوج وهذا أمر هام، لكني آثرت أن أتحدث اليوم عن حقوق الزوجة، فقبل أن نعرف ما لنا، ينبغي أن نعرف ما علينا، فالجميع يفرط في حقوق زوجته، ثم يطلب ما له من واجبات، وإن فتشت في صحيفته تجد الصحيفة مخازي، تجدها مليئة بالانحراف عما أمر الله، أو عما بين النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك سأبين في هذا اللقاء حق الزوجة على زوجها، وهي سبعة حقوق نذكرها إجمالاً ثم نفصلها، ثم ننزلها على أرض الواقع، وكل إنسان منا مطالب أن يفتش في صحيفته: هل أنا أَفِيْ بحق الزوجة حتى أطالب بحقوقي بعد ذلك، أم أنا مضيع، أضرب الوجه، وأقبح القول، وأمنع النفقة، وأسيء العشرة، ثم بعد ذلك أقول: الحقوق.

للزوجة على زوجها سبعة حقوق:

الحق الأول: المهر.

الثاني: النفقة.

الثالث: حسن المعاشرة.

الرابع: العدل في حال التعدد، ولنا معه وقفة؛ لأن أعداء الدين يشيرون إلى مسألة التعدد بأنها من مساوئ شريعتنا، فنقول: كلا وألف كلا؛ فإن سليمان بن داود عليه السلام تزوج ما يقرب من ثلاثمائة امرأة، ونبينا عليه الصلاة والسلام من أقل الأنبياء زواجاً، فالجمع بين أكثر من زوجة كان أمراً معتاداً، وانظروا إلى سير الأنبياء واعقدوا مقارنة بين عدد زوجات الأنبياء؛ لتعلموا أن المستشرقين يطعنون في أمر غفلوا عنه.

ثم انظروا إلى عادة العرب قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، ستجدون أن الإسلام لم ينشئ التعدد، وإنما الإسلام ضبط التعدد، وهناك فرق بين الإنشاء والضبط، ولقد جاء الإسلام ووجد بعض الرجال قد جمع بين عشر من النسوة، فأمره أن يبقي أربعاً، وهذا ليس إنشاءً، وإنما هو ضبط للمسألة كما سنبين، وسنبين أيضاً رأي العلماء هل الأصل التعدد، أم الأصل واحدة؟ ثم نشأت ظروف تلزمنا بالتعدد.

وشيخنا المبارك الشيخ عطية سالم رحمه الله الذي كان يدرس في الحرم المدني يرى أن الأصل واحدة، ولكن هناك متغيرات جعلت التعدد أمراً واجباً سنذكرها، وهي أدلة واستنباطات جيدة:

أولاً: لما خلق الله آدم خلق له امرأة واحدة، فعلم أنه يحتاج إلى واحدة.

ثانياً: إذا جمع الرجل بين أربع نسوة فما حقهن في الميراث؟ حقهن الثمن، واحدة تأخذ الثمن وأربع لهن أيضاً الثمن، فالأصل عدم التعدد، ولكن هناك متغيرات ربما تجعل التعدد أمراً لا بد منه كما سنذكر بعد قليل.

الخامس: أن يعلمها أمور دينها.

السادس: الاعتدال في الغيرة.

السابع: حق الفراش، وسنذكر رأي ابن حزم وجمهور العلماء والغزالي وبعض العلماء في المدة التي لا يجوز للزوج أن يفارق فيها الزوجة، فإن لها في ذلك حقاً، قال الله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228].

المهر

أولاً: المهر، وقد تحدثنا عنه في اللقاء السابق، وخلاصة القول فيه أن الإسلام رفع شأن المرأة وجعل لها ذمة مالية منفصلة، وجعل لها حقوقاً بعد أن كانت المرأة تقتل، وبعد أن كانت تورث كمتاع، وبعد أن كانت المرأة مهيضة الجناح لا اختيار لها، جاء الإسلام ورفع من قدرها، وبين أن لها حقاً في الميراث، وحقاً في الاختيار، وهناك خطأ يقع فيه الكثير بأخذ الأولياء صداق مولياتهم، مع أن الصداق حق للمرأة لا بد أن تملكه، ولا يكون لولي الأمر كما يفعل البعض الآن، وأما إذا تنازلت المرأة عن جزء منه لوليها أو لزوجها فلا بأس، لكن لا بد أن تتملك المهر، قال الله تعالى: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4]، فلا بد أن تأخذ المرأة المهر، والإسلام كره المغالاة في المهور، نعم، لم يضع الإسلام حداً للمهر لا أدنى ولا أقصى، ولكن بينا في اللقاء السابق أن المهر إما أن يكون مالاً، وإما أن يكون منفعة مادية أو منفعة معنوية، يعني: يمكن أن يكون المهر ما معك من القرآن، ففي الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة تريد أن تهب نفسها له، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من الصحابة: يا رسول الله إن لم يكن لك بها رغبة فزوجنيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تزوجها على ما معك، قال: لا أملك يا رسول إلا إزاري هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعطها إزارك وأنت لا تملك غيره! التمس ولو خاتماً من حديد، فذهب الرجل ثم رجع وقال: يا رسول الله لم أجد حتى خاتماً من حديد، فقال صلى الله عليه وسلم: ما معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وكذا وكذا، وعدد ما يحفظ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زوجتك إياها على ما معك من كتاب الله).

وتزوج رجل امرأة بنعلين.

وتزوجت أم سليم أبا طلحة بإسلامه، اشترطت عليه أن يسلم، فالمهر إما أن يكون مالاً وإما أن يكون منفعة مادية أو معنوية، والإسلام نهانا عن المغالاة في المهور التي تكبل الشباب، فيا ليت ولي الأمر يدرك أنه إذا عطل على المرأة الزواج بسبب ثلاجة أو صالون أو سخان أو غسالة فقد عطل حدود الله، وعرض المجتمع للفاحشة، فليتق الله في نفسه، ولييسر حتى ييسّر الله عليه.

وبعض الأزواج يأكل المهر، فإن كان المهر مؤخراً أعضلها حتى تتنازل عن المؤخر، أو يجبرها على التنازل عنه ويضيق عليها بعد أن أفضى إليها بما أحل الله له، ويراوغ ويتحايل ويتملص، والله يقول: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21]، فليتق الله الذين ينتسبون إلى الإسلام، بل أحياناً إلى الالتزام، ويحاولون أن يتملصوا من حقوق المرأة بالمراوغة وبالحيل الشرعية وغير الشرعية، والبعض يجبرها على التوقيع على ورقة، ويقول لها: وقعي على التنازل عن حقك، يا عبد الله أما تتقي الله في نفسك، أما تعلم أنك تأكل في بطنك ناراً، الصداق حق المرأة بما استحللت من فرجها، كما قال ربنا سبحانه.

النفقة

الحق الثاني للمرأة: النفقة.

قال خير الأنام محمد عليه الصلاة والسلام في أكبر تجمع بعد أن بين ما للرجال على النساء قال: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)، ومعنى النفقة: أن تنفق على حسب قدرتك: مسكن .. ملبس .. خادم أو خادمة .. إن كانت محتاجة إلى خدمة تعينها، ولذلك انظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام كيف كان في بيته؟ وهو القائل عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).

وجاءته هند زوجة أبي سفيان فقالت: (يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح ..) وبعض الرجال عنده الآلاف المؤلفة والقناطير المقنطرة وفي الإنفاق على الولد والزوجة يقتر تقتيراً.

نستطيع أن نقول الآن إن سوق الزواج كسد، وسوق الزنا راج بسببنا، جنينا هذا بأيدينا وحدِّث ولا حرج، ثم قالت: (يا رسول الله غير أني آخذ من ماله دون أن يعلم؟ هل يجوز أن آخذ من مال زوجي لأنفق على نفسي وعلى أولادي؟ قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).

والمقصود أن النفقة حق للزوجة، فإن دفعها الزوج وإلا يمكن لها أن تأخذ هذا الحق من ماله، لكن بالمعروف، وأما أن تأخذ من ماله لأجل أن تشتري كماليات، أو تذهب إلى المصيف، فهذا ليس بالمعروف هذا بالباطل، وهكذا لا تأخذ في شراء سلع كمالية، أو الذهاب إلى كوافير، أو شراء حذاء من الأحذية الغالية الثمن، ولكن تأخذ بالمعروف، وفي الحدود المتعارف عليها، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم.

فالنفقة واجبة على الزوج، وإذا غضبت الزوجة لا ينبغي لها أن تخرج من بيت الزوج، وإن خرجت إلى بيت أبيها ربما تمكث سنة كاملة دون أن يرسل لها جنيهاً واحداً، وحق نفقتها على الزوج، وهي غير مطلقة، والواجب على الرجل أن يلتزم بالشرع، حتى لو أن هناك خلافاً، فطالما هي في عصمتك فنفقتها عليك أيها الزوج، فيا ليت أن الزوج يخرج مصروفاً شهرياً للزوجة؛ حتى تلين، ولكنه يغيب مدة طويلة ولا يرسل بشيء ولا يتقي الله، ويتناسى حق النفقة للزوجة.

كذلك ينبغي على الزوجة ألا تكبل الزوج بنفقات لا طاقة له بها، فقد كانت المرأة من السلف تقول لزوجها في الصباح وهو يخرج إلى طلب الرزق: اتق الله فينا ولا تأتنا برزق من حرام؛ فإنا نصبر على الجوع في الدنيا ولا نصبر على نار جهنم يوم القيامة.

حسن المعاشرة

الحق الثالث: حسن المعاشرة.

قال الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، فمن حسن المعاشرة ألا تضرب وجهاً، والبعض يمسك عصاً غليظة ويضرب بها على رأس المرأة، أو يضربها بقدمه في بطنها، أو يضربها في وجهها، وهذا سوء خلق، وعدم أدب، وهذا رجل لا يحترم نفسه، ولا يعرف الشرع وإن ادعى أنه مسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تضرب الوجه، ولا تسئ القول),

تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيته يخصف نعله -يعني: يخيط الحذاء- ويقوم على خدمة أهله)، فمن منا يفعل هذا؟ وأنت لو فعلت هذا للمرأة، فإنها ستحملك على رأسها ذهاباً وإياباً، أما أن تجلس متكئًا وتصدر الأوامر، وهي تقول لك: أنا مريضة، فترد عليها بقولك: مالي ومال مرضك، نفذي رغم إرادتك، أنا هنا الآمر وأنت المأمورة، طاعتي من طاعة الله، ويحمل النصوص ما لا ينبغي أن تتحمل.

يقول صلى الله عليه وسلم لـعائشة : (إني أعلم رضاك من غضبك)، قالت: كيف يا رسول الله؟ قال: (إن قلت: لا وإله محمد علمت أنك راضية، وإن قلت: لا وإله إبراهيم، علمت أنك غاضبة)؛ لأنها لا تريد أن تذكر الاسم، ومن حسن المعاشرة، ما جاء في سنن أبي داود : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسابق عائشة ، يجري وتجري بجواره فسبقها مرة وسبقته مرة، فقال واحدة بواحدة.

وجاء في الأثر: أن عائشة تقول: كنت أحمل الإناء لأشرب، فيأخذ النبي صلى الله عليه وسلم مني الإناء ليشرب فيشرب من ذات المكان الذي شربت منه، والله إني لأعلم أنه لا يريد أن يشرب ولكن يريد أن يطمئن بالي ويرضي خاطري، ومن حسن المعاشرة أنك إذا جئت إليها تقول لها: وأنا في الطريق ذكرتك وذكرت الأبناء فاشتريت لك هذا، ومن سوء العشرة ما يفعل البعض حين يدخل إلى البيت فظاً غليظاً لا يلقي السلام، أين حسن المعاشرة؟ وبعد ذلك يقول: أريد حقي يا شيخ كيف تريد حقك، أنت مهدر لحقك يا عبد الله، أنت مضيع للحق الذي أمرك الله به.

حق الفراش والوطء

الحق الرابع: حق الفراش، يقول العلامة ابن حزم رحمه الله تعالى: وللمرأة على زوجها أن يطأها بعد كل طهر مرة. يعني: أن ابن حزم يرى وجوب الوطء في كل طهر مرة؛ لأن الله عز وجل قال: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، فأمر بإتيان المرأة بعد تطهرها، ووجوب وطء المرأة عند الجمهور كما عند ابن حزم ، ولكن الخلاف على المدة التي يجوز للزوج أن يترك الفراش فيها.

قال أحمد : أربعة أشهر ولا يزيد؛ لأن الإيلاء في القرآن أربعة أشهر، قال تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [البقرة:226]، يعني: يجوز للزوج أن يحلف ألا يقترب من الزوجة أربعة أشهر ولا يزيد، فإن زاد تطلق للضرر، قال تعالى: فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227]، فقال أحمد رحمه الله: لا ينبغي أن يترك الفراش أكثر من أربعة أشهر، وإن كان في سفر لا يزيد عن ستة أشهر، واستدل بما وقع مع عمر رضي الله عنه حيث كان يسير في طريق من طرق المدينة فسمع امرأة تنشد مع نفسها وتقول ما معناه: ولولا الحياء والخوف من الله لحرك من هذا السرير جوانبه. فقد طال الليل عليها وزوجها غائب عنها، ولولا أنها تخاف من الله عز وجل لحركت السرير بعشيق، فسمع عمر وسأل عنها فقالوا: زوجها خرج للجهاد في سبيل الله، فأرسل إلى ابنته حفصة وقال لها: يا حفصة أخبريني عن المدة التي تستطيع الزوجة أن تفارق الزوج؟ قالت: يا أبي مثلك يسأل عنها! قال: نعم، فقالت: خمسة أشهر أو ستة لا تزيد، عند ذلك أصدر عمر مرسوماً في قانون الغزو: ألا يزيد غياب الزوج المجاهد عن أهله عن ستة أشهر، شهر ذهاب وشهر إياب وأربعة أشهر للجهاد في سبيل الله سبحانه، إلا إذا وافقت الزوجة على طول المدة فهذا أمر آخر، ولكن ماذا نقول لمن يمكث عشرات السنين يجمع المال وينسى حق الزوجة، ويرسل لهم الأموال من الخارج؟ هم لا يريدون مالاً، هم يريدونك أنت.

وقد قال العلماء: أكبر مدة يجوز للزوج أن يهجر فيها الزوجة: هي أربعة أيام؛ لأن الله أباح له أن يتزوج بأربع، فمعنى ذلك أنه يبيت عند الثلاث، ثم يأتي في الليلة الرابعة إلى الرابعة، وهذا قضاء كعب بن سوار رضي الله عنه لما كان يجلس عند عمر فجاءت امرأة تشكو زوجها إلى عمر ، تقول: يا أمير المؤمنين زوجي يصوم الدهر ويقوم الليل، فقال: نعم الزوج، فهم أنها تمدح فيه، فقال كعب : يا أمير المؤمنين! إنها تشكو زوجها، قال: كيف يا كعب ؟ قال: تشكو من قلة جماعه، ومن عدم إعطائها لحقها، قال: طالما فطنت فاقض بينهما أنت، فجاء كعب بالمرأة وسألها، قالت عن الرجل:

يا أيها القاضي الحكيم برشده ألهى خليلي عن فراشي مسجده

نهاره وليله ما يرقده فلست في أمر النساء أحمده

هذه المرأة تشكو.

وكما كان حال عبد الله بن عمرو لما زوجوه امرأة ذات حسب فظل يصلي وتركها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله ليس هكذا إن لها عليك حقاً) .

وهناك رجل يصوم الدهر ويقوم الليل، قال: خفت من سورة النحل والسبع الطوال, فأنا أقوم الليل بالقرآن وأصوم النهار، فقال أبي : اعلم أن لها عليك حقاً أن تبيت بجوارها. يعني: أن تأتيها كل أربعة أيام، واستدل بما ذكرت قبل.

لكن الواقع أن للزوجة حقاً على الزوج أن يطأها متى كانت راغبة إلا من عذر شرعي، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم امرأة فوقعت في نفسه فليذهب إلى زوجته)، كذلك الزوجة لا تترك الفراش إلا في باب العذر الشرعي: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ [النساء:34]، فجعل الهجر في المضاجع أحد سبل علاج النشوز.

الاعتدال في الغيرة

الحق الخامس من حقوق الزوجة على زوجها: الاعتدال في الغيرة، فهناك غيرة قاتلة بريبة، وهناك غيرة مطلوبة، وهي الغيرة بغير ريبة، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم.

تعليم الزوج لزوجته أمور دينها

الحق السادس: أن يعلمها أمور دينها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6]، من منا يجلس مع زوجته فيعلمها الطهارة من الحيض، ويعلمها كيف تصلي، ويعلمها أحكام الصيام، ويعملها الأحكام الشرعية وعقيدة أهل السنة؟ أنت مأمور بهذا يا عبد الله، فهل أديت هذا الحق؟

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

العدل بين الزوجات

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فالحق السابع من حقوق الزوجة على زوجها: العدل، إن جمع بين أكثر من امرأة، ففي الحديث أن من جمع بين أكثر من امرأة ومال لإحداهن وظلم الباقي يأتي يوم القيامة وشقه مائل. يعني: يأتي يوم القيامة أعوج؛ لأنه لم يعدل في القسمة بينهن، والإسلام أباح التعدد لحكمة شرعية، ولم يبح التعدد بدون ضوابط، وإنما أباحه بضوابط.

قد تختلف المعادلة فيزداد عدد النساء عن عدد الرجال، فكيف نعالج هذه المشكلة؟ لا بد من معالجة، إما أن تعالج بالعشق والزنا، وإما أن تعالج بالزواج الشرعي، ولذلك الإسلام حينما أباح التعدد وضع شرطاً له، قال تبارك وتعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]، والعدل هنا في المسكن وفي الملبس وفي النفقة وفي المبيت، أما في الميل القلبي فهذا لا يملكه الإنسان؛ لأنه بيد الله سبحانه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يميل إلى عائشة على سائر زوجاته، حتى إنه كان في آخر حياته وفي حال مرضه يحمل من حجرة إلى حجرة عليه الصلاة والسلام، يتنقل بين حجرات زوجاته إحياءً للعدل، وكان يسألهن: (أين أنا غداً؟)، ففطن إلى أنه يبحث عن ليلة عائشة فأذنّ له أن يمرض في حجرتها عليه الصلاة والسلام.

فانظروا إلى العدل في المبيت، وإن ضاعت على إحداهن ليلة لا بد أن يقضيها كما قال العلماء، لكن أن تعدد وتترك الحابل هكذا دون حقوق، تأتي بأولى ثم بثانية، ظلمت الأولى وظلمت الثانية، وازددت ظلماً على ظلم: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3].

أولاً: المهر، وقد تحدثنا عنه في اللقاء السابق، وخلاصة القول فيه أن الإسلام رفع شأن المرأة وجعل لها ذمة مالية منفصلة، وجعل لها حقوقاً بعد أن كانت المرأة تقتل، وبعد أن كانت تورث كمتاع، وبعد أن كانت المرأة مهيضة الجناح لا اختيار لها، جاء الإسلام ورفع من قدرها، وبين أن لها حقاً في الميراث، وحقاً في الاختيار، وهناك خطأ يقع فيه الكثير بأخذ الأولياء صداق مولياتهم، مع أن الصداق حق للمرأة لا بد أن تملكه، ولا يكون لولي الأمر كما يفعل البعض الآن، وأما إذا تنازلت المرأة عن جزء منه لوليها أو لزوجها فلا بأس، لكن لا بد أن تتملك المهر، قال الله تعالى: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4]، فلا بد أن تأخذ المرأة المهر، والإسلام كره المغالاة في المهور، نعم، لم يضع الإسلام حداً للمهر لا أدنى ولا أقصى، ولكن بينا في اللقاء السابق أن المهر إما أن يكون مالاً، وإما أن يكون منفعة مادية أو منفعة معنوية، يعني: يمكن أن يكون المهر ما معك من القرآن، ففي الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة تريد أن تهب نفسها له، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من الصحابة: يا رسول الله إن لم يكن لك بها رغبة فزوجنيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تزوجها على ما معك، قال: لا أملك يا رسول إلا إزاري هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعطها إزارك وأنت لا تملك غيره! التمس ولو خاتماً من حديد، فذهب الرجل ثم رجع وقال: يا رسول الله لم أجد حتى خاتماً من حديد، فقال صلى الله عليه وسلم: ما معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وكذا وكذا، وعدد ما يحفظ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زوجتك إياها على ما معك من كتاب الله).

وتزوج رجل امرأة بنعلين.

وتزوجت أم سليم أبا طلحة بإسلامه، اشترطت عليه أن يسلم، فالمهر إما أن يكون مالاً وإما أن يكون منفعة مادية أو معنوية، والإسلام نهانا عن المغالاة في المهور التي تكبل الشباب، فيا ليت ولي الأمر يدرك أنه إذا عطل على المرأة الزواج بسبب ثلاجة أو صالون أو سخان أو غسالة فقد عطل حدود الله، وعرض المجتمع للفاحشة، فليتق الله في نفسه، ولييسر حتى ييسّر الله عليه.

وبعض الأزواج يأكل المهر، فإن كان المهر مؤخراً أعضلها حتى تتنازل عن المؤخر، أو يجبرها على التنازل عنه ويضيق عليها بعد أن أفضى إليها بما أحل الله له، ويراوغ ويتحايل ويتملص، والله يقول: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21]، فليتق الله الذين ينتسبون إلى الإسلام، بل أحياناً إلى الالتزام، ويحاولون أن يتملصوا من حقوق المرأة بالمراوغة وبالحيل الشرعية وغير الشرعية، والبعض يجبرها على التوقيع على ورقة، ويقول لها: وقعي على التنازل عن حقك، يا عبد الله أما تتقي الله في نفسك، أما تعلم أنك تأكل في بطنك ناراً، الصداق حق المرأة بما استحللت من فرجها، كما قال ربنا سبحانه.


استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة القلم [2] 2214 استماع
تفسير سورة المزمل [2] 2194 استماع
تفسير سورة الحاقة [1] 2128 استماع
تفسير سورة الحاقة [2] 2047 استماع
تفسير سورة المزمل [3] 2035 استماع
تفسير سورة القلم [10] 1990 استماع
تفسير سورة القلم [3] 1909 استماع
تفسير سورة القلم [6] 1795 استماع
تفسير سورة الجن [1] 1616 استماع
تفسير سورة القلم [1] 1587 استماع