خطب ومحاضرات
الإخبار بمنزلة الصحابة الأخيار
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة سوداء للناظرين، ثم خلق العلقة مضغة بقدر أكلة الماضغين، ثم خلق المضغة عظاماً كأساس لهذا البناء المتين، ثم كسا العظام لحماً هي له كالثوب للابسين، ثم أنشأه خلقاً آخر، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ.
وأشهد أن نبينا ورسولنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا إلى النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
اللهم صل وسلم وبارك عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
ثم أما بعد:
فيا أيها الإخوة الكرام الأحباب! نواصل الحديث مع سورة الإنسان، وقفنا عند قول ربنا سبحانه: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا * إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [الإنسان:15-26].
ما زالت الآيات تتناول نعيم أهل الجنة، وما أعد الله لأهل الجنة، يقول ربنا سبحانه: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ [الإنسان:15] أي: يدور على أهل الجنة الخدم والولدان بأكواب من فضة، وبآنية من فضة.
قال ابن عباس : في بياض الفضة وصفاء الزجاج.
فحينما تكون الفضة صافية تعطي منظراً بديعاً، والآنية المعدة للطعام لأهل الجنة من فضة، لكنها آنية في صفاء أو في بياض الزجاج، وكذلك الأكواب والكيسان التي يشربون منها لا عرى لها، مقدرة تقديراً على حسب ريهم، وعلى حسب حجمها؛ بحيث لا تزيد عن الحاجة ولا تقل، ولا يبقى فيها شيء.
يقول ربنا سبحانه: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ [الإنسان:15].
وفي حديث حذيفة المتفق عليه يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة).
أي: لا يجوز أن نستخدم أواني الذهب والفضة في شراب أو طعام، ويحرم علينا أن نتمتع بالأكل في هذه الأواني؛ لأنها للكفار والمشركين في الدنيا، ولنا في الآخرة، فأي نعيم في هذه الدنيا تمتنع عنه لأجل رضا ربك سبحانه عز وجل يجازيك في الآخرة من جنسه.
فحرم عليك الحرير في الدنيا ففي الآخرة تلبس الحرير، حرم عليك الخمر في الدنيا ففي الآخرة تشرب الخمر، حرم عليك الذهب في الدنيا ففي الآخرة تلبس أساور الذهب، كما قال ربنا سبحانه: وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الإنسان:21]، وفي الآية الأخرى: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الكهف:31].
قال بعضهم: يلبسون تارة ذهباً، وتارة فضة.
قال تعالى: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا [الإنسان:15-16] مقدرة على حسب حاجتهم.
قال تعالى: وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا [الإنسان:17]، ولا يطلق لفظ الكأس إلا على كأس الخمر، فتارة يشربون خمراً ممزوجاً بالكافور، وتارة ممزوجاً بالزنجبيل، والكافور بارد، والزنجبيل حار، فيجمعون بين هذا وهذا.
قال تعالى: وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا [الإنسان:17] مختلطة زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا [الإنسان:17-18]، (سلسبيلاً) اسم عين في الجنة، سميت بهذا الاسم لسلاستها، وخروج الخمر منها بسهولة ويسر، ويتدفق على أهل الجنة حيث أرادوا وشاءوا، والأبرار يشربونها مختلطة، والمقربون يشربونها لا اختلاط فيها.
يقول ربنا سبحانه: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ [الإنسان:19] مخلدون في عمر واحدة، لا يتقدمون ولا يتأخرون، يخلدون على حسب أعمارهم، ولدان مخلدون يخدمونهم.
قال تعالى: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا [الإنسان:19] من جمالهم، يلبسون الأخراص في آذانهم، والحرير يكسوهم، منظرهم بهي، يقول ابن عباس : كل واحد من أهل الجنة يقوم على خدمته ألف خادم من الولدان المخلدين، فيا عبد الله! انظر إلى ما عند ربك من هذا النعيم والجزاء، ولذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينظرون إلى الجنة نظرة يقين وإيمان، ويريدون أن تنتهي الحياة برضا الله، ولا يكون بينهم وبين الجنة إلا الموت، هذا الذي فعله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي من يطعن فيهم، ولقد اصطحبت معي فتوى دار الإفتاء المصرية في حكم تمثيل الصحابة سأذكرها لكم؛ لتعلموا أن هؤلاء لا يتورعون حتى عن مخالفة شيوخهم، ثم أذكر فتوى مجمع الفقه في مكة المكرمة في حرمة تمثيل الأنبياء والصحابة، ثم أذكر ما وجهه الشيخ: جاد الحق إلى الإذاعة والتلفزيون، وعلى المسئولين أن يتقوا الله في تمثيل شخصيات الأنبياء، أو زوجات الأنبياء، أو أمهات الأنبياء، أو أصحاب الأنبياء لاسيما أصحاب خير الأنام محمد صلى الله وعليه وسلم.
ثم نرد على الشبه التي أثيرت حول بعض الصحابة.
يقول ربنا سبحانه: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [الإنسان:20]، إذا رأيت يا رسول الله هناك في الجنة رَأَيْتَ نَعِيمًا، والنعيم في الجنة متعدد، والقرآن جاء ليقرب المعاني إلى الأذهان، يقول ابن عباس : ليس في الجنة نعيم إلا وله شبه في الدنيا إلا القوارير.
أي: إلا الأواني والأكواب التي من فضة، فهل رأيتم في الدنيا كوباً من فضة في صفاء الزجاج؟ الجواب: لا يمكن بحال، هذا قول ابن عباس ، ولذلك ربنا يقول: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25] فليس من نعيم الجنة شيء يماثل نعيم الدنيا إلا في الاسم فقط.
وهناك من النعيم: الحدائق، والطيور، والأنهار والقصور وكل ما تشتهيه الأنفس، فضلاً عن الحور العين التي يرى مخ عظمها من خلف جسدها، إذا رأيتها كأنها القمر في ليلة البدر، ونظرها قاصر على زوجها، كلما جامعها عادت بكراً كما كانت، هذا فضلاً عن النعيم الأبدي الذي ليس بعده نعيم، وهو النظر إلى وجه الله سبحانه، فأي نعيم بعد هذا النعيم!
يقول ربنا: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21].
يقول المفسرون: إذا دخل أهل الجنة الجنة يشربون من عين تنقي ظاهرهم وباطنهم.
أما الظاهر فتلقي عليهم نضرة في الوجوه، وأما الباطن: فتنزع من قلوبهم الغل والحسد، يقول ربنا سبحانه: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47].
فليس في الجنة أحد يعطي ظهره لأحد، وإنما فيها التقابل والحب، وعدم الحسد، وعدم الغل، وعدم البغض، وفي الجنة لا يتغوطون ولا يتبولون، كلما أكلوا طعاماً لا يصابون بأذى، فلا تغوط ولا تبول.
قال ربنا سبحانه: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً [الإنسان:22]، هذا لعملكم في الدنيا، فيا عبد الله حياتك حياة قصيرة، فلو عشت (60) سنة فمنها (15) سنة قبل التكليف، والباقي منها (45) سنة، منها: (20) سنة في النوم، ويبقى (25)، منها: في الطعام والشراب والعمل ما يقرب من (15) سنة؛ إذاً: يبقى من حياتك (10) سنوات، من الستين.
فاحرص على نيل ما في الجنة، ولا تكن كمن قال الله فيهم: إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [الإنسان:27].
يقول الله سبحانه: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً [الإنسان:22]، هل يستوي من يأتي إلى الفروض في جماعة، ومن يصوم في شدة الصيف، ومن يحجب زوجته عن الناس، ومن أغلق على نفسه داره في الفتن، ومن حفظ عينه من النظر إلى المحرمات، ومن اتقى الله في طعامه وشرابه، ومن استقام على حدود الله سبحانه، مع من فرط؟ فربنا سبحانه لا يسوي بين النقيضين أبداً.
قال عز وجل: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [الإنسان:22]، أي: مقبولاً، وإذا قبل الله العمل شكره سبحانه وتعالى.
جاءت الآيات إلى خير الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا [الإنسان:23].
قال ابن عباس: (نزلنا) أي: القرآن نزل مفرقاً على رسول الله، وليس كالكتب السابقة كانت تنزل جملة واحدة.
قال تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الإنسان:24].
وإن تأملت في القرآن ستجد بعد الأمر بالصبر الأمر بالذكر والصلاة، كقوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45].
قال تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الإنسان:25] فبعد الأمر بالصبر أمر بالذكر والصلاة؛ لأن مما يعين على الصبر على طاعة الله، وعن معاصي الله، وعلى أقدار الله المؤلمة هو الذكر، لذلك يقول الله: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الإنسان:24] أي: لقضاء ربك، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان:24] وفي سورة الأحزاب: وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب:48] فمن أراد أن يأخذك إلى الدنيا لا تطعه، لذلك جاء الأغنياء من المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا محمد اجعل لنا مجلساً وللفقراء مجلساً، فإن رائحة الفقراء تؤذينا، فنحن علية القوم لا نريد أن نجلس مع الفقراء، فأمهلهم النبي صلى الله عليه وسلم في الجواب، فأنزل الله عليه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان:24] لأنهم يريدون أن يصدوك عن الطريق، فالطريق بين واضح.
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الإنسان:25] أي: في أول النهار وفي آخره، فهذه أوقات يستعين بها المسلم على أداء وظيفته في طاعة ربه.
قال صلى الله عليه وسلم: (سددوا وقاربوا) أي: اسع إلى الكمال في العمل، فإن لم تستطع الكمال فقارب، قال: (سددوا وقاربوا، واستعينوا بالروحة -يعني: أول النهار- وشيء من الدلجة) والدلجة: هي الظلام، يعني: استعينوا في هذه الأوقات بطاعة ربكم في أول النهار وآخره، وفي الليل اجعلوا لكم نصيباً من طاعة الله، فهذا يعينك على ذكر الله، ويعينك على أداء الرسالة، ولذلك يقول الله: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ [الشرح:7] أي: إذا فرغت من أعمالك، وكلما كان القلب غير مشغول استطعت أن تقبل على العبادة في حب وفي صفاء؛ لذلك أمرنا ألا نصلي ونحن ندافع الأخبثين، وأمرنا ألا نصلي في حضرة الطعام؛ حتى نقبل على العبادة بذهن صاف، وهذا يكون في الليل، كما قال عز وجل: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا [المزمل:6] يعني: مواطئة للنفوس، وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6].
فلابد أن تجعل لنفسك نصيباً في أول النهار من العبادة، وفي آخر النهار وفي الظلام، وهذا هدي النبي عليه الصلاة والسلام.
قال عز وجل: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا * نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ [الإنسان:25-28].
يعني: أحكمنا خلقتهم، فتبارك الله أحسن الخالقين، أحكمها إحكاماً ما بعده إحكام في الخلق والتسوية.
قال تعالى: وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا [الإنسان:28] هذه الآية تدل على البعث، كما تدل على أن الله عز وجل يستخلف أقواماً بعد أقوام. بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا [الإنسان:28].
وللحديث بقية، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الإخوة الكرام الأحباب! المسلم يوطن نفسه، وليس إمعة، ويعالج المواقف من منظور شرعي، ولا يكن مع الناس إن أحسنوا أحسن، وإن أساءوا أساء، وإنما الأمور تقدر بمنظورها الشرعي من الكتاب والسنة.
وقبل أن أبدأ في قراءة فتوى دار الإفتاء، وفتوى المجمع الفقهي المنعقد بمكة المكرمة بشأن تمثيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أذكر مسألة: هل يجوز شرعاً أن يمثل ممثل معاوية أو عمرو بن العاص أو بلالاً .. أو غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم؟ ففي تمثيلة (حلم فجر الإسلام) أتوا بـبلال وخرج يؤذن، وصوته قبيح، فهل هذا هو بلال ؟ نسأل الله العافية، وهكذا مثلوا سمية ، وعماراً ، وطلحة ، وأبا موسى الأشعري .. وغيرهم من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، بل عرض فيلم لشخصية موسى عليه السلام، وكان من الممثلين من قام بدور موسى، قام بذلك وهو سكير عربيد أحمق، نسأل الله العافية، يقول صلى الله عليه وسلم: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي).
إذاً: الله عصم الأنبياء من أن يتمثل الشيطان في صورتهم؛ لما لهم من الكمال، وكذلك لا يمكن لمخلوق منا أن يصل إلى درجة الأنبياء، فلهم الكمال الخلقي والخلقي، فكيف آتي برجل وأجعله ممثل دور نبي، أو دور صحابي؟!
والصحابة بإجماع أهل السنة كلهم عدول، لذلك قالوا في الحديث المرسل: هو ما رفعه التابعي إلى رسول الله، يعني: أن التابعي قال: قال رسول الله، فإما أن يكون أسقط منه تابعياً، وإما أن يكون أسقط منه صحابياً، فإن علمنا أنه أسقط الصحابي، فلا يضر؛ لأن الصحابة كلهم عدول لا يخضعون لجرح أو تعديل، يعني: في علم الجرح والتعديل لا يمكن أن تبحث في درجة الصحابي وتنظر هل هو ثقة أو غير ثقة، كما أنه لا يمكن أن تقول عن صحابي: إنه كذاب، لا يمكن بحال، فلا يخضع الصحابة لعلم الجرح والتعديل؛ لأن أهل السنة والجماعة أجمعوا على أن الصحابة كلهم عدول.
وهذه فتوى لفضيلة الشيخ جاد الحق ، صدرت في (7) شوال سنة (1400هـ) الموافق: (17) أغسطس (1980م) وفيها: هل يجوز تمثيل شخصيات الأنبياء والصحابة؟
فأجاب عنها، وبعد أن أجاب قال: وإني لأهيب بالمسئولين عن الإذاعة والتلفزيون أن يبادروا إلى تصحيح ما وقع من تجاوز في هذا المسلسل، إن كان ما ألمحت إليه الأهرام فيما نشرت صحيحاً، وأهيب بالمسئولين عن الثقافة في المسارح أن يعيدوا النظر فيما لديهم من قصص من القرآن أو السنة الشريفة، وأن يرفعوا كل ما كان فيه من تشخيص لنبي، أو زوجته أو ولده، أو والده أو والدته، أو أحد أصحابه؛ لأن هذا ينطبق على الأنبياء وعلى صحابتهم.
فلا يجوز أن يمثلوا بحال، ومن أجل هذا أهيب بالمختصين في مجمع البحوث الإسلامية أن يتخذوا الإجراءات القانونية، في حال ثبوت مخالفة النصوص المعتمدة في القصص القرآني، أو المستمدة من السيرة النبوية لوقف إذاعتها، أو إخراجها تمثيلاً أو تصويراً.
هذا ما قاله في الفتوى، ولا أدري ماذا حدث لمجمع البحوث حتى وافقوا على أن يمثل أصحاب رسول الله، أو أن تمثل زوجة نبي، أو ابنة نبي، فهذا مخالف للشرع، فيا أهل الحل والعقد! أستحلفكم بالله أن توقفوا هذا الهراء في شأن أصحاب رسول الله، فهذا عمرو بن العاص جاءت في حقه أحاديث منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (أسلم الناس وآمن
و معاوية فيه أحاديث منها: (أول جيش يركب البحر مغفور له) وأول جيش ركب البحر هو في خلافة معاوية .
أما فتوى مجمع الفقه الإسلامي بالقرار الثابت بإجماع العلماء فقال: إن مقام النبي صلى الله عليه وسلم عظيم عند الله وعند المسلمين.. وانتهوا إلى حرمة تمثيل الأنبياء، ثم قال: وكذلك يمنع ذلك في حق الصحابة، فإن لهم من شرف الصحبة والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدفاع عن الدين، والنصح لله ورسوله، وحمل هذا الدين والعلم إلينا ما يوجب تعظيم قدرهم، واحترامهم وإجلالهم، فلا يجوز أن يمثلوا بحال.
هذه فتوى مجمع الفقه بإجماع أهل العلم، فهاتان فتويان واضحتان بينتان، ومع هذا كله تغاضوا عنهما، وأصبحوا الآن يقدحون في أصحاب خير الأنام محمد، فنقول: لصالح من؟ ولحساب من؟ وقديماً كان الرافضة الشيعة يقعون في أبي بكر ، ويقعون في عمر ، ويقعون في عائشة ، ويقعون في أصحاب رسول الله عليهم الصلاة والسلام، فألف ضياء الدين المقدسي : النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب.
ثم ختم بأبيات لـعبد الله بن المبارك قال فيها:
فلا أسب أبا بكر ولا عمر ولا أسب معاذ الله عثمانا
ولا ابن عم رسول الله أشتمه حتى ألبس تحت الترب أكفانا
ولا الزبير حواري الرسول ولا أهدي لـطلحة شتماً عز أو هانا
ولا أقول علي في السحاب إذاً قد قلت والله ظلماً وعدوانا
ولا أقول بقول الجهم إن له قولاً يضارع أهل الشرك أحيانا
ولا أقول تخلى عن خليقته رب العباد وولى الأمر شيطانا
ما قال فرعون هذا في تجبره فرعون موسى ولا هامان طغيانا
لكن على ملة الإسلام ليس لنا اسم سواه بذاك الله سمانا
فنتبرأ ممن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلصالح من؟ ولحساب من تقعون في أعراض رسول الله؟ ولصالح من؟ ولحساب من تعرضونهم بهذه الصورة، مع هذه الفتاوى المقررة؟!
أيها الإخوة الكرام! أختم الخطبة بأمر دأب بعض العلمانيين على ذكره:
في مقال صحفي كتب كاتب تحت عنوان: علماء ومشايخ القرون الوسطى.
كتب الكاتب الذي لا أدري من الذي صرح له أن يكتب في جريدة نقرؤها جميعاً، وتصدر في مصر، يقول: استمعت إلى حديث في التلفاز، فإذا بالمتحدث شيخ يسمى كذا، ذكر حديثاً قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب).
أو قال: (أولاهن بالتراب).
ثم ذكر الشيخ أن التراب يقضي على الميكروبات التي تنزل من سؤر الكلب، فيقول: وإني أتعجب لهذا القول، فهل معنى ذلك أن نقتني تراباً في بيوتنا لنقضي على الميكروبات عند اقتناء الكلاب؟
فنقول له: ألا تعلم أن اقتناء الكلاب حرام؟ لكنك لا تعلم كيف تعلم؟
ثم يقول: وإني أهيب بالمسئولين أن يمنعوا مثل هذا الشيخ من هذا الهراء، وهذه الأحاديث الموضوعة! فنقول له: هل البخاري فيه أحاديث موضوعة؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم عاد يسخر ويقول: متى تخلصونا من هؤلاء الشيوخ مشايخ القرون الوسطى؟
فنقول لهذا وأمثاله: يا أهل التقدم والتحضر، يا أصحاب العقول العفنة! نحن لا نكذب نبينا عليه الصلاة والسلام لأجل تحضركم، ولا نطعن في صحيح إمام تلقته الأمة بالقبول لأجل أن عقولكم لم تتقبل، فعقولكم لا وزن لها لا عند الله ولا عند الناس، فكيف تعرض النص على عقلك، فإن قبله العقل قبلت، وإن رفضه العقل رفضت؟ هذا ليس هو سلوك الموحد، إنما سلوك الموحد أنه طالما صح النص يقول: سمعاً وطاعة، سواء أثبت العلم أو لم يثبت، فهذا إجرام ما بعده إجرام، فماذا يبقى للأمة بعد الطعن في البخاري ؟ وما يبقى للأمة بعد الطعن في القرآن؟ وما يبقى للأمة بعد التعريض بأصحاب خير الأنام؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين.
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، وجلاء همنا وغمنا، ونور أبصارنا.
اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك، ونسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، ونسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك.
اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم اجعل ثأرنا على من ظلمنا، اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر عبادك المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم انصر عبادك المستضعفين في فلسطين، اللهم انصر عبادك المستضعفين في كل بقاع الأرض، اللهم عليك برءوس الكفر وأئمتهم، اللهم مكنا منهم؛ فإنهم لا يعجزونك.
اللهم انصر الإسلام نصراً عزيزاً مؤزراً، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
التاريخ الأسود لليهود | 2409 استماع |
الوقت وحرص الصالحين عليه | 2395 استماع |
اللحوم المسمومة | 2348 استماع |
الرحلة في طلب العلم | 2337 استماع |
فاصبر صبراً جميلاً | 2275 استماع |
وثيقة حرمات لا حدود | 2257 استماع |
استكمال تفسير سورة الحاقة 2 | 2226 استماع |
وقفة مع سورة الإنسان | 2219 استماع |
إنا بلوناهم | 2099 استماع |
ذرني ومن يكذب بهذا الحديث | 2059 استماع |