خطب ومحاضرات
وثيقة العار وشهادة الاحتضار
الحلقة مفرغة
الحمد لله، الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، بسط الأرض ومد، ورفع السماوات بلا عمد، وأفاض النعم بلا عدد، أحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء حمداً كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو جل وعلا المحمود على كل حال وفي كل آنٍ، فله الحمد في الأولى والآخرة حمداً كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بعثه كافة للناس أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد ولد آدم أجمعين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وكان أسبقنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وكان أبعدنا عنه، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين!
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد: أيها المؤمنون! يعجب المرء أيما عجب ويحار العقل أيما حيرة في أحوال هذا الزمان العجيبة! وفي تطوره المدهش، وفيما تتفتق عنه أذهان الجاهلية العمياء من ظلم وظلمات، ويعجب الإنسان عندما يتصور أن مظاهر التقدم الحديث وأن مظاهر التطور المعاصر قد بلغت مبلغاً تتكافأ فيه مع تقدم وتطور العقل المرشد إلى الخير أو الهادي إلى الصواب أو الداعي إلى التزام المبادئ والأخلاق!
وعندما ينظر الإنسان يجد هذا الفرق الشاسع بل هذه المعارضة الواضحة بين ما يسمى تقدماً بالمفهوم المادي وبين ما يحق أن يسمى تخلفاً، بل يحق أن تلصق به أسوأ الأسماء وأقبحها فيما يتعلق بالسلوكيات والمبادئ والقيم.
وثيقة العار وشهادة الاحتضار التي تقدم إلى مؤتمر الإسكان والتنمية، وإن شئت قل: إلى مؤامرة الإفساد والتعرية هي حديث الناس في هذه الأيام، فأحببت أن يكون لنا وقفة معها، وأن ننظر إلى حقيقتها وإلى ما ورائها، فإن كثيراً من الأمور إنما تؤسس على أصول معروفة، وإنما تستند إلى مقررات بدهية مفروغ منها، وهذا المؤتمر الذي يعنى بالإسكان والتنمية -كما هو عنوانه- هو في حقيقته صورة واضحة سافرة وشاملة عارمة للهجمة الغربية الكافرة على بلاد المسلمين وعلى الدول النامية في العالم الثالث كما يسمى.
فبعد الغزو العسكري في عصور سلفت، وبعد الغزو الإعلامي الذي غزا الأسماع والأبصار، وفتن القلوب، وأفسد النفوس، وبعد الغزو الاقتصادي الذي دمر المقومات، وأوقف عجلة التقدم، وأرهق الدول والأفراد بأرصدة الديون، وبعد الغزو الأخلاقي الذي تمثل في كثير من صور الانحراف، يأتي هذا الغزو في صورته التشريعية السياسية التي تريد أن تجعل كل الأمور المحرمة وكل القبائح الفطرية وكل الرذائل الإنسانية مشروعة مفروضة باسم الأمم العالمية، وباسم الأنظمة الدولية، وباسم القرارات الرسمية؛ حتى يكلل كل ذلك الغزو بالصورة المثلى التي تلغي المفاهيم وتنحي الأديان وتغير الأسماء وتقلب الموازين رأساً على عقب.
وعندما يتأمل الإنسان في الإسكان والتنمية يظن أن الأمور ينبغي أن تتوجه إلى بحوث تعنى بهذا الجانب عناية صحيحة، وتلمس الأسباب الناتجة عن المشكلة الإسكانية وعن قضية التنمية ملامسة صحيحة، غير أن الأمر على غير هذا.
ولا أريد أن أفيض في تفاصيل تلك الوثيقة التي يعجب الإنسان أن تكون وثيقة تقدم ليناقشها ويأتمر حولها أو يتآمر معها عشرون ألفاً من البشر يمثلون واحداً وتسعين ومائة دولة، ويشهدهم ثلاثة آلاف صحفي وإعلامي، وينقل عن المؤتمر خمسمائة ساعة بث إعلامي بالأقمار الصناعية، كل ذلك ليقدم إليهم أن الزنا حلال! وأن الإجهاض ينبغي أن يكون مشروعاً! وأنه لا ولاية للآباء والأمهات على أبنائهم وبناتهم! وأنه ينبغي أن تسهل أسباب الفاحشة، وأن تحمى، وأن تعتبر من الحرية الشخصية، وأن تقدم لها المعونات المادية! ثم فوق ذلك كله الصراحة الواضحة للمناقضة التي لا شك فيها لشرع الله عز وجل بالمطالبة بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، وإلغاء التفريق في كل شيء حتى في المواريث! والنظرة الاحتقارية لسنة من سنن الفطرة وهي سنة الختان! وبالتنفير والرغبة في محاربة الزواج المبكر! والذي كان من أعلم أعلامه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في زواجه بـعائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها التي بنى بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت تسع سنين.
أيها الإخوة! قد رأينا هذه الأمور في الواقع العملي في ساحات البلاد الكفرية وفي ساحات كثير من البلاد الإسلامية، إلا أن في كثير من البلاد ما تزال هذه الأمور مما يستحيا منه، وفي كثير من البلاد أيضاً مما يخالف القانون أو يعاقب عليه، سواءً وقعت العقوبة أو لم تقع.
أما اليوم فيراد أن يفتخر بها أصحابها، وأن توجه سبل التنمية التي تدفع الفقر كما يقولون للإنفاق على وسائل الإجهاض ووسائل منع الحمل غير المرغوب فيه كما نصت الوثيقة وغير ذلك، كل هذا يراد أن يكون مشروعاً، وأن يكون مدعوماً، ويعجب الإنسان عندما يفكر في هذا! ولا أقول: الإنسان العادي، بل هذا الإنسان المتطور المتقدم بتفكيره، فلو كان للبهائم عقل لما رأت أن ذلك يشرف لها ولا يجدر بها.
أريد أن أقول بعض الملاحظات المهمة:
الأمر الأول: أن الأمور تبنى على التدرج، وأحسب أن مثل هذه الكلمات وهذه المقترحات ما كانت لتقدم في وقت مضى، لأنها لو قدمت لما كانت موائمة للأفكار ولا ملائمة للنفوس، ولا كان لها -كما يقال- موقع من الإعراب، إنما جاءت بعد غزو مكثف لسائر البلاد ولسائر المجتمعات عبر الأقمار الصناعية التي قدمت هذه الصورة البشعة الإباحية أمام الناس ينظرونها بأعينهم، ويسمعونها بآذانهم، ويتابعونها ليلاً ونهاراً، وقبل ذلك مئات وآلاف ومئات الآلاف وأكثر من ذلك من الوسائل التي تروج الفاحشة عبر الأشرطة والمجلات والكتب والأجهزة الحديثة حتى الكمبيوترات وغيرها؛ حتى إذا ألفت النفوس وضعفت الغيرة وماتت الحمية وتحللت الأخلاق وانفرط عقد الأسر إلى حد ما جاءت هذه الهجمة؛ لتكون بمثابة المعول الأخير الذي يضرب الضربة القاصمة التي تقصم ظهر البعير كما يقال.
الأمر الثاني: أن الأعداء يتربصون بنا الدوائر، وأن الإحصاءات تدل على أن هناك مشكلة سكانية حقيقية، لكنها من نوع آخر بالنسبة لأعدائنا، فمعلوم أن دول العالم الثالث -ومعظم الدول الإسلامية تحت هذا المسمى- تشهد أكبر معدلات نمو بشري، والقارة الإفريقية على سبيل المثال يتضاعف عدد سكانها كلها في خلال خمسة وعشرين عاماً فقط.
وعلى سبيل المثال: وجد أنه خلال نحو عشر سنوات معدل الولادات في بلد مثل رواندا يصل إلى ثمانية مواليد ونصف للمرأة الواحدة خلال هذه الفترة، بينما يصل في دولة أوروبية مثل إيطاليا إلى واحد ونصف، ولهذا تشكو الدول الغربية اليوم من قضية خطيرة وهي النقص السكاني الحاد، والضعف الأسري العظيم الذي أوجد طبقتين عمريتين تستهلكان أكثر نسبة السكان: طبقة غير القادرين على العمل، أي: من هم في الطفولة، وطبقة غير القادرين على العمل ممن تجاوزوا السن إلى مرحلة الشيخوخة، بينما يزخر العالم الإسلامي -كما في الإحصاءات- بأكبر عدد ممكن ممن هم في فترة العمر الشبابية الإنتاجية، ولذلك تأتي هذه المؤامرة للمحاولة للتغلب على هذه الصورة التي بشكل أو بآخر في ظل ظرف أو آخر يمكن أن تكون ذات إيجابية عملية للمسلمين، وتضر بالتالي أعداءهم، ومن هنا كان قبل ذلك على سبيل التدرج الحملات المكثفة فيما يسمى ببرامج تنظيم الأسرة، وحقيقة كثير منها تحديد النسل.
الأمر الثالث: صور الجاهلية المعاصرة هي صور أقبح من الجاهلية السالفة التي كان فيها الإنسان محدود المدارك، متخلف التفكير، متأخراً في الوسائل، ومع ذلك تحكي لنا الجاهلية السابقة للإسلام صوراً لا يمكن أن تقارن بمثل هذه الجاهلية المعاصرة، فهذا الشاعر الجاهلي فيه عفة وفيه مراعاة للحرم وللأعراض وفيه حياء عندما يقول:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
و هند رضي الله عنها لما جاءت مبايعة للنبي صلى الله عليه وسلم في بيعة النساء فكان من ضمن البيعة ألا يزنين، فانتفضت رضي الله عنها وهي تقول: (عجباً! أوتزني الحرة؟!) فكأن ذلك لم يكن في عرفهم وفي قاموسهم بهذه الصورة البشعة التي نراها اليوم في الواقع العملي تقدم عبر هذه الأوراق والمقترحات والتوصيات.
وقد ذكر أهل الحديث في الكتب الصحيحة حديث عائشة رضي الله عنها التي وصفت فيه صور البغاء والفجور في الجاهلية، فبينت لنا أن هناك نساءً بأعيانهن كنَّ معروفات في بيوتهن وبراياتهن يغشاهن طلاب الفساد وأرباب اللذة العاجلة، ويفعلون معهن الفاحشة، وكان ذلك معروفاً محدوداً معلوماً دائرته.
أما اليوم فهذه الوثيقة تريد أن يكون جميع الناس -بلا استثناء- زناة وشاذين ومن أتباع قوم لوط، دون أن يكون عليهم في ذلك حرج ولا أي غضاضة في مثل هذا، وهذا لا شك أنه من أعظم أسباب التقويض والإنهيار، كما قال شوقي رحمه الله:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
أيها الإخوة الأحبة! هنا أمر أشير إليه وأنبه عليه: وهو حقيقة قرآنية وسنة إلهية ينبغي أن نعيها وأن نعرفها، يقول الله جل وعلا: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] وفي شطر هذه الآية الأول أن كل إعراض عن ذكر الله وكل مخالفة لشرع الله إنما هي ضنك في العيش، ولست أقارن، ولست أذكر أمور الدول الإسلامية أو دول العالم الثالث أو الدول النامية أو النائمة كما تسمى، وإنما نذهب إلى الدول التي طبقت مثل هذه التوصيات ردحاً طويلاً من الزمن، فهل انتهت عندهم مشكلة البطالة أم ما تزال في تزايد مستمر؟! وهل انتهت مشكلة الجريمة أم أن هذه الأمور من أعظم أسباب قوة الجريمة وفشوها؟! وهل انتهت عندهم مشكلات الاعتداء الإجرامي على الأطفال وعلى النساء؟!
وانظر إلى ما عندهم من الأرقام والإحصاءات لتعرف حقيقة الأمر، وأن البلاء موكول بكل ما يخالف أمر الله سبحانه وتعالى؛ لأن أمر الله هو الذي يطابق الفطرة البشرية، وهو الذي يوافق الكرامة الإنسانية، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء:70] هكذا يبين الله عز وجل لنا شرف الإنسان وكرامته، ويبين لنا أن خسته ودناءته إنما هي في بعده عن أمره سبحانه وتعالى.
ونحن نسمع ونعرف ونقرأ ما في المجتمعات الغربية من صور الانحلال التي يعف اللسان عن ذكرها مما لا يتصوره عقل إنسان، ولا ترضى به فطرة سوية بحال من الأحوال، حتى جاءوا بأمور يعجز الإنسان عن تصورها وتخيلها من ممارسة الجنس مع البهائم والحيوانات وغير ذلك من الصور القبيحة، ثم ما ترتب على ذلك مما يعارض التنمية، فجاءت الأمراض الفتاكة التي صرفت ولا تزال تصرف عليها الملايين والملايين دون أن تتحقق نتائج إيجابية في العلاج والتطبيب، وكل ذلك وما يلحقه من نفقات على الإجرام وما يلحقه من نفقات على البطالة وما يلحقه من غير ذلك هو الذي أدى بما يعرف بالتضخم، وأدى إلى زعزعة الوضع الاقتصادي في الدول ليست النامية وإنما الدول المتقدمة.
أمر مهم ينبغي أن نعيه وأن نتأمل فيه، وذلك هو: أن الأعداء وكل من لا يودك عموماً يريد أن يلحق بك كل نقيصة فيه، وأن يسلبك وأن يحرمك كل إيجابية عندك، وهذا هو المفهوم الذي تسفر عنه هذه الوثيقة.
فهل مشكلة الفقر تتعلق بتقليل عدد السكان كما يقولون؟! ولنسأل أنفسنا أسئلة تعرفون إجابتها: كم من الملايين تصرف على تربية الكلاب والقطط وطعامها، بينما يموت الملايين من البشر؛ لأنهم لا يجدون قوتاً ولا طعاماً؟!
وكم من الملايين تصرف في أسلحة الدمار وفي أمور السياسة الخبيثة، ويكون نتاجها مزيداً من البلاء والشقاء لبني الإنسان؟!
وكم من الملايين تهدر من أجل المحافظة على الأسواق والمحافظة على الاقتصاد؟! فكثير من الثمار وكثير من المحاصيل الزراعية تتلف وترمى في البحار إذا فاض عن معدلات معينة لئلا تتأثر به الأسعار!
فأين هذه الصورة المزعومة التي يقال فيها: إن العالم يريد أن يكون هناك تكاملاً وتقارباً في مستويات التنمية؟!
فلو كان ذلك حقاً لكان هناك تفضيل التعليم بدل التجهيل، ولكان هناك إتاحة الفرص للتعاون بين القدرات البشرية والقدرات العلمية حتى تحصل تنمية بشرية حقيقية لبني الإنسان، ولكن الأمر على غير ذلك.
ومن هنا لو رأيت كثيراً من الأسباب لعلمت أن القضية على غير ما يعلن عنها ويراد بها، وانظر إلى المجتمعات الغربية الرأسمالية التي تعتبر الربا المحرم أساساً لاقتصادها، وانظر إلى ما جره هذا الاقتصاد وتلك الإباحية من أمور عجيبة وغريبة!
إذاً: أيها الإخوة الأحبة! هذه صورة بسيطة، وعندما نخلص إلى حقيقتها نجد أنها تتناقض مع أساسيات اعتقادية إيمانية عند الإنسان المسلم، فالله عز وجل قد بين لنا أنه قد خلق الخلق بقدر وبإحكام، وأنه سبحانه وتعالى قد جعل لكل شيء قدراً، فقضية أن الموارد أو أن ما يخرج من الأرض أو أن ما يكون فيها من أسباب العيش يضيق بأهلها ليس أمراً صحيحاً، وإنما هو أمر ناشئ عن الممارسة الإجرامية الخاطئة لبني الإنسان أنفسهم، فالله عز وجل يقول: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:9-10] والله سبحانه وتعالى يقول في موضع آخر مبيناً أنه قد جعل في الأرض ما يكفيها: وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ [الحجر:19] قال بعض أهل التفسير: ليس عام بأمطر من عام، بل كل ذلك مقداره واحد، لكنه يتغير، فقد يكون جفاف في أرض وثراء وغناء في أرض، فلو كان عند الناس إنصاف ولو كان عندهم إحسان لما حصلت مثل هذه المشكلات، ولكنها الجريمة التي يمارسها الأعداء والأقوياء ضد الضعفاء، وهذا هو حقيقة الأمر، ولذلك هذا تعارض مع أصل الإيمان بالقضاء والقدر الذي يؤمن العبد فيه بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأرزاق مقدرة من عند الله عز وجل.
وأمور أخرى أيضاً تتعلق بهذا، وهو أمر تحديد النسل أو إيقافه أو ما دعت إليه هذه الوثيقة من أمور تخالف ما يعتقده المسلم الحق.
ثم أيضاً هناك أمور مخالفة للأحكام الشرعية مثل التنفير من الختان، والتنفير من الزواج المبكر، وإباحة الإجهاض الذي هو محرم شرعاً، وكذلك إباحة الأمور الأخرى الواضح تحريمها، فهذا كله يتعارض مع شرع الله عز وجل.
وقفة أخيرة في هذا المقام الأول عن تاريخنا الذي كانت فيه كل الصور التي ينتقدها علينا أولئك المستغربون والمستشرقون، فلم تكن مجتمعات الإسلام في كثير من عصورها تشهد مثل هذا التحلل والتسيب، فقد كان هناك الزواج، وكان هناك التعدد والتسري، وكان هناك كثرة الأولاد وكثرة الإنجاب، ومع ذلك كانت هناك عمارة وحضارة ورقي وتقدم، وفاضت في عهد عمر بن عبد العزيز أموال الزكاة، حتى صرف منها على كل راغب في زواج ليتزوج، وصرف منها على كل كفيف ليجد قائداً له يصرف عليه من بيت مال المسلمين، فاض المال وصار يرجع من الأمصار إلى عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه دون أن يجدوا له من يستحقه!
هذه هي التنمية الإنسانية الحقيقية، والعجب أن يكون أساس التنمية قتل أعظم أسبابها، إن أعظم أسباب التنمية هو الإنسان المفكر بعقله العامل بيده المتحرك المنتج، فعندما نهدف إلى قتل الإنسان وضعفه وتقليل عدده فلا شك أننا نضعف التنمية من أساسها، فعلى سبيل المثال: إذا كان عندك قدر من المال لا يكفي أسرتك، فما هو الحل؟ هل الحل أن تقتل بعض أولادك كما كان يفعل بعض الجاهليين أو أن توقف الإنجاب أم أن الحل غالباً ما يتفتق على أن بعض الأبناء يتحملون المسئولية قليلاً؟! نعم فيعمل هذا هنا، ويعمل هذا هناك إضافة إلى دراسته، فتتحرك الطاقة، وتنفتح أبواب العمل، ويزداد الإنتاج، ويحصل لنا من وراء ذلك أننا نطالب بعد ذلك بمزيد من الإنتاج البشري؛ لأن الوفرة المادية قد أصبحت في المستوى الذي يحتاج أو يمكن أن يستوعب أكثر عدد من السكان.
فالله أسأل أن يبعدنا عن هذه الفتن وعن هذه المحرمات، وأن يجنبنا هذه المزالق والمخاطر؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين, على من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين!
أما بعد:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى تجنب المحارم والبعد عنها، والحرص على البعد عن كل ما يقرب منها.
أيها الإخوة الأحبة! هناك وقفات أخرى؛ بعضها إيجابي مشرق، وبعضها يحتاج إلى التنبيه:
أما الإيجابيات فهو هذا الرفض العارم الذي انتظم أكثر فعاليات العالم الإسلامي من المؤسسات والدعاة والعلماء، فقد تقدمت رابطة العالم الإسلامي ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومجمع البحوث الإسلامية في مصر ولجنة الفتوى بالأزهر وغيرها من الجهات مفندة هذه الوثيقة التي هي وثيقة العار وشهادة الانهيار لهذه الحضارة ولهذه المبادئ والقيم.
وهذا يدلنا على أن الأمة -بحمد الله عز وجل- ما يزال فيها خير، وقد ناقشت كثير من صحفنا المحلية هذه الوثيقة، ونقلت هذه التعليقات، وأفردت لها الكثير من صفحات النقد وبيان العوار الذي فيها، وذلك يبين لنا أن روح التوعية الإسلامية -بحمد الله- أفضل من ذي قبل، وهذا شيء نفرح له، ونطلب المزيد منه.
هناك أمر ثانٍ أريد أن أنبه عليه، وأقدم له بمثال: عندما يذهب الإنسان ليشتري بضاعة فإذا قال له البائع: إنه بأربعين، فإنه يقول للبائع: أريدها بعشرين، وهو يعلم أن البائع لن يرضى بهذا الثمن، ولكنه يقول: عشرين ليصل معه إلى الثلاثين، وأخشى أن يكون موقف بعضنا أو موقف فئات ومجتمعات إسلامية من هذا المؤتمر مثل هذا الموقف، فقد عرضوا في هذه الوثيقة كل المحرمات، ليصلوا بعد ذلك إلى أن يكون هناك تفاوض ومكاسرة كما يكون في البيع والشراء، فنرفض هذا ونرفض هذا ونقول: هذا لا يليق، فيقال: إذاً: فلنلغ هذا، وأما هذا فيمكن أن يكون هكذا وهكذا.
وأقول: هذه الصورة قد تقع على مستوىً عام وعلى مستوىً فردي، وهذا هو الأمر الخطير، فما زلنا في واقع حياتنا نترخص ونأخذ ما فيه بأس رجاء ألا يكون فيه بأس، بينما سلفنا كم أثر عنهم كانوا يجعلون بينهم وبين الحرام سبعين باباً من الحلال تورعاً واحتياطاً واتباعاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه).
وأقول: هذا الحمى قد سبق أن تدرج فيه الناس ووقعوا فيه، فلم نكن في يوم من الأيام نرضى للمرأة المسلمة أن تكشف عن وجهها، ثم ترخصوا في ذلك، ثم قالوا: لا بأس بشعرها، ثم ذراعها، ثم أصبحت تسبح في المسابح لا يستر عورتها شيء إلا أقل القليل، وهكذا قد تطلب مثل هذه الطلبات، فيقال: لا، هذا لا يليق، وهذا لا يصح، ثم يرضى بعد ذلك بما هو أدنى منه مما هو أسوأ.
وينبغي أن تكون مثل هذه الدعوات والتوصيات دافعة لنا للمراجعة لما سبق، فلننظر فيما سبق، ولتنظر المجتمعات الإسلامية، أليس قد وقع فيها كثير من الأمور المخالفة لشرع الله عز وجل، ووقع في بعض البلاد ما يشبه إباحة الزنا والدعوة إليه والإرشاد إليه؟! أليس هذا كله قد وقع؟!
إذاً: بدلاً من أن نرفض هذا ونترخص فيما هو دونه ينبغي أن يكون ذلك كالتنبيه لنا لنرجع، حتى في بيوتنا؛ ألسنا قد كنا من قبل نستحيي في أسرنا أن يتكلم الأبناء أو الآباء والأمهات في مكان أو في وقت بأمر يمس من قريب أو بعيد الأمور الخاصة بأمور الرجل والمرأة، فأصبحنا بعد ذلك لا نرى بأساً بهذا الحديث، بل أصبحت الأسر الإسلامية في كثير من البلاد تجتمع على الشاشات الفضائية أو على الأفلام التي تظهر فيها مظاهر العري، والأم والأب والابن والبنت يشاهدون ذلك ولا شيء ولا حرج ولا حياء!
إذاً: نريد أن يكون هذا بمثابة الهزة التي تنبهنا إلى ما سلف من تصرفاتنا التي ترخصنا فيها وتجاوزنا فيها شرع الله عز وجل.
هذه الوصايا والمقترحات تهدف -كما جاء في مذكرة رابطة العالم الإسلامي- إلى دعوة الدول إلى إعادة صياغة جميع البرامج الخاصة بها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً تبع التوصيات، حتى التعليم ينبغي -بموجب هذه التوصيات- أن يغير، وأن يدرس الأطفال والمراهقون أمور الجنس وغيرها.
ثم أيضاً يترتب على ذلك تنحية الجوانب الدينية والأخلاقية، وأن يلغى من قواميس الاصطلاح والتعامل الاجتماعي: الحرام، والعيب، والحياء، ونحو ذلك.
وتتضمن التوصيات ما يفيد أن أية دولة تخالف هذه التوصيات بعد إقرارها سوف تكون شاذة عن الإجماع الدولي العالمي، وستتعرض إلى ضغوط سياسية، وإلى شروط اقتصادية مجحفة، وهذا أيضاً أمر تتضمنه هذه الوثيقة كما جاء في مذكرة الرابطة.
وتشير الرابطة إلى أن الوثيقة التي تكونت من مئات الصفحات للتكلم عن التنمية لم تتحدث عن التنمية إلا بقدر عشرين بالمائة، وأن الثمانين بالمائة الأخرى كانت خاصة بالخدمات الصحية التناسلية والجنسية، كما هو تعبير الوثيقة، ولذلك نرى أن الأمر واضح.
كثير منا يقول: لا تهمنا هذه الوثيقة وهذا المؤتمر؛ لأننا ننكر ما فيه، ولكنني أقول: إن الأمر أخطر من ذلك، فينبغي أن يكون الإنكار عملياً، وأن تكون المراجعة شاملة، وأن يكون الحذر كاملاً من مثل هذه الأمور الخطيرة التي تستهدف الأخلاق، وتستهدف القيم والمبادئ، وتستهدف قبل ذلك ومع ذلك وبعد ذلك الإيمان والعقائد.
فالله أسأل أن يحفظنا، وأن يحفظ مجتمعاتنا، وأن يحفظ أسرنا، وأن يحفظ أبناءنا وبناتنا وأزواجنا، وأن يحفظنا جميعاً من كل سوء، وأن يبعد عنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يسلمنا وأن يبعدنا عن المحرمات وعن الأمور المشتبهات.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل الإيمان والتقى.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل الورع واليقين.
اللهم إنا نسألك أن تباعد بيننا وبين ما يسخطك، وأن تجنبنا كل ما حرمت علينا يا أرحم الراحمين!
اللهم إنا نسألك أن تأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن تلهمنا الرشد والصواب.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا هداة مهديين، وأن تهدينا، وأن تهدي بنا.
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين، واكتبنا في جندك المجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم إنا نسألك أن تحفظ شبابنا وشاباتنا من كل سوء يا رب العالمين!
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين!
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
رمضان ضيفنا المنتظر | 2910 استماع |
المرأة بين الحرية والعبودية | 2732 استماع |
فاطمة الزهراء | 2699 استماع |
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها | 2630 استماع |
المرأة والدعوة [1] | 2544 استماع |
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم | 2537 استماع |
غزوة أحد مواقف وصور | 2536 استماع |
قراءة في دفاتر المذعورين | 2488 استماع |
خطبة عيد الفطر | 2470 استماع |
التوبة آثار وآفاق | 2454 استماع |