خطب ومحاضرات
العلم والدعوة
الحلقة مفرغة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره وسار على هديه واتبع سنته.
وبعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا بحمد الله تعالى هو الدرس الثاني والستون وعنوانه: العلم والدعوة، وينعقد في يوم الجمعة الموافق للخامس والعشرين من شهر شوال عام (1413هـ) ولهذا الموضوع قصة أذكرها قبل ذكر نقاط هذا الموضوع، فقد دعيت مرة للمشاركة في برنامج مفتوح للتوعية الإسلامية في الجامعة، وكان المنظمون قد اختاروا اجتهاداً منهم عنواناً متعلقاً بالدعوة، وعندما حضرت إلى اللقاء كان عدد الحاضرين ربما لم يتجاوزوا عشرة أشخاص، وفي غالب الظن يتصور أن مثل هذا العدد قد يضعف العزم على الحديث أو الحماسة فيه أو الإتقان له، غير أني والحمد لله رأيت أن في هذا خيراً؛ إذ عندما يقل السامعون يتوجه الخطاب بشكل أكثر مباشرة، ويكون الاستيعاب والسؤال والجواب وما يتعلق بذلك أكثر تركيزاً وعمقاً، وعنَّ لي في ذلك المجلس أن أتحدث عن العلم من خلال الواقع الذي يعيشه جيل الصحوة على وجه الخصوص، ومن غير تحضير مسبق ولا إعداد مادة ترسلت في الحديث، الذي كنت أظنه كلمة عابرة لا تتجاوز عشر دقائق أو ربع ساعة حتى أذن العشاء ولما نفرغ من الحديث بعد، وكان حديثاً طيباً بحمد الله سبحانه وتعالى، واتفق أن دعيت في اليوم الذي يليه إلى القاعدة البحرية من خلال دعوة من الشئون الدينية فيها، فكان الموضوع لا يزال عالقاً بالذهن فأعدته عليهم فترسخ أكثر ثم دعيت في أول هذا الشهر إلى لقاء ضم عدداً من الإخوة الدارسين في مجالات العلوم والهندسة من طلاب جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وكان من ضمن ما ذكروا من الأسئلة والإشكالات في ذلك اللقاء ما يتعلق بالعلم والدعوة إذ هم منشغلون متفرغون لتلك العلوم التي سجلوا فيها وتخصصوا فيها من هندسة أو كيمياء أو فيزياء أو اتصالات أو غير ذلك، وعندهم شوق لطلب العلم الشرعي، وقد لا يستطيعون الجمع بينهما، ثم كان هناك نظرات يستفسرون عنها، فمن طالب علم قد بذل جهداً ووقتاً كبيراً في طلب العلم ينظر إلى من يشتغل بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظرة فيها شيء من الازدراء والاحتقار باعتبار أنه لم ينل حظه من العلم مثل ما نال، وآخر مشتغل بالدعوة بما عنده من يسير العلم ينظر إلى من أكب على حلق العلم ودروسه وشغل بحفظ المتون وغير ذلك نظرة يرى أنه قد تخلف بها عن واجب كان أولى به أن ينخرط في سلك الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هنا كانت مسألة العلم والدعوة وارتباطهما مسألة مطروحة في الساحة بين الشباب، فرأيت أن أستحضر ما سلف في تلك اللقاءات والأحاديث، وأن أضم شتات ما ذكرته فيهما، ثم عدت إلى مراجع وكتب لأؤيد ما كنت قد ذكرته من ذاكرتي ومن خلال ما اجتهدت فيه؛ حتى يكون أدعى إلى التوفيق والقبول والإفادة.
إن هذا الموضوع ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: يتعلق بالعلم وحده.
القسم الثاني: يتعلق بارتباط العلم بالدعوة.
الحق أنني لا أريد أن أشغلكم بكثرة ما أعددت من نقول ونصوص، بل أحب أن أترسل لأخاطب إخواني بما نلامسه ونعايشه في واقعنا، من خلال هذا الموضوع على وجه الخصوص، وبقدر ما يتسع له الوقت نستشهد بشواهد وآثار فيما يتعلق بسير وتراجم لأئمة علماء السلف رضوان الله عليهم أجمعين.
طلب العلم العيني والكفائي وضوابطهما
أولها: العينية والكفائية في طلب العلم.
لابد لنا أن نعرف أن قضية طلب العلم ليست قضية ذاتية تخضع للعواطف التي قد تمليها الأوضاع والأحوال على بعض الشباب، فإن بعضاً منهم قد يكون حديث عهد بالتزام وقريب عهد بإقبال على الخير، فإذا ارتاد مجالس العلم ويسمع عن طلب العلم وضرورته وأهميته وطلبة العلم والعلماء حينها يظل صدى هذه الكلمات يتردد في ذهنه فيندفع من غير بينة، ومن غير معرفة للأولويات وما هو أكثر أهمية وأولى تقديماً من غيره.
إن مسألة العلم مسألة لها ضوابطها الشرعية وأدلتها النصية من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن لها تطبيقاتها العملية في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه وسيرة كثير من علماء الأمة وأئمتها، فليست المسألة اندفاعاً عاطفياً ولا رغبة عند إنسان يحب اطلاعاً أو حفظاً أو يجيد بعض المسائل والبحث فيها، بل لابد له من مراعاة الضوابط الشرعية، ومن هنا قبل أن يقبل الطالب لابد أن يعرف ما هو الواجب العيني من طلب العلم؟ وما هو الواجب الكفائي؟
الواجب العيني: هو ما يجب على كل أحد بعينه، فهذا لا شك أنه الأول والمقدم الذي لا ينفك عنه مسلم مطلقاً، وأنه لابد أن يعلمه؛ لأنه لا يصح اعتقاده ويخلص ويبتعد من نواقض التوحيد ومداخلات الشرك إلا به، وهو الذي لا تصح عبادته إلا به؛ لأن به ينجو من الابتداع وغير ذلك من المخالفات الشرعية التي تبطل عبادته وتذهب صحتها وأجرها عند الله سبحانه وتعالى.
كما أن به معرفة ما يتعلق بالأحكام التي يفتقر إليها في معاملاته من زواج وطلاق، ويتعلق بمعاملاته المالية وغيرها، وألوان أخرى كثيرة.
إذاً: الواجب العيني هو المعلوم من الدين بالضرورة.
هذا الذي ينبغي ألا يتخلف عنه مسلم، وينبغي أن يكون أول ما يبدأ به على كل حال وفي كل آن.
إذاً: المسلم عندما يبلغ سن التكليف عليه أن يعرف دين الله عز وجل وأن يبدأ بهذه المعارف، ثم هناك فروض كفايات قد يحتاج إليها بعض الناس دون بعض، وقد يحتاج إليها المرء في وقت دون وقت، وقد مثل لها أهل العلم بالآتي: إن كان المسلم فقيراً ليس ذا مال فإنه لا تجب عليه في هذه الحالة معرفة أحكام الزكاة، سيما على وجه التفصيل، فإن وجد مالاً بلغ نصاباً لزمه أن يتعلم من أحكام الزكاة ما يخرج به حق الله عز وجل، وما يعرف به الحكم الشرعي في هذا الركن من أركان الإسلام، وكذلك الذي لم يتيسر له الحج قد لا يكون واجباً عليه في الحال معرفة أحكام الحج، فإذا عزم عليه وتوجه إليه لزمه أن يعرف ما تصح به هذه الفريضة، وما هي واجباتها وفرائضها؟ وما هي سننها وآدابها؟ وما يترتب على الإخلال بشيء مما يجب عليه أو يفترض أو يسن أو يستحب، إلى آخر ذلك مما يحتاج إليه لتصح به عبادته وهكذا، فإذا أراد أن يتزوج تعلم أحكام النكاح والطلاق وما يلحق بذلك، وهناك علوم أخرى غير العلوم الشرعية المباشرة، وهي العلوم التي بها صلاح الناس في هذه الدنيا، وتسيير أمور حياتهم من طب وهندسة وحساب وغير ذلك، هذه واجبات كفائية تجب على الأمة بعمومها، فإن قام بها البعض سقطت عن الباقين، ولكن لابد أن يكون في الأمة من ينتدب لها ويتفرغون لها ويبدعون فيها ويتوسعون في معارفها ودقائقها حتى يغني هؤلاء الأمة فيما تفتقر إليه من الطب أو الاقتصاد أو الهندسة أو الحساب أو غير ذلك من أسباب القوة المادية والمعنوية لهذه الأمة.
إذاً: لا ينبغي أن يختلط الأمر على المرء فيبدأ بما هو أقل أهمية قبل ما هو أعظم وأكثر أهمية.
إذاً: لابد أن نعرف أن هناك قسمين:
العلوم غير الشرعية: وهي أوسع من علوم الشرع.
العلوم الشرعية وتنقسم إلى قسمين:
علوم شرعية على هيئة فرض الكفاية، وعلوم شرعية على هيئة فرض العين، وبعد ذلك تأتي تقسيمات أخرى أذكر بعضاً منها: يقول ابن حجر رحمة الله عليه: المراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف في أمر دينه وعبادته ومعاملاته والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص.
ويفصل ابن القيم رحمة الله عليه في أعلام الموقعين تفصيلاً أوسع وهو يذكر أنواع العلوم الأساسية، يقول:
النوع الأول: علم أصول الإيمان الخمسة، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
ذكر ما ورد في الآية الجامعة: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ [البقرة:177] إلى آخر ما في هذه الآية.
النوع الثاني: علم شرائع الإسلام واللازم منها، وعلم ما يخص العبد من فعلها كعلم الوضوء والصلاة والصيام والحج والزكاة وتوابعها وشروطها ومبطلاتها.
النوع الثالث: علم المحرمات الخمسة التي اتفقت الرسل والشرائع والكتب عليها: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، فهذه محرمات وردت على لسان كل رسول لا تباح قط، ولذلك أتى فيها بـ(إنما) المفيدة للحصر.
النوع الرابع: علم أحكام المعاشرة والمعاملة التي تحصل بينه وبين الناس خصوصاً وعموماً، والواجب في هذا النوع يختلف باختلاف أحوال الناس ومنازلهم، فليس الواجب على الإمام مع رعيته كالواجب على الرجل مع أهله وجيرانه، وليس الواجب على من نصب نفسه لأنواع التجارات من تعلم أحكام البيوعات كالواجب على من لا يبيع ولا يشتري إلا ما تدعو الحاجة إليه.
وأما فرض الكفاية فلا أعلم فيه ضابطاً صحيحاً، فإن كل أحد يدخل في ذلك ما يظنه فرضاً، وبالجملة فالمطلوب والواجب على العبد من العلوم والأعمال ما إذا توقف عليه شيء منها كان ذلك الشيء واجباً وجوب الوسائل، يعني: على غرار القاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإذا احتاج لأمر وجوبي ورأى أنه لا يمكن تطبيقه إلا بعلم بعض مسائله وفروعه، كان ذلك العلم الذي يوصله إلى تطبيق ذلك الحكم الواجب أمراً واجباً عليه.
وقال في آخر الأمر: ومدار هذه العلوم الشرعية على التفسير والحديث والفقه.
ويقول ابن عبد البر رحمة الله عليه: أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئ في خاصة نفسه، ومنه ما هو فرض على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه عن أهل ذلك الموضع.
قال: واختلفوا في تلخيص ذلك.
وساق مقالة طويلة ذكر فيها تفصيلاً من أمور الاعتقاد والعبادة والمعاملة التي يجب على المرء عيناً أن يعرفها.
وقد وضع بعضهم ضابطاً لما يتعلق بالفرض الكفائي، فقال: وأما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا على وجه الخصوص.
وذكر الغزالي أيضاً مقالة ضافية في ذلك قال فيها: اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم، والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية، وأعني بالشرعية: ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل: الحساب، ولا التجربة إليه مثل: الطب، ولا السماع مثل: اللغة.
أي: العلوم التي وردت عن طريق الوحي بالرسل والأنبياء.
ثم قال: فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: منها ما هو محمود، ومنها ما هو مذموم، ومنها ما هو مباح.
فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب وغير ذلك، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة.
ثم ذكر أنواعاً من هذه العلوم.
فإذاً: لابد للأخ المسلم أن يعرف ما يجب عليه عيناً، وذلك بمعرفة الأسس اللازمة التي هي معلومة من الدين بالضرورة، والتي لا يعذر المرء بجهلها، والتي يعرف بها أول دخوله في هذا الدين ونطقه بالشهادتين، وأول ذلك ما يتعلق بالإيمان والاعتقاد في ذات الله عز وجل وكتبه ورسله وأنبيائه واليوم الآخر والقدر خيره وشره على سبيل الإجمال، وليس المرء مطالباً على سبيل التفصيل، والرد على كل فرقة، والاستنباط من كل دليل؛ فإن ذلك ليس مطلوباً على سبيل الوجوب العيني، بل هو مخصوص بمن تهيأ لطلب العلم أو احتاج إليه، أو كان يرد على بعض من خالف أو ابتدع، أو كان ممن يستفتى ويسأل في مثل هذه المسائل.
ثم على المرء أن يتعلم ما يجب عليه من أمر العبادات من طهارة وصلاة وصيام وزكاة إن كان ذا مال وحج إن قصد إليه، فهذا لا شك أنه من أوجب الواجبات وألزم اللازمات، ثم بعد ذلك ما يتعلق بأمور المعاملات ومعرفة المحرمات بالإجماع وهي المعلومة من الدين بالضرورة، كحرمة الخمر وحرمة الزنا وغير ذلك مما يلحق بهما كالكذب ونحوه، ثم بعد ذلك للمرء أن يتوسع بما يحتاج إليه أو يرى ميله إليه إلى غير ذلك من الأنواع.
ضرورة التنوع والتوزع في العلوم الشرعية الكفائية
بعد أن يعرف المسلم العلم من فرض عيني وكفائي، نقول: إن في الكفائي ما يحتاج إلى تنوع وتوزع، فلو سمعت من ينتدب لعلم الحديث على سبيل المثال يقول لك: إن علم الحديث ومعرفة الصحيح من الضعيف هو أهم المهمات وأولى الأولويات، ويذكر لك ما هو صحيح في نفس الأمر، فإذا بكثير ممن يسمعونه يتوجهون إلى قوله، ونرى أن جلّ طلاب العلم توجهوا ليكونوا محدثين، ولم نجد بعد ذلك فقيهاً يستنبط لنا مما رواه هؤلاء الكثرة الكاثرة من الرواة.
أو قد تجد من يقول لك وهو محق في ذلك: إن علم الاعتقاد والتوحيد هو أساس كل شيء وأوله ومبدؤه، وبتوجيهه هذا يجعلك تظن أن التشريعات والتفصيلات والردود في هذا العلم أولى بك من أن تعرف علم تفسير كتاب الله عز وجل، أو فقه الأحكام الشرعية، أو صحة الأحاديث النبوية، فيختلط الأمر عليك مرة أخرى.
أقول: لابد من أن يتوسع طلبة العلم سيما في مجال التخصص، وأن يكون التوسع على العلوم الشرعية المهمة اللازمة التي أوجز ذكرها -كما أشرت- ابن القيم رحمة الله عليه، بدءاً بعلوم التوحيد والإيمان ومروراً بعلوم الفقه والسنة والتفسير وهذه الجوامع الكلية المهمة.
إذاً: نحذر نظرة التركيز التي تطغى فيها العبارات بحيث إذا مدح أي علم ما فكأنه لا أهمية ولا نفع ولا فائدة في غيره من العلوم؛ لأننا نجد أن كل صاحب تخصص حتى في غير علوم الشريعة يقول لك ذلك، فصاحب علم الرياضيات يقول لك: كل الناس يفتقرون إلى الرياضيات، ومثل ذلك الذي يبني البناء، والذي يريد أن يطبب المرضى، والذي يريد أن يطير في الجو، والذي يريد أن يغوص في البحر، والذي يريد أن يحارب في المعارك إلى آخر ذلك، وهكذا كل صاحب علم يشيد بعلمه، لذلك لا ينبغي أن تكون النظرة بهذا الشكل، بل ينبغي إعطاء كل علم أهميته، وأن يشيع بين شباب الصحوة نوع من التوزع والتنوع على فروض الكفايات، فإن التوسع والتفصيل في كثير من المسائل والعلوم ليس واجباً على العين، لكن لا شك أنه واجب على الكفاية، وأنه في حق الداعية وطالب العلم وشباب الصحوة ألزم وأوجب.
إذاً: ينبغي أن يكون هناك مثل هذا التنوع والتوزع؛ لأنه قد يقع اللوم والنقد بين أهل العلم وغيرهم، فالذين رأوا نصرة الإسلام وخدمته في الجهاد العسكري البحت نظروا إلى كل من تفرغ لطلب العلم أو سار في طريق الدعوة نظرة ازدراء واحتقار، وأنه مقصر في خدمة دين الله عز وجل، وأنه لاه عابث لا يقدم شيئاً لهذه الأمة، وقد تكون نظرة الذي يدعو أو يتعلم إلى ذلك نظرة ازدراء واحتقار وأنه ليس له جَلَدٌ في طلب العلم ولا في الدعوة، وإنما همه أن يذهب هنا وهناك مع كل صيحة جهاد.
والحق أن كلاً على خير؛ لأن التنوع والتوزع هو الذي تحتاج إليه الأمة؛ ليكون لها في كل مجالاتها جهاد علمي وجهاد دعوي وجهاد تربوي وجهاد عسكري وجهاد فكري، فإن كل ذلك مندرج في أسباب القوة التي تتقوى به الأمة في داخل صفوفها، وتتقوى به كذلك في مواجهة أعدائها، ومن جميل ما قاله ابن القيم رحمة الله عليه: إنما جعل طلب العلم من سبيل الله؛ لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد فقوام الدين بالعلم والجهاد، فالعالم وطالب العلم كذلك يقومان بدور الجندي المجاهد وقائد الجيش، فشيخ العلم كقائد الجيش، وطالب العلم كجندي الجيش، كلاهما يجاهد في نصرة دين الله عز وجل.
وتأمل بقية قول ابن القيم فإنك ناظر في ذلك فقهاً دقيقاً ومعرفة رشيدة، وإحاطة بمقاصد هذا الدين فريدة وعجيبة، يقول: ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان وهو الجهاد العسكري، وهذا المشارك فيه كثير.
والثاني: جهاد بالحجة والبيان وهذا هو جهاد الخاصة من أتباع الرسل وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين؛ لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه، قال الله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:51-52] فهذا جهاد بالقرآن وهو أكبر الجهادين، وهو جهاد المنافقين أيضاً، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم، ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن.
ثم قال: والمقصود أن سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق به إلى الله.
فإذاً: لابد أن نعرف أن كل جانب من الجوانب هو ثغرة من الثغرات يجب سدها، وأن كل ميدان من الميادين هو افتياد يجب أن ينتدب له من أبناء الأمة وشبابها الصالحين من يبدع فيه ويتفرغ له، ولا يعيبن أحد على أحد صنيعه إلا إن كان يرشده إلى الكمال أو التتميم، فإن الاستغناء بأمر دون الآخر أو النظر إلى أمر على أنه يشمل كل شيء وغيره يسقط كل شيء، فهذه النظرة خاطئة فيها مبالغات ومجازفات، فالذي يجاهد ينظر إلى غيره على أنه لا يصنع شيئاً، والذي يطلب العلم يرى أن غيره يلعب ويلهو، هذا كله قصور نظر وقلة فقه وعدم بصر وإدراك بحقيقة هذا الدين وشموله وكماله.
ضرورة القدرة والتأهل وأهميتهما لطالب العلم الشرعي
وقد كان سلف الأمة أصل التوجه عندهم هو أن يدفع بالشباب إلى طلب العلم الشرعي والتفقه في الدين؛ لأنه هو الذي فيه الخيرية، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، وهو الذي دعا به النبي عليه الصلاة والسلام لـابن عباس حيث قال: (اللهم علمه الكتاب) فإذا عجز عن ذلك دفعوا به إلى أمور الصناعات فليكن بناءً أو ليكن كذا أو ليكن كذا، لكن انعكست الأمور اليوم وظن كثير من الناس أن أي إنسان ليس عنده أدنى قدرة ولا أية مواصفات تأهيلية يمكن أن يكون طالب علم، بمجرد أن يحمل كتاباً أو يحمل قلماً أو يكون مالكاً لدفتر جيد عديد الصفحات إلى غير ذلك من الأمور الشكلية.
أقول: لابد أن نعرف أن لطلب العلم تأهلاً وأن له نجابة لازمة وذكاء واستنباطاً وعقلاً مفكراً مدبراً يفتقر إليه؛ لأن طلب العلم ليس مثل قضية شرب الماء، أو مثل أن يذهب لأخذ شيء وشرائه، لا، طلب العلم شيء آخر، ولذلك سيأتي في دقيق المواصفات ما يدل على هذا، وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يتلمسون مخايل الذكاء وبوادر الفطنة عند صغار الشباب ويتفرسون فيهم النجابة فيدفعونهم إلى ما يصلح لهم من علوم الشرع فينبغون ويبدعون فيها، أما النظر إلى أن التأهل أمر عادي فهذه قضية خطيرة جداً، ولذلك لما رخصت هذه القيمة للعلم الشرعي وشاعت هذه النظرة بين الناس رأينا كل الناس طلبة علم، كل من حضر محاضرة أو خطبة أو اقتنى كتاباً واشتراه وحمله في يده أصبح طالب علم، ويمكن أن يكون في يوم من الأيام وربما ليس بعيداً عالماً من العلماء، هذا التصور الذهني البارد البليد ليس مقبولاً ولا صحيحاً في الوقت نفسه، ولذلك لا بد أن يعرف أنه ليس كل إنسان يصلح لكل شيء ولا بد أن يكتشف الإنسان أيضاً ميله وقدرته، فإن من الناس من يميل إلى الفقه والاستنباط وإعمال العقل، وعنده بذلك نظر وقاد وفقه عجيب واستنباط دقيق، حسبك في ذلك ما يذكر من فقه الإمام البخاري في تراجمه رحمة الله عليه، حارت العقول فيها، وأجهد العلماء أنفسهم حتى يصلوا إلى بعض ما كان البخاري يهدف إليه وما استنبطه رحمة الله عليه، وصنفت كتب ومؤلفات ليس في شرح أحاديث صحيح البخاري ولا في أسانيدها ولا غير ذلك، بل على التراجم التي هي عناوين أبواب الصحيح فحسب، فليست القضية قضية عارضة سهلة، وليس أمر التأهل عيباً، كون المرء لا يصلح لعلم الفقه، قد يكون الرجل حافظاً فيصلح أن يكون راويةً، ولا بد أن نفرق، قال الإمام مالك : أدركت سبعين ممن يستسقى بهم كلهم لا يؤخذ منهم الحديث؛ يقال: ليسوا من أهله، وليسوا حفاظاً ما انتدبوا لهذا العلم.
فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان عنده فقه ودقة استنباط عجيبة؛ ولذلك انظروا إلى ما نوع به النبي عليه الصلاة والسلام أوصاف أصحابه فإذا أبي أقرؤهم، وإذا معاذ أعلمهم بالحلال والحرام، وإذا زيد أفرضهم، وإذا علي أقضاهم إلى آخر ما ذكر في شأن الصحابة رضوان الله عليهم، وإذا ابن عباس أعلمهم بكتاب الله، هذا التميز لا يعني أن حظهم من العلوم الأخرى كان صفراً، لا، لكن كان هناك تميز وتفرد من زيد في الفرائض؛ لأنه نقل أكثر علم الفرائض ومسائله عنه عليه الصلاة والسلام، وكان لـابن عباس تميز في التفسير وملئت كتب التفسير بمروياته ومقالاته، وكان معاذ رضي الله عنه عالماً بالحلال والحرام فكان النقل عنه في هذا كثيراً، وأبي كان قارئاً واتصلت الأسانيد إليه أكثر من غيره.
إذاً: لا بد أن نعرف التأهل والتمكن، وأن يكتشف الشاب ميله ورغبة نفسه وما يرى أنه يصلح له؛ لأن المسألة ليست أمراً عابراً، والذي يدل على ذلك اختلاف وصايا النبي عليه الصلاة والسلام، واختلاف إجاباته للسائلين، واختلاف توجيهه لبعض الصحابة كل بحسب ما يرى له، انظر إلى أبي ذر رضي الله عنه يقول عنه عليه الصلاة والسلام: (ما أقلّت الغبراء ولا أظلت السماء أصدق لهجة من
إذاً: ليس هذا عيباً فيه وإنما هذا اكتشاف لما يحسنه، وإبعاد له لما لا يطيقه ولا يتقنه، فلا بد أن نفطن إلى هذا وأن نسلم به، فهذا النبي عليه الصلاة والسلام اختلفت وصاياه فجاءه من يستوصيه فيقول له: (لا تغضب) ويأتيه ثان يستوصيه فيقول له: (قل: آمنت بالله ثم استقم) ويأتيه ثالث يستوصيه فيقول له: (أمسك عليك لسانك) فهو عليه الصلاة والسلام كان يعلم أن كلاً منهم يحتاج إلى شيء معين، وأن كلاً منهم له قدرته التي يتميز بها، وأن كلاً منهم له حاجة ماسة تخصه، وهكذا كان توجيه النبي عليه الصلاة والسلام في كثير مما سئل عنه، ففي حديث: (أي الأعمال أفضل؟) فكان عليه الصلاة والسلام يغير الجواب بحسب حال السائل.
وذكر ابن حجر مقالة جميلة فريدة رائعة في قضية طلب العلم، وأنه إذا لم يكن عندك مكنة ولا قدرة ولا تأهل لطلب العلم، فهل يعيبك ألا تكون من طلاب العلم، أعني: فيما وراء فرض العين، وفيما وراء العلم الذي يكون عندك فيه حظ لا بأس به؟ ليس في ذلك عيب.
يقول ابن حجر في مسألة التفاضل بين العلم ونوافل التطوعات: إن وجد في نفسه مكنة لطلب العلم من سعة حفظ وتوقد ذهن ودقة استنباط كان العلم في حقه أفضل من نوافل العبادات، وإن لم يجد ذلك كانت نوافل العبادات أفضل في حقه من العلم.
لماذا؟ لأنه سيمضي إلى طلب العلم ويمضي وقته فيه ولا يفهم ولا يحفظ ولا يتعلم، فلا صار عالماً ولا صار عابداً، فلا بد أن يعرف المرء هذه الحقيقة، ولو أن كل الناس كانت لهم مؤهلات ومكنة لكانوا بعد حين من الزمن علماء، لا يوجد فيهم عامي يسأل عالماً، ولا طالب يتتلمذ على شيخ.
فإذاً: لابد أن نعرف أن القدرة والتأهل أمر مهم جداً.
أهمية الحفظ والضبط والفهم لطالب العلم
ومن ضمن هذه الأمور: الضبط والحفظ، فطلب العلم بلا حفظ كالذي يكتب فوق الماء، فلو سطّر ما سطّر فإنه فوق الماء لا يبقى له أثر، ولذلك كانت الطريقة التعليمية الأولى تعتمد على الحفظ والفهم، ولم يقل أحد: إن هناك حفظاً بلا فهم، ونحن نريد أن نكون طلاب علم من غير حفظ، هذه في تصوري من خلال ما اطلعت عليه من التراجم وأحوال علماء الأمة لا يمكن أن يكون هناك طلب علم وتحصيل علم بلا حفظ مطلقاً، ولذلك انظر إلى ما كان عليه سلف الأمة وهذا يتعلق بالتدرج الذي سيأتي معنا.
أولاً: يبدءون بتحفيظ أبنائهم القرآن الكريم صغاراً، وعد إلى من شئت من العلماء في تراجمهم، منهم من حفظ القرآن وهو ابن سبع وهو ابن ست وهو ابن تسع وهو ابن عشر، وأقلهم من كان يتجاوز هذه السن أو قريباً منها ولم يحفظ القرآن، ثم بعد ذلك ينشط الطالب لحفظ المتون والكتب والأحاديث والمسائل.
إذاً: لا يمكن أن يستحضر المرء إلا بالحفظ، وكما قيل: علم لا يعبر بك الوادي لا يعمر بك النادي.
العلم الذي في رأسك وفي صدرك، تسافر وتقطع البحار وتصعد الجبال وعلمك معك، أما إذا كان علمك في الكراريس والكتب فلابد أن تجهز الصناديق وتدفع نقود الشحن، حتى إذا أردت علمك لابد أن ترجع إلى كتبك.
وهذه قصة تذكر للغزالي : أنه سئل فاحتاج إلى أن يراجع كتابه فقال: إذا كان الأمر كذلك فلا حصلت علماً، فاجتهد بعد ذلك حتى صار آية في الحفظ.
المهم أن الحفظ لابد منه، ولابد أن يعلم الشباب أن طلب العلم ليس بمجرد أن يسمع الشخص محاضرة؛ لأن بعضهم يأتي إلى درس علمي في فقه أو حديث أو تفسير في كتاب معين يأتي وليس معه ورقة ولا قلم يقيد به ولا كتاب ينظر فيه، ويلتمس أقرب عمود يتكأ عليه، ويحدق ببصره يميناً وشمالاً، ويعد اللمبات التي في المسجد والأبواب وكذا. ويقول بعد ذلك: إنه طالب علم ويصر على هذا، وقد يكون متكبراً على غيره متعالياً عليهم، فهذا لابد أن نعرف أنه يتميز طالب علم عن غيره.
إن أول أولويات هذا التميز هو الحفظ، وقد كان حفظ السابقين عجيباً، ولو استطردنا في ذكر ذلك من تراجم العلماء لانقضى الوقت قبل أن نذكر جزءاً مما ذكر عنهم، حسبك بحفظ الشافعي وما يروى عنه، حتى المتنبي كان يشتغل بالوراقة، فإذا نسخ كتاباً حفظه.
كان الوراقون عندهم كتباً قد تصل إلى عشرة كتب أو عشرين كتاباً؛ لأنه لم تكن هناك مطابع، فيأتيهم من يرغب أن ينسخ له الوراق ما عنده من الكتب، فإذا نسخ ما عند هذا الوراق من الكتب حفظها وانتقل إلى وراق آخر؛ ليكتب كتباً أخرى فيحفظها.
وقيل للأصمعي : كيف حفظت ونسي أصحابك؟ قال: درست وتركوا.
يعني: راجعت.
وعن عون بن عبد الله بن عتبة قال: ( أتينا أم الدرداء تحدثنا فتحدثنا عندها فقلنا: أمللناك يا أم الدرداء ؟ فقالت: ما أمللتموني لقد طلبت العبادة في كل شيء، فما وجدت شيئاً أشفى لنفسي من مذاكرة العلم ) أي: مراجعة لهذا الحفظ.
وقال ابن أبي ليلى : إن إحياء الحديث مذاكرته، فقال عبد الله بن شداد : يرحمك الله! كم من حديث أحييته في صدري قد كان مات.
وحديث: (تعاهدوا القرآن فإنه أشد تفلتاً من الإبل في عقلها) يقول ابن عبد البر : في هذا الحديث دليل على أن من لم يتعهد علمه ذهب عنه.
وذلك لأن العلم في وقت النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن لا غير، وإذا كان القرآن الميسر للذكر يذهب إذا لم يتعاهد فما ظنك بغيره من العلوم المعهودة؟! فإذاً: لابد من هذا المصير لهذا العلم.
أهمية الفهم والاستنباط لطالب العلم
فلابد أن يكون لطالب العلم فهم يستنبط به، وهناك مسائل كثيرة ذكرت لأهل العلم تبين دقة فهمهم وعمق استنباطهم لكثير من المسائل والمعضلات، وقد كان عمر رضي الله عنه إذا أشكل عليه أمر استشار واستفتى علياً رضي الله عنه، ومن ذلك المسألة المشهورة التي ذكر فيها: ( أن رجلاً جاء بامرأته وقد ولدت لستة أشهر يتهمها، فقضى علي أن الولد منه، واستشهد بأن الرضاعة حولين كاملين -أي: سنتين- وقال: إن حمله وفصاله ثلاثون شهراً، فيمكن بعد الفصل أن يكون الحمل ستة أشهر ).
وهناك من المسائل الكثيرة التي فيها بيان لفقه العلماء ودقة استنباطهم، حتى قال القائل في شأن أبي حنيفة رحمة الله عليه: لو شاء أن يجعل لك هذه الإسطوانة ذهباً لجعلها.
أي: من قوة حجته وقدرته على فهم النصوص وبيان معانيها ودلائلها.
ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من يرد به الله خيراً يفقهه في الدين) والفقه: هو الفهم والاستنباط.
وقال سبحانه: وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] أي: لا تفهمون تسبيحهم، ولذلك من وراء الفقه التفقه.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فحفظها ووعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) فإذاً: لابد أن نعنى بهذا الجانب وهذا متعلق بالملكات والقدرة.
أهمية التأسيس والتدرج لطالب العلم
يقع كثير من الناس في أخطاء، فإذا أراد أن يتعلم مثلاً في الحديث قال: أعظم كتاب في الحديث (فتح الباري) لابد أن أبدأ بفتح الباري مباشرة، نقول هناك: (الأربعين النووية) وهناك (بلوغ المرام) وهناك (رياض الصالحين) وهناك (مختصر البخاري ) و(مختصر مسلم ) ثم تدرج في ذلك.
وكذلك إذا جاء إلى الفقه قال: (المغني) لابد أن أغتني من المغني، فذهب ليدرس المغني، فإذا به يقرأ في المسألة الواحدة ليس أربعة أقوال أو أربعة مذاهب بل أكثر من ذلك، ويقرأ دليل هؤلاء ودليل هؤلاء، ثم يقول ابن قدامة : وحجتنا في ذلك أو ودليلنا في ذلك، ويخرج بعد هذه المسألة وليس عنده إلا -كما يقولون- من كل بحر قطرة، فإذا سئل ما استطاع أن يجيب؛ لأنه لم يؤسس له علماً، فإن الأقوال المختلفة المتضاربة أو النقول العديدة والفروع الكثيرة تشوش الفكر؛ ولأنه خالي الذهن، إذاً: لابد أن يكون هناك تدرج في الطلب؛ لأنك إذا جئت الآن تريد أن أعلمك نظريات في الرياضيات كنظريات فيثاغورث أو غيرها، وأنت لا تعرف الأعداد ولا تعرف جدول الضرب، قل لي بربك: كيف تفهم؟! فإذاً لابد أن تؤسس، وكذلك لو جئت لك بكتاب حروفه كبيرة ومشكل بعلامات ملونة، لكنك لم تعرف الأحرف من قبل لا يمكن أن تقرأ، وعلى هذا كيف تدخل في فروع الفقه واختلافات الفقهاء وأنت لم تعرف أصل المسألة ولا قولاً واحداً فيها من قبل؟!
وهكذا إذا جاء إلى التفسير قال: أبدأ بتفسير ابن جرير ، ويذهب حدثنا، حدثنا، حدثنا، ويأتي في الآية الواحدة أو الكلمة الواحدة ربما بعشرة آثار أو أكثر من ذلك.
فإذا رجع للناس وسئل قال: يا أخي! في كل مسألة أقوال كثيرة واختلافات عديدة، وهي قد لا تكون اختلافات كما سبق أن أشرت في بعض الأمثلة، مثل قوله سبحانه: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32].
قالوا: السابق بالخيرات الصلاة في أول وقتها، والمقتصد الصلاة في وقتها، والظالم لنفسه الصلاة في آخر وقتها، أو الزكاة التي يؤديها وما معها من الصدقات، أو الزكاة فقط إلى آخر ذلك من الأنواع.
المهم أن التأسيس مهم جداً، أن يبدأ بأساس يكون كالقاعدة يستطيع أن يبني عليه، وأن يكون بعد ذلك التدرج، والأقوال في هذا كثيرة جداً، ولكني أرى كثيراً من الشباب يندفعون إلى طلب العلم اندفاعاً عاطفياً بغير تقدير لقضية العلم يجعلهم هذا الاندفاع يقفزون قفزاً لا يفيدهم علماً ولا ينتج لهم أدباً.
كذلك إذا جاء مثلاً في أمر العقيدة وأهمية العقيدة وكذا، قال: أقرأ الطحاوية أو ما هو أوسع منها، وإذا في الطحاوية من الردود على الفرق ما لم يعرفه ولم يسمع بالمصطلحات في هذا العلم، ويمر به مثلاً قول المعتزلة، من هم المعتزلة؟ ما سمع بهم من قبل أو يقال له: الكلابية أو كذا أو كذا، فتراه يخلط خلطاً عجيباً، وتمر به مسائل دقيقة تشوش فكره، ويضطرب لها عقله دون أن يحصل علماً.
إذاً: لابد من التدرج، ولذلك ذكر صاحب كتاب (تذكرة السامع): أن من لم يتقن الأصول حرم الوصول، لابد من أصول وأسس وإلا لن تصل إلى علم، وقال القائل أيضاً: من رام العلم جملة ذهب عنه جملة، وكذلك قيل: ازدحام العلم في السمع مضلة الفهم، يعني: يضل الفهم.
هنا مثال: لو أن عندك ورقة بيضاء صافية وكنت تكتب فيها جملة ثم تكملها في السطر نفسه وبعده الذي بعده، فإنك تخلص في آخر اليوم أو آخر الأسبوع بكلام منتظم قد يكون متفرقاً في أبواب، لكن إن كنت تسجل في هذه الورقة خبراً سمعته وحدثاً رأيته، وهذا بخط مائل وهذا في الوسط، وهذا بلون وهذا باختصار وهذا بتوسع، بقيت عندك الورقة مشكلة لا تستطيع أن تخرج منها فائدة واحدة، ولذلك لابد لكل فن من أصول تحفظ كما في مسألة الحفظ، وأبواب ذلك كثيرة.
إذاً: قبل أن يبدأ الطالب بالفقه المقارن لابد أن يأخذ فقهاً مختصراً في مذهب من المذاهب مجرداً عن الأدلة، ثم إذا فقه المسائل زيد له بعد ذلك في كتاب آخر أكثر توسعاً وفيه الأدلة، ثم بعد ذلك يكون في كتاب ثالث أكثر توسعاً وفيه بعض الآراء الأخرى وأدلتها، ثم يتوسع بعد ذلك في مقارنة المذاهب، ما الذي يحصل هنا؟ تمر به المسألة أول مرة ثم يعيدها في الكتاب الثاني ثم تمر عليه بتوسع في الثالث، فإذا بها ترسخ في ذهنه، أما عندما يأتي إليها وهي بأقوالها المتعددة المتشعبة لم يبق عنده أصلها، وإنما بقي عنده نتف منها وأقوال متفرقة عنها.
ولذلك على سبيل المثال: من أراد أن يدرس الفقه الحنبلي يبدأ بزاد المستقنع، ثم المقنع من بعده للخلاف المذهبي، ثم المغني للخلاف العالي، وكان لا يسمح للطبقة الأولى أن تجلس في درس الثانية وهكذا.
إذاً: لابد من المختصرات قبل المطولات، وعندي نقول كثيرة عن تدرجات كتب العلوم ليس هذا موضعها، ربما نذكر بعضاً منها في الجولات الآتية إذا أكملنا جولات في علوم القرآن وكتبه.
وذكر أيضاً ابن قدامة فيما يتعلق بالعلوم الشرعية حيث قال: الأصول: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة وآثار الصحابة، والفروع: ما فهم من هذه الأصول من معاني تنبهت لها العقول، والمقدمات: هي علوم الآلة التي تجري مجرى الآلات كعلم النحو واللغة أيضاً لابد أن يفرق بين هذه العلوم، والمتممات: كعلم القراءة ومخارج الحروف وما يلحق بذلك.
لابد من هذا التدرج؛ لأنه مهم، وهذا التدرج على أنواع، منه: أن يبدأ بالقليل ثم بعد ذلك يتوسع فيه، وأن يبدأ باليسير ثم بعد ذلك بالصعب العسير، أما إذا بدأ بالعسير إما أن تنقبض نفسه ويرجع عن طلب العلم، وإما أن يكابر فيظن أنه فاهم وليس بفاهم، ولذلك في كتاب العلم من صحيح البخاري فيه مسائل نفيسة جداً من ذلك في إحدى التراجم قال: الرباني: هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
والمراد بصغار العلم: ما وضح من مسائله، وكباره: ما دق منها، أما غير الرباني فهو يعلمهم جزئياته قبل كلياته أو فروعه قبل أصوله أو مقدماته قبل مقاصده هذا الذي يخلط.
ولـابن خلدون كلمة جامعة أذكر جزءاً منها قال: اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريب شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً، يلقي عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي لآخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنها ملكة جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفي في الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته، ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا معلقاً إلا وضحه، وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته.
هذا وجه التعليم المفيد، أما غير ذلك فهو تشويش وليس تعليماً، وهذا أقوله عن التعليم المدرسي الذي عندنا، أرى أن التعليم السابق هو الناجح الذي يقتصر على علم أو علمين ثم بعد إمكانهما وإحكامهما ينتقل إلى غيرهما، وهذا فرق ما بين الطالب في المدرسة والجامعة، أن طالب الجامعة مواده أقل، فبالتالي عنده شيء من التركيز في التخصص، أما طالب المرحلة الأولى في الثانوي على وجه الخصوص، فهناك إحدى وعشرون مادة من كيمياء إلى فيزياء إلى قواعد إلى جغرافيا إلى تاريخ إلى بلاغة إلى نحو، يأخذ من كل بحر قطرة ويخرج من كل شيء بلا قطرة، وهذه من المشكلات، فتجد الطالب يتخرج من الثانوية وهو لا يجيد النحو أو اللغة، ولا يعرف الكتابة ولا الإنشاء، ولا يعرف الحساب والرياضيات، ولا يتقن الفقه أو التفسير أو الحديث أو التوحيد إلى آخر هذه الأمور، وهذا باب واسع ف
فيما يتعلق بالعلم أتحدث عن ملامح في منهجية العلم، وأذكر عشر نقاط:
أولها: العينية والكفائية في طلب العلم.
لابد لنا أن نعرف أن قضية طلب العلم ليست قضية ذاتية تخضع للعواطف التي قد تمليها الأوضاع والأحوال على بعض الشباب، فإن بعضاً منهم قد يكون حديث عهد بالتزام وقريب عهد بإقبال على الخير، فإذا ارتاد مجالس العلم ويسمع عن طلب العلم وضرورته وأهميته وطلبة العلم والعلماء حينها يظل صدى هذه الكلمات يتردد في ذهنه فيندفع من غير بينة، ومن غير معرفة للأولويات وما هو أكثر أهمية وأولى تقديماً من غيره.
إن مسألة العلم مسألة لها ضوابطها الشرعية وأدلتها النصية من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن لها تطبيقاتها العملية في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه وسيرة كثير من علماء الأمة وأئمتها، فليست المسألة اندفاعاً عاطفياً ولا رغبة عند إنسان يحب اطلاعاً أو حفظاً أو يجيد بعض المسائل والبحث فيها، بل لابد له من مراعاة الضوابط الشرعية، ومن هنا قبل أن يقبل الطالب لابد أن يعرف ما هو الواجب العيني من طلب العلم؟ وما هو الواجب الكفائي؟
الواجب العيني: هو ما يجب على كل أحد بعينه، فهذا لا شك أنه الأول والمقدم الذي لا ينفك عنه مسلم مطلقاً، وأنه لابد أن يعلمه؛ لأنه لا يصح اعتقاده ويخلص ويبتعد من نواقض التوحيد ومداخلات الشرك إلا به، وهو الذي لا تصح عبادته إلا به؛ لأن به ينجو من الابتداع وغير ذلك من المخالفات الشرعية التي تبطل عبادته وتذهب صحتها وأجرها عند الله سبحانه وتعالى.
كما أن به معرفة ما يتعلق بالأحكام التي يفتقر إليها في معاملاته من زواج وطلاق، ويتعلق بمعاملاته المالية وغيرها، وألوان أخرى كثيرة.
إذاً: الواجب العيني هو المعلوم من الدين بالضرورة.
هذا الذي ينبغي ألا يتخلف عنه مسلم، وينبغي أن يكون أول ما يبدأ به على كل حال وفي كل آن.
إذاً: المسلم عندما يبلغ سن التكليف عليه أن يعرف دين الله عز وجل وأن يبدأ بهذه المعارف، ثم هناك فروض كفايات قد يحتاج إليها بعض الناس دون بعض، وقد يحتاج إليها المرء في وقت دون وقت، وقد مثل لها أهل العلم بالآتي: إن كان المسلم فقيراً ليس ذا مال فإنه لا تجب عليه في هذه الحالة معرفة أحكام الزكاة، سيما على وجه التفصيل، فإن وجد مالاً بلغ نصاباً لزمه أن يتعلم من أحكام الزكاة ما يخرج به حق الله عز وجل، وما يعرف به الحكم الشرعي في هذا الركن من أركان الإسلام، وكذلك الذي لم يتيسر له الحج قد لا يكون واجباً عليه في الحال معرفة أحكام الحج، فإذا عزم عليه وتوجه إليه لزمه أن يعرف ما تصح به هذه الفريضة، وما هي واجباتها وفرائضها؟ وما هي سننها وآدابها؟ وما يترتب على الإخلال بشيء مما يجب عليه أو يفترض أو يسن أو يستحب، إلى آخر ذلك مما يحتاج إليه لتصح به عبادته وهكذا، فإذا أراد أن يتزوج تعلم أحكام النكاح والطلاق وما يلحق بذلك، وهناك علوم أخرى غير العلوم الشرعية المباشرة، وهي العلوم التي بها صلاح الناس في هذه الدنيا، وتسيير أمور حياتهم من طب وهندسة وحساب وغير ذلك، هذه واجبات كفائية تجب على الأمة بعمومها، فإن قام بها البعض سقطت عن الباقين، ولكن لابد أن يكون في الأمة من ينتدب لها ويتفرغون لها ويبدعون فيها ويتوسعون في معارفها ودقائقها حتى يغني هؤلاء الأمة فيما تفتقر إليه من الطب أو الاقتصاد أو الهندسة أو الحساب أو غير ذلك من أسباب القوة المادية والمعنوية لهذه الأمة.
إذاً: لا ينبغي أن يختلط الأمر على المرء فيبدأ بما هو أقل أهمية قبل ما هو أعظم وأكثر أهمية.
إذاً: لابد أن نعرف أن هناك قسمين:
العلوم غير الشرعية: وهي أوسع من علوم الشرع.
العلوم الشرعية وتنقسم إلى قسمين:
علوم شرعية على هيئة فرض الكفاية، وعلوم شرعية على هيئة فرض العين، وبعد ذلك تأتي تقسيمات أخرى أذكر بعضاً منها: يقول ابن حجر رحمة الله عليه: المراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف في أمر دينه وعبادته ومعاملاته والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص.
ويفصل ابن القيم رحمة الله عليه في أعلام الموقعين تفصيلاً أوسع وهو يذكر أنواع العلوم الأساسية، يقول:
النوع الأول: علم أصول الإيمان الخمسة، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
ذكر ما ورد في الآية الجامعة: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ [البقرة:177] إلى آخر ما في هذه الآية.
النوع الثاني: علم شرائع الإسلام واللازم منها، وعلم ما يخص العبد من فعلها كعلم الوضوء والصلاة والصيام والحج والزكاة وتوابعها وشروطها ومبطلاتها.
النوع الثالث: علم المحرمات الخمسة التي اتفقت الرسل والشرائع والكتب عليها: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، فهذه محرمات وردت على لسان كل رسول لا تباح قط، ولذلك أتى فيها بـ(إنما) المفيدة للحصر.
النوع الرابع: علم أحكام المعاشرة والمعاملة التي تحصل بينه وبين الناس خصوصاً وعموماً، والواجب في هذا النوع يختلف باختلاف أحوال الناس ومنازلهم، فليس الواجب على الإمام مع رعيته كالواجب على الرجل مع أهله وجيرانه، وليس الواجب على من نصب نفسه لأنواع التجارات من تعلم أحكام البيوعات كالواجب على من لا يبيع ولا يشتري إلا ما تدعو الحاجة إليه.
وأما فرض الكفاية فلا أعلم فيه ضابطاً صحيحاً، فإن كل أحد يدخل في ذلك ما يظنه فرضاً، وبالجملة فالمطلوب والواجب على العبد من العلوم والأعمال ما إذا توقف عليه شيء منها كان ذلك الشيء واجباً وجوب الوسائل، يعني: على غرار القاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإذا احتاج لأمر وجوبي ورأى أنه لا يمكن تطبيقه إلا بعلم بعض مسائله وفروعه، كان ذلك العلم الذي يوصله إلى تطبيق ذلك الحكم الواجب أمراً واجباً عليه.
وقال في آخر الأمر: ومدار هذه العلوم الشرعية على التفسير والحديث والفقه.
ويقول ابن عبد البر رحمة الله عليه: أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئ في خاصة نفسه، ومنه ما هو فرض على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه عن أهل ذلك الموضع.
قال: واختلفوا في تلخيص ذلك.
وساق مقالة طويلة ذكر فيها تفصيلاً من أمور الاعتقاد والعبادة والمعاملة التي يجب على المرء عيناً أن يعرفها.
وقد وضع بعضهم ضابطاً لما يتعلق بالفرض الكفائي، فقال: وأما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا على وجه الخصوص.
وذكر الغزالي أيضاً مقالة ضافية في ذلك قال فيها: اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم، والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية، وأعني بالشرعية: ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل: الحساب، ولا التجربة إليه مثل: الطب، ولا السماع مثل: اللغة.
أي: العلوم التي وردت عن طريق الوحي بالرسل والأنبياء.
ثم قال: فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: منها ما هو محمود، ومنها ما هو مذموم، ومنها ما هو مباح.
فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب وغير ذلك، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة.
ثم ذكر أنواعاً من هذه العلوم.
فإذاً: لابد للأخ المسلم أن يعرف ما يجب عليه عيناً، وذلك بمعرفة الأسس اللازمة التي هي معلومة من الدين بالضرورة، والتي لا يعذر المرء بجهلها، والتي يعرف بها أول دخوله في هذا الدين ونطقه بالشهادتين، وأول ذلك ما يتعلق بالإيمان والاعتقاد في ذات الله عز وجل وكتبه ورسله وأنبيائه واليوم الآخر والقدر خيره وشره على سبيل الإجمال، وليس المرء مطالباً على سبيل التفصيل، والرد على كل فرقة، والاستنباط من كل دليل؛ فإن ذلك ليس مطلوباً على سبيل الوجوب العيني، بل هو مخصوص بمن تهيأ لطلب العلم أو احتاج إليه، أو كان يرد على بعض من خالف أو ابتدع، أو كان ممن يستفتى ويسأل في مثل هذه المسائل.
ثم على المرء أن يتعلم ما يجب عليه من أمر العبادات من طهارة وصلاة وصيام وزكاة إن كان ذا مال وحج إن قصد إليه، فهذا لا شك أنه من أوجب الواجبات وألزم اللازمات، ثم بعد ذلك ما يتعلق بأمور المعاملات ومعرفة المحرمات بالإجماع وهي المعلومة من الدين بالضرورة، كحرمة الخمر وحرمة الزنا وغير ذلك مما يلحق بهما كالكذب ونحوه، ثم بعد ذلك للمرء أن يتوسع بما يحتاج إليه أو يرى ميله إليه إلى غير ذلك من الأنواع.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
رمضان ضيفنا المنتظر | 2909 استماع |
المرأة بين الحرية والعبودية | 2732 استماع |
فاطمة الزهراء | 2699 استماع |
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها | 2630 استماع |
المرأة والدعوة [1] | 2544 استماع |
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم | 2535 استماع |
غزوة أحد مواقف وصور | 2534 استماع |
قراءة في دفاتر المذعورين | 2488 استماع |
خطبة عيد الفطر | 2469 استماع |
التوبة آثار وآفاق | 2453 استماع |