خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/239"> الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/239?sub=62913"> خطب ومحاضرات عامة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
الروح المعنوية عند الملمات
الحلقة مفرغة
الحمد لله الناصر المعين، القوي المتين، وعد بالنصر عباده المؤمنين، وجعل لهم على إيمانهم الاستخلاف والتمكين، وجعل العاقبة للمتقين، وكتب الدائرة على الكافرين ولو بعد حين، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
له الحمد سبحانه وتعالى ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وكشف الله به الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، بعثه الله رحمة للعالمين وأرسله إلى الناس أجمعين، وختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز من بعد ذلة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
الاستعلاء بالإيمان
أيها الإخوة المؤمنون! بعد تعاظم الظلمة ينبثق الفجر، وبعد اشتداد العسر يأتي اليسر، وفي كل ملمة من الملمات ينزل فيض من الرحمات!
ذلك ما ينبغي أن يستقر في نفوس المؤمنين، وأن يكون في قلوب المسلمين، وقد اشتد الخطب، وعظم الكرب، وتضاعف العدوان، وتعاظم الخذلان.
وننتقل لنأخذ الدرس الأعظم، والمدد الأكبر، من القدوة المثلى، في السيرة العظمى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ننتقل زماناً إلى يوم السبت والأحد الخامس عشر والسادس عشر من شهر شوال عام ثلاثة من الهجرة النبوية الشريفة، وننتقل في المكان إلى جوار مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإلى ظلال جبل أحد، وساحة المعركة التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم.
وننتقل تحديداً إلى جانب الملمة وإلى الشق الثاني من المعركة يوم كانت الدائرة على المسلمين، واستدار خالد بن الوليد بقوة من الجيش، وأطبق المشركون على المسلمين من جانبيه، فاضطربت الصفوف، وطاشت بعض العقول، وشج وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقات المغفر في وجنتيه، وسال الدم على وجهه الشريف، وهو يقول: (كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم).
وصرع أسد الله وأسد رسوله، ومضى إلى الله شهيداً بحربة وحشي ، وقطعت يدا مصعب بن عمير ، واندق الرمح في صدره، وخر لوجهه صريعاً شهيداً، ومضى إلى الله سعد بن الربيع وعبد الله بن عمرو بن حرام وثلة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الخطب عظيماً، والحدث جسيماً، والحزن ممضاً، والكرب في النفوس قد بلغ مبلغه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستعلي بإيمانه، ويظهر شجاعته، ويلتف حوله قلة قليلة من أهل الإيمان يفدونه بأرواحهم، يجعلون صدروهم وظهورهم دروعاً له، ويعظم الكرب، ويشتد الخطب، ثم ينجلي شيئاً ما غبار المعركة.
إظهار العزة بالإيمان وقت اشتداد الكربة
فأين إيماننا؟ وأين بالله عز وجل يقيننا؟ وأين صدق توكلنا على الله؟ ذلكم ما ننظره في هذه المحنة الشديدة، واللحظات العصيبة التي ألمت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى رأي العين تلك الصور المحزنة المؤلمة التي قدرها الله سبحانه وتعالى، وجاءت صولة وجولة للكفر، وانتشى أهله، وتعاظم افتخارهم، وظنوا أنهم قد بلغوا من الإيمان وأهله مبلغاً.
روى البراء في تصوير ذلك الحدث أن أبا سفيان قائد المشركين الذي انتشى لتلك الجولة، وافتخر بتلك الصولة، أشرف على المسلمين بعد القضاء المعركة وهو يصيح بأعلى صوته: (أفي القوم محمد؟ ورسول الله يقول: لا تجيبوه، فيقول فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله! قد أبقى الله عليك ما يخزيك. فقام أبو سفيان وقال: اعل هبل، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ قالوا: بم نجيبه يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل، فيقول أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم، فيقول المصطفى: أجيبوه، بم نجيبه؟ فيقول: الله مولانا ولا مولى لكم، فيقول أبو سفيان: الحرب سجال يوم بيوم بدر، فينطق عمر فيقول: لا سواء، قتلاكم في النار وقتلانا في الجنة
تحدث العلماء في هذه الحكمة النبوية يوم قال: (لا تجيبوه) قالوا: لأن غيظ المشركين ما زال متقداً، وحماسهم للقتال ما زال مشتعلاً، فأراد أن يطفئ جذوة حماسهم، فلما استتم قوله، وظن أنه قد بلغ مراده لم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن إجابته، وابتدر له عمر بحميته وعزته، فجاء الجواب جملة بعد أن كان السؤال مفرقاً؛ ليكون رداً حاسماً، وإخراساً تاماً، وإذلالاً عظيماً، كما قال ابن القيم : كان الصمت إذلالاً له وتحقيراً لشأنه، وكان الجواب كبتاً له وإظهاراً لعزة الإيمان والإسلام.
وأما حينما تحدث أبو سفيان عن المبادئ والقيم، عن الدين والعقائد، عن المحاسن والمآثر، لم يرض النبي صلى الله عليه وسلم أن تعلو للكفر كلمة، ولا أن يظهر له مبدأ، ولا أن ترفع له راية يظن بها أن فيه خيراً، فلما قال: اعل هبل، جاء الجواب: الله أعلى وأجل.
لنا العزى ولا عزى لكم!
الله مولانا ولا مولى لكم!
ذلك ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يظهره من عزة مبادئ الإيمان.
ولئن استشهد من الصحابة سبعون، وجرح سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ولئن نزفت الدماء؛ فإن الإيمان والعزة في النفوس لم تزل متربعة .. لم تزل في الدماء جارية .. لم تزل تنبض بها العروق .. وتخفق بها القلوب .. ولذلك أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا النحو الذي ليس فيه وهن في النفس، ولا يأس في القلب، ولا تشكك في النهج، ولا ضعف في الإيمان، ولا زعزعة في اليقين بحال من الأحوال.
الدعاء واللجوء إلى الله وقت المحنة
روى الإمام أحمد بسند رجاله رجال الصحيح، وأخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي من حديث عبيد الله بن رفاعة الزرقي قال: (لما كان يوم أحد، وانكفأ المشركون، صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر جالساً من شدة ما أصابه في المعركة، وصلى الصحابة خلفه جلوساً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: استووا حتى أثني على ربي، فصاروا خلفه صفوفاً فقال: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسالك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة -أي: يوم الفقر والفاقة- والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا نادمين ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة والذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق)، رواه الإمام أحمد والبزار في مسنده، ورجال أحمد رجال الصحيح.
درس عظيم في أن كل ملمة إنما تفريجها بالالتجاء إلى الله، وكل كرب إنما تنفيسه بالدعاء الخاشع الخاضع لله، وكل كسرة أو نكبة أو هزيمة إنما استمداد النصر من الله، وكل ضيق في النفس أو هم في القلب إنما تفريجه بحسن الثناء على الله، وعظمة الالتجاء إلى الله، في ساحة المعركة وغبارها لم ينقشع بعد، وقف على مشارف قبور الصحابة رضوان الله عليهم من الشهداء، وقال: (استووا! خلوا بيني وبين ربي أثني عليه).
وانظروا إلى هذا الدعاء الخاشع، والثناء العظيم، ابتدأه الرسول الكريم بحمد الله، فالحمد له أولاً وآخراً، فلا يحمد على مكروه سواه سبحانه وتعالى، والحمد لله على كل كرب، وعلى كل غم وهم، فإن فيه خيراً، وإن من ورائه فرجاً، وإن من بعده يسراً، وإن في إثره نصراً.
إذا ثبت الإيمان في القلوب، وعظم اليقين في النفوس.
(اللهم لك الحمد كله)، ثم يثني الثناء الذي يبين أن لا أحد له من الأمر شيء؛ فلا قابض لما بسط، ولما مانع لما أعطى، ولا مبعد لما قرب سبحانه وتعالى، هو الذي يقدر الأقدار، وهو الذي جعل الأيام دولاً بين الناس، وهو الذي اقتضت حكمته أن يدال المؤمنون وأن يدال عليهم، هو الذي جعل ذلك في شأن خير خلقه صلى الله عليه وسلم، فكانت وقعة أحد وكسرتها، وكان الذي جرى حتى دمي الوجه الشريف صلى الله عليه وسلم!
ثم ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه إلى القضايا المهمة العظيمة: أن يحفظ الله الإيمان والإسلام، وأن يقي من الفتنة والانحراف، فإن أعظم نصر هو أن يبقى الإيمان قوياً في القلوب، والإسلام ظاهراً في واقع الحياة، وإن هدمت البيوت فوق رءوس أصحابها، وإن أزهقت الأرواح في بيوت الله، وإن قتل الصغار والنساء والشيوخ، فإن الإيمان والإسلام هو الأولى أن تعظم العناية به، وأن يعظم الخوف عليه، وأن يكثر الحزن، وذلك إذا ضعف في قلوب الناس إيمانهم، وإذا ذهب من واقع حياتهم إسلامهم، وإذا تشككوا في وعد ربهم، وإذا انسلخوا من نهج نبيهم صلى الله عليه وسلم.
أما إن ثبتوا فقد ثبتهم رسول الهدى بمثل هذا الدعاء العظيم الذي أوجز في آخره الدعاء على الكافرين والمشركين والمعتدين، إنهم أقل وأدحر وأصغر من أن يطيل الدعاء عليهم، فإن رجز الله وسخطه وغضبه إن أصابهم منه أقل القليل لم تبق منهم باقية، ولم تقم لهم قائمة، والله سبحانه وتعالى قد قال: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، وتلك الوقفة الثانية التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم فيها أصحابه وأمته من بعده كيف تواجه الخطوب، وخاصة خطوب القتال، وبعض ما قد يكون من جولات فيها كسرة أو هزيمة.
إذكاء الروح المعنوية في الملمات
هذا حديث ابن عباس يرويه الطبراني بسند صحيح يقول فيه: (لما انصرف
كانوا يفكرون أنهم لم ينتصروا انتصاراً حقيقياً، فلم يقتلوا القيادة، ولم يأسروا نساءً ولا رجالاً!
وروى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها في كلامها لـعروة بن الزبير رضي الله عنه قالت: (يا ابن أختي! كان أبواك
أما كتب السيرة فتجمع أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى بأهل أحد، أن لا يبقى منهم أحد حتى يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلحقوا بعدوهم، وقال (لا يتبعنا أحد لم يشهد أحداً).
فجاء جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام واستأذن أن يكون مع رسول الله وقال: (يا رسول الله! خلفني
وخرج المسلمون عددهم ثلاثون وستمائة رجل ما تخلف منهم رجل واحد، خرجوا والجراح تنزف دماءً، خرجوا والأرجل مصابة، والأيدي مقطعة، والجراح ما زالت عميقة غائرة، خرجوا يحملون في صدروهم إيماناً عظيماً، وفي قلوبهم عزة قعساء، خرجوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتمرون بأمره، ويسيرون وراءه لا يتخلفون عنه، يلتزمون أمر الله، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
روى ابن إسحاق في السيرة صورة من صور ما جسرى للصحابة الذين كانت جراحهم عظيمة وغائرة، قال ابن إسحاق يروي عن رجل من الأنصار من بني عبد الأشهل: (شهدنا أحداً أنا وأخ لي، فرجعنا حين رجع الناس، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج وطلب العدو، قلت لأخي: أتفوتنا غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: والله ما لنا دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحاً منه، فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون).
قال ابن إسحاق : وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء، ثلاثة أيام بلياليها ينتظر عدوه أن يرجع، فلم يرجع، وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بالنيران فتضرم، قالوا: فكان يضرم خمسمائة نار حتى عظمت هيبة المسلمين في نفوس المنافقين واليهود داخل المدينة، وفي نفوس قريش التي جرت أذيال خيبتها إلى مكة، وفي نفوس العرب من حول المدينة جميعاً.
إنها الروح المعنوية والهيبة الإيمانية التي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يكون لها في نفوس المؤمنين أثر سلبي، لئلا تضعف العزائم، ولئلا يدب اليأس، ولئلا يسري الوهن: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
ترك الجهاد إلقاء باليد إلى التهلكة
عجباً كيف يكون الاعتزاز بالإيمان والثبات على الإسلام وإظهار العزة والقوة لأعداء الله صورة سلبية مذمومة؟! وعجباً لنا عندما لا نتأمل في واقع الأمر وفي معاني الآيات على فقه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
حديث عظيم رواه الترمذي بسند حسن تعليقاً على قول الله جل وعلا: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، يرويه صحابي جليل من أعظم الصحابة المجاهدين الذين امتدت قبورهم حتى وصلت إلى آخر بقاع الأرض لتعلن عزة الإيمان وقوة الجهاد، يقول: (كنا في الصف في قتال الروم، وخرج من المسلمين رجل فحمل على الروم حملة،فقال بعض الناس: ألقى بنفسه إلى التهلكة -فنطق الصحابي الجليل الذي تربى في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وأخبر خبر اليقين، وبين البيان الشافي الذي ليس بعده بيان- فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهدنا معه، حتى إذا نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم رجعنا إلى أهلنا وديارنا وزرعنا؛ فنزل قوله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، فكانت التهلكة رجوعنا إلى ديارنا، وإقامتنا في زرعنا، وتركنا الجهاد).
ذلك هو الفقه الإيماني الثابت عند أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك ننظر إلى غزوة أحد في شقها الأخير، وفي جانبها الذي قد يكون هو المظلم، لننظر إلى عظمة القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم وهو يعلي من القوة المعنوية، ويعلي من العزة الإيمانية في الرد على أبي سفيان ، وفي التضرع إلى الله، وفي الخروج العملي الذي يظهر القوة والهيبة الإيمانية.
كم نحن في حاجة -معاشر المؤمنين جميعاً في كل بقاع الأرض- إلى أن ننزع من نفوسنا حب الدنيا وكراهية الموت، وأن ننزع من نفوسنا الضعف والاستعظام لقوة الأعداء، فإنهم أرذل وأحقر من أن يقارنوا بشيء أمام قوة ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض سبحانه وتعالى الذي قال: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، والذي قال: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، والذي قال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا... [النور:55].
تلك هي آيات الله، وتلك هي سنن الله، وتلك هي وعود الله، ونحن لسنا في شك من ديننا، ولا من وعد ربنا، فاللهم اجعل لنا من بعد العسر يسراً، واجعل لنا من بعد الهزيمة نصراً، واجعل لنا من بعد الكرب تفريجاً يا رب العالمين!
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! بعد تعاظم الظلمة ينبثق الفجر، وبعد اشتداد العسر يأتي اليسر، وفي كل ملمة من الملمات ينزل فيض من الرحمات!
ذلك ما ينبغي أن يستقر في نفوس المؤمنين، وأن يكون في قلوب المسلمين، وقد اشتد الخطب، وعظم الكرب، وتضاعف العدوان، وتعاظم الخذلان.
وننتقل لنأخذ الدرس الأعظم، والمدد الأكبر، من القدوة المثلى، في السيرة العظمى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ننتقل زماناً إلى يوم السبت والأحد الخامس عشر والسادس عشر من شهر شوال عام ثلاثة من الهجرة النبوية الشريفة، وننتقل في المكان إلى جوار مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإلى ظلال جبل أحد، وساحة المعركة التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم.
وننتقل تحديداً إلى جانب الملمة وإلى الشق الثاني من المعركة يوم كانت الدائرة على المسلمين، واستدار خالد بن الوليد بقوة من الجيش، وأطبق المشركون على المسلمين من جانبيه، فاضطربت الصفوف، وطاشت بعض العقول، وشج وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقات المغفر في وجنتيه، وسال الدم على وجهه الشريف، وهو يقول: (كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم).
وصرع أسد الله وأسد رسوله، ومضى إلى الله شهيداً بحربة وحشي ، وقطعت يدا مصعب بن عمير ، واندق الرمح في صدره، وخر لوجهه صريعاً شهيداً، ومضى إلى الله سعد بن الربيع وعبد الله بن عمرو بن حرام وثلة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الخطب عظيماً، والحدث جسيماً، والحزن ممضاً، والكرب في النفوس قد بلغ مبلغه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستعلي بإيمانه، ويظهر شجاعته، ويلتف حوله قلة قليلة من أهل الإيمان يفدونه بأرواحهم، يجعلون صدروهم وظهورهم دروعاً له، ويعظم الكرب، ويشتد الخطب، ثم ينجلي شيئاً ما غبار المعركة.