إلى المعلمين والمعلمات


الحلقة مفرغة

الحمد لله شرح الصدور بالإسلام، وطمأن القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، أتم علينا النعمة، وأكمل لنا الدين، ورضي لنا الإسلام ديناً، له الحمد سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو جل وعلا المحمود على كل حال وفي كل آن، له الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً لا ينقطع ولا يزول، ولا يحده حد ولا يحيط به وصف، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا موصول في العلم والتعليم والتربية والتزكية، وذلك للأهمية القصوى، والغاية العظمى المنشودة من ذلك، ولئن تحدثنا من قبل عن النهج القرآني في الربط الوثيق بين العلم والتعليم من جهة، والتربية والتزكية من جهة أخرى، فلعلنا اليوم نوجه حديثنا مباشرة إلى المعلمين والمعلمات فيما هم عليه من صفة، وما لهم من منزلة، ثم ما عليهم من أمانة، وما في عنقهم من مسئولية، لنخلص بعد ذلك إلى الأساليب العملية والطرائق التربوية التي ينبغي الأخذ بها وصولاً إلى تغذية العقول بالفكر والعلم، وإلى تزكية النفوس بالتطهير والتنقية، وإلى إحياء القلوب بالمعرفة والإيمان، وإلى تقويم السلوك بالاستقامة والخلق الفاضل، فإننا في مهمة التربية والتعليم، نقوم بأعقد وأعظم مهمة، إنها صناعة الإنسان، وصياغة فكره، وتهذيب نفسه، وتطهير قلبه، وتقويم فكره، وتهذيب سلوكه، مسألة بها مفتاح التغيير في المجتمعات وفي سائر جوانب الحياة.

إلى المعلمين والمعلمات، حتى يُدْرك من هم؟ وما هي مكانتهم؟ فنقول: أنتم المرفوعون المأجورون، المرفوعون رتبة المأجورون ثواباً ومنزلة: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ [المجادلة:11]، فأنتم من بين معاشر أهل الإيمان مخصوصون بدرجة ومنزلة خاصة بالعلم، ثم استمعوا إلى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم من جملة أحاديث وافرة: (من علم علماً فله أجر من عمل به، لا ينقص ذلك من أجر العامل شيئاً)، فكل كلمة ومعرفة وهدي تغرسه في القلوب والعقول والنفوس، فإنما ينبني عليه من عمل وما يؤثر من بعده من توجيه مسجل لك في صحيفة الأعمال، فضل من الله سبحانه وتعالى، ومنة وكرم، وحث وحض، وتشجيع وتحفيز.

وأنتم كذلك الوارثون المورثون أنتم أربابها وأصحابها، وأنتم أعظم المنتفعين بها بعد انقطاع الحياة، (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، هكذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأما بعد انقطاع الحياة فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ولئن كان هذا الحديث فيه قسم مباشر لأهل العلم، في العلم الذي ينتفع به، فإن أهل العلم قد قالوا: إن لهم في الحقيقة حظاً وافراً من ذلك كله، فإن الصدقة التي يبقى أجرها، إنما مبعثها التعليم على فضلها، والإرشاد إلى أجرها، فمن كان له ذلك العلم والتعليم، فهو شريك فيما ينبني عليه من الصدقات والأوقاف والوصايا، والولد الصالح إنما هو ثمرة في غالب الأحوال لذلك العلم والتربية والتزكية، فإن أهل العلم حينئذ يكونون قد أخذوا بهذه الأمور كلها، فما أعظم ما يخلفون وراءهم مما يعظم أجرهم، ويصل أعمالهم بفضل الله سبحانه وتعالى.

ثم هم كذلك المنتدبون المجاهدون، منتدبون عن الأمة لهذه المهمة بنص القرآن الكريم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد بين ذلك وجلاه وأوضحه، إذ ليس كل أحد في الأمة يستطيع أن يتفرغ لطلب العلم ويتأهل له ثم يقوم بمهمة نقله وإشاعته وتعليمه والتربية عليه: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122] قال الخطيب البغدادي رحمه الله في هذا المعنى كلاماً نفيساً جميلاً مفاده: أن الأمة ينتدب فيها فئتان: المجاهدون للحفاظ على حوزة الدين، والمعلمون للإبقاء على فهم ومعنى الدين. وكان من قوله رحمه الله: إن الجهاد حماية لبيضة الإسلام بالدفاع عن المسلمين، والتعليم حماية للمسلمين بالحفاظ على الدين. فمن أين سيخرج في هذه الأمة الأخيار والأبرار من المجاهدين، أو المنفقين الباذلين، أو المعاونين والمغيثين ما لم يكن قد غرست في نفوسهم وقلوبهم معاني هذا التعليم والتربية.

ثم لننظر كذلك إلى هذا المعنى من جهة أخرى، فهو أمر عظيم وأجره جزيل، وهو في الحقيقة -كما سماه العلماء-: جهاداً وهو جهاد عظيم، أي: جهاد العلم وجهاد التربية، فإن ذلك هو الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم رحمه الله في بيان ذلك: إنما جعل طلب العلم في سبيل الله -ونحن نعرف الأحاديث: (من ابتغى طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) وقد وردت الأحاديث بأن طلب العلم من القصد والنهج إلى سبيل الله- لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين:

جهاد باليد والسنام، وجهاد بالحجة والبرهان:

والجهاد بالحجة والبرهان هو جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين لعظمة منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه، ثم استشهد بقوله جل وعلا: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً * فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً [الفرقان:51-52] قال: وهذه الآية مكية لم يكن قد نزل فيها تشريع الجهاد، فدل على أن المقصود جهادهم بالحجة والبرهان بما جاء في آيات القرآن، وذلك هو جهاد الإقناع، والتعليم، ودحض الشبهات، وتزكية النفوس، والربط بالخالق سبحانه وتعالى، مما هو من أخص خصائص المعلمين.

أيها المعلمون المصلحون البناءون! فإنه قد كثرت علينا السهام، وغزتنا في عقر دارنا وسائل الإفساد والإعلام، وقد تشعبت بنا الحياة، فهاهم فلذات أكبادنا يروحون إليكم ويغدون منكم، ثم هم ونحن ننتظر أن نجد عندكم صلاح كل فساد، وتصحيح كل خطأ، وتقويم كل اعوجاج، وإكمال كل نقص، فإن لكم في هذا دوراً عظيماً، وإن لكم في هذا مهمة كبيرة، وإن الذين يقومون بذلك يسدون أبواباً من الفساد عظيمة، وحقيقة المعلمين: أنهم يصلحون الجهالة بالتعليم، ويبدلون الحماقة بالتقويم، ويغيرون الشطط بالاعتدال، ويبطلون الغلو بالتوسط، ويحاربون الرذيلة بالفضيلة، ويدفعون الكسل بالعمل، إنهم في حقيقة الأمر يعدون لنا رجال المستقبل، ويبنون ويسهمون في بناء الأمة، فما أعظم دورهم، وما أضخم أمانتهم، وما أجل رسالتهم، ولذا ينبغي أن يدركوا ذلك، وأن ندرك نحن، وأن يدرك جميع من في المجتمع دورهم ورسالتهم، فيعطيهم قدرهم، ويعينهم على أداء مهمتهم، ولعلنا من خلال ذلك نتوجه إليهم بأمرين اثنين خلاصة لكل ما قلناه فيما يجب عليهم:

أولاً: استشعار عظمة المسئولية وضخامة وجسامة الأمانة، إنها ليست وظيفة تؤدى، أو أوراقاً تكتب، أو اختبارات تصحح، إنها أمانة في الأعناق، إنها واجب شرعي سواء كان هذا التعليم في مواد العلوم الإسلامية أو في غيرها، فقد ذكرنا فيما مضى الواجبات الكفائية التي يجب على الأمة القيام بها، وذكرنا أن كل علم مما قد يطلق عليه علوماً دنيوية هو عندنا معاشر المسلمين -بفهمنا الصحيح الشامل- ضرب من ضروب العبادة، ونهج من سبل السعي إلى رضوان الله سبحانه وتعالى، فهذه أمانة عظيمة، ومسئولية جسيمة، وكلنا يعلم حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ما عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه) (عن علمه ما عمل فيه)، هل أدى الأمانة؟ هل أخلص في تعليمه؟ هل أخذ بالأسباب والوسائل ليؤدي المهمة على الوجه الأكمل؟ ونحن نعلم جميعاً ما ورد في الحديث عند مسلم في صحيحه، عن أول ثلاثة تسعر بهم النار، ومنهم: العالم الذي لم يخلص في علمه، ولم يبتغ بذلك وجه ربه، ونحن ندرك ما كان عليه أسلافنا من شفقتهم من أمانة وضخامة ومسئولية هذا العلم، كما نعرف من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الحديث الشهير لما أراد أن يبلغ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا. حتى لا يتكل الناس) لكنه عندما أدركته الوفاة بلّغ حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يستحضر حديثه الآخر: (من كتم علماً..) وذلك التهديد والوعيد؛ لأنه يذكرنا بأن المهمة هي أن نبث هذا العلم، وأن ننشره، وأن نشيعه، وأن نربي عليه، وأن نحرص على أن نقوم بمهمة الربط بين العلم والعمل، ولذلك: (من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة)، وكذلكم كان الصحابة رضوان الله عليهم وأسلافنا الصالحون يدركون ذلك، ومن مقالات أبي الدرداء رحمه الله ورضي الله عنه، وهو من علماء الصحابة ووعاظهم الذين كانوا يحيون القلوب ويطهرون النفوس، قال: (كنت دائماً أفكر فيما يكون يوم القيامة، وإني لأخشى يوم القيامة أن يقال لي: يا عويمر ! علمت فما عملت فيما علمت؟) فكم هي هذه المسئولية، وبين أيدي هؤلاء المعلمين والمعلمات، ليس المئات ولا الآلاف، ولا مئات الآلاف، بل الملايين من أبنائنا وبناتنا، فليتقوا الله جل وعلا، وليدركوا أن مسئوليتهم ليست أمام إدارة المدرسة، ولا إدارة التعليم، ولا وزارة التربية والتعليم، ولا أمام من في الأرض كلها، بل أمانتهم ومسئوليتهم بين يدي الله عز وجل، أن يتقوا الله في هذا النشء والجيل؛ لئلا يفرطوا في أمانتهم، ويتخلوا عن مسئوليتهم، فيطعن المجتمع والأمة من قبلهم، ويجوس أعداؤنا خلال الديار من خلال أبنائنا، وكما قلنا قبل فإن التعليم مفتاح التغيير، وإن كل أمة تنتصر أو تقهر أمة تبدأ بتغيير تعليمها؛ لتجعل أبناءها -أي: أبناء الأمة- تبعاً لها، ولتصوغ أفكارهم ونفوسهم وعقولهم بما تريده لهم.

وأما الوصية الثانية: فالإتقان والإحسان في أداء العمل: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) والإحسان قد أوصى الله عز وجل به كما بين لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم في تعريفه: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، هل تؤدي أمانتك وتقوم بها على الوجه المطلوب؟

ثم نعلم كذلك ما حثنا وندبنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما هو مظنون أنه أبعد الأمور، حتى إذا جئت لتذبح الذبيحة هناك وصية في الإحسان: (فليحد شفرته وليرح ذبيحته)، فويحنا وويحنا إن كان هناك إحسان في القتل والذبح ثم لا يكون إحسان في التربية والتعليم! تلك مهمة خطيرة وعظيمة، ولذا نوجه القول للمعلمين والمعلمات، وأنا وأنت معلم ومعلمة في الوقت نفسه؛ لأننا نعلم أبناءنا ونربيهم، فكل حديث نوجهه إليهم هو موجه إلينا أصالة وليس تبعاً، فهذه المهمة ترتكز على أربعة جوانب:

التعليم وتقديم المعلومات

أولها: التعليم، أي: تقديم المعرفة والشرح والبيان وذكر المعلومات، وهذه مهمة كبيرة ومفيدة، لكنها وحدها لا تكفي ولا تغني ولا تشفي، ومع ذلك فهي مهمة قد طبقها النبي صلى الله عليه وسلم يوم قال في حجة الوداع: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، وكما علم الصحابة كل شيء حتى الخراءة، أي قضاء الحاجة، كما جاء في حديث سلمان رضي الله عنه.

تقويم السلوك

وأما الثاني: بعد التعليم يكون التقويم، والمقصود به: تقويم السلوك والخلق الفاضل الذي ينبغي أن يغرس في النفوس والقلوب؛ لأن علماً بلا عمل ليست له فائدة، بل ربما يكون صورة شوهاء وقدوة مختلة، بل وربما يكون من أسباب الضلال والإضلال والعياذ بالله، إذ إن العالم إذا علم ثم لم يعمل بما علم، أو عمل بعكس ما علم، فإن ضرره وفتنته وصرفه عن الحق وتلبيسه على الخلق أعظم من غيره، ولذلك فإن تقويم السلوكيات والأخلاق فيه من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم ما لا يكاد يحصى من المواقف والتوجيهات والمناهج الرفيعة الشريفة: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب) كما قال صلى الله عليه وسلم، أليس هذا تقويماً سلوكياً، وتهذيباً خلقياًًً، وتربية عملية؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ينبه إلى ذلك، ويوجه له في كثير من أحاديثه؟ كما عرَّف الأمور الكثيرة على غير ما كان يعرفها الناس؛ ليدلهم على الجانب العملي التقويمي السلوكي: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال صلى الله عليه وسلم: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة ومعه صلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، ويأخذ هذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) إنه أمر توجيهي عظيم، ألم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة عن الرجل الذي يأمر الناس ولا يفعل ما يأمرهم به: (وأنه تندلق أقتابه في النار يوم القيامة، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا، فيطلع عليه أهل النار فيقولون: ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)، ذلك التقويم المهم هو النهج الأساسي الذي ينبغي أن يدركه المعلمون والمعلمات؛ ليقوموا بدورهم، وليؤدوا رسالتهم.

توجيه الفكر وصياغة النفس

والثالث: التوجيه، ونقصد به: توجيه الفكر، وصياغة النفس، حتى لا يكون شذوذ، ولا ارتكاس، ولا انتكاس، ولا غلو، ولا تطرف ولا تسيب، بل نوع من التوازن والاعتدال، وحسن النظر في الأمور، والأناة والتدبر فيها، والمنهجية الصحيحة التي تربط بكتاب الله، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي تجذر الانتماء إلى الأمة، والتي تبين دور الفرد في المجتمع، والتي تعطي التوازن، والتي تعرف بطريقة التعامل، إنها قضية مهمة في صياغة الفكر والنفس، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم دائماً يحرص على ذلك، وفي قصة النفر الثلاثة لما جاءوا وتقالَّوا عبادة الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: (ما بال أقوام يقولون: كذا وكذا، أما أنا فأصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وكما وجه النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف مهمة، يوم قال الرجل لذاك الصحابي: يا ابن السوداء! وفي غير الصحيح أنه أبو ذر رضي الله عنه فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنك امرئ فيك جاهلية) إنه توجيه وتقويم لمنهج الإسلام في المساواة بين أهل الإيمان وأخوة الإسلام، كثيرة هي المواقف التوجيهية.

التحفيز على نيل المراتب العالية

وأخيراًًً: التحفيز الذي يحث الإنسان على طلب المعالي، وإدراك الكمال، والمنافسة في المراتب العالية: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21] وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148] كله حث وحض حتى تنطلق القوة الإيمانية في قوة الملكات؛ ليقوم الإنسان بأعظم دور، وأكبر عمل، وأعظم تأثير في حياته، بدلاً من خمول وكسل، وضياع أوقات، ولقاءات في هدر القول، واللغو الباطل، وغير ذلك مما نراه في مجتمعاتنا بين الكبار قبل الصغار، والرجال قبل الشباب، ولذلك ينبغي أن نعرف كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث ويحض ويشجع، ويخبر أصحابه بالأجور العظيمة والفضائل الكبيرة؛ لكي ينطلقوا في هذا الميدان للتنافس: (ألا أخبركم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة) حتى إذ اشتاقت القلوب وتطلعوا إلى ذلك، وهم يريدون الخير ويحرصون عليه، قال عليه الصلاة والسلام: (أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون) وكم مرة يذكر عليه الصلاة والسلام الأمر بالأسلوب المادي والسؤال والجواب؛ حتى يعلق القلوب والعقول، ثم يجيب، عندما يقول: (أيحب أحدكم أن يكون له ناقتين كوماوين؟ فقلنا: نعم -كوماوتين أي: عظيمتين جسيمتين- فيقول: لئن يغدو أحدكم إلى بيت من بيوت الله فيعلم آية من كتاب الله خير له من ناقة كوماء، وآيتين خير من اثنتين، وثلاث خير من ثلاث ومن أمثالها من الإبل) وهكذا نجده عليه الصلاة والسلام وهو يحث ويحض على ذلك.

وجاء في الحديث المشهور من رواية أبي ذر لما جاء الصحابة وقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور -أصحاب الأموال- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، ونحن ليس عندنا أموال فلا نتصدق ولا نؤجر، قال: أو ليس قد جعل لكم ما تصدقون به، ودلهم على التسبيح والتحميد والتكبير وكف الأذى وغير ذلك، ثم جاءت المنافسة مرة أخرى فقالوا: يا رسول الله! سمع إخواننا بما قلت لنا ففعلوا مثلما فعلنا -ميدان تنافس تنطلق فيه الطاقات- قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يوفقنا وأن يوفق معلمينا ومعلماتنا لما يحب ويرضى، ولما فيه خير أبنائنا وبناتنا.

أقول هذا القول، واستغفروا الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أولها: التعليم، أي: تقديم المعرفة والشرح والبيان وذكر المعلومات، وهذه مهمة كبيرة ومفيدة، لكنها وحدها لا تكفي ولا تغني ولا تشفي، ومع ذلك فهي مهمة قد طبقها النبي صلى الله عليه وسلم يوم قال في حجة الوداع: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، وكما علم الصحابة كل شيء حتى الخراءة، أي قضاء الحاجة، كما جاء في حديث سلمان رضي الله عنه.

وأما الثاني: بعد التعليم يكون التقويم، والمقصود به: تقويم السلوك والخلق الفاضل الذي ينبغي أن يغرس في النفوس والقلوب؛ لأن علماً بلا عمل ليست له فائدة، بل ربما يكون صورة شوهاء وقدوة مختلة، بل وربما يكون من أسباب الضلال والإضلال والعياذ بالله، إذ إن العالم إذا علم ثم لم يعمل بما علم، أو عمل بعكس ما علم، فإن ضرره وفتنته وصرفه عن الحق وتلبيسه على الخلق أعظم من غيره، ولذلك فإن تقويم السلوكيات والأخلاق فيه من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم ما لا يكاد يحصى من المواقف والتوجيهات والمناهج الرفيعة الشريفة: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب) كما قال صلى الله عليه وسلم، أليس هذا تقويماً سلوكياً، وتهذيباً خلقياًًً، وتربية عملية؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ينبه إلى ذلك، ويوجه له في كثير من أحاديثه؟ كما عرَّف الأمور الكثيرة على غير ما كان يعرفها الناس؛ ليدلهم على الجانب العملي التقويمي السلوكي: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال صلى الله عليه وسلم: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة ومعه صلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، ويأخذ هذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) إنه أمر توجيهي عظيم، ألم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة عن الرجل الذي يأمر الناس ولا يفعل ما يأمرهم به: (وأنه تندلق أقتابه في النار يوم القيامة، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا، فيطلع عليه أهل النار فيقولون: ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)، ذلك التقويم المهم هو النهج الأساسي الذي ينبغي أن يدركه المعلمون والمعلمات؛ ليقوموا بدورهم، وليؤدوا رسالتهم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2910 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2732 استماع
فاطمة الزهراء 2699 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2630 استماع
المرأة والدعوة [1] 2544 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2537 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2536 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2488 استماع
خطبة عيد الفطر 2470 استماع
التوبة آثار وآفاق 2454 استماع