خطب ومحاضرات
المرأة القدوة
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيد الأولين والآخرين، إمام المتقين وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد:
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعظم أجورنا وأن يحسن خواتمنا، وأن يجعلنا منقلبين إليه على خير وفي طاعة وعلى ثبات وهداية؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أخي الكريم! موضوعنا عنوانه (المرأة القدوة) وهذا الموضوع أحسب أنه من الموضوعات التي لها أهمية عظيمة، ذلك بأنه تترتب عليه كثير من الفوائد والمصالح، كما أن فقدانه يترتب عليه كثير من المضار والمفاسد، ولعلنا نشرع في هذا الموضوع بهذه النقطة المتصلة بأهمية الموضوع وخصيصة التركيز على المرأة القدوة.
فأقول مستعيناً بالله عز وجل:
إن وجود المرأة القدوة من أعظم أسباب القوة والالتزام والعطاء في المجتمع المسلم، وذلك لأن وجود المرأة القدوة يعني وجود البنت الصالحة والزوجة الصالحة والأم المربية، وبالتالي وجود الأسرة الناجحة والذرية الصالحة والمجتمع المسلم المنشود، فنحن عندما نولي المرأة اهتماماً كبيراً فإننا نهيئ أسباباً عظيمة لأهم الأمور وأخطرها في بناء المجتمعات عموماً، وفي بناء المجتمع المسلم خصوصاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل لهذا مزيةً بحيث جعل خصوصية لمن عال جاريتين أو رباهما بأنهما يكونان من أسباب دخوله الجنة، وكما قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: (من ابتلي بشيء من هؤلاء البنات فأحسن تربيتهن والقيام بأمرهن كن له نجاة من النار).
ليس هذا القول منه عليه الصلاة والسلام لمجرد معاني الشفقة والرحمة فقط، وإنما لمعاني البناء والتربية والتأسيس الذي ينتج عنه بعد ذلك، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في بيان أعظم النعم وأعظم المتاع التي يبحث عنها في هذه الحياة الاجتماعية في هذه الحياة الدنيا، وذلك عندما قال عليه الصلاة والسلام: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة)
وعندما جعل الظفر بهذه النتيجة من أعظم نتائج الظفر وأبلغه قال عليه الصلاة والسلام: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)، بعد ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيم حقوق الأمهات، لما لهن من فضل في التربية والتنشئة والتعليم والتعويد على أمور الخير: (الجنة تحت ظلال الأمهات).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن البر عندما سئل: (من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك.) (وهذا رجل يكتتب في الغزو فيأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: إني اكتتبت في الغزو وإن أمي مريضة. قال: ففيها فجاهد).
ننظر إلى المعالم في تلك المراحل، فنرى أن وجود المرأة القدوة بنتاً وزوجة وأماً يعني وجود هذه القنوات المهمة في تماسك وصلاح وقوة المجتمع المسلم، فليس الأمر مجرد توجيهات أو كلمات عابرة، بل هو صياغة وتأسيس وأخذ بأسباب قيام مجتمع إسلامي صالح نظيف يؤدي مهمته في هذه الحياة وفق أمر الله وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالأمر إذاً هو أبلغ في الأهمية وأعظم في الخطورة، ونعلم جميعاً أن كل فرد منا كان يوماً رضيعاً وربيباً لامرأة غذته بلبانها، وفي نفس الوقت غرست فيه من معاني التربية ما غرست من أمور الخير والصلاح، والأمور التي يحتاج إليها المسلم ويحتاج إليها المجتمع المسلم بوجه عام.
فإذاً الأمر كما قال أمير الشعراء:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
فبإعداد الأم يعد شعب كامل؛ لأننا ندخل في هذه الدوائر من خلال تكوين الأسرة وتربية الذرية.
الأمر الثاني: المرأة أبلغ في التأثير في صفوف النساء، فنحن عندما ننصب القدوات من الرجال فإن هذا لا شك أن له تأثيراً عاماً في المجتمع كله رجالاً ونساءً، ولكن خصوصية وجود المرأة القدوة له تأثير أكثر وأظهر وأشهر في صفوف النساء.
فإذا قلنا للمرأة: إن الرجل مجاهد غاز في سبيل الله قالت: ذاك شأنه وتلك طبيعته. لكن إن جئنا لها بمثال من امرأة مجاهدة كان ذلك أقوى في التأثير على نفسها، ودفعها إلى أن تكون في مثل هذه المجالات والأعمال والميادين.
والأمر الثالث: أن المرأة في مجمل الأمور أعلم بأحوال النساء من الرجال، فمهما كانت عقول الرجال بليغة ومهما كان علمهم غزير فإن عندهم نقصاً في معرفة أحوال النساء وطبائعهن، ولا يستطيعون أن يكونوا في مجالس النساء وفي مجتمعاتهن ليعرفوا ما قد يكون من خور أو قصور يحتاج إلى توجيه وتنبيه أو إلى إرشاد وتوضيح، ستكون المرأة القدوة حينئذ أقدر على معرفة الداء ووصف الدواء، فهي الخبيرة المعايشة المعاشرة لأولئك النساء.
الأمر الرابع: هو الحاجة العظيمة للمرأة القدوة بسبب تشويه قضايا المرأة في الإسلام، فنحن نعلم أن أكثر مخططات أعداء الإسلام وجل شبهاتهم تنصب في دائرة المرأة والحياة الاجتماعية، مثل دعوى حرية المرأة، ومن نزع الحجاب، ومن الدعوة للاختلاط، ومن صور السفور والعري أو غير ذلك من الأمور، فإذا نظرنا فإنا نجد أن أكثر الشبهات والمغالطات والدعوات المغرضة أنها تنصب في هذا المجال، فلذا وجب أن نوجد من نساء المسلمين من تكون على نموذج يحتذى وقدوة تؤتسى ومعرفة تفند مثل هذه الشبهات، وتدحر مثل هذه المفتريات، لتكون لها دورها بين النساء حتى نصد هذه الغارة وهذه الهجمة الشنيعة الفظيعة التي كما نعلم أنها تعقد لها المؤتمرات وتعقد لها الندوات وتفرغ لها كثير من الطاقات وتبذل فيها الأموال وتطبع فيها المطبوعات لغرض هذا التأثير السيئ في مفاهيم المرأة المسلمة، أو المفاهيم المتصلة بالمرأة والأسرة والتربية في ميدان الإسلام.
وأخيراً وليس آخراً فحاجتنا لهذا الموضوع وأهميته كبيرة؛ لأنه قد برز في مجتمعات المسلمين في مجال المرأة قدوات سيئة، واليوم إذا التفتنا لنرى الأسماء اللامعة ولنرى من يتصدرن الأقوال على صحف الجرائد أو المجلات أو من يذكرن بأنهن الرائدات لوجدنا ألسنة شانئة ممسوخة ليست بالأمثلة التي تمثل الإسلام، بل ربما لا تنتسب إليه إلا انتساب الاسم والرسم دون الحقيقة والجوهر، ولذلك كان الأمر في هذا الجانب خطيراً مهماً، خاصة إذا كانت النساء من أمهاتنا وزوجاتنا وبناتنا وأخواتنا.
وهناك نماذج وأمثلة في مجالات متعددة للقدوة في حياة المرأة المسلمة، نبغي بذلك أن نؤكد وجود هذه المجالات، وأن نبرز الصور العملية الحية التي كانت في سير الأولين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أمهات المؤمنين ومن غيرهن ممن برزن على آثارهن، ونريد من ذلك أيضاً أن نثير في نفوس النساء الغيرة المحمودة بالتنافس في مجال الخير والرغبة للتطلع إلى هذه الأمثلة السمية العلية من نساء المؤمنين، ثم لنقوم بعد ذلك بالمقارنة بين تلك الأمثلة وبين ما يموج به واقع كثير من مجتمعات المسلمين من أمثلة رديئة.
ونمضي مع القدوة ومجالاتها وأمثلتها في حياة المرأة المسلمة، ذاكرين الأهم منها والأقل من أمثلتها، ليكون هناك فسحة لبقية عناصر الموضوع.
مجال العبادة والطاعة
والمرأة المسلمة في كثير من أحوالها هي أكثر تعبداً وطاعة لله من الرجل في هذه الأوقات؛ لأن الرجال شغلوا بكثير من الأعمال وتفقد الدنيا، وكثير من النساء ربما كان عندها من الوقت وهدوء البال وقلة الانشغال ما يجعلها أقدر على أن تصرف من وقتها لطاعة ربها، ولذكره سبحانه وتعالى، ودوام التبتل والانقطاع إليه ما لا يتاح لغيرها من الرجال، وهذا ينبغي أن يكون ميدان تنافس بين الرجل والمرأة، لكننا نقول: إن كانت المرأة أكثر وأظهر فهو في الآخر أنفع لنا وأنفع لأبنائنا ولأجيالنا بإذن الله عز وجل، فقد ورد في سنن أبي داود حديث لطيف، يصور لنا هذا التعاون ويصور لنا هذا التنافس بين الرجل والمرأة في طاعة الله، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم في معنى حديثه: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) صورة جميلة رائعة من التعاون والتكامل، أحسب لو أنها طبقت في بعض بيئاتنا فلو أن امرأة قامت تصلي ثم نضحت زوجها بالماء لتوقظه للصلاة ربما قابلها بالويل والثبور وعظائم الأمور وما لا تحمد عقباه.
أمثلة التعاون كثيرة في سير الصحابيات رضوان الله عليهن، أذكر منها القليل اليسير من سير أمهات المؤمنين، ففي الحديث أنه: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً إلى المسجد فرأى حبلاً مدلىً في المسجد فسأل عن هذا الحبل فقالوا: حبل لـ
وفي رواية أخرى: (فإن الله لا يمل حتى تملوا).
لكن الشاهد هو هذه الصورة العظيمة للعبادة الخاشعة الخاضعة الكثيرة من أم المؤمنين رضي الله عنها، تصلي حتى يبلغ بها التعب مبلغاً لا تستطيع معه القيام فتستعين بحبل تربط نفسها أو تربط يدها به حتى تواصل عبادتها وطاعتها لله عز وجل.
وتُذكر لنا صورة أخرى لبعض أزواجه، وهي جويرية رضي الله عنها عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهي قاعدة في مصلاها تسبح الله وتستغفره وتدعو، فمضى النبي صلى الله عليه وسلم لبعض شأنه ثم رجع وإذا بها في محرابها مازالت تذكر الله وتستغفره سبحانه وتعالى، فقال: (أما زلت في مجلسك الذي كنت عليه؟ قالت: نعم يا رسول الله. قال: فإني قلت بعدك أربع كلمات تعدل ذلك كله: سبحانك -اللهم- وبحمدك عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك) فجمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول، لكن الشاهد الذي أردت الوقوف عليه هو استغلال المرأة وقتها في الطاعة والعبادة، ولست أريد ذكر الصور المقابلة؛ لأنا نريد أن نفردها بالحديث في كل مجال بقدر الاستطاعة.
مجال الدعوة
وهنا دوران أساسيان للمرأة في قضية الدعوة: الأول: هو دور المساعدة.
الثاني: هو دور الممارسة.
أما دور المساعدة فهو أن تكون ردءاً وعوناً وسنداً وإمداداً لزوجها عندما يمضي في شئون الدعوة، أو يذهب في الغزو والجهاد في سبيل الله، أو يسعى في أمور الخير لنصرة المسلمين وإغاثتهم، فلا تعترض عليه إذ ينفق المال في هذا الباب، ولا تعترض عليه إذ يغيب الوقت الطويل في خدمة الإسلام والمسلمين، بل تكون عوناً له وردءاً في هذا الجانب، فتكون حينئذ مثلاً رائعاً، وتقدم دوراً رائداً، وتكون عنصراً فاعلاً، وتكون قوة لدعم هذا الدين، وهي بهذا كأنما تمثل صفوف الإسناد عند التقاء الجيوش، فالجيوش لها متقدمة تقاوم وتدافع وتحارب، لكن وراء هذه الجيوش المتقدمة إمدادات من الأغذية والأطعمة والمعلومات وغير ذلك من الأسباب الأخرى، فلو لم يوجد هذا السبب وهذا الردء لما استطاعت المقدمة أن تقوم بهذا الدور، ولو أن كل رجل عالم أو داعية أو مجاهد أو ساع لخدمة المسلمين وإغاثتهم وجد امرأة تطلب منه أن يبقى في بيته وأن يقصر ماله عليها وعلى ولدها، وأن يكثر انشغاله وكل وقته وكل همه لمتاعها وزينتها لما وجدنا من المسلمين من يخرج في هذه الميادين، وأبرز وأعظم وأظهر مثال للمرأة المسلمة في هذا الشأن أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، تلك المرأة العظيمة التي كانت أعظم سند لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أول أمره، انظر إلى هذا المثل في المراحل المتعددة التي كانت قبل الرسالة، وفي أول الرسالة حتى حفظ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قدرها وذكر فضلها، وما زال يكرر من وفائه لها وبره بها بعد موتها عليها رضوان الله سبحانه وتعالى.
هذه خديجة عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلو في غار حراء الليالي ذوات العدد يتفكر في هذا الكون يخلو بنفسه من تلك الجاهلية الظالمة المظلمة، ليخلص إلى الكون بصفائه ونقائه، ويسرح البصر والنظر متأملاً متفكراً، ويجعل القلب متدبراً متأملاً، كانت رضي الله عنها وأرضاها تعينه على ذلك وتعد له زاده وطعامه، وتشجعه وتساعده في هذا، ثم لما جاءت مرحلة أخرى ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفة التي نعرفها ونعرف ما جاء فيها من حديث عنه عليه الصلاة والسلام، وجاء الدور الثاني بعد دور التشجيع والمساعدة وهو دور التثبيت والطمأنينة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دثروني دثروني. زملوني زملوني وقال لها: (إني قد خشيت على نفسي. فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نواب الخير) فهذه كلمات تدل على الإيمان والوعي، وعلى النصرة والتثبيت والطمأنينة، فإن الرجل إذا واجه الصعاب ووجد بعد ذلك امرأة مشفقة خائفة مضطربة فت ذلك في عضده، وانقطع ما كان من عزمه وجده، بينما لو وجد مثل المرأة المسلمة التي مثلتها خديجة رضي الله عنها لزاد ذلك في قوته قوة وفي عزمه عزماً بإذن الله عز وجل، ولم يقتصر دورها على ذلك التشجيع ولا هذا التثبيت، وإنما تحركت معه بحركة إيجابية فيها تأييد، فهناك تشجيع ثم تثبيت ثم تأييد عملي، فمضت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل لتخبره الخبر ولتستشيره في أمر ما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم، فلما قص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر قال: (هذا -والله- الناموس الذي كان يأتي موسى، ليتني أكون فيها جذعاً حين يخرجك قومك، فقال: عليه الصلاة والسلام أو مخرجي هم؟! قال: ما أتى رجل بمثل ما تأتي به إلا حاربه قومه -أي: نازعه قومه- ثم قال
الجانب الثاني في الدعوة جانب الممارسة، ليس مجرد المساندة للرجل، بل ممارسة الدعوة في صفوف النساء، وفيما يعود على مجتمعهن بالفائدة والنفع، وهذا أمره مهم؛ لأن هناك جهلاً كثيراً بين صفوف النساء، ولأن هناك عادات غير حميدة قد سرت بين كثير من النساء، وطبائع من القيل والقال، ومن المنافسة في أمور الدنيا ونحو ذلك مما تضمنته كثير من وسائل الإعلام، أو مناهج التعليم، أو قصص الأدب، أو غير ذلك مما يحتاج معه إلى أن تمارس المرأة المتعلمة المتحرقة لخدمة الإسلام والمسلمين الدعوة في صفوف النساء.
ومثل عظيم من أمثلة الدعوة يذكره لنا ابن حجر في الإصابة في ترجمة أم شريك الأسدية القرشية، ذكر أنها أسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كانت في الفترة المكية تدعو النساء إلى الإسلام سراً، وكانت تدخل على نساء قريش فتدعوهن وترغبهن في الإسلام، ما كان أحد من الرجال يستطيع أن يقوم بهذا الدور في ذلك الوقت، لكن المرأة بطبيعتها تستطيع أن تزور تلك المرأة وتلك المرأة، فكانت تستغل طبيعتها النسوية وتدخل لتغزو كفار قريش في عقر دارهم، قد كان كفار قريش يأخذون المسلمين من الرجال ويعذبونهم ليصدوهم عن الدين، فإذا بالغزو يأتيهم من وسط بيوتهم ومن بين نسائهم، قال ابن حجر رحمه الله: كانت أم شريك تدعوهن وترغبهن في الإسلام حتى ظهر الإسلام في النساء وبلغ شأن دعوتها قريشاً. فإذا ببيوتهم تتزعزع من الداخل، وإذا بالإسلام الذي يحاربونه في الخارج يرفع بأيدي نسائهم وعلى ألسنتهن، حينها قال كفار قريش: والله لولا قومك لفعلنا بك كذا وكذا. قالت: فحملوني على بعير ليس عليه شيء، ثم جعلوني ثلاثة أيام بلا طعام ولا شراب. حتى بلغ بها من الإعياء والشدة مبلغاً عظيماً، حتى إنها صارت لا تسمع ولا تميز، قالت: فأخذوني فأنزلوني منزلاً فأوثقوني في الشمس، واستظلوا تحت الشجر وناموا. وقد بلغ بها الأمر ما بلغ وهي صابرة محتسبة، قالت: فإذا أنا بأبرد شيء على صدري دلو من ماء من الله عز وجل. قالت: فشربت منه حتى رويت، ثم شربت حتى رويت، ثم شربت حتى رويت ثم صببت منه على بدني، فلما استيقظوا رأوا الماء فقالوا: حللت وثاقك وشربت من سقائنا! قالت: ما فعلت من ذلك شيئاً. قالوا: إن كان قولك حقاً فإن دينك دين خير، فذهبوا إلى أسقيتهم فوجدوها معصوبة لم يفكها أحد فأطلقوا سراحها.
وذكر ابن حجر أنها هي المرأة التي وهبت نفسها للنبي عليه الصلاة والسلام، ونزلت الآيات في سورة الأحزاب في هذا الشأن، فانظر إلى هذا المثل، ولتنظر المرأة المسلمة إلى هذه المرأة الداعية التي استولى الإيمان على قلبها رغم سرية الدعوة وصعوبة الجهر بالإسلام، لقد كانت تغزو الجيوش وتغزو النساء، وتستميل القلوب إلى هذا الدين.
وهذه أم سليم مثل عظيم آخر، تبين لنا فيه كيف ينبغي أن تؤثر المرأة الدعوة إلى الله وإلى الإسلام على كل شيء، فلما جاء أبو طلحة يخطبها ويريد نكاحها قالت قولاً حكيماً يدل على رجاحة عقل، كما يدل على بعد نظر وحرص على مصلحة الإسلام، قالت: إنك رجل كفؤ وما مثلك يرد -هذا نوع من الجزل والترغيب والاستمالة-، ولكنك رجل كافر وأنا مسلمة، فإن أسلمت فإن إسلامك مهري لا أبغي بعده شيئاً. فقال أبو طلحة الراغب فيها: وكيف لي بذلك؟ قالت: لك به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما أقبلت قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (هذا
وفي بعض الروايات أنها قالت له: ما مهري عندك يا أبا طلحة؟ قال: مهرك الصفراء والبيضاء -أي: الذهب والفضة-. قالت: ما أريد صفراء ولا بيضاء، ولكن إن أسلمت كان إسلامك مهري. فآثرت إسلامه ودعوته إلى الإسلام على حظ نفسها وعلى متاع الدنيا.
ومثل آخر يرويه لنا بعض الصحابة رضوان الله عليهم في شأن إحدى النساء المسلمات المؤمنات، فقد روي عمران بن حصين رضي الله عنه أن الصحابة كانوا في مسيرهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ بهم العطش مبلغاً، وإذا بهم بامرأة على حمار لها معها مزادتان من ماء، فاستسقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقته، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فبارك الله في الماء فشربوا منه، وبقي ماؤها، فنظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إنك رجل خير. ثم أسرت الإسلام في نفسها ورضيت باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتمت إسلامها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحفظ لها صنيعها ويشكر مساعدتها للمسلمين وحسن معاملتها لهم، فكانت الحملات والغزوات والسرايا تغزو هنا وهناك، لكنها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تجتنب قوم تلك المرأة، كان النبي يوصي أصحابه في السرايا أن لا يغيروا وأن لا يغزو ذلك الحي الذي كانت منه تلك المرأة، فماذا صنعت هذه المرأة الحصيفة اللبيبة؟ قالت لقومها: هاتوا ما عندكم؟ فجمعوا لها من الطعام والتمر حتى أتت أهلها، ثم قالت لهم: أتيت من عند أسحر الناس أم أهو نبي كما زعموا؟ فقصت لهم خبر المزادتين، ثم إن تلك المرأة أسلمت وأسلم قومها، وفي بعض الروايات أنها قالت لهم: أترون أن القوم تاركوكم لا لشيء، فإنما تركوكم لأجل هذا الأمر. أي: لأجل قصتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت يوماً لقومها كما في رواية أخرى: ما أرى هؤلاء القوم تركوكم عمداً، هل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها فدخلوا في الإسلام، فانظر إلى امرأة دخل قومها الإسلام بدعوتها ليس النساء فقط وإنما الرجال والنساء، وحديثها في الصحيحين.
فهذه أمثلة، وغيرها كثير أيضاً من نماذج نساء المؤمنين التي تبين هذا المجال المهم من المجالات التي نحتاج فيه إلى المرأة القدوة.
مجال التعليم
نحتاج إلى المرأة القدوة في مجال العلم والتعليم من الناحية الشرعية حتى تعلم بنات جنسها، وكذلك من ناحية الأمور الحياتية العامة، والعلوم النافعة التي تحتاجها النساء، فتكون باباً من أبواب التعليم والخير، وتكون أيضاً باباً يسد أبواب الاختلاط التي يريد أعداء الإسلام أن يدخلوا إلى مجتمعات المسلمين من خلالها.
فهذه عائشة رضي الله عنها أعظم مثل في هذا، وهي العالمة التي كان الصحابة يراجعونها ويستفتونها، وكانت ترد عليهم أقوالهم وتصوب آراءهم رضي الله عنها وأرضاها.
قال لها عروة بن الزبير -وهو ابن أختها وربيبها-: ما أعجب من علمك بكتاب الله ولا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي أن هذا أمر مفروغ منه أنها تعلم القرآن والسنة بحكم حياتها مع النبي صلى الله عليه وسلم- ولكني أعجب من علمك بالطب -لقد كانت رضي الله عنها خبيرة بهذا المجال- كيف لك به؟! قالت: يا عرية -تصغير عروة-! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمرض، وإن الوفود كانت تفد عليه وتنعت له النعوت -تعني: تصف له الأدوية من الأعشاب- فأحفظ ذلك مما كان يقال ويوصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الشفاء بنت عبد الله العدوية كانت من عقلاء النساء، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يزورها ويقيل عندها، وكانت تعرف القراءة والكتابة، فطلب منها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعلم أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، وكانت امرأة راقية -أي: ترقي بالقرآن- فعرضت رقاها على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينظر فيها ويصوبها أو ينبهها إلى ما قد يكون من خطأ إن كان فيها، فأجازها وقال لها: (علميها
مجال الجهاد
هذا المجال العظيم الذي اشتهر فيه الرجال برزت فيه قدوات عظيمة من نساء المسلمين، من أبرز هذه الأمثلة نسيبة بنت كعب المازنية رضي الله عنها، قالت: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات - وليس الأمر عارضاً أو عابراً، بل متكرراً في شئون مختلفة- قالت: فكنت أخلفهم في الرحال وأصنع لهم الطعام، وأقوم على المرضى وأداوي الجرحى. تقوم بخدمات متكاملة في هذا المجال، قال ابن إسحاق : وكانت ممن بايع بيعة العقبة، وممن كانت تشهد الحرب.
وروى عمر رضي الله عنه من خبر يوم أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما التفت يوم أحد يميناً ولا شمالاً إلا رأيت
فقد كانت من النفر القليل الذين أحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تغير ميزان المعركة لصالح الكافرين، قال: (ما نظرت يميناً ولا شمالاً إلا رأيتها تقاتل دوني) وكان معها ابنها فأصيب، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إليه وقال: (اعصب جرحك)، فالتفتت إليه أمه فعصبت جرحه وقالت له: قاتل أعداء الله في سبيل الله. ما قالت له: هذا يكفي وارجع إلى الخلف، ولا بد من أن تعالج، ولا بد من أن تذهب إلى المستشفى والعناية المركزة وغير ذلك من الأمور، بل قالت: (قاتل أعداء الله في سبيل الله. ثم نظرت إلى من أصاب ابنها وكانت ترقبه بين الفينة والأخرى حتى سنحت لها فرصة فشنت عليه الغارة فضربته ضربة بسيفها فبترت ساقه فوقع من على فرسه فضربته بسيفها فقتلته، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى نسيبة رضي الله عنها وقال لها: (قد استقدت يا
والأمثلة في الحقيقة في هذا الجانب كثيرة، ولسنا بصدد الحصر وإنما يكفينا التمثيل.
مجال الاهتمام والطموحات
أي شيء كان يشغل بال المرأة المسلمة؟! أي قدوة تبرز لنا؟ فيم تفكر فيه وتطمح إليه وتحزن لأجله وتفرح لأجله؟! أما نساء اليوم فربما حزنت على لباس فاتها، أو (موضة) كما يسمونها أو (موديل) لم تعثر عليها أو نحو ذلك، وانظر إلى القدوات من نساء المسلمين أي شيء كان يلفت نظر إحداهن أو يعنيها في شأنها؟!
أمثلة كثيرة جداً في هذا الشأن، منها: (أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها، كان يأتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقيل عندها، فجاء إليها مرة فغفا عندها ثم استيقظ وهو يضحك ويتبسم عليه الصلاة والسلام، فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: (رأيت في المنام قوماً من أمتي يغزون يركبون البحر جهاداً في سبيل الله) ولم يكن للعرب عهد بركوب البحر في ذلك الوقت، فماذا لفت النظر في هذا القول عند أم حرام رضي الله عنها؟ قالت: يا رسول الله! ادع الله أن أكون معهم. الأمر خبر مستقبلي، والقضية في ميدان جهاد ليس هو الميدان الرئيسي للمرأة، والأمر في صورة جديدة غير مألوفة، فيها صعوبة وخطورة وهي ركوب البحر، ومع ذلك استشرفت نفسها بأن تكون في هذا الركب المجاهد، فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن أكون معهم فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغزت البحر في عهد معاوية مع جيش المسلمين واستشهدت في تلك المعركة رضي الله عنها وأرضاها.
ويأتينا المثل الذي لا يعطي أنموذجاً لامرأة واحدة، وإنما يقدم صورة حية لنساء المسلمين قاطبةً في مجتمع الصحابة وفي مدرسة النبوة، هذه أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها، وكانت امرأةً من نساء المسلمين عظيمة البلاء شهدت اليرموك، وقتلت بنفسها تسعة من علوج الروم، هذه المرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وكانت فصيحةً، حتى كانت تلقب بخطيبة النساء- وقالت: يا رسول الله! إني رسول من ورائي من جماعة نساء المسلمين كلهن. هي ممثلة النساء ومندوبة الاتحاد النسائي الإسلامي في عهد الصحابيات رضوان الله عليهن، قالت: يا رسول الله! إني رسول من ورائي من جماعة نساء المسلمين كلهن، يقلن بقولي وعلى مثل رأيي. فأي شيء كانت تريد؟! وأي مسألة كانت تشغل بال النساء حتى ائتمرن واتفقن وانتدبن مندوبة تتكلم باسمهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: إن الله بعثك إلى الرجال والنساء فآمنا بك واتبعناك، ونحن معشر النساء مقصورات مخدرات قواعد البيوت، ومواضع شهوات الرجال، وحاملات أولادهم، وإن الرجال فضلوا علينا بالجماعات وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا إلى الجهاد حفظنا لهم أموالهم وربينا لهم أبناءهم، أفنشاركهم في الأجر؟ هذه المرأة تبين لنا ما الذي كان يهم المرأة المسلمة، والذي يشغل بالها هذه المجالات في شرع الله عز وجل، من تفضيل الرجال على النساء، وذلك بشهود الجماعات ونحو ذلك، فهل في مقابل ما تقوم به المرأة المسلمة من حفظ الزوج ورعاية الأبناء والقيام بشغل الأسرة هل تشاركه في الأجر؟ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يثني على النساء وعلى خطيبة النساء، فالتفت إلى أصحابه رضوان الله عليهم وقال: (هل سمعتم مقال امرأة قط أحسن سؤالاً عن دينها من هذه؟ قالوا: لا. يا رسول الله -أي: هذه قد بلغت الغاية في هذا-. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انصرفي يا
فهذا العدل والإنصاف في شرع الإسلام، وهذا أنموذج من النماذج التي تبين لنا اهتمامات المرأة، ويظهر ذلك أيضاً في حديث أم سلمة رضي الله عنها لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ما لنا لا يذكرنا القرآن مثل ما يذكر الرجال -هذا هو الذي أهمها ولفت نظرها- قالت:فما عجبت إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إذا هو على المنبر وأنا أمشط شعري، فلففته وخرجت أستمع، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو ما نزل إليه من القرآن إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.... إلى آخر الآية [الأحزاب:35]).
الآية ذكرت النساء والرجال، تكرر في كل وصف من الأوصاف، وهو ما ذكر في سبب نزول الآية، وأيضاً في ذلك آية التخيير التي وردت في أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما جاء التخيير بقوله جل وعلا: إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:28-29].
ففضلت أمهات المؤمنين الله ورسوله والدار الآخرة، وأعرضن عن متاع الدنيا.
وهذا منهن طموح إلى معالي الأمور لا انشغال بسفاسفها.
مجال القوة والصبر والاحتمال
وقصة الخنساء مثل عظيم في هذا الشأن لما كانت معركة اليرموك، وهذا مثل معروف، لكنه يحصل ذكره بما فيه من عظيم التأثير في هذا الباب من أبواب الصبر والمصابرة والقوة الاحتمال، فهذه الخنساء جاءت ببنيها الأربعة وقالت لهم: يا بني! إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وإنكم أبناء أب واحد وأم واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت أخوالكم. ثم حضتهم على الجهاد، فلم تأت بأبنائها لتقول لهم: ابحثوا عن الزوجات الفاتنات، واستكثروا من الأموال لنفعل كذا وكذا، وإنما جاءت تخطبهم لتحضهم على الجهاد وتحرضهم عليه.
فمضى أبناؤها إلى الجهاد واستشهدوا جميعاً في تلك المعركة، فلما بلغها خبرهم ما جزعت ولا ضربت خداً ولا شقت جيباً، وإنما قالت: الحمد الذي شرفني باستشهادهم، وأسأل الله أن يجمعني بهم. وكانت مثلاً في هذا الشأن، وكانت وصيتها موضع تذكر لأبنائها وسط المعركة، فقد كانوا يتذكرون قولها فتزيد في نفوسهم الحمية للجهاد والمصابرة، تذكر بعض الروايات في التاريخ عن أحد أبنائها أنه كان يقول:
يا إخوتا إن العجوز الناصحة قد أشربتنا إذ دعتنا البارحة
نصيحة ذات بيان واضحة فباكي الحرب الضروس الكالحة
فإنما تلقون عند الصائحة من آل ساسان كلاباً نابحة
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحة فأنتم بين حياة صالحة
أو ميتة تورث غنماً رابحة
ويتذكر وصيتها، وأنها حضتهم على الجهاد، وأن بني ساسان من الفرس إنما هم كلاب نابحة، فشدوا عليهم فإنكم منتصرون.
وقال الثاني:
إن العجوز ذات حزم وجلد قد أمرتنا بالثبات والرشد
نصيحة منها وبر بالولد فباشروا الحرب حماة في العدد
وقال الثالث يتذكر وصيتها:
والله لا نعصي العجوز حرفاً نصحاً وبراً صادقاً ولطفاً
فبادروا الحرب الضروس زحفاً حتى تكفوا آل كسرى كفاً
وقال الرابع يتذكر وصيتها أيضاً:
لست للخنساء ولا للأخرم ولا لأمر بالسماء الأعلم
إن لم أرد بالجيش جيش الأعلم ماض على الهجوم خضم خضرم
فكان هذا القول منها وهذا الصبر والثبات نموذج يحتذى ويقتدى.
مجال البذل والإنفاق
و عائشة رضي الله عنها مثل يضرب في هذا، وهي التي تصف زينب بهذه الصفة، وهي التي جاءها عطاء مرة فقسمته كله ولم يبق عندها شيء وكانت صائمة، فلما جاء وقت إفطارها قالت لها مولاتها: يا أم المؤمنين! لو أبقيت لنا شيئاً. قالت: (لو كنت ذكرتني لأبقيت شيئاً نأكله) تعلمت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي إحدى المرات -كما في الحديث- كانت عندها يوماً شاة فأنفق منها النبي صلى الله عليه وسلم حتى ما بقي إلا كتفها، قالت: يا رسول الله! ما بقي إلا كتفها. قال: (ذهب كتفها وبقي كلها) وعائشة رضي الله عنها تعلم النساء أيضاً، فقد ورد في كتاب (الأموال) لـأبي عبيد وغيره أن سائلاً جاء إلى عائشة رضي الله عنها ومعها بعض النسوة، فأعطته حبة عنب، فتعجب النسوة من هذا الصنيع، فقالت: كأنكن تعجبن من هذا والله إن فيها لمثاقيل ذر كثيرة. تقصد قول الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7]).
أي أن هذه الحبة من العنب فيها كثير من مثاقيل الذر.
والأجر عند الله سبحانه وتعالى عظيم، فهذه أيضاً أمثلة في هذا الجانب وهي من الأمثلة التي تحتذى وتقتدى.
مجال قوة الشخصية ورجاحة العقل
يسرف بعض الرجال في وصف النساء بضعف الشخصية والميل للعاطفة، حتى كأن المرأة ليس لها من إيمانها ولا وفور عقلها ولا قوة شخصيتها ولا متطلبات إيمانها ما يجعلها تقدم أمثلة رائعة أو رائدة في هذا الباب، وليس كل امرأة لا يهمها إلا حليها، أو لا يهمها إلا طعامها، أو لا يهمها إلا زينتها، ليس هذا كله في هذا الجانب، بل المرأة المسلمة بما يعطيها الإيمان من معطيات تكون متميزة في مثل هذا الجانب، فعندها من قوة الشخصية ومقتضيات إيمانها ما يجعلها تثبت على الحق، كما ضرب الله عز وجل المثل بامرأة فرعون التي كانت في وسط بيئة الكفر، ومع ذلك قالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11].
و أم سلمة رضي الله عنها تضرب أيضاً مثلاً من الأمثلة في هذا التميز في الشخصية، لما أشارت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن صلح الحديبية لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم دون الاعتمار، وأمر الصحابة أن يحلقوا فشق ذلك عليهم، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هلك الناس. قالت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: أمرتهم بأمر فلم يأتمروا. قالت: يا رسول الله! قد علمت ما دخل على الناس في هذا الشأن، فلو أنك خرجت إليهم فأمرت حالقك أن يحلق رأسك لابتدروا إليه) فاستجاب النبي صلى الله عليه وسلم لمشورتها وأخذ برأيها، فتسابق الصحابة لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلق حتى كاد يجرح بعضهم بعضاً، أي: من شدة مسارعتهم إلى استجابة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقصة أم سليم لما توفي ابنها وصبرت وتلطفت لزوجها وأحسنت هي لتخفيف المصيبة عنه دليل أيضاً على قوة شخصيتها وتميزها.
والشجاعة والقوة في هذا الشأن مثل مضروب لـأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وهي التي خاضت غمار تجهيز ومساعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وهي التي وقفت الموقف الشجاع من الحجاج بن يوسف الذي كان سفاكاً للدماء، وكان يهابه الرجال الأشاوس، وقفت له أسماء رضي الله عنها لما أرسل إليها بعد مقتل ابنها، فأبت أن تأتي إليه، فأرسل إليها: إن لم تأتي إلي أرسلت من يجرك بقرونك. فقالت: أرسل من يجرني بقروني. فلما جاءه الرسول لبس نعاله وأتى إليها فقال: ما ترين أني فعلت بهذا -أي: بابنها-؟ قالت: أراك قد أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج من ثقيف كذاب ومبير)، فأما الكذاب فقد عرفناه، وأما المبير فما أراه إلا أنت، فخاف الحجاج من قولها، وانسحب ورجع على أعقابه.
وأمثلة أخرى كثيرة يمكن أن تذكر في مثل هذه المجالات وهذه الأبواب، وكما قلت: ليس الغرض هو ذكر القصص والأخبار، وإنما لأهمية الموضوع من جهة ولهذه المجالات الكثيرة من جهة أخرى.
هذا هو الهدف الأسمى من وجود الإنسان في هذه الحياة، كما نعلم من قول الله سبحانه وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
والمرأة المسلمة في كثير من أحوالها هي أكثر تعبداً وطاعة لله من الرجل في هذه الأوقات؛ لأن الرجال شغلوا بكثير من الأعمال وتفقد الدنيا، وكثير من النساء ربما كان عندها من الوقت وهدوء البال وقلة الانشغال ما يجعلها أقدر على أن تصرف من وقتها لطاعة ربها، ولذكره سبحانه وتعالى، ودوام التبتل والانقطاع إليه ما لا يتاح لغيرها من الرجال، وهذا ينبغي أن يكون ميدان تنافس بين الرجل والمرأة، لكننا نقول: إن كانت المرأة أكثر وأظهر فهو في الآخر أنفع لنا وأنفع لأبنائنا ولأجيالنا بإذن الله عز وجل، فقد ورد في سنن أبي داود حديث لطيف، يصور لنا هذا التعاون ويصور لنا هذا التنافس بين الرجل والمرأة في طاعة الله، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم في معنى حديثه: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) صورة جميلة رائعة من التعاون والتكامل، أحسب لو أنها طبقت في بعض بيئاتنا فلو أن امرأة قامت تصلي ثم نضحت زوجها بالماء لتوقظه للصلاة ربما قابلها بالويل والثبور وعظائم الأمور وما لا تحمد عقباه.
أمثلة التعاون كثيرة في سير الصحابيات رضوان الله عليهن، أذكر منها القليل اليسير من سير أمهات المؤمنين، ففي الحديث أنه: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً إلى المسجد فرأى حبلاً مدلىً في المسجد فسأل عن هذا الحبل فقالوا: حبل لـ
وفي رواية أخرى: (فإن الله لا يمل حتى تملوا).
لكن الشاهد هو هذه الصورة العظيمة للعبادة الخاشعة الخاضعة الكثيرة من أم المؤمنين رضي الله عنها، تصلي حتى يبلغ بها التعب مبلغاً لا تستطيع معه القيام فتستعين بحبل تربط نفسها أو تربط يدها به حتى تواصل عبادتها وطاعتها لله عز وجل.
وتُذكر لنا صورة أخرى لبعض أزواجه، وهي جويرية رضي الله عنها عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهي قاعدة في مصلاها تسبح الله وتستغفره وتدعو، فمضى النبي صلى الله عليه وسلم لبعض شأنه ثم رجع وإذا بها في محرابها مازالت تذكر الله وتستغفره سبحانه وتعالى، فقال: (أما زلت في مجلسك الذي كنت عليه؟ قالت: نعم يا رسول الله. قال: فإني قلت بعدك أربع كلمات تعدل ذلك كله: سبحانك -اللهم- وبحمدك عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك) فجمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول، لكن الشاهد الذي أردت الوقوف عليه هو استغلال المرأة وقتها في الطاعة والعبادة، ولست أريد ذكر الصور المقابلة؛ لأنا نريد أن نفردها بالحديث في كل مجال بقدر الاستطاعة.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
رمضان ضيفنا المنتظر | 2907 استماع |
المرأة بين الحرية والعبودية | 2729 استماع |
فاطمة الزهراء | 2694 استماع |
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها | 2627 استماع |
المرأة والدعوة [1] | 2541 استماع |
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم | 2533 استماع |
غزوة أحد مواقف وصور | 2533 استماع |
قراءة في دفاتر المذعورين | 2485 استماع |
خطبة عيد الفطر | 2467 استماع |
التوبة آثار وآفاق | 2448 استماع |