المسلم بين البذل والبخل


الحلقة مفرغة

الحمد لله، الحمد لله العزيز الغفار، المنتقم الجبار، مكور الليل على النهار ومكور النهار على الليل، نحمده سبحانه وتعالى هو ذو الجود والكرم، وهو واهب النعم، نحمده كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، فله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، وله الحمد في الأولى والآخرة كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، دعانا إلى الطاعة والإيمان، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ووعد المستجيبين المتقين بالنعيم في الجنان، وتوعد الجاحدين المخالفين بعذاب النيران.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، جعله خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وكان أسبقنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وكان أبعدنا عنه، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون!

" المسلم بين البذل والبخل" هو موضوع حديثنا في هذا المقام، نستكمل به الأضواء على ملامح الشخصية الإسلامية، ولابد أن ندرك ابتداءً أن هذه الحياة الدنيا في تصور الإسلام وفي يقين المؤمن إنما هي دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر، ومن ثمَّ فإن هذا التصور يجعل التعلق بالحياة الدنيا والبذل فيها يخضع لهذا التصور الإيماني الإسلامي الذي يجعل الآخرة أوكد الهمَّ، والذي يجعلها غاية الغايات، قال تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77].

إن المسلم في حقيقة إسلامه وإيمانه باذل منفق معطٍ في كل ما يحبه الله ويرضاه وفي كل باب من أبواب نصرة دين الله، وفي كل ميدان من ميادين الدعوة إلى الله، وفي كل موقع من مواقع الجهاد في سبيل الله، والله سبحانه وتعالى قد جعل سمة أهل الإيمان والتقوى الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى والبذل في مراضيه جل وعلا، فقال سبحانه وتعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:2-3].

وأهل التقوى هم الذين ذكر الله عاقبتهم ومثوبتهم عنده سبحانه وتعالى فقال: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وأول وصف من أوصافهم: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، والله جل وعلا عندما جعل هذا الوصف سمة لأهل الإيمان جعل الإنفاق عاماً مطلقاً فقال: (ينفقون في السراء والضراء).

وليس بالضرورة أن يكون البذل محصوراً في المال وحده، وإنما المسلم يبذل من علمه، ويبذل من وقته، ويبذل من جهده، ويبذل من سماحة نفسه، وأعلى أنواع البذل وأرفعها أن يبذل نفسه وروحه رخيصة في سبيل الله عز وجل.

بذل بالأخلاق الحسنة للمسلمين

وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يجسد لنا كل صور البذل في أروع مراتبها وأرفع مقاماتها، ويبينها لنا في مقاله وفي حاله الذي نقل لنا من سيرته صلى الله عليه وسلم العطرة.

عندما نتحدث عن البذل فإن كثيراً من الناس يحصرونه ويقصرونه في أمر المال، وأؤجل الحديث عنه لما يشيع بين الناس من معرفة أوصافه وما يتعلق به؛ وأتحدث عن أنواع البذل الأخرى التي لا يفقهها كثير من الناس، والتي يقصر فيها كثير من الناس؛ فهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نبذل من سماحة نفوسنا، فهاهو عليه الصلاة والسلام يبين لك أن تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأن إدخال السرور على المؤمن من أعظم أبواب الخير والبذل والإحسان، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام صدراً رحباً وسع جميع الصحابة، ووسع الجهلاء والغلظاء من الأعراب، وما ضاق عنهم حلمه عليه الصلاة والسلام، بل وسعتهم أخلاقه العظيمة وشمائله الكريمة، وبذل لهم من عظيم صبره، وبذل لهم من سماحة نفسه عليه الصلاة والسلام.

فاستأسر القلوب، وسبى المشاعر والنفوس، وخطف الألباب والأبصار؛ فكان قدوة عظيمة لكل من جاء إليه ولكل من كان معه ولكل من التف حوله، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].

وكان عليه الصلاة والسلام يبذل من وقته فهذا سائل يسأل، وذاك مستفتٍ يستفتي، وذاك طالب حاجة يطلب السعي معه في حاجته، وتلك امرأة عجوز لا يؤبه لها تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقوده إلى أي سكك المدينة شاءت؛ حتى يقضي عليه الصلاة والسلام لها حاجتها، فلا يستكبر من ذلك ولا يستنكف، بل يبذل عليه الصلاة والسلام لكل صاحب حاجة ما يليق بحاجته.

بذل الدعوة وهداية الناس

ثم بذل عليه الصلاة والسلام في باب عظيم من أعظم الأبواب التي يقل فيها البذل، وهو بذله في الدعوة وهداية الناس، وإرشادهم إلى الخير، وحرصه على أن يمنعهم من الوقوع في الهلاك والتردي في عاجل دنياهم وعاقب أخراهم، فهو عليه الصلاة والسلام لم يترك موقفاً من المواقف ولا مجمعاً من المجامع ولا بقعة من البقاع إلا وسعى ليوصل إليها دعوته، فكان في الفترة المكية يغشى مجالس قريش وصناديدها، مع أنهم كانوا أهل علو واستكبار وأهل إيذاء وإهانة للرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته.

وكان صلى الله عليه وسلم يلقي دعوته لله سبحانه وتعالى، فيبذلها للضالين والكافرين والمعرضين فضلاً عن المقبلين والراغبين والطالبين، وما كان صلى الله عليه وسلم يمنع شيئاً من علم وهدى وإرشاد، بل كان يسعى إلى بذله؛ حتى كان يتتبع القبائل في مواضعها؛ فخرج إلى الطائف، ثم هاجر إلى المدينة، ثم مضى بعد ذلك مرة أخرى إلى الطائف فاتحاً، ثم مضى مجاهداً، ثم أرسل الكتب إلى الملوك من حول الجزيرة كلها، وكانت نفسه تتقطع حسرات على ضلال الضالين وكفر الكافرين، حتى قال جل وعلا: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، أي: أنت مهلك نفسك في إثر أولئك القوم المعرضين تريد أن تردهم عن موارد الهلاك، كما أخبر عن نفسه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الفراش والدواب يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار).

بذل النفس في سبيل الله

وأيضاً كان عليه الصلاة والسلام يرسم لنا صورة البذل في أمر النفس والروح في الجهاد في سبيل الله، فكم من غزوة خرج فيها وكان قائد المسلمين ومقدمهم! وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أشجع الشجعان وفارس الفرسان يقول: (كنا إذا حمي الوطيس، واحمرت الحدق، نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقد كان صلى الله عليه وسلم يكون في المقدمة عند مواجهة الأعداء، ولم يكن عليه الصلاة والسلام من الجبناء، وفي يوم حنين ارتبكت جيوش المسلمين، وجاء أولها على آخرها، ومقدمها على مؤخرها، واضطربت الصفوف، ورجع أهل الفتح من المسلمة الذين لم يثبت إيمانهم بعد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم على بغلة بيضاء له يقال لها: دلدل.

والبغلة ليست من الدواب التي تسرع حتى تكون دابة هروب وفرار، بل هي دابة استقرار وقرار، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يثبت في مكانه ويقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب).

ثم يدعو العباس لينادي أهل الهجرة وأهل بدر، حتى تجمع الناس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى عظيم حديثه عليه الصلاة والسلام الذي أخبر فيه عن بذل النفس والروح في سبيل الله، وأنه لا يتمنى إلا أن يقتل في سبيل الله، ثم تعاد إليه روحه، فيقتل في سبيل الله ثانية، ثم تعاد إليه روحه، فيقتل في سبيل الله ثالثة، وذلك لما يرى المجاهد من ثواب الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ [التوبة:111].

وانظر إلى هذه الصفقة العظيمة (إن الله اشترى) فالمشتري هو الله سبحانه وتعالى، وقد اشترى الأنفس قبل الأموال، فالسلعة هي الروح التي بين جنبيك، هي خفقان قلبك، هي حياتك في هذه الدنيا الدنيئة، ثم الثواب والأجر والقيمة المعطاة: (جنة عرضها السموات والأرض).

لما سمع الصحب الكرام ذلك الوعد العظيم من الله سبحانه وتعالى قالوا: لا نقيل ولا نستقيل، هذه بيعة نثبت عليها، هذه صفقة نصر عليها، هذا عهد نمضي عليه حتى آخر لحظة من لحظات الحياة.

بذل المال لوجه الله تعالى

وهنا كان بذل أهل الإيمان في سبيل الله سبحانه وتعالى، وكان بذله عليه الصلاة والسلام أيضاً في شأن المال هو أعظم أنواع البذل، فهذا ابن عباس رضي الله عنه يصف المصطفى عليه الصلاة والسلام وصفاً عجيباً فيقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).

قال الشاعر:

ما قال لا قط إلا في تشهده لو لا التشهد كانت لاؤه نعم

وقال آخر:

لو لم تكن في كفه غير نفسه لجاد بها فليتق الله سائله

فكان عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلاً، ولا يمنع مالاً، بل قد تجوز مرة في صلاته وأسرع فيها، ثم انفتل خارجاً من المسجد، ثم غاب في بيته، ثم خرج إلى الصحابة فرأى علائم الاستفهام والاستغراب مرسومة على وجوههم فقال: (إني ذكرت شيئاً من تبر -أي: ذهب- فخشيت أن يحبسني، فأنفقته في سبيل الله).

ومضى الرسول الكريم الذي دانت له الدنيا وجاءته الخيرات من كل مكان إلى ربه ومولاه ودرعه مرهونة عند يهودي في بعض طعام كان يأخذه عليه الصلاة والسلام، وكان يمر الهلالان والثلاثة -كما تقول عائشة وما يوقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، وما كان ذلك عن فقر وحاجة، وإنما كان عن بذل وإنفاق وسماحة في سبيل الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29-30] فهذا وصف أهل الإيمان، وهذا وصف أهل القرآن أنهم يرجون تجارة لن تبور، أرباحها أضعاف مضاعفة، وتأمينها عند من لا تنفد خزائنه سبحانه وتعالى.

وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يجسد لنا كل صور البذل في أروع مراتبها وأرفع مقاماتها، ويبينها لنا في مقاله وفي حاله الذي نقل لنا من سيرته صلى الله عليه وسلم العطرة.

عندما نتحدث عن البذل فإن كثيراً من الناس يحصرونه ويقصرونه في أمر المال، وأؤجل الحديث عنه لما يشيع بين الناس من معرفة أوصافه وما يتعلق به؛ وأتحدث عن أنواع البذل الأخرى التي لا يفقهها كثير من الناس، والتي يقصر فيها كثير من الناس؛ فهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نبذل من سماحة نفوسنا، فهاهو عليه الصلاة والسلام يبين لك أن تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأن إدخال السرور على المؤمن من أعظم أبواب الخير والبذل والإحسان، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام صدراً رحباً وسع جميع الصحابة، ووسع الجهلاء والغلظاء من الأعراب، وما ضاق عنهم حلمه عليه الصلاة والسلام، بل وسعتهم أخلاقه العظيمة وشمائله الكريمة، وبذل لهم من عظيم صبره، وبذل لهم من سماحة نفسه عليه الصلاة والسلام.

فاستأسر القلوب، وسبى المشاعر والنفوس، وخطف الألباب والأبصار؛ فكان قدوة عظيمة لكل من جاء إليه ولكل من كان معه ولكل من التف حوله، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].

وكان عليه الصلاة والسلام يبذل من وقته فهذا سائل يسأل، وذاك مستفتٍ يستفتي، وذاك طالب حاجة يطلب السعي معه في حاجته، وتلك امرأة عجوز لا يؤبه لها تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقوده إلى أي سكك المدينة شاءت؛ حتى يقضي عليه الصلاة والسلام لها حاجتها، فلا يستكبر من ذلك ولا يستنكف، بل يبذل عليه الصلاة والسلام لكل صاحب حاجة ما يليق بحاجته.

ثم بذل عليه الصلاة والسلام في باب عظيم من أعظم الأبواب التي يقل فيها البذل، وهو بذله في الدعوة وهداية الناس، وإرشادهم إلى الخير، وحرصه على أن يمنعهم من الوقوع في الهلاك والتردي في عاجل دنياهم وعاقب أخراهم، فهو عليه الصلاة والسلام لم يترك موقفاً من المواقف ولا مجمعاً من المجامع ولا بقعة من البقاع إلا وسعى ليوصل إليها دعوته، فكان في الفترة المكية يغشى مجالس قريش وصناديدها، مع أنهم كانوا أهل علو واستكبار وأهل إيذاء وإهانة للرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته.

وكان صلى الله عليه وسلم يلقي دعوته لله سبحانه وتعالى، فيبذلها للضالين والكافرين والمعرضين فضلاً عن المقبلين والراغبين والطالبين، وما كان صلى الله عليه وسلم يمنع شيئاً من علم وهدى وإرشاد، بل كان يسعى إلى بذله؛ حتى كان يتتبع القبائل في مواضعها؛ فخرج إلى الطائف، ثم هاجر إلى المدينة، ثم مضى بعد ذلك مرة أخرى إلى الطائف فاتحاً، ثم مضى مجاهداً، ثم أرسل الكتب إلى الملوك من حول الجزيرة كلها، وكانت نفسه تتقطع حسرات على ضلال الضالين وكفر الكافرين، حتى قال جل وعلا: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، أي: أنت مهلك نفسك في إثر أولئك القوم المعرضين تريد أن تردهم عن موارد الهلاك، كما أخبر عن نفسه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الفراش والدواب يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار).

وأيضاً كان عليه الصلاة والسلام يرسم لنا صورة البذل في أمر النفس والروح في الجهاد في سبيل الله، فكم من غزوة خرج فيها وكان قائد المسلمين ومقدمهم! وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أشجع الشجعان وفارس الفرسان يقول: (كنا إذا حمي الوطيس، واحمرت الحدق، نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقد كان صلى الله عليه وسلم يكون في المقدمة عند مواجهة الأعداء، ولم يكن عليه الصلاة والسلام من الجبناء، وفي يوم حنين ارتبكت جيوش المسلمين، وجاء أولها على آخرها، ومقدمها على مؤخرها، واضطربت الصفوف، ورجع أهل الفتح من المسلمة الذين لم يثبت إيمانهم بعد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم على بغلة بيضاء له يقال لها: دلدل.

والبغلة ليست من الدواب التي تسرع حتى تكون دابة هروب وفرار، بل هي دابة استقرار وقرار، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يثبت في مكانه ويقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب).

ثم يدعو العباس لينادي أهل الهجرة وأهل بدر، حتى تجمع الناس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى عظيم حديثه عليه الصلاة والسلام الذي أخبر فيه عن بذل النفس والروح في سبيل الله، وأنه لا يتمنى إلا أن يقتل في سبيل الله، ثم تعاد إليه روحه، فيقتل في سبيل الله ثانية، ثم تعاد إليه روحه، فيقتل في سبيل الله ثالثة، وذلك لما يرى المجاهد من ثواب الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ [التوبة:111].

وانظر إلى هذه الصفقة العظيمة (إن الله اشترى) فالمشتري هو الله سبحانه وتعالى، وقد اشترى الأنفس قبل الأموال، فالسلعة هي الروح التي بين جنبيك، هي خفقان قلبك، هي حياتك في هذه الدنيا الدنيئة، ثم الثواب والأجر والقيمة المعطاة: (جنة عرضها السموات والأرض).

لما سمع الصحب الكرام ذلك الوعد العظيم من الله سبحانه وتعالى قالوا: لا نقيل ولا نستقيل، هذه بيعة نثبت عليها، هذه صفقة نصر عليها، هذا عهد نمضي عليه حتى آخر لحظة من لحظات الحياة.

وهنا كان بذل أهل الإيمان في سبيل الله سبحانه وتعالى، وكان بذله عليه الصلاة والسلام أيضاً في شأن المال هو أعظم أنواع البذل، فهذا ابن عباس رضي الله عنه يصف المصطفى عليه الصلاة والسلام وصفاً عجيباً فيقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).

قال الشاعر:

ما قال لا قط إلا في تشهده لو لا التشهد كانت لاؤه نعم

وقال آخر:

لو لم تكن في كفه غير نفسه لجاد بها فليتق الله سائله

فكان عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلاً، ولا يمنع مالاً، بل قد تجوز مرة في صلاته وأسرع فيها، ثم انفتل خارجاً من المسجد، ثم غاب في بيته، ثم خرج إلى الصحابة فرأى علائم الاستفهام والاستغراب مرسومة على وجوههم فقال: (إني ذكرت شيئاً من تبر -أي: ذهب- فخشيت أن يحبسني، فأنفقته في سبيل الله).

ومضى الرسول الكريم الذي دانت له الدنيا وجاءته الخيرات من كل مكان إلى ربه ومولاه ودرعه مرهونة عند يهودي في بعض طعام كان يأخذه عليه الصلاة والسلام، وكان يمر الهلالان والثلاثة -كما تقول عائشة وما يوقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، وما كان ذلك عن فقر وحاجة، وإنما كان عن بذل وإنفاق وسماحة في سبيل الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29-30] فهذا وصف أهل الإيمان، وهذا وصف أهل القرآن أنهم يرجون تجارة لن تبور، أرباحها أضعاف مضاعفة، وتأمينها عند من لا تنفد خزائنه سبحانه وتعالى.

ولذلك أخذ الصحابة من الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الخصلة العظيمة؛ خصلة البذل في سبيل الله عز وجل بكل صوره وأشكاله، فإذا بالصحب الكرام باذلون في سبيل الله عز وجل أموالهم وأوقاتهم وعلمهم ودعوتهم وأنفسهم التي بين جنوبهم، فهذا مثل عظيم من الأمثلة التي فيها أروع صور البذل لفرد واحد من مدرسة النبوة العظيمة: وهو أنس بن النضر رضي الله عنه، وذلك عندما لم يتهيأ له أن يشهد بدراً، خرج في أحد وقال: (ليرين الله ما أصنع).

وهذا تهييج للنفس، وقطع للأمل، وإعلان للبذل في سبيل الله عز وجل، فلما دارت الدائرة وشاع في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال: (فعلامَ الحياة من بعده؟ موتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ثم مضى منطلقاً يخترق الصفوف، ويعانق السيوف، ويدخل بين أهل الكفر، يجندل منهم يميناً وشمالاً، وهو يقول: (واهاً لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد).

وانظر إلى بذل الصديق رضي الله عنه الذي سخر ماله كله خدمة لدين الله ونصرة لدعوة الله، فإذا به يعتق الأرقاء ممن أسلموا في مكة، وإذا به يجهز موكب الهجرة، وإذا به في يوم تبوك يأتي بماله كله، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ فيقول: أبقيت لهم الله ورسوله)، هكذا كان الصحب الكرام رضوان الله عليهم.

وهذا عمر الفاروق كان من أعظم الباذلين من صحب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بذل من مشاعره رحمة وشفقة ورعاية لأمة محمد عليه الصلاة والسلام، فكان يسأل عن صغيرهم، ويتحرى شأن كبيرهم، وينظر في كل شئونهم، ولا يطمئن له جنب ولا تغمض له عين إلا أن يبذل كل ما يستطيع من طاقة وجهد نصحاً لأمة الإسلام والمسلمين، وحرصاً على مصالح المسلمين.

وهكذا كان الصحب الكرام رضوان الله عليهم يضربون الأمثلة، والمقام يضيق عن ذكر الأمثلة فضلاً عن الإحصاء أو الاستقصاء.

المسلم باذل من نفسه ومن ماله، والوعد من الله عز وجل قائم مطلق لا يتخلف، قال عز وجل: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، أي: وما أنفقتم من شيء قليل أو كثير مال أو غير مال فهو يخلفه، فمهما أنفقت يعوضك الله إياه.

وانظر إلى علماء الإسلام كم بذلوا من أوقاتهم! وكم أفنوا من أعمارهم! وكم أذهبوا من نور أبصارهم فيما يتعلق بالعلم الشرعي الذي يبلغونه لأمة الإسلام من بعهدهم! فانظر رحمك الله ما أخلف عليهم الله من مباركة الأوقات، فجاءونا بالكتب المطولات والموسوعات التي لا نستطيع اليوم أن نقرأها فضلاً عن أن نفهمها، فضلاً عن أن ننشئ مثلها أو قريباً منها.

والله عز وجل وعد أنك إن أنفقت أو بذلت شيئاً في سبيل الله أن يخلفه، فالإخلاف هو من الله سبحانه وتعالى، والتعويض هو من الله جل وعلا، وكل شيء تبذله يأتيك عاجله في الدنيا -بإذن الله عز وجل- قبل الآخرة.

والله سبحانه وتعالى قد بين لنا كل هذه الجوانب، وبين لنا أن أمر الإنفاق والبذل عظيم، وأنه ينبغي للمسلمين ألا يتخلفوا عنه في الوقت الذي يتسابق فيه أهل الكفر فيبذلون أموالهم، ويبذلون عصارة أفكارهم، وخلاصة عقولهم، وذروة علومهم؛ ليكون ذلك في مواجهة الإسلام والمسلمين.

ثم أريد أنا وأنت أن نصد عدوان المسلمين وأن ننصر المسلمين، ونحن لا نخرج شيئاً من أموالنا! ولا نبذل قليلاً من أوقاتنا! ولا نريد أن نتعب أجسادنا! ولا نريد أن نقلق راحتنا! ولا نريد أن نفارق زوجاتنا وأولادنا! أي شيء هذا؟! قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال:36] فقال: ( ينفقون ) أتى بصيغة المضارع التي تدل على الاستمرار في كل زمان ومكان وحال، فهم ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، ولكن: فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].

لكن أين الذين ينفقون ليدعوا إلى سبيل الله، بل لينصروا دين الله.

إن هذا لا يمكن أن يواجه إلا ببذل مماثل، كما كان عليه الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وأسلاف أمتنا من الأئمة الأعلام الذي شرقوا وغربوا في طلب العلم، والذين شرقوا وغربوا في الجهاد في سبيل الله، والذين شرقوا وغربوا لينصروا دين الله عز وجل، كل ذلك ينبغي أن نعيه، وأنه خصلة أساسية من خصال المسلم الحق، فإنه منفق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وباذل لنصرة دين الله.

أما البخل فليس من شأن أهل الإيمان في شيء، وأما الإقتار والتردد والتخاذل فلا يليق بالمسلم سيما عندما يتعلق الأمر بالأمة والدين، يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: (إن الولد مبخلة مجبنة) وهذا يبين لنا بعضاً من العوائق التي تشد إلى الأرض، وتشغل بالدنيا، وتحول دون البذل في سبيل الله.

إن الأبناء مبخلة، أي: عن الإنفاق والبذل في سبيل الله، (مجبنة) أي: عن الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، قال عز وجل: مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]، يبين الله جل وعلا لنا هذه المعاني حتى ندرك أننا نحتاج إلى أن نفك القيود؛ لتكون نفسونا مهيأة للبذل في سبيل الله، فما بالنا نبذل من الأوقات أطولها وأفضلها لنحصل معاشنا، ثم نبخل أن نبذل من الأوقات شيئاً يسيراً نسعى فيه في الخير وننصر به أهل الإسلام، ونسعى فيه لمعاونة مسلم، أو لإغاثة ملهوف، أو لتعليم جاهل، أو لدعوة غافل؟! وما بالنا نبذل من أموالنا أكثرها وأشرفها في مآكلنا ومشاربنا وبيوتنا ودورنا ومظاهرنا الزائفة، ثم نبخل أن ننفق في سبيل الله سبحانه وتعالى.

وما بالنا نجهد ونرهق في أمور الدنيا، وربما في أمور اللهو والمتاع، ثم لا نريد أن نتعب ولو يسيراً، وأن نعرق ولو قليلاً، ونحن نسعى في طاعة الله ومرضاة الله؟

إن المسلم شأنه البذل، وينبغي أن يجتنب البخل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

أسال الله جل وعلا أن يجعلنا من الباذلين في سبيله، ومن الناجين من البخل في كل باب من أبواب الخير، ونسأله جل وعلا أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2907 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2729 استماع
فاطمة الزهراء 2694 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2627 استماع
المرأة والدعوة [1] 2541 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2533 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2533 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2485 استماع
خطبة عيد الفطر 2467 استماع
التوبة آثار وآفاق 2449 استماع