خطب ومحاضرات
السعادة والنجاة في الصلة بالله
الحلقة مفرغة
الحمد لله، لا إله غيره، ولا رب سواه، جعل طمأنينة القلوب في ذكره، وزيادة النعم بشكره، وجعل السعادة في طاعته، وجعل اللذة في عبادته، له الحمد سبحانه وتعالى، شرح الصدور بالإسلام، ونور القلوب بالقرآن، وهدى البصائر بالإيمان، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد في كل حال وفي كل آن، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله والحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، بعثه الله إلى الناس كافة أجمعين، وأرسله رحمةً للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا الله وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته.
وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون!
السعادة والنجاة في الصلة بالله حقيقة لابد من اليقين بها، ولا مخرج إلا بامتثالها وتطبيقها، كم في الصدور من ضيق ومن حرج! كم في القلوب من هموم وغموم! كم في الحياة من مشكلات ومعضلات! كم في العلاقات من سوء وانقطاع! كم في الأبناء من عقوق وتمرد! وفي الحياة من صورٍ مختلفة من الابتلاءات! يفضي المرء بها إلى شقاء عظيم، وإلى بلاء كبير، وهي في أصل خلقتها سنة الله جل وعلا في الحياة: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2] إنها حياة ابتلاء، من لم يكن له بالله صلة صار في ابتلاء وشقاء، وإن المرء ليتأمل فيجد في حياة الناس في الجملة أسباباً كثيرة من أسباب النكد والهم والغم، فذاك حزين كاسف البال؛ لأنه لا يجد ما يريد وما يطمع فيه من المال، وذاك حزين متألم لما وجد من خصومة زوجته وعقوق أبنائه، وهذا متذمر من سوء جيرانه وأذاهم، والأخير متألم مكوي بنار في قلبه من ظلم الطغاة والجبابرة؛ وقهرهم له، وأخذهم لحقه، فأي شيء يسري عن تلك النفوس وما فيها من الأحزان والآلام؟! وأي شيء يسكب في تلك القلوب الحزينة الكسيفة الطمأنينة والسكينة؟! وكيف تخلص السعادة واللذة إلى النفوس والأرواح رغم كل هذه البلايا والرزايا؟!
إن الدنيا كلها وما فيها من متع وشهوات لا يمكن أن تحل هذه المشكلات، ولا أن تزيل تلك الهموم، وإن أسباب القوة المادية من جاه وسلطان لا يمكن كذلك أن يكون لها أدنى أثر ولا أقل فائدة، إنه لا بد لنا أن نعرف أصل خلقتنا: قبضة طينٍ ونفخة روح: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:29] إن الأرواح أثر من نفخة روح الله عز وجل! إن القلوب والنفوس لا يطعمها ولا يغذيها ولا يشبعها ولا يرويها غذاءٌ وشرابٌ وطعامٌ من أثر هذه الحياة الدنيا! وإنما غذاؤها روحي، وإنما ريها رباني، وإنما تطلعها لما في الملأ الأعلى، لا بد أن ندرك هذه الحقيقة، وإلا يكن الأمر كذلك فإنه الشقاء المحتوم، والبلاء الدائم، والهم العظيم، والغم المتوالي، وذلك ما نشكو منه، وذلك ما نحس به؛ لأن القلوب لم يخلص إليها روحٌ من الله عز وجل من أثر التعلق به، وحسن الصلة به، وذلك ما دلت عليه الآيات، وما استنبطه العلماء، وما بينته وقائع سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلنقف هذه الوقفات التي نحن في أمس الحاجة إليها مع صعوبة وشدة وشقاء وعناء هذه الحياة.
كلام نفيس لابن القيم في السعادة
وقوله جل وعلا: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42] متضمن لكنز عظيم، وهو أن كل مراد لم يرد لأجله ويتصل به فهو مضمحل منقطع، فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها، فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه، فاجتمع ما يراد منه كله في قوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ [الحجر:21]، واجتمع كل ما يراد له في قوله: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42]، فليس وراءه سبحانه غاية تطلب، وليس دونه غاية إليها المنتهى، وتحت هذا سرٌ عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ولا يسكن إلا بالوصول إليه).
إنها حقائق القرآن، إنها الوقائع الحقيقية في حياة البشرية، أفلا ترون غير المسلمين عموماً وبعض المسلمين الشاردين عن طاعة الله خصوصاً، كيف تيسرت لهم أسباب الدنيا، وكيف كسروا حواجز الحرام فأكثروا من شهواتها وملذاتها، وكيف تيسرت لهم كثير من الأسباب التي يتمناها غيرهم من الناس، فهل خلصت السعادة إلى نفوسهم؟! وهل سكنت الطمأنينة قلوبهم؟!
كلا والله، إنك لترى الشقاء مرسوماً على جباههم، وبادياً في وجوههم، وظاهراً في حزنهم، ومتجلياً في كسف بالهم، إنك تراهم وقد ملكوا الدنيا وأسبابها وهم ما يزالون في نكد وبلاء وضيق؛ لأن شقاء الدنيا كله قد جمعته وأوجزته حقيقة ربانية في شطر آية قرآنية: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124] ضنكٌ في كل شيء، ضنكٌ في أسباب الحياة المادية والمعنوية، ضنك في أسباب الحياة الفردية والجماعية، ضنك في أسباب الحياة الداخلية والظاهرية، ضنك لا يكاد ينفك عنه أحدٌ إلا إذا أقبل على الله، وعلق قلبه بالله، وأفضى بعوالج ولواعج قلبه ونفسه إلى خالقه ومولاه، لا يمكن أن يتخلص من همه وغمه إلا بتلك المناجاة والتضرع إلى الله، والإقبال على الله، فإنه لا يسد فاقة القلب ولا يلم شعثه إلا الإقبال على الله، ولا يمكن لأحدٍ أن يطلب تلك السعاة والراحة إلا من هذا الطريق، وإلا فإنه محجوب مردود على عقبه غير بالغ مقصده، ولا نائل إربه، وتلك الحقيقة تنطق بها الآيات، وتشهد بها الوقائع في حياة الناس، وهذه كلمات أخرى تدل على ذلك وتؤكده في كل صور الحياة النفسية والقلبية التي يحتاجها كل إنسان على سبيل العموم، وكل مؤمن مسلمٍ على سبيل الخصوص، إن في القلب شعثاً لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزنٌ لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلقٌ لا يسكنه إلا الاجتماع إليه، والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، وفيه طلبٌ شديدٌ لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً، وها نحن أيها الإخوة الأحبة نوضح هذه الحقيقة فهل إلى مراجعة من سبيل؟! وهل إلى مصارحة من طريق تجعلنا ندخل السرور إلى نفوسنا، ونذهب الهم والحزن عن قلوبنا، ونشيع اللذة والحبور والسرور في أرواحنا؟! استمعوا إلى نداء القرآن الفريد العجيب: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50] وكل شيء خفته فررت منه، وكل شيء يمكن أن يكون سبباً -ولو بتقديرٍ- في شيء من ضرٍ لا يتصور أن يكون علاجه وبرؤه منه لكنها الحقيقة الربانية، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50] كلما أظلمت الدنيا في وجوهكم فروا إلى الله .. كلما تعاظمت المشكلات والصعوبات فروا إلى الله .. كلما ضاقت الصدور وقست القلوب فروا إلى الله .. كلما جمدت الأعين وقحطت الدموع فروا إلى الله .. كلما لغت الألسن وأكثرت من الباطل فروا إلى الله تجدوا عنده كل ما يملأ قلوبكم ونفوسكم أنساً وسعادة وسروراً، وذلك أمره بينٌ وقد فقهه أسلافنا وعلماؤنا وأئمتنا، وهو أمرٌ لا يحتاج إلى ذلك كله، فهو أمرٌ يفقهه ويعرفه -بل يذوقه ويستشعره- كل مؤمن يقبل على الله ويقف بين يديه، ويتوسل إليه، ويتضرع إليه، وذلك مما تشهد به وقائع أحوالنا، فعندما تتغير أحوالنا في بعض الأوقات عند الملمات أو في المناسبات والطاعات نشعر بأثر ذلك، ونشعر بلذة في لحظات نقيسها ونزنها بسنوات وسنوات؛ لأنه ليس هناك أثقل ولا أجمل ولا أفضل من تلك السعادة النفسية الروحية التي فيها هدوء البال، وسكينة النفس، وطمأنينة القلب، ورشد العقل، وسكينة تفيض على الإنسان كل هذه المعاني الطيبة الحسنة.
من كلام السلف في أسباب السعادة
سئل ذو النون رحمه الله: فيم يجد العبد الخلاص؟ وكلنا نسأل هذا السؤال.. كلنا نريد الخلاص.. كلنا نريد النجاة.. كلنا نريد السعادة، فقال رحمه الله: الخلاص في الإخلاص، فإذا أخلص تخلص من كل هم دنياه، تخلص من كل تسلط أعدائه، وتخلص من كل حاجات نفسه الدنية الدنيوية؛ ليبقى سامياً عالياً مرتقياً على الدنيا وما فيها، وعلى أهل الدنيا جميعاً، فإن قوته وصلته بالله تعطيه من الغنى والاستغناء ما لا يكون أهل الأرض كلهم يوازون عنده جناح بعوضة كما قال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)، ونحن لنا مطامع إذا علقناها بالله وجدنا الخير والسعادة والحرية، وإذا علقناها بأسباب الحياة لم نجد ما يشبع النهمة ويروي الظمأ، ثم كنا أسرى ضعفاء لا نستطيع أن نحقق مرادنا في دنيانا، ونحشى ألا نحقق نجاتنا في أخرانا.
قال ابن تيمية رحمه الله: كلما طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له، وحريته عما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه، كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، فإن احتجت إلى غير الله فأنت أسيره. وتأمل أخي المؤمن ماذا تريد من الدنيا؟ وماذا تريد في الآخرة؟ اسأل نفسك، وتلمس الإجابة، فإنك تجدها كلها متعلقة بأمر الله وطاعته، وتعليق القلب به، وربط الحبال بما عنده سبحانه وتعالى، ألست تريد تكثير الحسنات وتكفير السيئات؟ استمع لقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5] ألست تريد العلم والفقه والفهم؟ استمع لقول الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282] ألست تريد الفرج والرزق ورغد العيش؟ استمع لقول الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3] ألست تريد الفرح والسرور والسعادة؟ استمع لقول الله: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] المعين عذبٌ متدفق فأين الواردون الشاربون؟ والطريق واضحٌ مستقيم فأين السالكون المشمرون؟ تأملوا لنجد أن شقاءنا مغروس في نفوسنا بما أعرضت عن ذكر الله، وبما فرطت من التعلق بالله سبحانه وتعالى، لنجد أن كل ما نحتاج إليه كما أسلفنا القول في بدء حديثنا مبدؤه ومنتهاه، أوله وآخره، سراؤه وضراؤه، دنياه وأخراه مرتبطٌ بحقيقة التعلق بالله، ألستم تعرفون أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؟
ألسنا نحفظ قوله: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)؟
ألسنا نعرف فقه الابتلاء الذي يزيل الهم والغم، وينفس الكرب في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا تعب ولا همٍ ولا غمٍ حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)؟
ألسنا نعرف وصيته العظيمة قالها لغلامٍ في مقتبل عمره: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)؟
أين نحن من هذا؟! نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى كتابه، وإلى هدي رسوله، وأن يروي ظمأ قلوبنا، وأن يطهر كدر نفوسنا بالإقبال عليه والتعلق به، والإنابة إليه، والخوف منه، والرجاء فيه.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
قال ابن القيم رحمه الله في إطلالة قرآنية، واستنباطات روحانية، ودلالات علمية تكشف حقيقة الحياة البشرية، وتدل على سبل النجاة الحقيقية، قال رحمه الله تعالى: (قوله جل وعلا: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ [الحجر:21] متضمن لكنز من الكنوز، وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه، ومفاتيح تلك الخزائن بيده، وأن طلبه من غيره ممن ليس عنده ولا يقدر عليه أمرٌ غير محمود ولا معقول.
وقوله جل وعلا: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42] متضمن لكنز عظيم، وهو أن كل مراد لم يرد لأجله ويتصل به فهو مضمحل منقطع، فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها، فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه، فاجتمع ما يراد منه كله في قوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ [الحجر:21]، واجتمع كل ما يراد له في قوله: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42]، فليس وراءه سبحانه غاية تطلب، وليس دونه غاية إليها المنتهى، وتحت هذا سرٌ عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ولا يسكن إلا بالوصول إليه).
إنها حقائق القرآن، إنها الوقائع الحقيقية في حياة البشرية، أفلا ترون غير المسلمين عموماً وبعض المسلمين الشاردين عن طاعة الله خصوصاً، كيف تيسرت لهم أسباب الدنيا، وكيف كسروا حواجز الحرام فأكثروا من شهواتها وملذاتها، وكيف تيسرت لهم كثير من الأسباب التي يتمناها غيرهم من الناس، فهل خلصت السعادة إلى نفوسهم؟! وهل سكنت الطمأنينة قلوبهم؟!
كلا والله، إنك لترى الشقاء مرسوماً على جباههم، وبادياً في وجوههم، وظاهراً في حزنهم، ومتجلياً في كسف بالهم، إنك تراهم وقد ملكوا الدنيا وأسبابها وهم ما يزالون في نكد وبلاء وضيق؛ لأن شقاء الدنيا كله قد جمعته وأوجزته حقيقة ربانية في شطر آية قرآنية: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124] ضنكٌ في كل شيء، ضنكٌ في أسباب الحياة المادية والمعنوية، ضنك في أسباب الحياة الفردية والجماعية، ضنك في أسباب الحياة الداخلية والظاهرية، ضنك لا يكاد ينفك عنه أحدٌ إلا إذا أقبل على الله، وعلق قلبه بالله، وأفضى بعوالج ولواعج قلبه ونفسه إلى خالقه ومولاه، لا يمكن أن يتخلص من همه وغمه إلا بتلك المناجاة والتضرع إلى الله، والإقبال على الله، فإنه لا يسد فاقة القلب ولا يلم شعثه إلا الإقبال على الله، ولا يمكن لأحدٍ أن يطلب تلك السعاة والراحة إلا من هذا الطريق، وإلا فإنه محجوب مردود على عقبه غير بالغ مقصده، ولا نائل إربه، وتلك الحقيقة تنطق بها الآيات، وتشهد بها الوقائع في حياة الناس، وهذه كلمات أخرى تدل على ذلك وتؤكده في كل صور الحياة النفسية والقلبية التي يحتاجها كل إنسان على سبيل العموم، وكل مؤمن مسلمٍ على سبيل الخصوص، إن في القلب شعثاً لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزنٌ لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلقٌ لا يسكنه إلا الاجتماع إليه، والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، وفيه طلبٌ شديدٌ لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً، وها نحن أيها الإخوة الأحبة نوضح هذه الحقيقة فهل إلى مراجعة من سبيل؟! وهل إلى مصارحة من طريق تجعلنا ندخل السرور إلى نفوسنا، ونذهب الهم والحزن عن قلوبنا، ونشيع اللذة والحبور والسرور في أرواحنا؟! استمعوا إلى نداء القرآن الفريد العجيب: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50] وكل شيء خفته فررت منه، وكل شيء يمكن أن يكون سبباً -ولو بتقديرٍ- في شيء من ضرٍ لا يتصور أن يكون علاجه وبرؤه منه لكنها الحقيقة الربانية، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50] كلما أظلمت الدنيا في وجوهكم فروا إلى الله .. كلما تعاظمت المشكلات والصعوبات فروا إلى الله .. كلما ضاقت الصدور وقست القلوب فروا إلى الله .. كلما جمدت الأعين وقحطت الدموع فروا إلى الله .. كلما لغت الألسن وأكثرت من الباطل فروا إلى الله تجدوا عنده كل ما يملأ قلوبكم ونفوسكم أنساً وسعادة وسروراً، وذلك أمره بينٌ وقد فقهه أسلافنا وعلماؤنا وأئمتنا، وهو أمرٌ لا يحتاج إلى ذلك كله، فهو أمرٌ يفقهه ويعرفه -بل يذوقه ويستشعره- كل مؤمن يقبل على الله ويقف بين يديه، ويتوسل إليه، ويتضرع إليه، وذلك مما تشهد به وقائع أحوالنا، فعندما تتغير أحوالنا في بعض الأوقات عند الملمات أو في المناسبات والطاعات نشعر بأثر ذلك، ونشعر بلذة في لحظات نقيسها ونزنها بسنوات وسنوات؛ لأنه ليس هناك أثقل ولا أجمل ولا أفضل من تلك السعادة النفسية الروحية التي فيها هدوء البال، وسكينة النفس، وطمأنينة القلب، ورشد العقل، وسكينة تفيض على الإنسان كل هذه المعاني الطيبة الحسنة.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
رمضان ضيفنا المنتظر | 2907 استماع |
المرأة بين الحرية والعبودية | 2729 استماع |
فاطمة الزهراء | 2694 استماع |
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها | 2627 استماع |
المرأة والدعوة [1] | 2541 استماع |
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم | 2533 استماع |
غزوة أحد مواقف وصور | 2533 استماع |
قراءة في دفاتر المذعورين | 2485 استماع |
خطبة عيد الفطر | 2467 استماع |
التوبة آثار وآفاق | 2448 استماع |