تأملات في الهزائم والانتصارات


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده على آلائه التي لا تعد ولا تحصى، ونصلي ونسلم على خير خلق الله، وخاتم رسل الله، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته، واقتفى أثره، وسار على هداه، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين والدعاة.

أما بعد:

أيها الإخوة الأحبة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسأل الله جل وعلا أن يُكتب هذا اللقاء في موازين حسناتنا، وأن يرزقنا من ورائه نفعاً، وأن يكتب لنا به أجراً.

وأبدأ بعد شكر الله جل وعلا بشكر أخي فضيلة الشيخ عبد الوهاب الذي كان سبباً في هذا اللقاء، وأشكر الإخوة الحضور الذين أحسنوا الظن بما قد ينتفعون به من سماع هذا الموضوع، وأما بُعد الشقة واختلاف البلاد فإني أقول:

ما جئت من بلد ناء إلى بلدي بل جئت من كبد حرى إلى كبدي

ولقيا الوجوه الطيبة والإخوة الصالحين تذكر بالآخرة، وتعين على الطاعة، وتجدد العزم، وتقوي الهمة، وتبعث روحاً جديدة يأنس بها الإنسان، ويشعر أن له إخوة معه على الدرب والعهد، مهما اختلفت ديارهم أو لهجاتهم أو أفكارهم من حيث تعليمهم ومراتبهم الاجتماعية والعلمية، وهذا أمر يشعر به أهل الإيمان بلا خلف أو تفرقة بينهم.

موضوع حديثنا هو: (تأملات في الهزائم والانتصارات) فإنه يسلط الضوء على هذا الموضوع من جهة المواقع الفاصلة، والأحداث الكبرى في بعض مراحل تاريخ الأمة المسلمة، والله سبحانه وتعالى قد قص علينا قصص السابقين، وساق لنا قصص الأنبياء والمرسلين؛ لنتدبر فيها، ونستقي منها العبرة، ونقرأ بين سطورها وفي ثناياها الدروس التي كتبها الله سبحانه وتعالى في قواعد محكمة قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21]، وكما قضى الله سبحانه وتعالى بأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين، وكما قضت حكمته سبحانه وتعالى أن قطع على نفسه الوعد بأنه يدافع عن الذين آمنوا، وربط الشرط بمشروط في قوله جل وعلا: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7] غاية الأمر أننا نريد أن نسلط الضوء لنقرأ فيما وراء الأحداث، ولنتأمل في الأمور التي قد لا يكترث الناس بها، ولا تخلد في أذهانهم، ولا تبقى في عقولهم.

اقرأ التاريخ إذ فيه العبر ضاع قوم ليس يدرون الخبر

إن أمة لا تقرأ تاريخها لا يمكن أن تعرف حاضرها، ولا أن تخطط لمستقبلها: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى [يوسف:111] هذه الدنيا كلها بما فيها من الأحداث درس وعبرة يظهر للمؤمن فيها قدر الله عز وجل النافذ، وحكمته البالغة، ومشيئته التي لا يردها شيء، وكذلك تظهر له من خلالها الصورة الحقيقية لأسباب النصر، والصورة الحقيقية لأسباب الهزيمة.

وأبدأ بالنقطة الأولى: إعلان النصر قبل المعركة: معلوم أن الانتصار لا يعلن قبل اللقاء، وأنه في المعارك والمهام يبقى الجزم بالنصر حتى اللحظات الأخيرة غير معروف، لكن سنأخذ ومضات سريعة نرى فيها أن النصر أعلن قبل بدء المعركة في كثير من الأوقات، وذلك ينبئ عن أن الذي جزم بهذا النصر قبل اللقاء قد استحضر أموراً معينة، ورأى أسباباً مهيأة، وعرف حقائق إيمانية لا تزول ولا تتغير، فجزم بذلك في أول يوم من أيام الله عز وجل.

في يوم الفرقان يوم بدر الأغر، لما قضى الله عز وجل أن يلتقي محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام الميامين بكفار قريش، ولم يكونوا قد تهيئوا لذلك، وعندما صفت الصفوف، وتعين اللقاء ماذا صنع الرسول صلى الله عليه وسلم؟

توجه إلى الله عز وجل وهو يناشد ربه ويسأل مولاه، ويلحف في المسألة، ويلح في الدعاء، ويقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً، اللهم هذه قريش جاءت بفخرها وخيلائها -ويلح عليه الصلاة والسلام- اللهم نصرك الذي وعدتني، حتى سقط الرداء من كتفه الشريف صلى الله عليه وسلم، ويبكي أبو بكر رضي الله عنه ويقول: حسبك يا رسول الله! فإن الله منجز لك ما وعد)، أي: يكفي هذا الإلحاح وهذا الدعاء، فماذا حصل بعد ذلك؟

أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بحفنة من الحصى، ورمى بها في جهة الكفار وقال: (شاهت الوجوه، ثم قال: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم، هذا مصرع عقبة بن أبي معيط، هذا مصرع أبي جهل، هذا مصرع أبي، هذا مصرع أمية بن خلف)، ويعين مواضع مصرعهم، قال الرواة في السير: فما أخطأ واحد منهم ما أشار به صلى الله عليه وسلم، لقد حكم عليه الصلاة والسلام بالنصر؛ لأنه كان يعلم من أصحابه قلوباً مؤمنة بالله، وجباهاً ساجدة لله، وصفاً موتد العرى بالمحبة والألفة في الله عز وجل، فتحققت أسباب النصر، فأعلنه عليه الصلاة والسلام قبل بدء المعركة.

وفي موقف أكثر شدة وضراوة وقسوة على المسلمين، اجتمع فيه عليهم شدة البرد، مع شدة الجوع، مع شدة الخوف، مع كثرة العدو، مع خيانة الذي كان نصيراً، وذلك في يوم الأحزاب الذي وصفه الله عز وجل وصفاً عجيباً فقال سبحانه وتعالى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:10-11] في ذلك الموقف العصيب، وقد اجتمعت قريش وغطفان ومن معهم من بعض القبائل والأحابيش، وأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، وحاصروها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ به وبأصحابه الأمر مبلغاً عظيماً من شدة الجوع والخوف والبرد، ثم يرسل عليه الصلاة والسلام السعدين ليستجليا له خبر قريظة، قال: (فإن كانوا على العهد فأظهروا ذلك، وإن كانوا قد نقضوا فالحنا لي لحناً أعرفه ولا يعرفه غيري)، فلما بلغه الخبر عليه الصلاة والسلام بنقض قريظة للعهد، وكان ذلك بمثابة الطعنة من الخلف، وبمثابة آخر حجر من أحجار البناء الذي يظن في الصورة المادية أنه بدا متهالكاً متداعياً، يوشك أن يسقط على الرسول عليه الصلاة والسلام وصحبه، عندما بلغه هذا الخبر كبر عليه الصلاة والسلام وقال: (الله أكبر، الله أكبر، أبشروا بالنصر)، في عمق المأساة، وفي شدة الكرب، يكبر عليه الصلاة والسلام ويجزم بالنصر، ولم يكن يعرف له سبباً، ولم يكن يعرف من وحي الله عز وجل ما سيقع بعد، ولكنه رأى أسباب النصر: أمة موحدة لله عز وجل، ما لانت ولا داهنت في دينها، ولا باعت مبادئها، ولا غيرت عهدها مع الله عز وجل، أمة متوحدة مترابطة قلبها قلب رجل واحد، فقال عليه الصلاة والسلام: (أبشروا بالنصر).

فجاء نصر الله عز وجل من حيث لم يحتسبوا، ولم يشعروا، ولم يعرفوا، فإذا بالريح تطفئ النار، وتكفئ القدور، وإذا بـأبي سفيان زعيم القوم ينهض ناقته ويقول: يا أهل مكة! لا مقام لكم فارجعوا، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [الأحزاب:25]، وبث في قلوب الكفار الرعب، وجاء النصر.

وقد يقول قائل: إن هذا الإخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم وحي فله أن يعلن النصر قبل المعركة، ولكني أقول: إن هذا ليس من هذا النحو، وإن كان المصطفى عليه الصلاة والسلام مسدداً بالوحي، لكن الأمر كان منه عليه الصلاة والسلام نظراً في هذه الأسباب؛ ولذا قد وقع من غير الرسول عليه الصلاة والسلام من أهل الصلاح والإيمان من هذه الأمة الإسلامية من جزم بالنصر، كما وقع من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه في عام (702هـ) في موقعة (شقحب)، عندما تلاقى المسلمون والتتار، فقد كان شيخ الإسلام رحمة الله عليه يحرض المسلمين على القتال، ويحثهم على الجهاد، ويأمرهم بالدعاء، ثم يقول: والله! إنكم لمنصورون عليهم هذه الكرة، فيقولون له: قل: إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. سبحان الله! يجزم ويحلف، وإذا قيل له: قل: إن شاء الله يقول: إن شاء الله تحقيقاً، أي: أن ذلك واقع لا محالة، ولكنه بمشيئة الله عز وجل، لا تعليقاً كأنه يشك في نصر الله عز وجل، لم جزم شيخ الإسلام بذلك وليس هو ممن يوحى إليه قطعاً؟

هو من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه قد رأى بأم عينيه ملامح النصر تتحقق في الأمة المسلمة، فعلم أن قوماً قد لجئوا إلى الله عز وجل، ونابذوا المعاصي، وتوحدت صفوفهم، سينصرهم الله عز وجل؛ لأن وعده لا يتخلف: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].

هذه الومضة ليست هي مقصودنا في الحديث، إنما مقصودنا أن النصر والهزيمة لا يتعلق بالأمور المادية الظاهرة، وإنما يتعلق أكثر ما يتعلق بالأمور والأسباب المعنوية الإيمانية التي فيها وفاء بعهد الله، والتزام بشرع الله سبحانه وتعالى.

ومضة أخرى تدلل على هذا وتقودنا إلى لب حديثنا.

النصر بعد الهزائم الساحقة، إن الأمة التي تهزم هزيمة شديدة وقاصمة وقوية لم يتوقع لها أن تنهض من كبوتها، ولا أن تعود إلى عزتها بسرعة، وهذا أمر في المقاييس المادية معروف ملموس، لكننا سنجد كما سأضرب بعض الأمثلة من مواقف التاريخ في حياة الأمة المسلمة ما يعكس هذه الصورة، وذلك يدلنا على أن الهزائم القوية لا تبلغ أحياناً من المهزومين مبلغاً إذا كانت لم تصل إلى إيمانهم، ولم تنل من عزائمهم، ولم تزعزع صلتهم وثقتهم بالله عز وجل، ولم تجعلهم ممسوخين في أفكارهم وفي مبادئهم وفي اعتزازهم بشخصيتهم ودينهم، ولذلك نجد هناك مواقع حاسمة في تاريخ الأمة:

في عام (491هـ) اقتحم النصارى بيت المقدس وأخذوها، ودخلوا إلى المسجد الأقصى، وقتلوا فيه من المسلمين كما يذكر ابن كثير نحو سبعين ألف نفس، حتى غاصت ركب الخيول في دماء المسلمين! هزيمة مروعة، وفظاعة من القتل والوحشية تنخلع لها قلوب الرجال الأشداء فضلاً عن غيرهم، ومع ذلك يذكر التاريخ بعد عامين اثنين فقط في عام (493هـ) أنه التقى بعض جيش المسلمين من أهل الشام مع أولئك النصارى فكسروهم كسرة لم يسمع التاريخ بمثلها، ذكر ابن كثير في البداية والنهاية: أن عدة جيش النصارى كان نحو ثلاثين ألفاً قتلوا عن بكرة أبيهم، وما بقي منهم إلا ثلاثة آلاف أسر بعضهم، وجرح بعضهم، وهرب بعضهم!

أولئك الذين هزموا لم يزل فيهم من أسباب النصر ما هيأ لمجموعة قليلة منهم أن يتحققوا بأسباب النصر، ارتباطاً بالله، وثباتاً على منهجه، فنصرهم الله عز وجل وهم لم تهدأ جراحهم بعد، ولم يتنفسوا الصعداء بعد أن هزموا في تلك الموقعة الشديدة.

وفي عام (656هـ) دخلت جيوش التتار بغداد، ونعلم سيرة التتار وقصصهم وما عندهم من الفظاعة والهول، ثم بعد عامين اثنين، وفي يوم الجمعة في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك في عام (658هـ) تأتي موقعة عين جالوت، ويُهزم فيها التتار، وهم الجيش الذي لا يقهر كما يقال، الوحوش التي لم تكن تنتسب إلى البشرية في ذلك الوقت عند الناس، يكسرون كسرة ما سمع بمثلها من قبل، لماذا؟ لأن بعض الأسباب كانت قد تحققت.

وقبل ذلك كان الانتصار الأعظم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أعقاب أحد، لما دارت الدائرة على المسلمين في آخر المعركة، ومضى منهم إلى الله عز وجل سبعون من الشهداء، وأثخن البقية بالجراح، وشج وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقتا المغفر في وجنته عليه الصلاة والسلام، ثم رجعوا إلى المدينة، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي أهل أحد أن يخرجوا، لأي شيء؟ هل طلبهم أو ندبهم أن يخرجوا للعلاج أو ليخففوا من آثار ما وقع بهم؟

أمرهم أن يخرجوا ليلحقوا بـأبي سفيان ومن معه من مشركي قريش، هذا وجراحهم ما تزال تنزف دماء! وما يزال الواحد منهم يحمل يده المقطوعة أو رجله المقطوعة! وأمر ألا يخرج معهم أحد أبداً ممن لم يشهد أحداً، فماذا كان موقف الصحابة؟!

ما تخلف منهم رجل واحد: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:172-173] خرجوا وما تخلف منهم رجل واحد؛ لأن الهزيمة لم تبلغ نفوسهم فتضعضعها، ولم تبلغ إيمانهم فتضعفهم، بل كان إيمانهم أعظم من الجبال الرواسي، وهممهم أعلى من ذرى السحاب؛ ولذلك استجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما اعتبروا مهزومين، بل خرجوا وأقاموا في حمراء الأسد ثلاثة أيام أو أربعة أيام بلياليها، ولما أنصرف أبو سفيان قال: ما بلغنا من القوم مبلغاً، ما قتلنا محمداً صلى الله عليه وسلم، ولا قتلنا أبا بكر ولا عمر ، ولا استأصلنا شأفتهم، ولا غزونا مدينتهم. وكان يفكر بالرجوع، فإذا بأحد الأعراب يمر عليه فقال: ما خبر محمد؟ قال: رأيته يجد هو وأصحابه في أثركم، فلاذ أبو سفيان بالفرار إلى مكة قناعة بالنصر الهزيل الذي وقع له.

إذاً: إذا لم تنل الهزيمة من الإيمان ومن النفوس والعزائم فإن الجولة القادمة وشيكة الوقوع بإذن الله سبحانه وتعالى، وقد فطن لهذا أعداء الأمة، فلم يكن اعتناؤهم -بعد دراسة طويلة للحروب الصليبية- بكسر المسلمين عسكرياً وحربياً فحسب، بل كانوا يريدون أن يطيلوا أمد الهزيمة دهراً طويلاً، وأن يعمقوا تأثيرها في النفوس والقلوب والعقول والسلوكيات والأحوال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ حتى ينخروا في بنيان الأمة، فلا تقوم لها قائمة في تصورهم: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].

الوقفة الثالثة: وهي لب موضوعنا: نريد أن نقف في بعض المفاصل التاريخية؛ لنقرأ بين السطور ماذا وقع في الهزائم؟ وكيف وقعت الانتصارات في تاريخ الأمة المسلمة؟

هذه المفاصل كثيرة، وسأذكر منها اثنين بالتفصيل، وإن سمح الوقت ذكرنا ثالثاً.

الأول: ما يتعلق بحقوق بيت المقدس، والثاني: سقوط بغداد، والثالث: موقعة شقحب؛ لأن فيها دروساً عظيمة جداً.

في بيت المقدس لننظر كيف كان توجه المسيحيين في ذلك الوقت؟ وكيف توجهوا لقتال المسلمين؟ وبأي منطق وتحت أي مبدأ تجمعوا؟

نقرأ في سطور التاريخ وفي وقائعه ما ينبئنا عن أن في كل جولة لابد من تحقق أسباب، ومن رؤية معالم هي التي تكون بها الهزيمة أو يقع بها -بعد إذن الله عز وجل- النصر، تجمع المسيحيون تحت راية المسيحية، وتنادوا باسمها، وهذا المكمن الذي ينبغي أن يعلم المسلمون أنه لا نصر لهم إلا تحت راية الإسلام، وإلا أن يتنادوا باسم نصرة العقيدة والإيمان، أما غير ذلك فقد رأت الأمة هذه الصورة، وتجرعت مرارتها حينما تجمعت مرة باسم القومية، وأخرى باسم البعثية، وثالثة باسم الاشتراكية، فهوت بها كل واحدة إلى هاوية وبعد سحيق.

في ذلك الوقت ماذا كان من المسيحيين؟ إمبراطور القسطنطينية يبعث إلى ملك آخر من ملوك المسيحية في ذلك الوقت، ويناديه بنداء يستصرخ فيه الهمة لقتال المسلمين، فماذا يقول؟

يقول: إلى رجال الدين والدنيا تحية وسلاماً، أيها السيد العظيم! حامي حمى العقيدة المسيحية، أود أن أحيطك علماً بما وصل إليه تهديد الأتراك -يعني: السلاجقة المسلمون- للإمبراطورية الإغريقية المسيحية المقدسة، فهم يعملون فيها السلب والتخريب كل يوم، ويتوغلون في أراضيها دون انقطاع، وكم من مذابح وتقتيل وجرائم تفوق حد الوصف يقترفونها ضد المسيحيين الإغريق -وهذا أكثره كذب- فضلاً عن السخرية والتحقير، فإنهم يذبحون الأطفال والشباب داخل أماكن التعميد، حيث يريقون دماء القتلى محتقرين بذلك المسيح؛ لذا أستحلفك بمحبة الله وباسم جميع المسيحيين الإغريق أن تمد لنا وللمسيحيين الإغريق العون والمساعدة، وذلك بتقديم جميع جنود المسيحيين من كبير وصغير، فضلاً عن العامة ممن يتسنى جمعهم من بلادك.

فهذا تناد باسم الإيمان والعقيدة الباطلة، وتناد بالنصرة بالقوة الفعلية المؤثرة، وليس بمجرد القول أو الشجب أو الاستنكار أو البيانات، وليس تحت راية علمانية أو اشتراكية أو غيرها، فهكذا كان تجمعهم في ذلك الوقت، وكانت نظرة حديثهم.

بل إن الذين كانوا يقودون تلك الحروب ويؤججونها ضد المسلمين هم زعماء الدين، فهذا البابا أريان الثاني يوجه في مؤتمر كليرمونت في ذلك الوقت نداءه إلى أبناء الملة المسيحية كلها، فيقول: يا شعب الفرنجة شعب الله المحبوب المختار! لقد جاءت من تخوم الصين ومن مدينة القسطنطينية أنباء محزنة، تعلن أن جنساً لعيناً -يقصد به المسلمين- أبعد ما يكون عن الله قد طغى وبغى في تلك البلاد بلاد المسيحيين، وخربها بما نشره فيها من أعمال السلب والحرائق، ولقد ساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم، وقتلوا بعضهم الآخر بعد أن عذبوهم أشنع تعذيب، وهم يهدمون الكنائس بعد أن دنسوها برجسهم.

إذاً: مرة أخرى نداء العاطفة العقدية الإيمانية، ثم يقول: ألا فليكن لكم من أعمال أسلافكم ما يقوي قلوبكم، أمجاد شارلمان وعظمته، وأمجاد غيره من ملوككم وعظمتهم، فليثر همتكم ضريح المسيح المقدس ربنا ومنقذنا تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً!

وهنا يربط بمبدأ مهم وهو القدوات التاريخية التي ترتبط بها الأمة لارتباطها بمنهج الله، فتثير فيها الهمة والعزيمة، واليوم يغير التاريخ ويدلس لتغيب القدوات الصالحة، ويغيب الأئمة من العلماء، ويغيب القواد من المجاهدين، وتظهر القدوات الفاسدة التي لا تقدم ولا تؤخر، بل حقيقة دورها أنها تشوه وتمسخ، وأنها تغتال وتقتل كل قيمة إيمانية، وكل همة وعزيمة وقوة في صفوف الأمة.

ثم يقول أيضاً لتتضح لنا الأسباب: طهروا -ولو قلنا هذا الكلام للمسلمين لكانوا أولى به وأحرى- قلوبكم إذاً من أدران الحقد، واقضوا على ما بينكم من نزاع، واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث.

إذاً: طالبهم بأن يزيلوا الأحقاد، وأن يمنعوا الخلاف والنزاع لتتوحد الصفوف، ونصب لهم هدفاً يهمهم ويشغل بالهم؛ حتى تتلاشى الأسباب الثانوية العارضة للاختلافات التي يثيرها الأعداء ليفرقوا صفوف الأمة، هذه صورة موجزة لما كانوا يتنادون به.

فماذا كانت صورة الأمة المسلمة في ومضات؟

كان أحد ملوك المسلمين حاكماً للموصل في ذلك الوقت، وبعد سقوط بيت المقدس أراد أن يجمع بعض الجيوش لمحاربة النصارى، لكن الأسباب كانت غير مهيأة ولا مواتية فماذا حصل؟

قتل هذا الملك المسلم في يوم العيد بعد الصلاة في وسط المسجد غيلة، فماذا وقع بعد ذلك؟

كتب ملك الفرنجة إلى طغتكين الذي جاء بعده كتاباً فيه كلمات موجزة، لكنها تنبئ أن القوم كانوا ينظرون إلى أسباب الهزيمة لائحة أمام أعينهم، فقال كلاماً جميلاً ذكره ابن كثير رحمة الله عليه، يقول: إن أمة قتلت عميدها، في يوم عيدها، في بيت معبودها، لحقيق على الله أن يبيدها.

كيف تنتصر وبينها هذه الخلافات؟ كيف تنتصر والأحقاد تتسلط عليها؟ كيف تنتصر وهي ليست موجهة نحو إعلاء كلمة الله ورعاية مصلحة الأمة المسلمة؟

ما قام به صلاح الدين من الإصلاحات قبل تحرير بيت المقدس

ننتقل إلى الوقت الذي جاء فيه نصر الله عز وجل، وكلنا يعلم أن النصر وتخليص بيت المقدس جاء بقدر الله على يد صلاح الدين ، والناس كلهم يقولون: جاء صلاح الدين وانتصر يوم حطين، وخلص القدس من الصليبيين، وكأن المسألة انحصرت في تلك المعركة التي خاضها صلاح الدين رحمة الله عليه، والأمر ليس كذلك، فإن صلاح الدين خاض قبل هذه المعركة أربع معارك هي أشد وأشرس وأقوى، وهي من أعظم ما هيأ النصر لذلك اليوم العظيم في يوم حطين، لم يأت صلاح الدين هكذا ليجمع جيوشاً بالقوة، ثم ينتصر بعد ذلك، بل حارب في مواقع أربع قبل أن يلاقي النصارى في حطين، حارب الكيانات الفاسدة، وحارب الجهالات الخاطئة، وحارب الانحرافات المفسدة، وحارب الفرقة القاتلة، وسأذكر ذلك بشيء من الإيجاز.

حارب الكيانات الفاسدة التي كانت تعمل في الأمة من الفساد والتدمير أكثر مما يعمله أعداؤها؛ لأنها في حقيقة الأمر أعدى من الأعداء، وكان مما هيأ الله عز وجل لـصلاح الدين وأجرى على يديه أن قوض الدولة الفاطمية العبيدية الرافضية التي أضاف إليها الذهبي في سير أعلام النبلاء وصف اليهودية فقال: الدولة الرافضية العبيدية اليهودية. فقبل أن يتوجه إلى بيت المقدس أزال هذا الورم السرطاني الذي ظل يرزح على الأمة المسلمة وفي بلادها دهراً طويلاً، وعاث فيها فساداً في الاعتقاد، وتخريباً لمقدرات الأمة، وممالأة لأعدائها، فتوجه صلاح الدين رحمة الله عليه ومهد له من قبل نور الدين زنكي ، فتوجه أولاً ليستأصل هذه الدولة الرافضية، وبالفعل قوض ملكها ودخل مصر فاتحاً، وألغى وجودها من التاريخ، وجعلها صفحات مذكورة في طيات التاريخ، ولم تقم لهم بحمد الله عز وجل قائمة في عهده وإلى سنوات طويلة بعده رحمة الله عليه، وسيأتي لنا آثار ذلك جلية واضحة، ثم ماذا؟

كان من أشهر أعمال صلاح الدين رحمة الله عليه أنه رأى في الأمة انحرافات سلوكية كثيرة، كانت الخمور والخمارات والفساد والانحراف مستشرياً يضعف في الأمة إيمانها، ويحقق فيها من أسباب البلاء ومن أسباب نزول سخط الله عز وجل، وارتفاع رحمته، وبعد نصره سبحانه وتعالى الشيء الكثير، فكان من جملة أعماله المباركة أن وجه جهوده للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولإزالة أسباب الفساد، فأغلق الحوانيت، ومنع شرب الخمور، وعاقب المخالفين، وطهر المجتمع المسلم من الإعلان بالحرب على الله عز وجل من خلال المجاهرة بالمعاصي، ولا يمكن أن تتوجه للعدو والسهام مغروسة في ظهرك من أثر هذه المعاصي التي ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في فوائده أن آثارها الوخيمة ليست على مستوى الفرد فقط، بل على مستوى الأمة والكون كله، وقد ذكر كلاماً عجيباً، لولا ضيق الوقت والمقام لذكرت شيئاً منه.

طهر صلاح الدين هذا المجتمع المسلم من هذه الأوضار والمعاصي، وكانت معركة قوية هيأ بها الأمة لحصول النصر.

ثم كانت هناك جهالات خاطئة، وكان هناك ضعف في الناحية العلمية، وقلة في التعلق بعلم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت هناك شطحات صوفية، وكانت هناك خرافات قد عشعشت في العقول وغير ذلك من الأمور، فجعل دأبه أن يقوي وينشط الحركة العلمية التي تقوي الأمة وتربطها بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتربطها بعلمائها وقادتها، ولذلك عمل عملاً كبيراً في تنشيط الحركة العلمية، وبنى المدارس التي كثير منها في بلاد الشام ومصر يعود إنشاؤه أو إحياؤه لـصلاح الدين رحمة الله عليه، كالمدرسة الأشرفية والصالحية والعادلية وغيرها، فكثير منها قوي أثرها في عهد صلاح الدين ، فنشر علم الكتاب والسنة، وربط الأمة بسلفها وبعلمائها، ووطد أركان هذا العلم في المجتمع، فكان ذلك أيضاً توطئة ومعركة خاضها رحمة الله عليه.

ثم سعى بعد ذلك إلى معركة الفرقة القاتلة، حيث كان المسلمون إمارات مختلفة، وبعضها متنازعة، وبعضها متناحرة، فسعى إلى ضم بعضها إلى بعض، فضم مصر إلى الشام، ثم أرسل أخاه إلى اليمن، وأخذ اليمن معه، ثم جمع كثيراً من بلاد المسلمين تحت راية واحدة، واجتمعت الكلمة عليه، وانضوى تحته الأمراء والقادة، فقدمت الأمة حينئذ أسباب النصر: صلة بالله عز وجل، وتحققاً بصدق الارتباط به، وصحة الاعتقاد فيه سبحانه وتعالى، ثم ارتباط بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، علماً ونشراً ودعوةً، ثم بتطهير المجتمع من المعاصي والمفاسد، ثم بتوحيد الأمة تحت راية واحدة، فلم تكن بعد ذلك حطين إلا تحصيل حاصل وختاماً لهذه الجهود التي قام بها صلاح الدين.

ولعلنا أيضاً نقف مع ومضات تاريخية نرى فيها هذه الصورة، كيف اجتمعت لـصلاح الدين ؟ وكيف كان حال الأمة في ذلك الوقت، بعد أن رأينا ومضات من حالها وقت سقوطها؟

الملك المظفر كان ملك حماة، وبنى النصارى حصناً إلى جوار دمشق ، وبدأوا يناوشونه ويؤذونه، فكتب إليهم طالباً أن يهدموا هذا الحصن، فقالوا: نعم نهدمه، ولكن تدفع لنا أجرة بنائه، فدفع لهم مائة ألف، فطمعوا وزادوا، فكتب إلى صلاح الدين يستشيره.

إذاً: كان صلاح الدين مرجعاً لأولئك، فاستشاره في هذا الأمر، فماذا قال له صلاح الدين حتى نرى تأثيره رحمة الله عليه؟

يقول: إن هذا الرأي الذي قد أزمعت عليه ليس بشيء، وإن الله تعالى سيسألك عن إعطائهم هذا المال، كيف تعطي أعداء الله عز وجل المال وأنت قادر على المسير إليهم، والرأي أن تصرف هذا المال على الأجناد، وترغبهم في الجهاد، بدل أن تصرف المال لأعداء الله، فأعد العدة لذلك، وسر بعساكرك إليهم، والله تعالى في معونتك ونصرك.

ثم يصور لنا صلاح الدين وقد كاتب الأمراء والقواد ليحتشدوا لهذه المعركة (حطين)، فيقول في رسالة له إلى المظفر صاحب مصر في سنة (579هـ): وقد كاتبنا أمراء الأطراف باستعدادهم لاستدعائهم -أي: يستعدوا لنستدعيهم- وأن يحزموا في جميع العساكر أوامرهم لأمرائهم. فماذا كانت النتيجة؟ يقول: فما منهم إلا من يسابق إلى تلبية النداء، ويسارع إلى إجابة الدعاء، ويعشق -ولا عشق لقاء الأحبة- لقاء الأعداء أكثر من عشقه لقاء الأحبة.

إذاً: قد سرت في الأمة روح جديدة لم تكن موجودة فيها وقت سقوطها؛ لأن سقوط بيت المقدس لم يكن لقوة النصارى، فقد جاء النصارى من أواسط آسيا، ووصلوا إلى بيت المقدس وقد هدت قواهم، وقد لاقوا بعض المجاعة في الطريق، وجاءوا في صورة مرهقة وكانوا متعبين، ولكن وجدوا من هم أتعب منهم، وأضعف منهم، فانتصروا عليهم تماماً، مثل الجدار المتداعي المتصدع إذا وضعت يدك عليه سقط، وليس ذلك من قوة يدك، ولكنه من ضعف ذلك الجدار، وما انتُصر على أمة الإسلام يوماً إلا لضعفها لا لقوة أعدائها مطلقاً، فهنا ذكر لنا صلاح الدين هذه الصورة في استجابة الأمة.

دور صلاح الدين والعلماء في تحرير بيت المقدس

ثم انظروا إلى دور العلماء في عهد صلاح الدين لما جعل لهم مكانتهم البارزة، وجعل لهم قيادتهم الرائدة، وجعل لهم كلمتهم المسموعة، كتب القاضي الفاضل إلى صلاح الدين يقول له: لأن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا تفرج الشدائد إلا بالرجوع إليه، والامتثال لأمر شريعته -العالم يقول للقائد والأمير- والمعاصي في كل مكان بادية، والمظالم في كل موضع فاشية. يعني: لابد أولاً أن تصلح هذا الجانب، وأن تصحح هذه الأوضاع الخاطئة.

ويقول في رسالة أخرى يشخص الداء الذي في الأمة قبل أن تواجه أعداءها: إنما أوتينا من قبل أنفسنا، ولو صدقنا لعجل الله لنا عواقب صدقنا، ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به، ثم يقول له: ولا نغتر بكثرة العساكر والأعوان، ولا فلان الذي يعتمد عليه أن يقاتل فلاناً، فكل هذه مشاغل، وليس بها النصر، وإنما النصر من عند الله، ولا نأمن أن يكلنا الله إليها والنصر به واللطف منه، وأستغفر الله تعالى من ذنوبنا، فلولا أنها تسد طريق دعائنا لكان جواب دعائنا قد نزل، وفيض دموع الخاشعين قد غسل. هذه هي القيادة العلمية الراشدة الموجهة التي تكشف الخلل وتبين الخطأ، وتدعو إلى الإصلاح الذي فيه صلاح ما بين الأمة وخالقها سبحانه وتعالى.

ثم انظروا إلى روح الأمة في ذلك الوقت، المسلمون في عكا حوصروا حصاراً شديداً، لكن ما بلغ شدة الحصار من نفوسهم وعزائمهم، وكانوا يستنجدون بـصلاح الدين ليفك عنهم الحصار، فكتبوا إليه يقولون له: إنا قد تبايعنا على الموت، ونحن لا نزال نقاتل حتى نقتل، ولا نسلم هذا البلد أحياء، فانظروا كيف تصنعون في شغل العدو عنا، ودفعه عن قتالنا، ثم المحاصرون هؤلاء المستضعفون يقولون لـصلاح الدين: فهذه عزائمنا، وإياكم أن تخضعوا لهذا العدو، أو تلينوا له، فأما نحن فقد فات أمرنا، نحن قد بعنا أنفسنا لله، وتبايعنا على الجهاد، فلا تلينوا للعدو ولا تضعفوا أبداً.

ثم نجد هذه الصور واضحة جداً في قوة المسلمين، وترابطهم وارتباطهم بالله سبحانه وتعالى، من ذلك ما تشير إليه أيضاً وقائع التاريخ أن صلاح الدين كاتبه أحد ملوك النصارى عندما كان يحاصر عسقلان، فأراد هذا الملك أن يكتب صلحاً مع صلاح الدين قبل الشتاء حتى يرجع إلى بلده، فكتب كتاباً فيه أنه إذا لم يكتب الصلح في هذه الأيام القريبة وإلا فإنه سيضطر أن يشتي في هذه البلاد، وإذا أدركه الشتاء فلن يستطيع أن يتحرك وينتقل، فماذا كتب له صلاح الدين ؟ كتب له كلاماً جميلاً ونفيساً، يقول: أما النزول عن عسقلان -يعني: ترك الحصار- فلا سبيل إليه، وأما تشتيته -يعني: بقاؤه وجنده في هذه البلاد في الشتاء- فلابد منه؛ لأنه قد استولى على هذه البلاد، ويعلم أنه متى غاب عنها أخذت بالضرورة، وإذا أقام إن شاء الله، -يعني: إن ذهب وإن بقي- سيأخذها المسلمون بإذن الله عز وجل، ثم يقول: وإذا سهل عليه أن يشتي هنا ويبعد عن أهله ووطنه مسيرة شهرين، وهو شاب في عنفوان شبابه، ووقت اقتناص لذاته، ما أسهل علي -يقول صلاح الدين- أن أشتي وأصيف وأنا وسط بلادي، وعندي أولادي وأهلي، وأنا أعتقد أني في أعظم العبادات، ولا أزال كذلك حتى ينزل الله سبحانه وتعالى نصره. هذه روح الأمة ومواقفها في ذلك الوقت.

ولما كتب الله لهم النصر ما طغوا ولا بغوا ولا جحدوا نعمة الله عز وجل، ولا فسقوا ولا فجروا، بل صورت لنا كتب التاريخ والمراسلات في ذلك الوقت ما صنع المسلمون، وبأي شيء فرحوا، لم يفرحوا بالأموال، ولا بالبلاد، ولا بالديار، وإنما فرحوا بنصرة دين الله، وتطهير مساجد المسلمين من أوضار المسيحية والتثليث، فكتب القاضي الفاضل من مصر يهنئ صلاح الدين بحطين، ويخبره عن أهل مصر فيقول: والرءوس إلى الآن لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها؛ شكراً لله عز وجل، وكلما فكر -يعني: يقول هو عن نفسه- الخادم أن البيع -يعني: الكنائس- تعود مساجد، والمكان الذي كان يقال فيه: إن الله ثالث ثلاثة يقال فيه: إنه الإله الواحد، يعني: لا أعظم عندي من هذا الفرح، ولا أجمل منه، ولذلك لما كتب صلاح الدين يبشر أخاه بالنصر، قال له: وعاد الإسلام بإسلام بيت المقدس إلى تقديسه، ووضع بنيان التقوى إلى تأسيسه، وزال ناموس ناقوسه -زالت النصرانية- وبطل بنفس النصر قياس قسيسه، ودنا المسجد الأقصى للراكع والساجد، وامتلأ ذلك الفناء بالأتقياء الأماجد، وطنت أوطانه بقراءة القرآن، ورواية الحديث وذكر الدروس، وحديث هدي الهدى، وزارها شهر رمضان مضيفاً لها نهارها بالتسبيح، وليل فطرها بالتراويح.

وقال الخطيب القاضي زكي الدين في أول خطبة في يوم جمعة في المسجد الأقصى بعد فتحه وتحريره، قال مخاطباً صلاح الدين : جددتم الإسلام أيام القادسية، والملامح اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ثم قال لهم: فاقدروا هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها، فله المنة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة.

إذاً: رأينا كيف تحقق النصر عندما جاءت هذه الصورة بعد تهيئة أسبابها.

ننتقل إلى الوقت الذي جاء فيه نصر الله عز وجل، وكلنا يعلم أن النصر وتخليص بيت المقدس جاء بقدر الله على يد صلاح الدين ، والناس كلهم يقولون: جاء صلاح الدين وانتصر يوم حطين، وخلص القدس من الصليبيين، وكأن المسألة انحصرت في تلك المعركة التي خاضها صلاح الدين رحمة الله عليه، والأمر ليس كذلك، فإن صلاح الدين خاض قبل هذه المعركة أربع معارك هي أشد وأشرس وأقوى، وهي من أعظم ما هيأ النصر لذلك اليوم العظيم في يوم حطين، لم يأت صلاح الدين هكذا ليجمع جيوشاً بالقوة، ثم ينتصر بعد ذلك، بل حارب في مواقع أربع قبل أن يلاقي النصارى في حطين، حارب الكيانات الفاسدة، وحارب الجهالات الخاطئة، وحارب الانحرافات المفسدة، وحارب الفرقة القاتلة، وسأذكر ذلك بشيء من الإيجاز.

حارب الكيانات الفاسدة التي كانت تعمل في الأمة من الفساد والتدمير أكثر مما يعمله أعداؤها؛ لأنها في حقيقة الأمر أعدى من الأعداء، وكان مما هيأ الله عز وجل لـصلاح الدين وأجرى على يديه أن قوض الدولة الفاطمية العبيدية الرافضية التي أضاف إليها الذهبي في سير أعلام النبلاء وصف اليهودية فقال: الدولة الرافضية العبيدية اليهودية. فقبل أن يتوجه إلى بيت المقدس أزال هذا الورم السرطاني الذي ظل يرزح على الأمة المسلمة وفي بلادها دهراً طويلاً، وعاث فيها فساداً في الاعتقاد، وتخريباً لمقدرات الأمة، وممالأة لأعدائها، فتوجه صلاح الدين رحمة الله عليه ومهد له من قبل نور الدين زنكي ، فتوجه أولاً ليستأصل هذه الدولة الرافضية، وبالفعل قوض ملكها ودخل مصر فاتحاً، وألغى وجودها من التاريخ، وجعلها صفحات مذكورة في طيات التاريخ، ولم تقم لهم بحمد الله عز وجل قائمة في عهده وإلى سنوات طويلة بعده رحمة الله عليه، وسيأتي لنا آثار ذلك جلية واضحة، ثم ماذا؟

كان من أشهر أعمال صلاح الدين رحمة الله عليه أنه رأى في الأمة انحرافات سلوكية كثيرة، كانت الخمور والخمارات والفساد والانحراف مستشرياً يضعف في الأمة إيمانها، ويحقق فيها من أسباب البلاء ومن أسباب نزول سخط الله عز وجل، وارتفاع رحمته، وبعد نصره سبحانه وتعالى الشيء الكثير، فكان من جملة أعماله المباركة أن وجه جهوده للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولإزالة أسباب الفساد، فأغلق الحوانيت، ومنع شرب الخمور، وعاقب المخالفين، وطهر المجتمع المسلم من الإعلان بالحرب على الله عز وجل من خلال المجاهرة بالمعاصي، ولا يمكن أن تتوجه للعدو والسهام مغروسة في ظهرك من أثر هذه المعاصي التي ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في فوائده أن آثارها الوخيمة ليست على مستوى الفرد فقط، بل على مستوى الأمة والكون كله، وقد ذكر كلاماً عجيباً، لولا ضيق الوقت والمقام لذكرت شيئاً منه.

طهر صلاح الدين هذا المجتمع المسلم من هذه الأوضار والمعاصي، وكانت معركة قوية هيأ بها الأمة لحصول النصر.

ثم كانت هناك جهالات خاطئة، وكان هناك ضعف في الناحية العلمية، وقلة في التعلق بعلم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت هناك شطحات صوفية، وكانت هناك خرافات قد عشعشت في العقول وغير ذلك من الأمور، فجعل دأبه أن يقوي وينشط الحركة العلمية التي تقوي الأمة وتربطها بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتربطها بعلمائها وقادتها، ولذلك عمل عملاً كبيراً في تنشيط الحركة العلمية، وبنى المدارس التي كثير منها في بلاد الشام ومصر يعود إنشاؤه أو إحياؤه لـصلاح الدين رحمة الله عليه، كالمدرسة الأشرفية والصالحية والعادلية وغيرها، فكثير منها قوي أثرها في عهد صلاح الدين ، فنشر علم الكتاب والسنة، وربط الأمة بسلفها وبعلمائها، ووطد أركان هذا العلم في المجتمع، فكان ذلك أيضاً توطئة ومعركة خاضها رحمة الله عليه.

ثم سعى بعد ذلك إلى معركة الفرقة القاتلة، حيث كان المسلمون إمارات مختلفة، وبعضها متنازعة، وبعضها متناحرة، فسعى إلى ضم بعضها إلى بعض، فضم مصر إلى الشام، ثم أرسل أخاه إلى اليمن، وأخذ اليمن معه، ثم جمع كثيراً من بلاد المسلمين تحت راية واحدة، واجتمعت الكلمة عليه، وانضوى تحته الأمراء والقادة، فقدمت الأمة حينئذ أسباب النصر: صلة بالله عز وجل، وتحققاً بصدق الارتباط به، وصحة الاعتقاد فيه سبحانه وتعالى، ثم ارتباط بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، علماً ونشراً ودعوةً، ثم بتطهير المجتمع من المعاصي والمفاسد، ثم بتوحيد الأمة تحت راية واحدة، فلم تكن بعد ذلك حطين إلا تحصيل حاصل وختاماً لهذه الجهود التي قام بها صلاح الدين.

ولعلنا أيضاً نقف مع ومضات تاريخية نرى فيها هذه الصورة، كيف اجتمعت لـصلاح الدين ؟ وكيف كان حال الأمة في ذلك الوقت، بعد أن رأينا ومضات من حالها وقت سقوطها؟

الملك المظفر كان ملك حماة، وبنى النصارى حصناً إلى جوار دمشق ، وبدأوا يناوشونه ويؤذونه، فكتب إليهم طالباً أن يهدموا هذا الحصن، فقالوا: نعم نهدمه، ولكن تدفع لنا أجرة بنائه، فدفع لهم مائة ألف، فطمعوا وزادوا، فكتب إلى صلاح الدين يستشيره.

إذاً: كان صلاح الدين مرجعاً لأولئك، فاستشاره في هذا الأمر، فماذا قال له صلاح الدين حتى نرى تأثيره رحمة الله عليه؟

يقول: إن هذا الرأي الذي قد أزمعت عليه ليس بشيء، وإن الله تعالى سيسألك عن إعطائهم هذا المال، كيف تعطي أعداء الله عز وجل المال وأنت قادر على المسير إليهم، والرأي أن تصرف هذا المال على الأجناد، وترغبهم في الجهاد، بدل أن تصرف المال لأعداء الله، فأعد العدة لذلك، وسر بعساكرك إليهم، والله تعالى في معونتك ونصرك.

ثم يصور لنا صلاح الدين وقد كاتب الأمراء والقواد ليحتشدوا لهذه المعركة (حطين)، فيقول في رسالة له إلى المظفر صاحب مصر في سنة (579هـ): وقد كاتبنا أمراء الأطراف باستعدادهم لاستدعائهم -أي: يستعدوا لنستدعيهم- وأن يحزموا في جميع العساكر أوامرهم لأمرائهم. فماذا كانت النتيجة؟ يقول: فما منهم إلا من يسابق إلى تلبية النداء، ويسارع إلى إجابة الدعاء، ويعشق -ولا عشق لقاء الأحبة- لقاء الأعداء أكثر من عشقه لقاء الأحبة.

إذاً: قد سرت في الأمة روح جديدة لم تكن موجودة فيها وقت سقوطها؛ لأن سقوط بيت المقدس لم يكن لقوة النصارى، فقد جاء النصارى من أواسط آسيا، ووصلوا إلى بيت المقدس وقد هدت قواهم، وقد لاقوا بعض المجاعة في الطريق، وجاءوا في صورة مرهقة وكانوا متعبين، ولكن وجدوا من هم أتعب منهم، وأضعف منهم، فانتصروا عليهم تماماً، مثل الجدار المتداعي المتصدع إذا وضعت يدك عليه سقط، وليس ذلك من قوة يدك، ولكنه من ضعف ذلك الجدار، وما انتُصر على أمة الإسلام يوماً إلا لضعفها لا لقوة أعدائها مطلقاً، فهنا ذكر لنا صلاح الدين هذه الصورة في استجابة الأمة.

ثم انظروا إلى دور العلماء في عهد صلاح الدين لما جعل لهم مكانتهم البارزة، وجعل لهم قيادتهم الرائدة، وجعل لهم كلمتهم المسموعة، كتب القاضي الفاضل إلى صلاح الدين يقول له: لأن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا تفرج الشدائد إلا بالرجوع إليه، والامتثال لأمر شريعته -العالم يقول للقائد والأمير- والمعاصي في كل مكان بادية، والمظالم في كل موضع فاشية. يعني: لابد أولاً أن تصلح هذا الجانب، وأن تصحح هذه الأوضاع الخاطئة.

ويقول في رسالة أخرى يشخص الداء الذي في الأمة قبل أن تواجه أعداءها: إنما أوتينا من قبل أنفسنا، ولو صدقنا لعجل الله لنا عواقب صدقنا، ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به، ثم يقول له: ولا نغتر بكثرة العساكر والأعوان، ولا فلان الذي يعتمد عليه أن يقاتل فلاناً، فكل هذه مشاغل، وليس بها النصر، وإنما النصر من عند الله، ولا نأمن أن يكلنا الله إليها والنصر به واللطف منه، وأستغفر الله تعالى من ذنوبنا، فلولا أنها تسد طريق دعائنا لكان جواب دعائنا قد نزل، وفيض دموع الخاشعين قد غسل. هذه هي القيادة العلمية الراشدة الموجهة التي تكشف الخلل وتبين الخطأ، وتدعو إلى الإصلاح الذي فيه صلاح ما بين الأمة وخالقها سبحانه وتعالى.

ثم انظروا إلى روح الأمة في ذلك الوقت، المسلمون في عكا حوصروا حصاراً شديداً، لكن ما بلغ شدة الحصار من نفوسهم وعزائمهم، وكانوا يستنجدون بـصلاح الدين ليفك عنهم الحصار، فكتبوا إليه يقولون له: إنا قد تبايعنا على الموت، ونحن لا نزال نقاتل حتى نقتل، ولا نسلم هذا البلد أحياء، فانظروا كيف تصنعون في شغل العدو عنا، ودفعه عن قتالنا، ثم المحاصرون هؤلاء المستضعفون يقولون لـصلاح الدين: فهذه عزائمنا، وإياكم أن تخضعوا لهذا العدو، أو تلينوا له، فأما نحن فقد فات أمرنا، نحن قد بعنا أنفسنا لله، وتبايعنا على الجهاد، فلا تلينوا للعدو ولا تضعفوا أبداً.

ثم نجد هذه الصور واضحة جداً في قوة المسلمين، وترابطهم وارتباطهم بالله سبحانه وتعالى، من ذلك ما تشير إليه أيضاً وقائع التاريخ أن صلاح الدين كاتبه أحد ملوك النصارى عندما كان يحاصر عسقلان، فأراد هذا الملك أن يكتب صلحاً مع صلاح الدين قبل الشتاء حتى يرجع إلى بلده، فكتب كتاباً فيه أنه إذا لم يكتب الصلح في هذه الأيام القريبة وإلا فإنه سيضطر أن يشتي في هذه البلاد، وإذا أدركه الشتاء فلن يستطيع أن يتحرك وينتقل، فماذا كتب له صلاح الدين ؟ كتب له كلاماً جميلاً ونفيساً، يقول: أما النزول عن عسقلان -يعني: ترك الحصار- فلا سبيل إليه، وأما تشتيته -يعني: بقاؤه وجنده في هذه البلاد في الشتاء- فلابد منه؛ لأنه قد استولى على هذه البلاد، ويعلم أنه متى غاب عنها أخذت بالضرورة، وإذا أقام إن شاء الله، -يعني: إن ذهب وإن بقي- سيأخذها المسلمون بإذن الله عز وجل، ثم يقول: وإذا سهل عليه أن يشتي هنا ويبعد عن أهله ووطنه مسيرة شهرين، وهو شاب في عنفوان شبابه، ووقت اقتناص لذاته، ما أسهل علي -يقول صلاح الدين- أن أشتي وأصيف وأنا وسط بلادي، وعندي أولادي وأهلي، وأنا أعتقد أني في أعظم العبادات، ولا أزال كذلك حتى ينزل الله سبحانه وتعالى نصره. هذه روح الأمة ومواقفها في ذلك الوقت.

ولما كتب الله لهم النصر ما طغوا ولا بغوا ولا جحدوا نعمة الله عز وجل، ولا فسقوا ولا فجروا، بل صورت لنا كتب التاريخ والمراسلات في ذلك الوقت ما صنع المسلمون، وبأي شيء فرحوا، لم يفرحوا بالأموال، ولا بالبلاد، ولا بالديار، وإنما فرحوا بنصرة دين الله، وتطهير مساجد المسلمين من أوضار المسيحية والتثليث، فكتب القاضي الفاضل من مصر يهنئ صلاح الدين بحطين، ويخبره عن أهل مصر فيقول: والرءوس إلى الآن لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها؛ شكراً لله عز وجل، وكلما فكر -يعني: يقول هو عن نفسه- الخادم أن البيع -يعني: الكنائس- تعود مساجد، والمكان الذي كان يقال فيه: إن الله ثالث ثلاثة يقال فيه: إنه الإله الواحد، يعني: لا أعظم عندي من هذا الفرح، ولا أجمل منه، ولذلك لما كتب صلاح الدين يبشر أخاه بالنصر، قال له: وعاد الإسلام بإسلام بيت المقدس إلى تقديسه، ووضع بنيان التقوى إلى تأسيسه، وزال ناموس ناقوسه -زالت النصرانية- وبطل بنفس النصر قياس قسيسه، ودنا المسجد الأقصى للراكع والساجد، وامتلأ ذلك الفناء بالأتقياء الأماجد، وطنت أوطانه بقراءة القرآن، ورواية الحديث وذكر الدروس، وحديث هدي الهدى، وزارها شهر رمضان مضيفاً لها نهارها بالتسبيح، وليل فطرها بالتراويح.

وقال الخطيب القاضي زكي الدين في أول خطبة في يوم جمعة في المسجد الأقصى بعد فتحه وتحريره، قال مخاطباً صلاح الدين : جددتم الإسلام أيام القادسية، والملامح اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ثم قال لهم: فاقدروا هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها، فله المنة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة.

إذاً: رأينا كيف تحقق النصر عندما جاءت هذه الصورة بعد تهيئة أسبابها.

الموقف الثاني: سقوط بغداد أكثر تأثيراً وأبلغ وأعمق في تجلية صورة الهزيمة والنصر، ذكر ابن كثير هذه الحوادث في شهر محرم من عام (656هـ)، والحقيقة أن نص ابن كثير يغني عن كل تعليق، وكل ما نذكره هنا في هذه الوقائع ينبغي أن نربطه بواقع الأمة، ولا يحتاج ذلك لا إلى تعليق، ولا إلى تفصيل، بل إن الناظر يرى ذلك أمام عينيه، ويسمع أحداث ما يقع للمسلمين بأذنيه، فلا يكاد يخطئ شيئاً من ذلك أبداً، والتاريخ -كما يقولون- يعيد نفسه، وما أشبه الليلة بالبارحة؛ لأن الأمر مرتبط بسنة الله عز وجل قال تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62] وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].

أسباب سقوط بغداد على يد التتار

يقول ابن كثير في وصف تلك الوقعة: جاء التتار إلى بغداد، وجاءت إليه أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة، ومعه أميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفاً على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحهم الله!

أول بلاء أن يكون من المسلمين من ينصر أعداء الدين على إخوانه المسلمين، وهذه البلية التي ما يزال المسلمون مبتلون بها في هذا العصر، فترى بعضهم يحالف أعداء الله ضد إخوانه من المسلمين ومن أولياء الله، قال: جاءت إليهم أمداد صاحب الموصل تقدم فروض الولاء والطاعة، وتقدم المعونة والنصرة لهم، فهذا أعظم بلاء وأعظم سبب من أسباب الهزيمة، ثم قال: وأحاطت التتار بدار الخلافة- يعني: قد دخلوا إلى بغداد- يرشقونها بالنبال من كل جانب، حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حضاياه، وكانت مولدة تسمى عرفة ، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وفزع فزعاً شديداً -قبل ذلك لم يكن يعلم من أمره شيئاً- وأحضر السهم الذي رميت به الجارية بين يديه، فإذا عليه مكتوب:

إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم.

فأمر الخليفة عند ذلك بالاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة. يعني: أنهم دخلوا البلد ووصلوا إلى دار الخلافة، والخليفة في مجلسه والجارية ترقص بين يديه، فلما جاءها السهم وقتلت فزع فزعاً شديداً، وأمر بالاحتياط والتحرز، وهذه يبين لنا أن هذا الداء من أعظم أسباب البلاء في الأمة المسلمة وكما يقول الشاعر:

إذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص

فعندما يكون الذي ينتظر منه الجد والتحفظ والتيقظ، والأخذ بأسباب مصالح المسلمين، ورفع رايتهم، وتحقيق أسباب عزتهم لاهياً ساهياً غافلاً نائماً لا يدري عن أمره شيئاً، فهذه صورة مفزعة، وبمجرد أن يتأمل فيها الإنسان يحكم عليهم بالهزيمة وهو مغمض العينين من غير تفكير.

يقول ابن كثير رحمة الله عليه في وصفه لخليفة الوقت في ترجمته: ولكن كان فيه لين، وعدم يقظة، ومحبة للمال وجمعه، ومن جملة ذلك أنه استحل الوديعة التي استودعها إياه الناصر داود بن المعظم، كان قيمتها نحواً من مائة ألف دينار، فاستقبح هذا من الخليفة، وهو مستقبح ممن هو دونه بكثير.

ولعل سائلاً أن يسأل أين الجيوش؟ كيف دخل التتار ووصلوا إلى دار الخلافة؟

فهذا جواب ابن كثير رحمة الله عليه يقول: وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم وبقية الجيش قد صرفوا عن إقطاعاتهم- الأجور والرواتب- حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لحالهم، ويحزنون على الإسلام وأهله.

هذا حال الجيش الذي كان في ذلك الوقت؛ لأن الخليفة لم يكن متفرغاً لتقوية الأمة، ولا لإعداد الجيش، ولا لتحقيق قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] ، ولا لتحقيق قول النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) فكانت هذه جيوش بغداد، الجنود يستعطون ويطلبون العطايا من الناس في الأسواق وأبواب المساجد، فهؤلاء العشرة آلالاف البقية الباقية، إذاً: ضاعت الأمة عندما ضاعت قوتها وهيبتها وشوكتها.

لماذا كان جيش بغداد على هذه الصورة؟ هذا هو السبب الرابع وهو السبب الخطير الذي يسميه الناس اليوم: الطابور الخامس الذي يعمل في الأمة أكثر مما يحتاج الأعداء، ومما يأملون ويتوقعون.

قال ابن كثير : وكل ذلك عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي. كان وزير الخليفة رافضياً شيعياً خبيثاً متمالئاً مع الأعداء، فهو الذي فعل هذه الأفاعيل، يقول ابن كثير: حصل هناك نزاع بين أهل السنة والشيعة نهبت فيها الكرخ محلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير، فاشتد حنقه على ذلك. فكان هذا مما أهاجه على أن دبر للإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ أن بنيت بغداد وإلى هذه الأوقات؛ ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو هذا الرجل، وماذا كان قد صنع من قبل؟ قال: وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش، وإسقاط أسمائهم من الديوان، فكانت العساكر في أيام المستنصر قريباً من مائة ألف. وجاء التتار وهم عشرة آلاف من المتسولين! بسبب هذا الوزير الخبيث، قال: فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتار، وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهل ذلك عليهم، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال. وهذا هو الداء الدوي الذي ينخر في جسم الأمة اليوم عندما يكون في صفوفها أصحاب العقائد المنحرفة التي تسعى جاهدة إلى أن تدمر الأمة، وفي قلوبها من الحقد والضغينة أعظم مما في قلوب الأعداء، وهم أكثر عوناً للأعداء وإخلاصاً من بني جلدتهم -أي: من الأعداء أنفسهم- وهذا هو الذي ذكره ابن كثير رحمة الله عليه.

وسبب خامس يذكره لنا تتمة لهذا السبب قال: لما ذهب الخليفة ليقابل هولاكو ومعه هذا الوزير الرافضي, ومعه أيضاً خادمه نصير الدين الطوسي ، وكان هذا نصير الدين الطوسي عند هولاكو، وقد استصحبه عندما فتح بعض قلاع المسلمين. وكان نصير الدين ممن ينسبون إلى المستنصر العبيدي، ويريدون أن يجددوا الدولة العبيدية التي أزالها صلاح الدين بجهاده الذي أشرنا إليه، قال ابن كثير رحمة الله عليه: وكانوا يريدون إبطال السنة، وإقامة الرفض، وإقامة خليفة من العبيديين، ولكن الله سبحانه وتعالى ما أمهلهم حتى مات هذا الوزير الرافضي في العام نفسه، ثم لحقه ابنه بعده بستة أشهر!

ثم يقول ابن كثير : ولم ينج أحد من الناس سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ممن التجأ إليهم، وإلى دار الوزير ابن العلقمي. إذاً: كانوا صفوفاً وطوابير خامسة، ويمالئون الأعداء، ولذلك لم يصبهم ضرر، هؤلاء الذين يظهرون لنا أنهم أولياء وأحباء، لا يؤمن غير المسلم على أمة الإسلام أبداً، لا في دينها وعقيدتها، ولا في مقدراتها وثرواتها، ولا في أوضاعها وأحوالها وأخلاقها مطلقاً، وهذا التاريخ هو الذي يحدثنا بذلك حديثاً شافياً واضحاً.

ثم وصف ابن كثير رحمة الله عليه ما وقع من الهول الشديد، حيث كان الناس يقتلون ويبادون، أربعون يوماً والسيف يعمل في أهل بغداد، وكانوا يهربون إلى الأسطحة فيقتلونهم في الأسطحة حتى سالت ميازيب بغداد من دماء المسلمين!

قال رحمة الله عليه: عدة من مات من المسلمين: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف -يعني: مليون- وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف. وهذا يدل على عظيم الهول.

معركة عين جالوت وما أحرزته من نصر عظيم

بعد سنتين نعود إلى جولة أخرى وهي جولة عين جالوت، وعندما نتأمل سنجد ومضات النصر ظاهرة أيضاً، فهنا المظفر قطز أجرى الله على يديه هذا النصر، ماذا كان من حاله؟

سمع بأمر التتار، وأخذهم لبلاد الشام، وأنهم يريدون أن يتوجهوا إلى مصر فماذا صنع؟ ما انتظرهم ولكن توجه إليهم بجيوشه، قال ابن كثير : وقد اجتمعت الكلمة عليه حتى انتهى إلى الشام، يعني: اجتمعت الكلمة من بعض القواد والأمراء المسلمين، ووصف هذا الملك بأنه كان شجاعاً وصالحاً، قال ابن كثير : لا يتعاطى شيئاً مما كان يتعاطاه الملوك والأمراء في ذلك الزمان، أي: من المعاصي والمفاسد. فاجتمع هو والتتار في عين جالوت في الجمعة في اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان، فاقتتلوا قتالاً عظيماً، فكانت النصرة -ولله الحمد- للإسلام وأهله، فهزموا التتار المنتصرين قبل سنتين في بغداد، والذين فعلوا تلك الأفاعيل، فهزموا، وتتبعتهم جيوش المسلمين حتى بلغوا دمشق، ثم تبعوهم إلى حلب، وهم يفرون، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة تجاوزت عشرات الآلاف، إلى ما يقرب من مئات الآلاف.

هذا النصر يدل على مثل هذه الصورة عندما تهيأت بعض أسباب النصر، قال: وقتلت العامة في ذلك الوقت في وسط الجامع شيخاً رافضياً مصانعاً للتتار على أموال المسلمين. وهكذا وطهروا ذلك المجتمع من مثل هذه الانحرافات.

ثم قال ابن كثير في وصف قطز : وكان شجاعاً بطلاً، كثير الخير، ناصحاً للإسلام وأهله، وكان الناس يحبونه ويدعون له كثيراً، قال: ولما كان في القتال قتلت فرسه، فظل يقاتل وهو واقف ينتظر الإمداد، فجاء بعض الأمراء ليعطونه فرساً بديلاً عنه، فرفض ذلك وظل يقاتل، قالوا: لماذا لم تقبل ونحن نريد ألا تهزم فينهزم بك الإسلام والمسلمون؟ فقال: أما أنا لو قتلت فكنت أذهب إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه.

هذه المواقف تبين لنا ملامح الهزائم وأسبابها كما تبين لنا ومضات الانتصارات وأسبابها.

إذاً: أيها الإخوة! المقصد هو أننا عندما نرى نصراً فإننا ينبغي لنا أن ننظر إلى ما قبله، ونرى صورة الأمة وأحوالها في ذلك الوقت، وكذلك أمر الهزيمة، فإن مثل هذه الصور تبين لنا أن سبب الهزيمة التي تقع على المسلمين اليوم إنما هو بمثل هذه الأسباب التي ذكرت من ضعف قوتها العسكرية، ومن غياب القيام بالواجب من قياداتها السياسية، ومن وجود التفرقة والاختلافات والمنازعات فيما بينها، وكذلك في إعلانها للمعاصي ومجاهرتها بها، وإعلانها الحرب على الله سبحانه وتعالى بما تجهر به من معاصي، وهذا هو الذي ينبغي أن نفقهه وأن نفطن إليه، وأن نعرف توجه أعداء الأمة لترسيخ هذه المعاني والمعالم في حياة الأمة.