روح العطاء والإباء


الحلقة مفرغة

الحمد لله حمداً يليق بجلاله، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أسمع به آذاناً صماً، وفتح به قلوباً غلفاً، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، فجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون: روح العطاء والإباء قضية ينبغي أن نبثها في القلوب، وأن نشعل نارها في النفوس، سيما وقد تحدثنا في الجمعتين الماضيتين عن أمور من التقصير والتفريط أوصلت إلى اعتداءات عظيمة على الأمة ومقدساتها، وأسلفت القول أن من أسباب ذلك أسباباً تتصل بتقصيرنا وبتفريطنا، ولعل ذلك كان له وقع شديد على النفوس.

ومن هنا رأيت اليوم أن نجول في قصص متنوعة وأخبار متفرقة، يجمعها أنها كانت تبذل لدين الله وتعطي لدعوة الله، وتسخر كل ما بين أيديها ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى، ومواقف أخرى نرى فيها صلابة المواقف وثبات الأقدام وقوة الجنان في مواجهة كل ما قد يكون فيه امتهان للدين أو استحقار لقدر أهله، أو امتهان لدعوته، أو أي صورة لا يقبلها مسلم غيور أو مؤمن أبي، ولست في هذه القصص معتبراً لتاريخ متسلسل ولا لرابط معين، وإنما هي مواقف متنوعة، أحسب أن في تنوعها ما قد يربطنا بها، ويجعل لنا جميعاً حظاً منها، إذ لو قصصنا قصصاً عن العلماء فقد يقول كثير منا: نحن لسنا من العلماء، وإن قصصنا أخبار الأمراء فقد يقول كثير منا: نحن لسنا منهم، لكننا سننوع حتى يرى كل أحد منا أنه ينبغي أن يترجم حبه لدينه وغيرته عليه إلى صور من صور العطاء والإباء تبقي هذا الدين شامخاً عزيزاً، عالية رايته، خفاقة بنوده، لا يستطيع أحد مهما بلغ من قوته وجبروته وغطرسته وكبريائه أن ينال منه أو من أهله وأتباعه.

سلطان العلماء وبائع الأمراء

وأبدأ بمواقف شهيرة لرجل عظيم عرفه تاريخ الإسلام وسجل سيرته ومآثره؛ لأنه أعطى ووقف المواقف المشرفة، وهو العز بن عبد السلام ، سلطان العلماء وبائع الملوك كما اشتهر في التاريخ، رجل من أهل العلم يتوقد قلبه غيرة على الإسلام، وتفيض نفسه حمية لنصرته، وتأبى عزته وكرامته أن يذل أو أن يلين.

تلقى العلم حتى تفوق في أصوله وفروعه، ثم ولي الخطابة في الجامع الأموي بدمشق، فصار يبلغ دين الله ويحيي في القلوب المعاني الإسلامية الإيمانية العظيمة، لم تكن تأخذه في الله لومة لائم، ولا يمنعه من قولة الحق خوف مضرة.

لما وقع من أمير الشام الملك الصالح إسماعيل انحراف عظيم لوضع يده في يد النصارى المسيحيين ضد ملك المسلمين في مصر الملك الصالح أيوب ، وكان ثمن هذه الصفقة الخاسرة أن سلم للنصارى صفد وصيدا وغيرها من البلاد، فنطق لسان الحق وظهرت غيرة الإيمان، وتجلت حمية الإسلام في العز بن عبد السلام ، فأنكر ذلك وصرح به، وجلّى موقف الإسلام وأبدى أحكامه في شأن هذا الولاء للأعداء والموالاة لهم ضد المسلمين.

وحين قال كلمة الحق عزل عن خطابته، وأقصي من منصبه، فما كان منه بعد ذلك إلا أن حمل متاعه وزاده، ورأى أن لا مقام له ببلد لا يستطيع أن يقول فيه الحق ولا أن يبلغ الدين، فانطلق إلى مصر، فبلغها واستقبله ملكها وأعظم قدره ورفع مكانه، وجعله قاضي القضاة، وجعله خطيباً.

ثم لما نظر في حال مصر وجد أن جل الأمراء الذين يستعين بهم الملك الصالح هم من المماليك الذين غلبوا على الحكم في مصر، وهم أرقاء عبيد، فقال قولة الحق: إن هؤلاء لا تصح لهم ولاية، ولا يصلح منهم في حكم الشرع تصرف في بيع ولا شراء، وسارت فتاواه بذلك، وبلغت إلى نائب الحاكم في مصر وهو من أولئك المماليك، فاشتاط غضباً، ثم مضى إلى الملك الصالح أيوب يشكو هذا العالم، فاستدعاه فسمع منه ولم يعجبه قوله؛ لأنه يعني أن جل المسئولين سيكونون تحت هذه الدائرة، وكان بينهما حديث، فكأن الملك زاد في غلظة قوله بأنه ليس هذا من اختصاصك ولا من شأنك، فخرج العز بن عبد السلام ولم يصنع شيئاً، إلا أنه عزم مرة أخرى على أن يشد رحاله ويضرب في أرض الله عز وجل، وأدرك ملك مصر فداحة الأمر وخطورته، وأن ذلك سيكون له في الناس أثر عظيم، فأرسل إليه يستعطفه ويستلطفه ويعتذر منه، فقبل بشرط واحد وهو: أن يمضي حكم الله في أولئك بأن يجعل حريتهم صحيحة بطريق شرعي.

وكيف ذلك؟

بأن ينادي عليهم بيعاً ويزيد في سعرهم، فيشتريهم الملك ويشتريهم بعض من يرى ذلك فيعتقهم، ويكون المال لبيت مال المسلمين، وجرى الحراج على الأمراء، وسمي من بعد: (بائع الملوك وسلطان العلماء)، وأنفذ أمره وقرر ما حكم به شرع الإسلام، ثم كان الأمر من بعد على ما كان من أمر العز بن عبد السلام رحمه الله ورضي الله عنه.

وهذه صورة تدلنا على المواقف العظيمة التي يقفها العلماء الصادقون المخلصون الذين ملئت قلوبهم بالإيمان واليقين، فلم يكن فيها مساحة لتمتلئ بالدنيا وتعظيم أهلها، أو الخوف من أمرائها وذوي السلطان فيها، وذلك ما كان منه رحمه الله ورضي الله عنه، حتى إنه عندما دعا الظاهر بيبرس لمبايعته أعاد عليه القول في صحة حريته، فأخرج له ما يثبت ذلك، فبايعه مع عموم الناس.

وذلك أمر بين، وسمت معلوم عند من يعرف حقيقة الدين، كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) ، وكذلك ما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما قال: (أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) ، ومن قبل جاء قوله جل وعلا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] .

مهندس مسلم يفرغ نفسه لتصحيح صورة الإسلام في الغرب

وأنتقل إلى صورة أخرى بعيدة في زمانها ومكانها، وفي طبيعتها وشأنها، إنها صورة مهندس مسلم أحسب بل أكاد أجزم أن أحداً منا لا يعرف عنه شيئاً.

عاش في دولة أوروبية في أوائل القرن الماضي، وأسس مجلة سماها: (بريد الإسلام) عام (1929م)، وفرغ نفسه لتصحيح صورة الإسلام في بلاد الغرب، ومراسلة القوم مراسلة متصلة أفضت في جملة جهوده إلى أن أسلم على يده نحو أربعة آلاف نفس.

كان في بعض طرقات تلك البلد لوحات صغيرة تعلق، مكتوب عليها: لقد عرفت خطأً عن الإسلام، فإذا أردت أن تعرف الحقيقة فراسل هذا العنوان، فستأتيك الكتب والتعريفات، فتأتيه المراسلات ويراسل ويرد ويجيب ويعيد ويزيد، حتى يكون من ذلك إما إسلام، وإما معرفة حقة للإسلام وبعد عن الصورة المغلوطة والحقد الأسود.

وفي تجربته حصل أن بعض المراسلات استمرت سبعة عشر عاماً، أخبر فيها: أن رجلاً من تشيكوسلوفاكيا كان يراسله على مدى سبعة عشر عاماً، ثم زاره بعدها، وعندما لقيه قال له: إن لي عندك مفاجأة، فقال: وما هي؟ فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ففرح بذلك فرحاً عظيماً.

وأي جهد هذا الذي يبذله عندما كان يكتب، لكنه يقول: إنه راسل نحو مائة ألف شخص عبر هذه المدة الطويلة، ومن لطائف ما ذكر من القصص: أنه كان يراسل رجلاً ألمانياً، وفي هذه المراسلات ذكر له: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دعا إلى الإسلام كان أول من أسلم على يديه من الصبية والصغار: علي بن أبي طالب ، ومن الرجال: أبو بكر الصديق ، ومن النساء: خديجة رضي الله عنها، وعندما راسله وطالت المراسلات كان له ابن يطلع على بعض هذه المراسلات، وعندها قرر الأب أن يسلم، وأعلن إسلامه في مراسلته، فأرسل له هذا المهندس يهنئه ويرسل له شهادة بإسلامه، وحينئذ راسل الصبي مرة أخرى، وقال: إني أريد أن ترسل شهادة باسمي حتى أوقعها، فأرسل إليه: إنك صغير حتى تكبر وتتعرف على حقائق الإسلام، فأعاد إليه الرسالة: وهل طلب محمد صلى الله عليه وسلم من علي بن أبي طالب أن يستأني ويتريث حتى يكبر ثم يدخل في الإسلام؟! فأرسل إليه بما أراد.

وذكر قصة عن صيدلي وامرأة من الديانة الكاثوليكية المسيحية، فراسلهما وقتاً طويلاً، ثم طلبا منه أن يحضر إليهما، فأعطاهما سمته وشكله حتى يعرفاه، وعند محطة القطار ذهب معهما إلى البيت، فكان أول سؤال عند دخوله: هل أنت متوضئ؟ فأجاب بنعم، فقالا: ونحن متوضئان، فصلِّ بنا، وذلك في أول صلاة لهما.

وهكذا نجد أن جهداً من فرد واحد يثمر في بيئة غير المسلمين مثل هذه الثمار، ولا يقول أحد إنني أعجز عن مثل هذا، ولكنه تلمح الأجر وابتغاؤه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى فله أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة).

أفليس كل واحد يستطيع أن يصور صفحة من كتاب فيبعثها هنا أو هناك، أو أن يأخذ شريطاً لغيره من أهل العلم والدعوة فيرسله هنا أو هناك، أفلسنا نستطيع أن نكون من ذوي العطاء، ومن ذوي العلم، ومن ذوي القدرة على الحجة وإن لم يكن ذلك بأنفسنا فعن طريق هذه الوسائل الكثيرة التي يسرها الله لنا.

امرأة تسببت في هداية حاكم

وأنتقل إلى صفحات تاريخية أخرى، وإلى نوع آخر حتى لا يبقى لأحد خروج عن دائرة ما نتحدث عنه، أنتقل إلى دور المرأة المسلمة لنرى مواقفها، لنرى أن أهل الإسلام كلهم يتحملون المسئولية، فليس ثمة فرق بين رجل وامرأة، فكلهم يحمل هم الإسلام ويبلغ دعوته ويذود عنه، ليس هناك فرق بين صغير ولا كبير، فلقد رأينا صغار الصحابة كيف كانوا يتنافسون ليدخلوا في صفوف المجاهدين وهم في نعومة أظفارهم وأول بلوغهم.

امرأة كانت سبباً في هداية حاكم، كان أحمد بن طولون حاكم مصر في زمن مضى، وفي أول عهده كان ظلوماً غشوماً، وفي سطوة جبروته وسكوت كثيرين عن الإنكار عليه خوفاً منه، اعترضت طريقه امرأة وسلمته ورقة هذا نصها:

ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وأنعم الله عليكم ففسقتم، ووردت عليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نافذة غير مخطئة -وتعني بذلك دعوات المظلومين- لا سيما من قلوب أجعتموها وأكباد أوجعتموها، اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا بالله مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

فوقعت الكلمات في نفسه موقعاً، وعاد من ظلمه عادلاً، وحسنت سيرته في الناس.

أفكان يعجز أن يقول هذا عالم مخلص أو داعية صادق أو رجل جريء، أفكان يعجز عن مثل هذا عموم الأمة حتى انتدبت له امرأة سجل التاريخ كلماتها وموقفها، وذلك دليل إخلاص وتجرد، فإن قول الحق ابتغاء وجه الله عز وجل ونصرة لدينه قد يكون له من الأثر أبلغ وأعظم مما قد يظن صاحبه.

وهنا أستحضر لكم حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه وسنده حسن، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة) ، فلنكن من هذه الغراس التي تستعمل في طاعة الله.

لو أن كلاً منا قال كلمة، أو منا كتب رسالة، أو وقف موقفاً، أو رفع دعوة، أو سكب دمعة، أو زفر زفرة بحرقة؛ لوجدنا كثيراً من الخير يعم، ولوجدنا كثيراً من الحق يصل إلى الآذان ويبلغ القلوب، فلا بد من روح العطاء ولا بد كذلك من روح الإباء.

الخليفة الخامس: عمر بن عبد العزيز

وأنتقل إلى صورة أخرى، فإن الخير في أمة الإسلام في كل إنسان، وهذه صورة لحاكم عادل منصف قائم بحق الله في رعيته، إنه الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز ، وكلكم يعرف خبره، وهذه ومضة من ومضات سيرته العطرة:

عندما تولى الخلافة في أول أمره جاءه أقرباؤه من بني أمية يسلمون عليه ويباركون له ويهنئونه، وينتظرون منه الأعطيات والولايات، كما كان الشأن في عهد من سبقه، وكما درج على ذلك ملوك بني أمية، فوقف عمر بن عبد العزيز وقال: أتحبون أن أولي كل رجل منكم على جند من هذه الأجناد؟ فإني أجعلكم قواداً للجيوش المجاهدة في شرق الأرض وغربها، فسكتوا ونطق أحدهم: قال: ومالك تعطينا ما لا تأخذ لنفسك؟

أي: لم تجد لنا من الولايات إلا قيادة الجيوش التي فيها ما فيها من النصب وإزهاق الأرواح وسفك الدماء؟! فالتفت عمر بن عبد العزيز وقال: أترون بساطي هذا، إني أعلم والله إنه إلى بلى؛ لكني لا أريد أن تطئوه لئلا تدنسوه بما أنتم عليه، فكيف أكره ذلك وأكره أن تدنسوه علي بأرجلكم ثم أوليكم ديني وأوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم تحكمون فيهم، هيهات هيهات! فقالوا له: لمه؟ أما لنا قرابة؟ أما لنا حق؟ فقال: ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء، إلا رجل حبسه عني طول الشقة.

ولقد كان للأمراء وحكام المسلمين في عصور مختلفة دائماً وأبداً أمثلة رائعة، ليس في الزمن الغابر فحسب، بل حتى في أزمان متأخرة، كما كان من أوران الذيب عالم كبير في الهند، وكما كان من صديق خان في بهبال وفي غيرها من البلاد التي أثمرت تلك المواقف العظيمة.

العلامة عاطف أفندي

ثم أنتقل بكم إلى صور أخرى يتجلى فيها أثر الإباء والاستعلاء بصورة أكبر وأكثر، حتى نرى أن العطاء له أثر، ولكن ربما كان لموقف إباء آثار أعظم من كثير من العطاء؛ لأن الإباء يدل على أن المؤمن الحق لا يرضى ولا يقبل أن يعطي الدنية في دينه.

أتاتورك الذي حارب الإسلام وقوض الخلافة وأعلن العلمانية، وغرب بلاد الإسلام، وفعل الأفاعيل في وقته، وفي زمانه خضعت كثير من الرقاب له وخافت من سطوته، لكن أبطالاً من العلماء وأئمة من أفذاذ الدعاة وقفوا له، ومنهم عالم مغمور السيرة لا يكاد يعرفه أحد، هو الشيخ الإمام عاطف أفندي.

قف هذا الإمام ضد هذه الموجة العاتية مع نفر قليل من العلماء أمثاله، فأصدر حينئذ الفتاوى التي تعلن وجوب إقامة الخليفة المسلم، وأن ذلك ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، في الوقت الذي قوضت فيه الخلافة، ثم أصدر رسالة أسماها: (التستر الشرعي)، تختص بشأن المرأة المسلمة وأحكام حجابها وضرورة حيائها، وأهمية عفتها في الوقت الذي نزع فيه الحجاب وأبيح الخمر وغير ذلك.

ثم سطر رسالة في تقليد الفرنجة ولبس القبعة؛ لأنه قد ألغي لباس المسلمين وصار محرماً بحكم القانون، فمن كان يلبس لباس أهل الإسلام أو لباس العلماء يحال إلى المحكمة ويسجن، وهذا يصدر رسالة يفتي بها بأن التقليد للغرب على سبيل التعظيم قد يخرج صاحبه من الملة، وعلى سبيل الافتتان معصية كبيرة، وما كان له بعد ذلك أن يترك، فقد أخذ وسجن وحوكم وحكم عليه بالإعدام وأعدم لقوله الحق في شأن قبعة أنكر على من يلبسها تعظيماً لغير أهل الإسلام وتبكيتاً لأهل الإسلام.

وهكذا سنجد الصور كثيرة، وهي عديدة حتى في زمننا الحاضر، وأردت بهذا التطواف اليسير أن ندرك تماماً أننا إذا أذكينا هذه الروح فسنجد أنهاراً متدفقة تبلغ كلمة الله وتبلغ دين الله عز وجل، وسنجد أيضاً سدوداً منيعة تقف أمام كل من تسول له نفسه أن يجترئ على حكم من أحكام الشريعة، أو أن يستهين بسنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم.

لماذا إذا وجدنا شيئاً من ذلك لم تكن لنا ألسنة ناطقة ولا أيد كاتبة؟

لم لا نوصل أصواتنا ونوصل آراءنا ونوصل غضبتنا إلى كل من يحتج أو يعترض أو ينتقد فضلاً عمن يستهين أو يهين شيئاً من شعائر الإسلام؟

لو فعلنا ذلك لرأينا عجباً من أمور حياتنا.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

وأبدأ بمواقف شهيرة لرجل عظيم عرفه تاريخ الإسلام وسجل سيرته ومآثره؛ لأنه أعطى ووقف المواقف المشرفة، وهو العز بن عبد السلام ، سلطان العلماء وبائع الملوك كما اشتهر في التاريخ، رجل من أهل العلم يتوقد قلبه غيرة على الإسلام، وتفيض نفسه حمية لنصرته، وتأبى عزته وكرامته أن يذل أو أن يلين.

تلقى العلم حتى تفوق في أصوله وفروعه، ثم ولي الخطابة في الجامع الأموي بدمشق، فصار يبلغ دين الله ويحيي في القلوب المعاني الإسلامية الإيمانية العظيمة، لم تكن تأخذه في الله لومة لائم، ولا يمنعه من قولة الحق خوف مضرة.

لما وقع من أمير الشام الملك الصالح إسماعيل انحراف عظيم لوضع يده في يد النصارى المسيحيين ضد ملك المسلمين في مصر الملك الصالح أيوب ، وكان ثمن هذه الصفقة الخاسرة أن سلم للنصارى صفد وصيدا وغيرها من البلاد، فنطق لسان الحق وظهرت غيرة الإيمان، وتجلت حمية الإسلام في العز بن عبد السلام ، فأنكر ذلك وصرح به، وجلّى موقف الإسلام وأبدى أحكامه في شأن هذا الولاء للأعداء والموالاة لهم ضد المسلمين.

وحين قال كلمة الحق عزل عن خطابته، وأقصي من منصبه، فما كان منه بعد ذلك إلا أن حمل متاعه وزاده، ورأى أن لا مقام له ببلد لا يستطيع أن يقول فيه الحق ولا أن يبلغ الدين، فانطلق إلى مصر، فبلغها واستقبله ملكها وأعظم قدره ورفع مكانه، وجعله قاضي القضاة، وجعله خطيباً.

ثم لما نظر في حال مصر وجد أن جل الأمراء الذين يستعين بهم الملك الصالح هم من المماليك الذين غلبوا على الحكم في مصر، وهم أرقاء عبيد، فقال قولة الحق: إن هؤلاء لا تصح لهم ولاية، ولا يصلح منهم في حكم الشرع تصرف في بيع ولا شراء، وسارت فتاواه بذلك، وبلغت إلى نائب الحاكم في مصر وهو من أولئك المماليك، فاشتاط غضباً، ثم مضى إلى الملك الصالح أيوب يشكو هذا العالم، فاستدعاه فسمع منه ولم يعجبه قوله؛ لأنه يعني أن جل المسئولين سيكونون تحت هذه الدائرة، وكان بينهما حديث، فكأن الملك زاد في غلظة قوله بأنه ليس هذا من اختصاصك ولا من شأنك، فخرج العز بن عبد السلام ولم يصنع شيئاً، إلا أنه عزم مرة أخرى على أن يشد رحاله ويضرب في أرض الله عز وجل، وأدرك ملك مصر فداحة الأمر وخطورته، وأن ذلك سيكون له في الناس أثر عظيم، فأرسل إليه يستعطفه ويستلطفه ويعتذر منه، فقبل بشرط واحد وهو: أن يمضي حكم الله في أولئك بأن يجعل حريتهم صحيحة بطريق شرعي.

وكيف ذلك؟

بأن ينادي عليهم بيعاً ويزيد في سعرهم، فيشتريهم الملك ويشتريهم بعض من يرى ذلك فيعتقهم، ويكون المال لبيت مال المسلمين، وجرى الحراج على الأمراء، وسمي من بعد: (بائع الملوك وسلطان العلماء)، وأنفذ أمره وقرر ما حكم به شرع الإسلام، ثم كان الأمر من بعد على ما كان من أمر العز بن عبد السلام رحمه الله ورضي الله عنه.

وهذه صورة تدلنا على المواقف العظيمة التي يقفها العلماء الصادقون المخلصون الذين ملئت قلوبهم بالإيمان واليقين، فلم يكن فيها مساحة لتمتلئ بالدنيا وتعظيم أهلها، أو الخوف من أمرائها وذوي السلطان فيها، وذلك ما كان منه رحمه الله ورضي الله عنه، حتى إنه عندما دعا الظاهر بيبرس لمبايعته أعاد عليه القول في صحة حريته، فأخرج له ما يثبت ذلك، فبايعه مع عموم الناس.

وذلك أمر بين، وسمت معلوم عند من يعرف حقيقة الدين، كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) ، وكذلك ما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما قال: (أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) ، ومن قبل جاء قوله جل وعلا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] .