شهر القلوب


الحلقة مفرغة

الحمد لله الرحيم الرحمن، الكريم المنان، ذي الفضل والإحسان، اختص رمضان بنزول القرآن، وجعل صيامه من أسباب الغفران، وجعل له اختصاصاً بدخول عباده إلى الجنان، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فها نحن نتفيأ ظلال الإيمان ونسائم الجنان في رحاب رمضان، ولعلنا نشعر بهذه التغيرات التي هبت على قلوبنا فأحيتها، وعلى نفوسنا فطهرتها، ولا شك أننا في حاجة إلى مزيد من التنبيه والتركيز والتذكير الذي يعظم فوائدنا وعوائدنا من هذه الفريضة العظيمة وهذا الموسم الجليل.

رمضان شهر القلوب، والإنسان فيه ثلاث قوى: قوة العقل والفكر، وقوة البدن والجسد، وقوة القلب والروح، وكل منها يحتاج إلى غذاء ورعاية وعناية، وكل زيادة في جانب منها تعد حيفاً وظلماً ونقصاً في الجوانب الأخرى، ولا أعتقد أنك تخالفني الرأي في أن حظ أجسادنا وتفكير عقولنا في أمور حياتنا استغرق نصيباً وافراً من الأوقات والجهود، وأن حظ القلوب والأرواح أقل، بل ربما كان أقل من القليل، بل ربما غاض حتى كاد أن ينوي وينتهي، فتهب علينا هذه النسائم، وتمر بنا تلك النفحات، ويكرمنا الله عز وجل بمثل هذه المواسم حتى يتم الاستدراك ويكون التوازن، فحظنا في هذا الشهر أن نجعله شهر القلوب والأرواح لا شهر الأبدان والأشباح، أن نجعله الشهر الذي يؤكد لنا ما جاء به ديننا من أن الأعظم والأكثر أهمية في حياة المؤمن إنما هو قلبه وروحه، إنما هو إخلاصه وتجرده، إنما هو قصده ونيته، ليست الأمور بظواهرها، ولا الأعمال بأشكالها، بل كما قال الحق جل وعلا: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].

قال القرطبي رحمه الله: خص القلب بالذكر لأنه الذي إذا سلم سلمت الجوارح، وإذا فسد فسدت الجوارح.

وكلنا يحفظ حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) وكلنا يدرك تماماً هذا المعنى وأن القلب السليم هو الخالص من الأوصاف الذميمة، والمتحلي بالأوصاف الجميلة، وكما بين ذلك الشعبي فقال: الذي يسلم من الشرك والشك، ومحبة الشر، والإصرار على البدعة والذنوب.

ويلزم من سلامته مما ذكر اتصافه بأضدادها -وتأمل الأضداد فإنها موضع حديثنا- من الإخلاص والعلم واليقين، ومحبة الخير وتزيينه في قلبه، وأن تكون إرادته ومحبته تبعاً لمحبة الله، وأن يكون هواه تبعاً لما جاء عن الله، وصدق الله: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].

أفلسنا حينئذ ندرك تماماً عظمة أهمية القلب والروح، وما يتعلق بهما من الأعمال من الإخلاص والمحبة والتوكل والإنابة والرضا وغير ذلك؟!

تأمل حديث أبي هريرة عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) قلوبكم محل نظر الله عز وجل، ما فيها من خير تضمرونه ونية خالصة تنطوي عليها، قلوبكم تلك التي لها آثارها، وكلنا يعلم ذلك.

قال ابن القيم رحمه الله: لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العمل واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض، ذاك قلب ذاكر يصلي وهو معلق القلب بالله، وذاك قلب غافل ساه لاه، ذاك قلب مخلص وذاك قلب مرائي، فالعمل واحد والنتيجة مختلفة، بينها وبين الأخرى كما بين المشرق والمغرب.

الإخلاص والتعلق بالله

انظر إلى هذا الشهر كيف يسكب في قلوبنا المعاني العظيمة المهمة التي نحن في أمس الحاجة إليها!

أولاً: الإخلاص والتعلق، إخلاص لله، وتعلق به، وحسن صلة دائمة بالارتباط بذكره وطاعته وعبادته، ففي الحديث:(كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) إنه عمل خالص لله عز وجل، هو أبعد ما يكون عن الرياء؛ إذ ليس له آثار ومظاهر يمكن أن يرائي بها الإنسان، هو عمل لا تجرحه ولا تتركه إلا مخافة من الله عز وجل؛ إذ يمكن أن تفطر ولا يراك أحد، وأن تجرح صومك ولا يشعر بك أحد، لكن الذي يمنعك أنك عالم موقن بأن الله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، وأنت موقن بأنه جل وعلا هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ذلك الذي يمنعك، يبث ويزيد وينمي ويغرس هذا الإخلاص في قلبك لله سبحانه وتعالى، وأنت حينئذ معلق القلب بالله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7].

في هذا الشهر الجليل وهذه العبادة العظيمة زادك من الإيمان كبير، وحرصك على إحياء قلبك بمعانيه وأعماله عظيم جداً، وحال غيرك في غير هذه العبادة، بل حالك أنت في غير هذه العبادة كان ربما على غير ذلك، أو -على أقل تقدير- دون ذلك، وكل تعلق للقلب بغير الله عز وجل محبة وهوى هو نوع من طمس نور القلب ووأد حقيقة الإيمان فيه، كما أخبر الحق جل وعلا عن بني إسرائيل بقوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93] أي: أشربوا حبه والتعلق به، فلم تعد قلوبهم محبة لله جل وعلا ولا متعلقة به.

فهذا الشهر العظيم شهر للتدرب والتعود والتأكد من تجريد القلب من كل قصد سوى الله، ومن إخلاص النية أن تكون فيها شائبة لغير الله، ومن عظيم التعلق بالله عز وجل، فنحن في هذا الصوم منذ انشقاق الفجر إلى غروب الشمس إلى سواد الليل إلى تكرار اليوم ما نزال مستشعرين هذه المعاني، حياتنا صلة دائمة بالله عز وجل، قلوبنا عامرة بذكره وبالاتصال به سبحانه وتعالى، فنحن نصوم نهارنا ونتسحر ليلنا، ونبقى في سائر شهرنا متصلين بالله عز وجل على هذه العبادة.

الرقة والرحمة

الرقة والرحمة: كم قست القلوب غفلة عن ذكر الله، وإعراضاً عن تلاوة كتابه سبحانه وتعالى، وإيغالاً في كثير من الأعمال المحرمة الآثمة التي تطفئ أنوار القلب وتذهب رقته، والله جل وعلا قد امتدح رسوله صلى الله عليه وسلم بتلك الرحمة القلبية فقال: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] ، كم هي قاسية تلك القلوب التي لا تتعظ ولا تدكر! تسمع الآيات وكأنها لا تؤمن بها أو لا تعرف معانيها، أو لا تلقي لها بالاً، نسمع الذكرى والموعظة فلا تتهيج النفوس ولا تتحرك القلوب، ثم نرى صور القسوة جفاءً في المعاملة، وشدة مع المسلمين والإخوان، بل نوعاً من الخصومة والمكر والكيد، والحرب والشحناء والبغضاء التي كأنما لم تسمح ولم تفسح في القلوب لرقة ولا رحمة، نسأل الله عز وجل السلامة.

إذا تأملنا ذلك ندرك حقيقة الإيمان، وأنه هو جوهر تلك الرحمة والرقة التي تفيض على غير المؤمنين قبل المؤمنين؛ لأننا نرى أن الكافر قد استوجب سخط الله عز وجل، فنرحمه لكي ننقذه من هذا الكفر الذي هو فيه، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعل الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار). أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

المحبة والمودة

كم رأينا الآيات التي تذكر لنا الوصف القلبي الرحيم الذي يريد الخير للناس في قلب محمد صلى الله عليه وسلم: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6] لعلك -يا محمد صلى الله عليه وسلم- مهلك نفسك، تتبع القوم، وتأتي إلى مجالسهم لتخرجهم من الظلمات إلى النور، لتخرجهم من الكفر إلى الإيمان، لتخرجهم من الجحود إلى اليقين.

تلك القلوب الرحيمة يصب فيها هذا الصوم الرقة والرحمة فتلين، سواء أكان لينها بلين العبادة والطاعة والذكر، أم كان لينها بلين المحبة والألفة والأخوة: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر:22] قال ابن كثير : هل يستوي هذا ومن هو قاسي القلب بعيد عن الحق، وقوله: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي: فلا تلين لذكره، ولا تخشع، ولا تعي، ولا تفهم.

فهذا حظنا من شهرنا، رقة ورحمة تفيض بها القلوب، ثم تأتي من بعد ذلك الأخوة والألفة التي تفيض مياه محبتها ومودتها في القلوب، فنرى الأواصر وهي تمتد، ونرى الصلات وهي تزداد، ونرى الرحم وهي توصل، ونرى البِشر ونرى المحبة وهي تفيض، نرى صوراً تمنع تلك الشحناء والبغضاء، لماذا؟

لأن هذه العبادة فيها صلة بالله، وفيها شعور بألم الجوع والحرمان، وفيها رجاء رحمة الله عز وجل، (الراحمون يرحمهم الرحمن)، فمن أراد أن يتعرض لرحمة الله فليعرض نفسه إلى رحمة عباده، فيكون حينئذ مهيأ القلب لذلك، ولعلنا ندرك تماماً المنة العظمى التي امتن بها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم عندما خاطبه في شأن أصحابه: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:62-63] تلك القلوب والمحبة التي كانت صورة نموذجية في حياة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم اقتسموا الأموال والديار، يوم اختلطوا كأنما أخوتهم أعظم وأقوى من أخوة الرحم واللحم والدم والنسب، وذلك الذي صاغه الإيمان يتجدد في مثل هذه الفريضة؛ لأننا نشعر تماماً بحقيقة هذه الأخوة والألفة والمحبة من هذا الوجه.

الخوف والخشية

ووجه آخر -أيضاً- ينسكب في قلوبنا من أثر هذه العبادة الجليلة، هو الخوف والخشية، خوف الله وخشيته؛ لأننا مع الطاعة والعبادة نتذكر ما سلف من التفريط والتقصير، نتذكر كلما دعونا الله في صلواتنا وفي سجودنا تلك الذنوب والآثام، نخشى من آثارها وأضرارها، نخشى من عدم غفرانها ومحوها، فما تزال قلوبنا متقلبة بين هذا وذاك، روى الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت -أي: في مرض الموت-، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟ فقال الشاب: والله -يا رسول الله- إني لأرجو الله وأخاف ذنوبي. فقال صلى الله عليه وسلم: ما يجتمعان في قلب عبد مؤمن في مثل هذا الموقف إلا أعطاه الله ما يرجوه وآمنه مما يخافه) ، ألسنا نشعر ونحن في هذه الفريضة العظيمة والعبادة الجليلة بشيء من رجاء يعظم كلما تلونا وكلما ذكرنا وكلما دعونا؟ كأنما نستشعر رحمة الله ومغفرته، كأنما نريد أن ننالها بأيدينا، كأن أشواق قلوبنا وآمال نفوسنا معلقة حقيقة بهذه الرحمة والمغفرة، ونحن نستحضر ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إذا بقي الثلث الأخير من الليل فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ وذلك الدهر كله) ألا تتوق نفوسنا؟ ألا تشتاق قلوبنا؟ ألا تتعلق أرواحنا؟ ألا نستشعر بأن قلوبنا تحس هذه المعاني من تعلقها برجاء الله وخوفها من معصية الله أكثر مما نكون عليه في غير هذا الموسم العظيم والعبادة العظيمة؟!

إنها نفحات القلوب، يصبها هذا الشهر العظيم فيها: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] ، كم نسمع في هذا الشهر من ذكر الله؟! كم نتلو من آيات الله؟! كم نشعر بأن قلوبنا تخفق خوفاً أو تتحرك رجاءً من هذه المعاني التي نتصل بها؟ وذلك من رحمة الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61] كل يوم ندعو ونقول: اللهم! تقبل صيامنا وقيامنا، نعمل ونحن في خوف أن لا يقبل منا، أليست هذه من مشاعر الإيمان؟!

قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة لما قرأت هذه الآية وقالت: (هو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر يا رسول الله؟ قال: لا يا ابنة الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخشى أن لا يقبل منه) ونحن اليوم -بحمد الله- نشعر بذلك، نصلي ونصوم ونتصدق ونقول: اللهم! اقبلنا. اللهم! اقبلنا. نخاف أن لا تقبل أعمالنا، كما قال الحسن رحمه الله: لقد أدركت أقواماً هم أخوف منكم من أن تحاسبوا على سيئاتكم من أن تقبل منهم أعمالهم أي: كان خوفهم من قبول الأعمال أعظم من خوفنا على محاسبتنا على الآثام. وذلك أمر عظيم في شأن القلوب متى وجد فيها، فإنه كما قال الله عز وجل: أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61] ومعنى ذلك أنك تكثر من صيامك، وتزيد من صلاتك، وتعظم من نفقتك، ثم بعد ذلك ترى أنك لم تعمل شيئاً، وترى أنك ما زلت تأمل في قبول الله عز وجل، فما تزال تعمل وتعمل، وما تزال تتحين تعرضك لرحمة الله وكثرة دعائك له ورجائك في قبول عملك عنده، وهذه كلها فيوض إيمانية قلبية لا نشعر بها كما نشعر بها في هذا الشهر العظيم وهذا الصوم الجليل، فلنتنبه لذلك ولنحرص عليه.

الطهارة والنقاء

طهارة القلوب ونقاؤها أمر عظيم، كم في القلوب من ظلمة سوداء من أثر المعصية! كم في القلوب من مشاعر حسد ومشاعر منافسة بين أهل الإيمان لا تنبغي ولا ينبغي أن يكونوا عليها؟! فهذه صورة كبيرة، فكيف تتطهر قلوبنا؟ طهارتها هي الطريق إلى العفة عن المحارم، والبعد عن المآثم، تلك هي الطريق التي بها تشرق أنوار القلوب، روى حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء.

وأيما قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى يصيرا على قلبين: أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) نكتة سوداء من منكر أو معصية، ثم أخرى وليس ثمة استغفار ولا توبة، فلا جلاء ولا نقاء ولا صفاء، فما تزال النقاط السوداء حتى يظلم القلب نسأل الله عز وجل السلامة.

وإشراقة القلب تكون باجتناب المعصية، فإنه صقل وتطهير لذلك القلب: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53] طهارة القلوب عفة الجوارح، غض بصر، وإغضاء سمع، وإمساك لسان، وضبط جوارح، كل ذلك يؤدي إلى تلك الطهارة وذلك النقاء؛ لأن أي انحراف إنما مصبه ومرده إلى القلب، العين تنظر إلى المحرم والقلب يظلم، الأذن تسمع إلى الإثم والقلب يظلم، الأيدي تأخذ ما لا يحل والقلب يظلم، فما يزال يظلم ويظلم حتى تنطمس أنواره، نسأل الله عز وجل السلامة.

روى النسائي في سننه من حديث أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد) وفي رواية أخرى عند النسائي في سننه وعند أحمد في مسنده: (الشح والإيمان) تلك المشاعر التي نخرج بها اليوم أموالنا، والتي نبذل فيها مشاعرنا من المحبة هي نوع من التعليم والتعويد والتربية والتزكية للقلوب لتخرج منها تلك الأوضار وتلك الأقذار وتلك الأكدار التي هي شح أو حسد، أو هي ظلمة من آثار تلك المعاصي، نسأل الله عز وجل السلامة.

التذكر والتدبر

التذكر والتدبر كم نحن في حاجة إليهما! كم هي شواغل الدنيا التي جعلت قلوبنا غافلة لاهية ساهية لا تكاد تدكر ولا تعتبر! أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، فنحن في هذه العبادة خير منا -بحمد الله- فيما قبلها؛ لأننا نقرأ القرآن كثيراً، ونجتهد في تدبره؛ لأن كثرة القراءة ملجئة إلى ذلك، نعتكف فلا يكون لنا وقت إلا وقت العبادة، فما نزال إما نصلي وإما نقرأ، وإما نتذكر أو نعتبر، فكل ذلك يعين على هذا، ونحن نعظم صلتنا بكتاب الله سبحانه وتعالى بوجوه كثيرة، منها الحفظ، والمراجعة والتلاوة وقراءة التفسير، أو سماع دروس العلم أو المواعظ، كلها تتصل بهذا المعنى فتحيي موات القلوب بإذن الله، وصدق الله تعالى حين قال: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، وتأمل قول الله عز وجل في شأن المعرضين الذين لا تنتفع قلوبهم بذكرى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:2]، فكم نحن نلعب! وكم نلهو! وكم نشتغل بأمور لعلي أوجز بعضاً منها فيما يأتي!

نحن نجعل قلوبنا في غفلة وسهو ولهو ولغو لا ينبغي أن تكون عليه، وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى بحديثه العظيم الذي رواه أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه)، ولذلك نحتاج إلى هذا المعنى العظيم وكل هذه المعاني، ويضاف إليها الطمأنينة والسكينة، فهي من آثار هذه العبادة؛ لأن كثيراً من تلك المعاني التي تحيي القلوب وتبث فيها هذه الخيرات مقرونة بالعبادات والطاعات، والإقبال على الله الذي نشهده في هذا الشهر: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] ونحن نذكر الله عز وجل.

الاستقامة والثبات

في شهر رمضان نستقيم -بحمد الله- ليس يوماً ولا يومين، بل شهراً كاملاً، بل من عقل ووعى وادكر كان لأثر هذه العبادة استمرار في استقامته بإذن الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى جعل من دعائنا في كتابه: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8] استقامت قلوبنا على الطاعات، شعرنا بتلك الوصية التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم) شعرنا بالثبات كما في قوله تعالى: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14]، نشعر أن قلوبنا مثبتة بالإيمان واليقين، فلنحمد الله عز وجل على ذلك، ولنشعر بأن هذه المعاني هي الخلاصة العظيمة التي ينبغي أن نحرص عليها في هذه العبادة.

نسأل الله عز وجل أن يعمر قلوبنا بالإيمان، وأن يرسخ فيها اليقين، وأن يجعل قلوبنا متعلقة به سبحانه وتعالى، وأن يملأها بحبه والرضا بقضائه وقدره والإنابة إليه والخوف منه ورجائه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

انظر إلى هذا الشهر كيف يسكب في قلوبنا المعاني العظيمة المهمة التي نحن في أمس الحاجة إليها!

أولاً: الإخلاص والتعلق، إخلاص لله، وتعلق به، وحسن صلة دائمة بالارتباط بذكره وطاعته وعبادته، ففي الحديث:(كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) إنه عمل خالص لله عز وجل، هو أبعد ما يكون عن الرياء؛ إذ ليس له آثار ومظاهر يمكن أن يرائي بها الإنسان، هو عمل لا تجرحه ولا تتركه إلا مخافة من الله عز وجل؛ إذ يمكن أن تفطر ولا يراك أحد، وأن تجرح صومك ولا يشعر بك أحد، لكن الذي يمنعك أنك عالم موقن بأن الله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، وأنت موقن بأنه جل وعلا هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ذلك الذي يمنعك، يبث ويزيد وينمي ويغرس هذا الإخلاص في قلبك لله سبحانه وتعالى، وأنت حينئذ معلق القلب بالله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7].

في هذا الشهر الجليل وهذه العبادة العظيمة زادك من الإيمان كبير، وحرصك على إحياء قلبك بمعانيه وأعماله عظيم جداً، وحال غيرك في غير هذه العبادة، بل حالك أنت في غير هذه العبادة كان ربما على غير ذلك، أو -على أقل تقدير- دون ذلك، وكل تعلق للقلب بغير الله عز وجل محبة وهوى هو نوع من طمس نور القلب ووأد حقيقة الإيمان فيه، كما أخبر الحق جل وعلا عن بني إسرائيل بقوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93] أي: أشربوا حبه والتعلق به، فلم تعد قلوبهم محبة لله جل وعلا ولا متعلقة به.

فهذا الشهر العظيم شهر للتدرب والتعود والتأكد من تجريد القلب من كل قصد سوى الله، ومن إخلاص النية أن تكون فيها شائبة لغير الله، ومن عظيم التعلق بالله عز وجل، فنحن في هذا الصوم منذ انشقاق الفجر إلى غروب الشمس إلى سواد الليل إلى تكرار اليوم ما نزال مستشعرين هذه المعاني، حياتنا صلة دائمة بالله عز وجل، قلوبنا عامرة بذكره وبالاتصال به سبحانه وتعالى، فنحن نصوم نهارنا ونتسحر ليلنا، ونبقى في سائر شهرنا متصلين بالله عز وجل على هذه العبادة.