ثلاثيات


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.

فله الحمد سبحانه وتعالى كما نقول وكما يقول، وخيراً مما نقول، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، نحمده حمداً كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه سبحانه وتعالى.

والصلاة والسلام الأتمان الدائمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

أما بعد:

فيا أيها الإخوة الكرام! أحمد الله جل وعلا أن جدد لنا العهد بهذا اللقاء المبارك في هذا اليوم المبارك في هذه الساعة المباركة في هذا المكان المبارك، ولقد كانت لنا من فضله جل وعلا ومنه وتوفيقه دروس عديدة في مثل هذا اليوم من كل أسبوع، وقد طال العهد بها قليلاً، وها نحن نصل الحاضر بما مضى، ونجعله بإذن الله عز وجل أساساً وبداية وصلة مستمرة فيما نستقبل من الأيام بمشيئة الله تعالى.

ولا شك أن مثل هذه المجالس يعم نفعها، وأول المنتفعين بها المتحدث الذي يفكر في الموضوع اختياراً، ثم يسعى لجمع مادته والبحث عن مضمونه في مظان مختلفة، ثم يجاهد نفسه في إخلاص النية وفي تحرير القصد لوجه الله عز وجل، وينتفع السامعون بما يمر بهم من آيات الله عز وجل وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف، وتجارب الحياة، وكثير من الفوائد التي لا يستغني عنها مسلم وإن كان يعلمها؛ لقول الحق جل وعلا: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].

وينتفع بها الجميع؛ لكونها في بيوت الله، ولكونها المجالس التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها من رياض الجنة، وأن الملائكة تتنزل عليها، وأن الرحمة تغشاها، ونحن نحسن الظن بالله، ونعظم الرجاء فيه أن تكون مجالسنا من هذا النوع، فعسى الله عز وجل أن يتغمدنا بواسع رحمته، وأن ينزل علينا ملائكته، وأن ينزل في قلوبنا سكينته سبحانه وتعالى، وهذا لقاؤنا مع الدرس الثلاثين بعد المائة الأولى في يوم الجمعة السابع عشر من شهر ذي القعدة، عام (1416هـ) وعنوانه (ثلاثيات).

وقد رأيت في أول استئناف لهذا الدرس أن يكون موضوعه متنوعاً، وكما يقولون: فيه من كل بستان وردة، ومن كل بحر قطرة، حتى يكون أرغب للنفوس، وأقرب إلى القلوب، وحتى يتجدد النشاط الذي كان لنا، فإذا شرعنا في الموضوعات العميقة أو الدقيقة ربما عرضت بعض الاعتراضات كما مر في بعض الدروس السالفة.

وهذه الثلاثيات متنوعة في مضامينها وموضوعاتها، وفي نسبتها وإسنادها، وفي عمقها ودقتها، والذي يجمعها أمر واحد فحسب، وهو أن في كل قول منها وفي كل مسألة منها ثلاثة أفرع، أو ثلاثة جوانب، وقد قسمت هذا الموضوع أيضاً إلى ثلاثة أقسام حتى لا نخل بالثلاثيات التي فيه: ثلاثيات من الكتاب والسنة، وثلاثيات من الآثار والأخبار والحكم، وثلاثيات من تجارب الحياة.

نبدأ بثلاثيات من الكتاب والسنة، نقف مع بعضها وقفات مختصرة موجزة؛ لأن الغرض هو ما فيها من التنبيه والتوجيه، وما يقع فيه بعض منا من الأخطاء، وعدم مراعاة مثل هذه الجوانب.

الاستئذان في ثلاثة أوقات

يقول الحق سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:58].

فهذه الآية تذكر حكماً من أحكام الاستئذان الفرعية، جعله الله عز وجل مخصوصاً بالعبيد وبالأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، لكنهم مع ذلك صاروا مميزين يعرفون العيب من غيره، ويعرفون بعض الحق من الباطل، ويعرفون ما يستحيا منه وما لا يستحيا منه.

ولذلك ذكر بعض أهل العلم استنباطاً من هذه الآية أن ثبوت الاستئذان وتكراره ثلاثاً مأخوذ من هذه الآية وهي قوله تعالى: (ثَلاثَ مَرَّاتٍ). قال بعض أولئك: أي ثلاث دفعات، أي يستأذن ثلاث مرات، وهذا استنباط غير صحيح، بل الغالب الذي قاله أهل العلم كما نقله القرطبي عن ابن عبد البر : أن قوله: (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي: في ثلاثة أوقات متفرقة، أما الاستئذان ثلاثاً فإنه وارد ثابت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (من استأذن ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع) .

وليست هذه الآية موضع هذا الاستنباط بتكرار الاستئذان في الوقفة الواحدة.

ثم قال القرطبي في تفسيره في علة التخصيص بالإماء والصغار، وعلة التخصيص بهذه الأوقات أدب الله عز وجل عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها.

أي: الأدب مخصوص بالعبيد؛ لأنهم لا يؤبه لهم؛ لكثرة ترددهم في بيوت الناس وخدمتهم لهم، قد لا يتحفظون منهم.

ونعلم أن هناك أحكاماً فقهية تختص بالعبيد والإماء، منها: أحكام تتعلق بجواز كشف العورات إلى حدود معينة، ومع ذلك جاء هذا الاستئذان؛ لأن هذه الأوقات كما سيأتي لها خصوصية معينة، والأطفال بطبيعة صغر سنهم قد لا يكترثون ولا يعبئون بالدخول والخروج، ولا يتنبهون إلى ما قد يقع من أثر ذلك من انكشاف العورات؛ لأن الناس يستصغرونهم، وهذا من بلايا ورزايا عصرنا الحاضر، أن كثيراً من الناس ينظر إلى الغلام، فيقول: إنه صغير وهو ابن خمس، ثم يقول: إنه صغير وهو ابن سبع، ثم ما زال يستصغره وهو ابن عشر، ثم تجد بعض الناس قد يكون الابن قد بلغ الخامسة عشرة وهو ما زال ينظر إليه على أنه صغير، وترى بعض النساء قد لا تتحرج منه ولا تحتجب منه، وهذا من التفريط.

وكذلك في أمر الفتيات والبنات؛ فإن كثيراً من الناس سهل عليهم الأمر ولم يراعوا مثل هذه الآداب، وتجد أنهم يستصغرون الفتاة وهي ابنة تسع وابنة عشر، وربما تكون أكثر من ذلك، وما يزالون يرونها صغيرة، لا يؤدبونها بالآداب الشرعية، ولا يلزمونها الحجاب ونحو ذلك.

ثم يقول القرطبي : علمهم هذا الأدب أن يستأذنوا على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة؛ لأنها الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها، وملازمة التعري.

أي: من عادة الإنسان أن يخلع ثيابه في تلك الأوقات، وقد يكون في وضع النوم أو نحو ذلك، فلا يتحرج من انكشاف عورته، فقبل الفجر وقت انتهاء النوم، وهو خروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار، ووقت ما بعد الظهيرة هو الوقت الذي يخلع فيه المرء ثياب النهار ويلبس ثياب البيت للراحة والقيلولة، وكذلك وقت ما بعد العشاء، فإنه وقت الاستعداد للنوم وتغيير الثياب، ولبس الخفيف منها مما لا يستثقله الإنسان، ولا يتحفظ منه في داخل بيته وبين أهله، فمن ثم جاء الاستئذان وتأكيده على هؤلاء الذين قد لا يكون الاستئذان عليهم واجباً في كل وقت، وإنما خص بهذه الأوقات لهذه المعاني.

وهذه وقفة أولى، وكما قلت: وقفاتنا متنوعة ولا يجمعها إلا هذه الثلاثيات، وفي الآيات غير هذا وإن كان غير مصرح به، لكني اكتفيت بهذه الآية.

ثلاث دعوات مستجابات

أما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فالأحاديث في هذا الشأن أيضاً كثيرة، نذكر بعضاً منها مما يحصل التنبيه عليه والتذكير به، فهذا حديث أبي هريرة يرويه البيهقي في شعب الإيمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر).

وفي رواية عند البزار من حديث أبي هريرة أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة حق على الله ألا يرد لهم دعوة: الصائم حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع). قال الهيثمي عن بعض رجاله: لا أعرفه، وبقية رجاله ثقات.

هذا الحديث يخبرنا عن القطع بإجابة دعوة ثلاثة أصناف من الناس متلبسين بثلاثة أحوال، والغرض الذي نريد التنبيه عليه هو: لم جعل هذا الوعد والقطع بإجابة الدعاء لأولئك النفر الثلاثة أو الأنواع الثلاثة: الصائم حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع؟!

لو سألنا سؤالاً: ما هو الأمر المشترك بين هؤلاء الثلاثة، الذي هو سر وعد الله عز وجل بإجابة الدعاء؟ نقول: السر في هذا هو كمال التجرد لله سبحانه وتعالى، والانقطاع عن الأسباب والخلق؛ لأن الله سبحانه وتعالى واحد فرد صمد، ويحب وحدانيته من عباده، ويحب إخلاص العبد له في عبوديته، وكلما كان القلب أكثر انقطاعاً عن الدنيا وعن الناس وعن الأسباب، وأكثر وثوقاً وتعلقاً بالله سبحانه وتعالى، وأعظم تجرداً له جل وعلا، كان ذلك دليلاً على عظمة الإيمان وصدق التوكل وكمال الثقة بالله عز وجل وشدة الافتقار له سبحانه وتعالى.

والعبودية إنما هي بمزيد التذلل والخضوع والانكسار والافتقار، والبراءة من الحول والطول، والاستناد إلى حول الله وقوته.

وهذا ابن القيم في فوائده يبين أن كل وجه من وجوه النقص في الإنسان يقابله وجه من وجوه الكمال، فكلما شعر المرء بنقص فيه، طلب ما عند الله سبحانه وتعالى بما له من صفات الكمال حيث يقول: ركبت من العجز لتنظر إلى عظيم قدرة الله سبحانه وتعالى، وركبت من الفقر لتنظر إلى عظيم غنى الله سبحانه وتعالى، وركبت من الضعف لتنظر إلى عظيم قوة الله سبحانه وتعالى.

وهكذا كل ضعف فيك فهو مقابل للكمال المطلق عند الله سبحانه وتعالى، وهنا الصائم أساس عبادته كما نعلم لله؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).

فهو مخلص لله عز وجل حيث تجرد وتنزه عن شهوته وعن طعامه وشرابه إخلاصاً لله عز وجل، ومحص النية له سبحانه وتعالى، وعلق الأسباب به، وترك حاجة فرجه وحاجة بطنه وحاجة أنسه وراحته لله جل وعلا، وتعلق به أوثق تعلق.

والمظلوم لو كان بيده أن ينتصر من ظالمه لفعل، لكنه غالباً ما يكون مغلوباً على أمره عاجزاً أن يرد هذا الظلم ممن بغى عليه وبطش به وتكبر وتجبر عليه؛ لضعفه، فحينئذ هذا الضعيف لم يجد في قوته ولا في قوة غيره من ينصره ويرد عنه الظلم، وقد سدت في وجهه الأبواب، وأظلمت في وجهه الدنيا، وربما انتهك شيء من عرضه، وربما أهين في شرفه، وربما استلب ماله، فلم يجد أمامه طريقاً ولا باباً إلا باب السماء يطرقه، وإلا باب الدعاء يلهج به لله سبحانه وتعالى، ولسان حاله يقول: لئن عدمت قوة الأرض ولئن عدمت أسباب البشر، فإن قوة الله عز وجل وأسبابه لا تعدم، فيصل حباله بالسماء، ويمد يديه بالدعاء، ويكون قد انكسر في نفسه من أثر ما وقع عليه من الظلم، وشعر بشدة فقره وعظيم احتياجه وشدة لجئه لله سبحانه وتعالى.

ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله في المجلد الأول من فتاويه فيما قد يقع على الإنسان من البلاء فيدعو الله عز وجل بكشف البلاء، قال: وربما أخر الله عز وجل إجابة دعائه، فما يزال يدعو ويلح ويناجي وينادي حتى يجد من أثر لذة المناجاة وحلاوة الدعاء ما هو أعظم مما كان يسأله من تفريج البلاء، وهذه من ألوان العبودية، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الدعاء مخ العبادة)، وقال: (الدعاء هو العبادة) كما في حديث آخر.

وهذا يدلنا على عظمة هذا الأمر.

قوله: (والمسافر حتى يرجع) أيضاً المسافر كما قال المناوي في فيض القدير: لأنه مستوفز مضطرب، قلما يسكن إلا إلى الرحل والترحال، وهو على وجل من الحوادث، فهو كثير الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، فسره منفصل عن الأغيار، ومتعلق بالجبار.

أي: عن غير الله عز وجل، فالمسافر في جزع؛ لأنه ليس مستقراً مطمئناً، ويشعر أيضاً بالخوف من الطريق حتى مع وسائل النقل الحديثة، لو تأمل الإنسان وتدبر لوجد أن الذي يركب الطائرة معلق بين السماء والأرض، ما بين غمضة عين وانتباهتها لا يدري ما يحدث الله عز وجل في هذه الوسائل، ونحن نسمع عن سقوط الطائرات، وعن تحطم القطارات ونحو ذلك، لكن غفلت القلوب وسهت العقول، نسأل الله السلامة والعافية.

إذاً: السفر ليس فيه طمأنينة، وإنما فيه نوع من الخوف والوجل، يجعل القلب دائماً يحتاج إلى الركون والسكون، فلا ركون ولا سكون إلا إلى الله سبحانه وتعالى، فترى المسافر يدعو الله عز وجل بالسلامة، ويدعو الله عز وجل ببلوغ المنزل ووصول مبتغاه.

وهكذا الإنسان في هذه الدنيا مسافر، فلو حقق ما يكون في سفره المعتاد في دنياه من التعلق بالله والخوف والوجل وعدم الاستقرار والطمأنينة والركون إلى هذه الدنيا، لكان حقاً مسافراً إلى الله وإلى رضوانه سبحانه وتعالى وطلب مبتغاه؛ لأن المسافر ينبغي ألا يكون ساكناً بل مضطرباً، وألا يكون على طمأنينة بل خائفاً، وكذلك لو كنت في هذه الدنيا على هذا المعنى لكان لك إجابة دعاء مستمرة.

فإذا كان هو في أثناء السفر القصير وعد بالإجابة، فإذا جعلت دنياك كلها دار سفر، وكنت فيها على هيئة المسافر، فإنه يرجى بإذن الله عز وجل أن تكون مجاب الدعوة دائماً.

ثلاث مهلكات

ننتقل إلى حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عمر ، وهو حديث يشمل عدداً من الثلاثيات، قال فيه عليه الصلاة والسلام: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات: فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه.

وأما المنجيات: فالعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية.

وأما الكفارات: فانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء على السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات.

وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام) حديث حسن رواه الطبراني في معجمه الأوسط.

وهو حديث عظيم النفع غزير المعاني، فقوله: (فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) أما الهوى فإنه يهوي بصاحبه، والهوى: هو ميل الطبع والنفس إلى مشتهاها ولذتها ومرادها، والنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، وفي النفوس فطرة وميل لبعض المحبوبات من الأمور المذمومة أو المحرمة، والهوى لا يختص بالمأخوذات والمتناولات من الملذات والشهوات، بل يدخل في أمور العلم، وفي أمور الآراء، وفي أمور الأفكار، فإن صاحب الهوى لجوج متبع لمقتضى مراده وإن خالف الحق والعياذ بالله سبحانه وتعالى.

إن الذي يتفكر في هذه المعاني الكثيرة يجد أن أمرها جد خطير، فالنبي عليه الصلاة والسلام بدأ بالتحذير من المهلكات والتخويف من شرها وضررها، فقال: (وهوى متبع) أي: هذا الهوى يتبعه صاحبه وإن خالف الحق.

قوله: (وشح مطاع) والشح: هو البخل، والنفس في طبعها بعض الحرص، وفي طبعها شيء من الطمع، وفي طبعها حب التملك، قال الله عز وجل: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120].

هذا في أصله ليس بمذموم، لكن المذموم هو الشح المطاع بأن يطيع نفسه فيما يتعلق بهذا الشح، كأن يمنع حق الله سبحانه وتعالى من الزكاة، أو من الصدقة، أو من أداء الدين أو نحو ذلك، فهذا الشح المطاع هو الذي يطيعه صاحبه في منع الحقوق التي أوجبها الله عز وجل في ماله.

إذاً: الشح المذموم هو الذي يقع في الممارسة العملية به منع للحقوق، والشح إذا أطاعه صاحبه وقع في هذه المهلكة، وأنت ترى كل من غلبته نفسه في شأن البخل وفي شأن الشح أنه مذموم عند الناس، وكيف أن الهم والغم قد أثرا في نفسه، ولا يهنأ بنعمة الله عز وجل له، ولا بماله، فترى البخيل عنده الأموال، لكنه لا ينفق منها على نفسه، بل يقتر على نفسه وعلى أهله، فتكون النعمة عليه نقمة والعياذ بالله، هذا في الدنيا، أما ما وراء ذلك في الآخرة فالأمر أعظم وأشد.

والأمر أيضاً على التدرج؛ لأن في آخره يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (وإعجاب المرء بنفسه) وهذه داهية دهياء ومصيبة عمياء.

الغرور والإعجاب بالنفس فيه مآخذ عدة منها:

أن المغتر متكبر، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر).

ومنها: غمط الناس وانتقاص أقدارهم، وهذا ظلم آخر وتعد آخر وجرم ومعصية أخرى.

ومنها: غمط الحق كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم الكبر، أي: التعالي عن الحق وإن ظهر دليله وإن سطع برهانه.

ومنها: أن الإعجاب بالنفس يقود والعياذ بالله إلى اللجاج، وقد قال الله سبحانه وتعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] هل جحدوا لنقص في الأدلة، أو لعدم وجود المعجزة، أو لعدم شيء مما يحتاجون إليه من برهان نفسي أو مادي؟!

لم يكن من ذلك شيء؛ لأنهم قد وجدوا الأدلة والبراهين متنوعة في كل وقت وآن، ومع ذلك ما صدهم عن اتباع أمر الله والدخول في الإيمان بالله إلا كبر النفوس والإعجاب والغرور، كما روي عن أبي جهل عليه لعنة الله أنه قال: كنا وبنو هاشم كفرسي رهان، كان لهم كذا فلنا كذا، ولهم كذا فلنا كذا، أي من الشرف، قال: حتى إذا تجاثينا على الركب وتساوينا قالوا منا نبي؛ فمن أين لنا بنبي، فوالله لا نصدقه الدهر كله.

فالمسألة مسألة عناد ولجاج، ومسألة إعجاب وغرور، وكذا قال أصحاب مسيلمة الكذاب : والله لكاذب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر.

هكذا قالوا اتباعاً للأهواء، وإعجاباً بالآراء، قال القرطبي في معنى قوله: (وإعجاب المرء بنفسه): هو ملاحظة لها بعين الكمال والاستحسان، أي: ينظر إلى نفسه بعين العجب والغرور.

ثم يقول: أما الكلام فليس أعلى منها في البلاغة، وأما الأفعال فليس أعلى منها في الحكمة، وأما الأحوال فليس أعلى منها في الرتبة، فلا يفعل شيئاً، ولا يقول شيئاً، ولا يحجم عن شيء إلا وهو يرى أنه قد أتى وفعل ما هو في غاية الكمال والاستحسان، مع نسيان منة الله عز وجل.

فإذا وقع نظره على غير احتقره، وهو الكبر.

وقال الغزالي رحمه الله: أحذرك ثلاثاً من خبائث القلب هي الغالبة على متفقهة العصر: وهي الحسد، والرياء، والعجب، فاجتهد في تطهير قلبك منها، فإن عجزت عن ذلك فأنت عن غيره أعجز، ولا تظن أنه يسلم لك نية صالحة في تعلم العلم وفي قلبك شيء من الحسد والرياء والعجب، أما الحسد فهو الذي يشق عليه إنعام الله على عبد من عباده بمال أو علم أو محبة أو حظ حتى يحب زوالها عنه، وإن لم يحصل له شيء، فهو المعذب الذي لا يرحم أبداً.

وسمعت مرة للشيخ القطان حفظه الله كلاماً جميلاً يقول فيه: الحسود لا يمكن أن يرتاح؛ لأن نعم الله عز وجل دائماً في نزول على الناس، فإذا نزلت نعمة على هذا حسده، واهتم لها قلبه، وانشغل بها فكره، وأظلمت لها نفسه، فإذا زالت جاءت نعمة أخرى، فلا يزال هو في شقاء وفي عذاب مستمر لا ينقطع من أجل هذا الأمر والعياذ بالله، ولذلك ينبغي أن يتنبه الإنسان إلى هذه المآخذ والمسالك.

ثم هذا الإعجاب كما قلنا يئول بالمرء إلى الاعتزاز برأيه، وعدم الانصياع للحق، وهذا أمر ينبغي التنبه له.

ثلاث منجيات

وأما المنجيات فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العدل في الغضب والرضا) ومن كان عادلاً في الغضب والرضا، فمعنى ذلك أن حكمه كان للحق وليس للهوى، وأن حكمه كان للعدل وليس لذات النفس؛ لأن من كان يحكم لنفسه أو لهواه، فإن حكمه سيتغير بين هذه الحالة وبين تلك، ولذا يقول المناوي : فإذا عدل فيهما صار القلب ميزاناً بالحق، لا يستفزه الغضب، ولا يميل به الرضا، فكلامه للحق لا للنفس، وهذا عجيب جداً.

أي: وهذا عجيب جداً في الواقع، كم من الناس من ينصفك من نفسه إذا كان الحق عليه؟! وكم من الناس يعدل إذا كان في العدل فوات بعض مصلحته؟!

ولذلك كان من كلام عمر بن عبد العزيز في وصف الرجل الحق: أنه إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل.

وهذا لا يكون إلا بإيمان صادق، والتزام دقيق، ومراقبة لله عز وجل شديدة، والنفوس ميالة إلى ملذاتها وشهواتها، بل حتى أحياناً قد يظلم الظالم في حكمه، ويجنح عن العدل، لا لمصلحة نفسه، ولكن لمصلحة قريب أو حبيب أو صاحب، وهكذا يضيع العدل، وإذا ضاع العدل وجد الظلم، وإذا وجد الظلم وجدت الشحناء والبغضاء، وإذا وجدت الشحناء والبغضاء، كان الاختلاف والاختصام، وإذا وجد هذا كان التنازع والاقتتال، وضاعت سمة أهل الإسلام، سمة الأخوة والإنصاف.

ولذلك نبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله: (والقصد في الغنى والفقر) القصد هو التوسط في الإنفاق، سواءً كان غنياً أو فقيراً، ودائماً التقديم للأولى، فإذا عدل في الغضب فمن باب أولى أنه سيعدل في الرضا، وإذا اقتصد في الغنى فمن باب أولى أنه سيقتصد في الفقر، والاقتصاد لب المعيشة كما يقولون، وبعض الناس ابن يومه، فإذا جاءته نعمة أو جاءه بعض المال ذهب مباشرة واشترى به كذا وكذا وبدد المال، فإذا جاء اليوم الثاني لم يكن عنده ما ينفقه، لأنه ما ادخره في أمسه حتى يكون نافعاً له في يومه، وكذلك أمر الإسراف.

والإسراف: هو وضع الشيء في غير موضعه، أو السفه الذي فيه تجاوز للحد الذي يتعارف عليه الناس مما يكون فيه تبديد للنعمة ووضع لها في غير موضعها، ولذلك قال الله عز وجل: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:27].

وقال الله عز وجل: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5] ولذلك جاء الحجر على السفهاء الذين لا يحسنون التصرف في الأموال، ونحن نرى اليوم صوراً من ذلك عجيبة في دنيا المسلمين، قرأت في جريدة المدينة في الأسبوع الماضي مقالاً للدكتور عبد القادر طاش أسماه (عبث المليونيرات) والعهدة على كلامه، وهو يقول إنه نقل من بعض المصادر، ذكر فيه أن رجلاً من المسلمين تبرع بأربعة آلاف مليون جنيه لأحد نوادي الكرة في بريطانيا، ولو كان هذا المبلغ كله غير صحيح، ولكن عشره صحيح، ولو حتى واحد بالمائة منه صحيح، أليس هذا من السفه؟ أليس هذا من العبث؟

فهكذا يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم إذا أراد النجاة في الدنيا فليحسن التصرف على هذا النهج الاقتصادي البديع، وذلك بأن يأخذ المال من حقه وأن يضعه وينفقه في حقه، حينئذ ينال النجاة والفلاح في الدنيا والآخرة، بهذا النهج الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: (وخشية الله بالسر والعلانية) معلوم أنه إذا خشي الله في السر فسيخشاه في العلن.

قال بعض أهل العلم: وفيه ذم لإظهار الخشية مع خلو الباطن منها، وورد عن عائشة رضي الله عنها أنها لما رأت فتية يمشون متماوتين متمسكنين قالت: (من هؤلاء؟ قالوا: عباد نساك، قالت: كان عمر إذا قال أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وكان والله هو الناسك حقاً).

ورأى ابن مسعود رجلاً مُطأطئاً رقبته، أي: متخشعاً كما قد نرى في صور بعض منا أحياناً، فقال له: (يا صاحب الرقبة! ارفع رقبتك إنما الخشوع خشوع القلب) أي: الخشية الحقيقية هي مراقبة الله في السر، وبعد ذلك يظهر أثرها تلقائياً في العلن، فهذه المنجيات.

ثلاث كفارات

وأما الكفارات فهي ما يكفر بها الذنوب، وقد قال عليه الصلاة والسلام في شأنها: (انتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء على المكاره) وفي بعض الروايات: (على السبرات). أي: في شدة البرد.

سبرات على وزن سجدات.

قوله: (ونقل الأقدام إلى الجماعات). ولو تأملنا أيها الإخوة الأحبة في هذه الكفارات لوجدنا أنها كلها تتصل بالصلاة، من انتظار لها واستعداد لها بالوضوء، وانتقال إليها إلى المسجد، وهذا يدل على تعظيم شأن الصلاة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أرأيتم لو أن نهراً غمراً يجري في باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا).

ثلاث درجات

قوله: (وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام).

إذاً: هذه فيها حكمة أيضاً؛ لأن جزءاً كبيراً منها يتعلق بالعبادات المتعدية التي تنتقل إلى الآخرين، مثل إطعام الطعام للفقراء وللمحتاجين وللضيوف، فهذا من رفع الدرجات عند الله عز وجل.

قوله: (وإفشاء السلام) أي: على من عرفت ومن لم تعرف، فهذا حق من حقوق المسلم على المسلم.

قوله: (والصلاة بالليل والناس نيام) هذا غالباً لا يكون إلا عن إيمان وقصد في الطاعة، وقصد في رضا الله عز وجل؛ لأن الناس نائمون، أي: قد قضوا حاجاتهم فسكنوا إلى بيوتهم، أو تعبوا فركنوا إلى راحتهم وهكذا.

ثلاثة حق على الله عونهم

ننتقل إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه أبو هريرة ، وهو في مسند الإمام أحمد وفي سنن الترمذي والنسائي وهو عند الحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه أيضاً عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف) .

أركز في هذا الحديث على معنيين؛ لأن المكاتبة ليست موجودة في عصرنا كثيراً، ومعناها أن العبد يكاتب سيده على مال حتى يشتري نفسه ويعتقها.

المعنى الأول: أن الله عز وجل تكفل بعون المجاهد الذي يقصد إعلاء كلمة الله عز وجل، فإن تخلينا عنه فنحن الذين نخسر؛ لأن الله سبحانه وتعالى معينه وإن عارضه الآخرون وضيقوا عليه سبل الجهاد، ولأنهم في آخر الأمر سيتحقق فيهم وعد الله جل وعلا: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].

إذاً: إذا أراد المجاهد أن يجاهد في سبيل الله، فالله عز وجل سيسهل له ويعينه وييسر عليه بإذنه سبحانه وتعالى، فإن نازعته نفسه أو ركنت به إلى الدنيا أعانه الله، وإن نازعته الزوجة والأبناء أعانه الله، وإن شق عليه أمر الجهاد أعانه الله، وإن وجد من معاداة الأعداء شدة وبلاءً أعانه الله، وإن وجد من بعض إخوانه أو بعض المسلمين أو المتمسلمين خذلاناً ونكوصاً أعانه الله، ففي كل مرحلة عون الله عز وجل متحقق.

المعنى الثاني: قوله: (والناكح يريد العفاف) أي: يعف نفسه عن الحرام الذي حرمه الله سبحانه وتعالى، وقد أفاض العلماء في هذه الخصلة على وجه الخصوص؛ لأنها من الأمور الجبلية الفطرية المتكررة، والجهاد لا يكون مستمراً متكرراً، والمكاتبة تكون مرة واحدة ويعتق بعدها العبد، أما هذا فغالباً ما يكون الأمر مستمراً معه حتى يتحقق له الحلال الذي يعف به نفسه.

ثلاثة لا يدخلون الجنة

نختم أيضاً ثلاثيات الكتاب والسنة بحديثه عليه الصلاة والسلام، الذي يرويه الطبراني في معجمه، من حديث عمار بن ياسر ، ويرويه البيهقي في الشعب والحاكم في المستدرك، لكن من حديث ابن عمر ، قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا يدخلون الجنة أبداً: الديوث، والرجلة من النساء، ومدمن الخمر). أما رواية ابن عمر في المستدرك فقال: (العاق لوالديه، والديوث، ورجلة النساء).

نعرف حرمة الخمر فلا نحتاج إلى التوسع في ذلك، أما عقوق الوالدين فأمره عظيم، لكن ما ابتلينا به أكثر أو ما ظهر التساهل والترخص فيه أكثر هو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الديوث) وهو الذي يرى السوء في أهله فيتغافل عنه أو يرضى به.

ولذلك قال ابن القيم : هذا الحديث يدل على أن أصل الدين الغيرة، فمن لا غيرة له لا دين له.

الذي لا يغار لحرمات المسلمين التي تنتهك، ولا لأرضهم التي تستلب، ولا لشعائر الدين التي تحارب، هذا الذي ليس في قلبه غيرة ولا حمية ليس في قلبه دين، ولذلك تجد مثل هذا يرى السوء في أهله ثم لا ينكره أو يتغافل عنه أو يرضى به.

وهذا وللأسف متحقق في بعض بيئات المسلمين، فترى الرجل قد يرى زوجته وهي حاسرة الرأس، عارية الذراعين، مكشوفة الساقين، قد تلطخت بما جملت به نفسها، ثم إذا به يقدمها لأصدقائه ويعرفهم عليها، أو يفعل ما لا يمكن أن يقال في مثل هذا المقام، وهؤلاء ولا شك أنهم معنيون بهذا الحديث ومقصودون به، ويشملهم شمولاً أولياً ظاهراً بيناً لا شك فيه؛ لأن هذا هو التعريف الذي ذكره العلماء، وأصله من ديوثة الإبل أو الجمل إذا روضته وذللته بحيث يكون ذليلاً يقبل ما تريد منه، وكذا هذا الديوث الذي يرى السوء في أهله، أو يرى مخالفة أهله لأمر الله فيتهاون، ويروض نفسه حتى يتعايش مع هذه المنكرات والعياذ بالله!

قال العلماء في هذا: من كان يظن بأهله الفاحشة ويتغافل لمحبتها، فيصدق فيه هذا الوصف، ولذلك يقول ابن القيم : أصل الدين الغيرة، ومن لا غيرة له لا دين له، والغيرة تحمي القلب وتحمي الجوارح، وترفع السوء والفواحش، وعدمها يميت القلب، فتموت الجوارح، فلا يبقى عندها دفع -أي: للمنكرات- والغيرة في القلب كالقوة التي تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت القوة كان الهلاك.

قوله: (والرجلة من النساء)، أي: المسترجلة من النساء، أو المتشبهة بالرجال، قال المناوي في فيض القدير: المتشبهة بالرجل في الزي والمهنة، لا في الرأي والحكمة؛ فإن مشابهة المرأة للرجل في الرأي والحكمة والعلم أمر محمود مطلوب.

ولذلك تجد بعض النساء تريد أن تتشبه بالرجال لا في العلم ولا في الحكمة، ولا في مواضع الخير التي يشترك فيها الرجال والنساء، وإنما تتشبه بالرجال في اللباس، وفي الاختلاط، وفي المهنة.

ونحن نعرف أيضاً أن هذا الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم صار منتشراً في كثير من بيئات المسلمين، وخاصة البيئات الإعلامية، فتراهم يفتخرون ويقولون: أول امرأة عربية أو مسلمة تفعل كذا وكذا، أو تعمل في مجال كذا وكذا من المجالات التي لا تصلح إلا للرجال، ولا يمكن أن تتحقق إلا بالاختلاط ونحو ذلك، ثم يجرون معها المقابلات، ويسألونها عن تجربتها وريادتها، والصعوبات التي واجهتها، إلى آخر ذلك مما نعرفه أيضاً.

يقول الحق سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:58].

فهذه الآية تذكر حكماً من أحكام الاستئذان الفرعية، جعله الله عز وجل مخصوصاً بالعبيد وبالأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، لكنهم مع ذلك صاروا مميزين يعرفون العيب من غيره، ويعرفون بعض الحق من الباطل، ويعرفون ما يستحيا منه وما لا يستحيا منه.

ولذلك ذكر بعض أهل العلم استنباطاً من هذه الآية أن ثبوت الاستئذان وتكراره ثلاثاً مأخوذ من هذه الآية وهي قوله تعالى: (ثَلاثَ مَرَّاتٍ). قال بعض أولئك: أي ثلاث دفعات، أي يستأذن ثلاث مرات، وهذا استنباط غير صحيح، بل الغالب الذي قاله أهل العلم كما نقله القرطبي عن ابن عبد البر : أن قوله: (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي: في ثلاثة أوقات متفرقة، أما الاستئذان ثلاثاً فإنه وارد ثابت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (من استأذن ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع) .

وليست هذه الآية موضع هذا الاستنباط بتكرار الاستئذان في الوقفة الواحدة.

ثم قال القرطبي في تفسيره في علة التخصيص بالإماء والصغار، وعلة التخصيص بهذه الأوقات أدب الله عز وجل عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها.

أي: الأدب مخصوص بالعبيد؛ لأنهم لا يؤبه لهم؛ لكثرة ترددهم في بيوت الناس وخدمتهم لهم، قد لا يتحفظون منهم.

ونعلم أن هناك أحكاماً فقهية تختص بالعبيد والإماء، منها: أحكام تتعلق بجواز كشف العورات إلى حدود معينة، ومع ذلك جاء هذا الاستئذان؛ لأن هذه الأوقات كما سيأتي لها خصوصية معينة، والأطفال بطبيعة صغر سنهم قد لا يكترثون ولا يعبئون بالدخول والخروج، ولا يتنبهون إلى ما قد يقع من أثر ذلك من انكشاف العورات؛ لأن الناس يستصغرونهم، وهذا من بلايا ورزايا عصرنا الحاضر، أن كثيراً من الناس ينظر إلى الغلام، فيقول: إنه صغير وهو ابن خمس، ثم يقول: إنه صغير وهو ابن سبع، ثم ما زال يستصغره وهو ابن عشر، ثم تجد بعض الناس قد يكون الابن قد بلغ الخامسة عشرة وهو ما زال ينظر إليه على أنه صغير، وترى بعض النساء قد لا تتحرج منه ولا تحتجب منه، وهذا من التفريط.

وكذلك في أمر الفتيات والبنات؛ فإن كثيراً من الناس سهل عليهم الأمر ولم يراعوا مثل هذه الآداب، وتجد أنهم يستصغرون الفتاة وهي ابنة تسع وابنة عشر، وربما تكون أكثر من ذلك، وما يزالون يرونها صغيرة، لا يؤدبونها بالآداب الشرعية، ولا يلزمونها الحجاب ونحو ذلك.

ثم يقول القرطبي : علمهم هذا الأدب أن يستأذنوا على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة؛ لأنها الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها، وملازمة التعري.

أي: من عادة الإنسان أن يخلع ثيابه في تلك الأوقات، وقد يكون في وضع النوم أو نحو ذلك، فلا يتحرج من انكشاف عورته، فقبل الفجر وقت انتهاء النوم، وهو خروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار، ووقت ما بعد الظهيرة هو الوقت الذي يخلع فيه المرء ثياب النهار ويلبس ثياب البيت للراحة والقيلولة، وكذلك وقت ما بعد العشاء، فإنه وقت الاستعداد للنوم وتغيير الثياب، ولبس الخفيف منها مما لا يستثقله الإنسان، ولا يتحفظ منه في داخل بيته وبين أهله، فمن ثم جاء الاستئذان وتأكيده على هؤلاء الذين قد لا يكون الاستئذان عليهم واجباً في كل وقت، وإنما خص بهذه الأوقات لهذه المعاني.

وهذه وقفة أولى، وكما قلت: وقفاتنا متنوعة ولا يجمعها إلا هذه الثلاثيات، وفي الآيات غير هذا وإن كان غير مصرح به، لكني اكتفيت بهذه الآية.

أما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فالأحاديث في هذا الشأن أيضاً كثيرة، نذكر بعضاً منها مما يحصل التنبيه عليه والتذكير به، فهذا حديث أبي هريرة يرويه البيهقي في شعب الإيمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر).

وفي رواية عند البزار من حديث أبي هريرة أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة حق على الله ألا يرد لهم دعوة: الصائم حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع). قال الهيثمي عن بعض رجاله: لا أعرفه، وبقية رجاله ثقات.

هذا الحديث يخبرنا عن القطع بإجابة دعوة ثلاثة أصناف من الناس متلبسين بثلاثة أحوال، والغرض الذي نريد التنبيه عليه هو: لم جعل هذا الوعد والقطع بإجابة الدعاء لأولئك النفر الثلاثة أو الأنواع الثلاثة: الصائم حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع؟!

لو سألنا سؤالاً: ما هو الأمر المشترك بين هؤلاء الثلاثة، الذي هو سر وعد الله عز وجل بإجابة الدعاء؟ نقول: السر في هذا هو كمال التجرد لله سبحانه وتعالى، والانقطاع عن الأسباب والخلق؛ لأن الله سبحانه وتعالى واحد فرد صمد، ويحب وحدانيته من عباده، ويحب إخلاص العبد له في عبوديته، وكلما كان القلب أكثر انقطاعاً عن الدنيا وعن الناس وعن الأسباب، وأكثر وثوقاً وتعلقاً بالله سبحانه وتعالى، وأعظم تجرداً له جل وعلا، كان ذلك دليلاً على عظمة الإيمان وصدق التوكل وكمال الثقة بالله عز وجل وشدة الافتقار له سبحانه وتعالى.

والعبودية إنما هي بمزيد التذلل والخضوع والانكسار والافتقار، والبراءة من الحول والطول، والاستناد إلى حول الله وقوته.

وهذا ابن القيم في فوائده يبين أن كل وجه من وجوه النقص في الإنسان يقابله وجه من وجوه الكمال، فكلما شعر المرء بنقص فيه، طلب ما عند الله سبحانه وتعالى بما له من صفات الكمال حيث يقول: ركبت من العجز لتنظر إلى عظيم قدرة الله سبحانه وتعالى، وركبت من الفقر لتنظر إلى عظيم غنى الله سبحانه وتعالى، وركبت من الضعف لتنظر إلى عظيم قوة الله سبحانه وتعالى.

وهكذا كل ضعف فيك فهو مقابل للكمال المطلق عند الله سبحانه وتعالى، وهنا الصائم أساس عبادته كما نعلم لله؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).

فهو مخلص لله عز وجل حيث تجرد وتنزه عن شهوته وعن طعامه وشرابه إخلاصاً لله عز وجل، ومحص النية له سبحانه وتعالى، وعلق الأسباب به، وترك حاجة فرجه وحاجة بطنه وحاجة أنسه وراحته لله جل وعلا، وتعلق به أوثق تعلق.

والمظلوم لو كان بيده أن ينتصر من ظالمه لفعل، لكنه غالباً ما يكون مغلوباً على أمره عاجزاً أن يرد هذا الظلم ممن بغى عليه وبطش به وتكبر وتجبر عليه؛ لضعفه، فحينئذ هذا الضعيف لم يجد في قوته ولا في قوة غيره من ينصره ويرد عنه الظلم، وقد سدت في وجهه الأبواب، وأظلمت في وجهه الدنيا، وربما انتهك شيء من عرضه، وربما أهين في شرفه، وربما استلب ماله، فلم يجد أمامه طريقاً ولا باباً إلا باب السماء يطرقه، وإلا باب الدعاء يلهج به لله سبحانه وتعالى، ولسان حاله يقول: لئن عدمت قوة الأرض ولئن عدمت أسباب البشر، فإن قوة الله عز وجل وأسبابه لا تعدم، فيصل حباله بالسماء، ويمد يديه بالدعاء، ويكون قد انكسر في نفسه من أثر ما وقع عليه من الظلم، وشعر بشدة فقره وعظيم احتياجه وشدة لجئه لله سبحانه وتعالى.

ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله في المجلد الأول من فتاويه فيما قد يقع على الإنسان من البلاء فيدعو الله عز وجل بكشف البلاء، قال: وربما أخر الله عز وجل إجابة دعائه، فما يزال يدعو ويلح ويناجي وينادي حتى يجد من أثر لذة المناجاة وحلاوة الدعاء ما هو أعظم مما كان يسأله من تفريج البلاء، وهذه من ألوان العبودية، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الدعاء مخ العبادة)، وقال: (الدعاء هو العبادة) كما في حديث آخر.

وهذا يدلنا على عظمة هذا الأمر.

قوله: (والمسافر حتى يرجع) أيضاً المسافر كما قال المناوي في فيض القدير: لأنه مستوفز مضطرب، قلما يسكن إلا إلى الرحل والترحال، وهو على وجل من الحوادث، فهو كثير الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، فسره منفصل عن الأغيار، ومتعلق بالجبار.

أي: عن غير الله عز وجل، فالمسافر في جزع؛ لأنه ليس مستقراً مطمئناً، ويشعر أيضاً بالخوف من الطريق حتى مع وسائل النقل الحديثة، لو تأمل الإنسان وتدبر لوجد أن الذي يركب الطائرة معلق بين السماء والأرض، ما بين غمضة عين وانتباهتها لا يدري ما يحدث الله عز وجل في هذه الوسائل، ونحن نسمع عن سقوط الطائرات، وعن تحطم القطارات ونحو ذلك، لكن غفلت القلوب وسهت العقول، نسأل الله السلامة والعافية.

إذاً: السفر ليس فيه طمأنينة، وإنما فيه نوع من الخوف والوجل، يجعل القلب دائماً يحتاج إلى الركون والسكون، فلا ركون ولا سكون إلا إلى الله سبحانه وتعالى، فترى المسافر يدعو الله عز وجل بالسلامة، ويدعو الله عز وجل ببلوغ المنزل ووصول مبتغاه.

وهكذا الإنسان في هذه الدنيا مسافر، فلو حقق ما يكون في سفره المعتاد في دنياه من التعلق بالله والخوف والوجل وعدم الاستقرار والطمأنينة والركون إلى هذه الدنيا، لكان حقاً مسافراً إلى الله وإلى رضوانه سبحانه وتعالى وطلب مبتغاه؛ لأن المسافر ينبغي ألا يكون ساكناً بل مضطرباً، وألا يكون على طمأنينة بل خائفاً، وكذلك لو كنت في هذه الدنيا على هذا المعنى لكان لك إجابة دعاء مستمرة.

فإذا كان هو في أثناء السفر القصير وعد بالإجابة، فإذا جعلت دنياك كلها دار سفر، وكنت فيها على هيئة المسافر، فإنه يرجى بإذن الله عز وجل أن تكون مجاب الدعوة دائماً.

ننتقل إلى حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عمر ، وهو حديث يشمل عدداً من الثلاثيات، قال فيه عليه الصلاة والسلام: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات: فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه.

وأما المنجيات: فالعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية.

وأما الكفارات: فانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء على السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات.

وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام) حديث حسن رواه الطبراني في معجمه الأوسط.

وهو حديث عظيم النفع غزير المعاني، فقوله: (فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) أما الهوى فإنه يهوي بصاحبه، والهوى: هو ميل الطبع والنفس إلى مشتهاها ولذتها ومرادها، والنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، وفي النفوس فطرة وميل لبعض المحبوبات من الأمور المذمومة أو المحرمة، والهوى لا يختص بالمأخوذات والمتناولات من الملذات والشهوات، بل يدخل في أمور العلم، وفي أمور الآراء، وفي أمور الأفكار، فإن صاحب الهوى لجوج متبع لمقتضى مراده وإن خالف الحق والعياذ بالله سبحانه وتعالى.

إن الذي يتفكر في هذه المعاني الكثيرة يجد أن أمرها جد خطير، فالنبي عليه الصلاة والسلام بدأ بالتحذير من المهلكات والتخويف من شرها وضررها، فقال: (وهوى متبع) أي: هذا الهوى يتبعه صاحبه وإن خالف الحق.

قوله: (وشح مطاع) والشح: هو البخل، والنفس في طبعها بعض الحرص، وفي طبعها شيء من الطمع، وفي طبعها حب التملك، قال الله عز وجل: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120].

هذا في أصله ليس بمذموم، لكن المذموم هو الشح المطاع بأن يطيع نفسه فيما يتعلق بهذا الشح، كأن يمنع حق الله سبحانه وتعالى من الزكاة، أو من الصدقة، أو من أداء الدين أو نحو ذلك، فهذا الشح المطاع هو الذي يطيعه صاحبه في منع الحقوق التي أوجبها الله عز وجل في ماله.

إذاً: الشح المذموم هو الذي يقع في الممارسة العملية به منع للحقوق، والشح إذا أطاعه صاحبه وقع في هذه المهلكة، وأنت ترى كل من غلبته نفسه في شأن البخل وفي شأن الشح أنه مذموم عند الناس، وكيف أن الهم والغم قد أثرا في نفسه، ولا يهنأ بنعمة الله عز وجل له، ولا بماله، فترى البخيل عنده الأموال، لكنه لا ينفق منها على نفسه، بل يقتر على نفسه وعلى أهله، فتكون النعمة عليه نقمة والعياذ بالله، هذا في الدنيا، أما ما وراء ذلك في الآخرة فالأمر أعظم وأشد.

والأمر أيضاً على التدرج؛ لأن في آخره يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (وإعجاب المرء بنفسه) وهذه داهية دهياء ومصيبة عمياء.

الغرور والإعجاب بالنفس فيه مآخذ عدة منها:

أن المغتر متكبر، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر).

ومنها: غمط الناس وانتقاص أقدارهم، وهذا ظلم آخر وتعد آخر وجرم ومعصية أخرى.

ومنها: غمط الحق كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم الكبر، أي: التعالي عن الحق وإن ظهر دليله وإن سطع برهانه.

ومنها: أن الإعجاب بالنفس يقود والعياذ بالله إلى اللجاج، وقد قال الله سبحانه وتعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] هل جحدوا لنقص في الأدلة، أو لعدم وجود المعجزة، أو لعدم شيء مما يحتاجون إليه من برهان نفسي أو مادي؟!

لم يكن من ذلك شيء؛ لأنهم قد وجدوا الأدلة والبراهين متنوعة في كل وقت وآن، ومع ذلك ما صدهم عن اتباع أمر الله والدخول في الإيمان بالله إلا كبر النفوس والإعجاب والغرور، كما روي عن أبي جهل عليه لعنة الله أنه قال: كنا وبنو هاشم كفرسي رهان، كان لهم كذا فلنا كذا، ولهم كذا فلنا كذا، أي من الشرف، قال: حتى إذا تجاثينا على الركب وتساوينا قالوا منا نبي؛ فمن أين لنا بنبي، فوالله لا نصدقه الدهر كله.

فالمسألة مسألة عناد ولجاج، ومسألة إعجاب وغرور، وكذا قال أصحاب مسيلمة الكذاب : والله لكاذب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر.

هكذا قالوا اتباعاً للأهواء، وإعجاباً بالآراء، قال القرطبي في معنى قوله: (وإعجاب المرء بنفسه): هو ملاحظة لها بعين الكمال والاستحسان، أي: ينظر إلى نفسه بعين العجب والغرور.

ثم يقول: أما الكلام فليس أعلى منها في البلاغة، وأما الأفعال فليس أعلى منها في الحكمة، وأما الأحوال فليس أعلى منها في الرتبة، فلا يفعل شيئاً، ولا يقول شيئاً، ولا يحجم عن شيء إلا وهو يرى أنه قد أتى وفعل ما هو في غاية الكمال والاستحسان، مع نسيان منة الله عز وجل.

فإذا وقع نظره على غير احتقره، وهو الكبر.

وقال الغزالي رحمه الله: أحذرك ثلاثاً من خبائث القلب هي الغالبة على متفقهة العصر: وهي الحسد، والرياء، والعجب، فاجتهد في تطهير قلبك منها، فإن عجزت عن ذلك فأنت عن غيره أعجز، ولا تظن أنه يسلم لك نية صالحة في تعلم العلم وفي قلبك شيء من الحسد والرياء والعجب، أما الحسد فهو الذي يشق عليه إنعام الله على عبد من عباده بمال أو علم أو محبة أو حظ حتى يحب زوالها عنه، وإن لم يحصل له شيء، فهو المعذب الذي لا يرحم أبداً.

وسمعت مرة للشيخ القطان حفظه الله كلاماً جميلاً يقول فيه: الحسود لا يمكن أن يرتاح؛ لأن نعم الله عز وجل دائماً في نزول على الناس، فإذا نزلت نعمة على هذا حسده، واهتم لها قلبه، وانشغل بها فكره، وأظلمت لها نفسه، فإذا زالت جاءت نعمة أخرى، فلا يزال هو في شقاء وفي عذاب مستمر لا ينقطع من أجل هذا الأمر والعياذ بالله، ولذلك ينبغي أن يتنبه الإنسان إلى هذه المآخذ والمسالك.

ثم هذا الإعجاب كما قلنا يئول بالمرء إلى الاعتزاز برأيه، وعدم الانصياع للحق، وهذا أمر ينبغي التنبه له.