طلاب الدنيا


الحلقة مفرغة

الحمد لله القوي القادر، العزيز القاهر، الأول والآخر، الباطن والظاهر، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، تفرد بالعزة والجلال، واتصف بالكمال سبحانه وتعالى، نحمده كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، حمداً نلقى به أجرًا، ويمحو الله به عنا وزرًا، ويجعله لنا نصراً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وبعثه كافة للناس أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! طلاب الدنيا بها متعلقون، وإليها مشتاقون، ولها محبون ومريدون، ومشترون ومؤثرون، فهم في فلكها يدورون، وفي إثرها يجرون ويلهثون، وطريقهم هو المسار الثاني الذي يفصل بين الناس في هذه الحياة الدنيا: بين طلاب للآخرة وطلاب للدنيا.

وطلاب الدنيا قال الله عز وجل في وصفهم: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [إبراهيم:3] ، فهم لها محبون، وهي غاية ومقصد عندهم كما أخبر الحق جل وعلا بقوله: وقَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا [القصص:79].

فطلاب الدنيا يريدونها، بل إنهم يشترونها بأغلى وأعز ما يملكون، كما أخبر جل وعلا عن أولئك الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة، فهم لا يستقلون لها ثمناً، وهي جنتهم وآخرتهم وأولاهم بلا شيء يربطهم بما وراءها، ولذا قال الحق جل وعلا في وصف حالهم: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [الأعلى:16]، والحقيقة الغائبة عنهم يقولها الله عز وجل في قوله: وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:17].

لننظر إلى المسالك التي سلكها طلاب الدنيا إلى أبوابها التي فتنت القلوب فكفرت، والتي صرفت النفوس عن معالي الأمور فذلت، والتي صرفت العقول عن منافع الحياة الدنيا ومرامي ما يرجوه العبد في الأخرى فكلَّت، وهذه كلها أبواب ومسارات جعلت أرباب الدنيا في صورهم المرذولة، التي قص الله عز وجل علينا أطرافاً من أخبار أربابها في القرآن، وذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً من ذلك ما يبين لنا الطريق القويم الذي ينبغي أن ننهجه ونسلكه.

المسلك الأول: الزينة والمال

الزينة والمال: الذهب الذي يذهب بالأبصار، والفضة التي تفضض ما في القلوب فلا يبقى فيها إلا محبتها والرغبة فيها، الأموال التي يلهث وراءها الناس.

الدنيا بهذه القوة المالية التي حرفت مسار كثير من أربابها الذين يدبون على أرضها، وصار ليس لهم هم ولا غاية إلا أن يستكثروا من الأموال، وإلا أن يستزيدوا منها، فإذا زادوا منها رغبوا في المزيد على الزيادة، ولا يزالون كذلك كما هي أصل فطرة الإنسان إذا لم يهذبها الإيمان.

وقد نصب لنا القرآن الكريم مثلاً هو المضرب في هذا الباب؛ ليعطينا صورة من صور طلاب الدنيا، الذين انتهوا في هذا الطريق إلى الكفر والجحود، وإلى جهنم وساءت مصيرًا.

فهذا قارون الذي ذكره الله سبحانه وتعالى، ووصف أمواله وثروته بقوله جل وعلا: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص:76]، مفاتيح الخزائن لا يستطيع رفعها إلا الرجال الأشداء الأقوياء، فما ظنكم بالخزائن؟! وما ظنكم بالذي فيها من الأموال من الذهب والفضة والجواهر واللآلئ؟!

ماذا كان حال قارون ؟ وأي شيء أدت به هذه الدنيا بفتنتها؟

قال الله عز وجل حاكياً عن قارون : قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] لقد نسي المنعم، وجحد الخالق المتفضل سبحانه وتعالى، وأعلن بكبريائه كفره، ثم لننظر إلى أثر هذا المسار والمسلك في الناس من حوله.

فالذين فتنتهم الدنيا بالتفكير فيما أوتي أربابها من الأموال، فهم منشغلون ومهمومون ومغمومون، قال الحق جل وعلا: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79].

وكم نسمع اليوم في بيئاتنا ومجتمعاتنا وديار المسلمين من لا أمنية له إلا أن ينال مثلما نال فلان من الثراء، وأن يكون عنده الأموال والدور والقصور، كأنه ليس وراء هذه الدنيا من متاع، ولا من عطاء، ولا من جنة، ولا من خير يسوقه الله عز وجل لمن أخذ من هذه الدنيا نصيبه المقسوم، مع بقاء قلبه معلقاً بالآخرة وبرضوان الله ونعيمه الموعود في جنة الخلد عند مليك مقتدر.

هذا كان قول أولئك القوم.

وذكر الله قول أهل العلم والإيمان حيث قال: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص:80].

ثم جاءت الصورة التي تختم لنا هذه القوة الدنيوية والثراء والمال الذي هو -كما يقولون اليوم- عصب الحياة، ماذا كان شأنه؟! وأي شيء أغنى عنه هذا المال وهذه القوة؟!

قال عز وجل: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81].

ذكر الله فاء التعقيب التي تقتضي السرعة في هذه الأحداث التي وقعت: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ) وانتهى قارون ، وتناثرت أمواله، وتبعثرت دنانيره ودراهمه، وما أغنت عنه شيئاً من هذا المصير المحتوم؛ لأنه كان من طلاب الدنيا ومن أربابها، وجحد بالآخرة، وجحد بالمنعم سبحانه وتعالى.

وكم نرى اليوم من يجمع القرش إلى القرش، والريال إلى الريال، وهو لا يحب أن يسمع ذكر الفقراء، ولا يرغب أن يعرف حاجات المحتاجين، وإذا اضطر أو أحرج أن ينفق شيئاً من ماله فكأنما يقطر بعضاً من دمه، يخرج مع كل ريال يخرجه نفساً من أنفاسه، وكأن عروقه تتقطع؛ لأنه لا يحب أن يخرج شيئاً من هذا المال، فهو يكنزه ويحب أن يراه صباح مساء، فلا ينظر إلا إليه، ويمسي فلا يفكر إلا فيه، وينسى قول الله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35] .

وكم نرى اليوم من يتنافسون ويسعون لمضاعفة أموالهم من طرق الكسب الحرام، وأعظمها وأكثرها جرماً وأفدحها خطراً الربا الذي قال الحق سبحانه وتعالى في شأنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278]، ثم توعد الوالغين فيه والمصرين عليه: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] .

وكم نرى فتنة المال في حياتنا المعاصرة وفي كثير من مجتمعات المسلمين، وهي تحدد للناس مسارهم، وتملك عليهم مشاعرهم، وتحدد منهجية تفكيرهم وتدبيرهم، لا يألون جهداً في جمع هذا المال.

المسلك الثاني: السلطان والطغيان

هذا مسلك ودرب وطريق آخر من طرق طلاب الدنيا: طريق السلطان والطغيان:

عندما يملك المرء القوة التي يبطش بها بمن يخالفه، أو بمن هو عدوه، ويملك من الأعوان ومن البهرج ومن زخرف السلطان ما يملك، فإذا به يطغى ويبغي ويجحد قوة الله سبحانه وتعالى وينساها، والمثل القرآني في ذلك هو فرعون الذي ذكره الله عز وجل في ثنايا القرآن في آيات كثيرة ومواقف وأحداث عديدة، كما في قصة موسى عليه السلام مع فرعون عليه لعنة الله، ووصفه الله جل وعلا بقوله: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [يونس:83] .

ثم نجد القرآن يعطينا صورة من صور هذا الطاغي في الدنيا الغارق فيها، الذي لم يعرف ولا يريد شيئاً سواها، كيف أن الدنيا تملكت قلبه من باب السلطان والجاه والقوة والقدرة البشرية الإنسانية؛ حتى قال مقالته الشنيعة: قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29] فلا قول إلا قوله، ولا رأي إلا رأيه، وقال سبحانه وتعالى على لسانه لما آمن السحرة لموسى: قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [طه:71]، فكانت هذه جريمة عظمى عنده، والله سبحانه وتعالى يخبرنا عن مدى غطرسته وجبروته وطغيانه حيث يقول: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51] .

هذه صورة السلطان والطغيان ختمت بأعظم جريمة في الإنسانية كلها وهي ما قصه الله عز وجل بقوله: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] أكفر كلمة قالها إنسان هي كلمة فرعون: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] ، ثم أردفها بقوله: فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ [القصص:38-39]، وانظر إلى الخاتمة: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [القصص:40] .

فرعون الذي كان يأمر وينهى، الذي لم يكن أحد يدخل عليه إلا ساجداً، ولم يكن أحد يتلفظ إلا به حالفاً، كان هذا هو مصيره أن أغرق في ماء البحر، وقال الله عز وجل: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92] .

وكم في حياة الناس اليوم وفي مجتمعات المسلمين من يغتر بالسلطان، ومن يغتر بالجاه، ومن يغتر بكثرة الأعوان، ومن يغتر بقوته على من هو أضعف منه، حتى بدت بعض المجتمعات كأنها مجتمعات الغاب، يفترس فيها القوي الضعيف، ويبطش فيها القادر بالعاجز، وغابت عن الناس معاني الآخرة، والعقوبات التي توعد الله عز وجل بها من ظلم ومن بغى ومن اعتدى.

المسلك الثالث: فتنة النساء

هذا مسلك ثالث وطريق ثالث من الطرق التي تفتن وتصرف عن منهج الله عز وجل: فتنة النساء:

قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) وأخبر كما صح عنه: وأن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)، وننظر في ذلك فنرى هذه الفتنة اليوم قد عمت، وإذا بطيف وطوفان يجرف ويذكي فتنة النساء في مجتمعات المسلمين، وإذا بك ترى هذه الفتنة عند كثير من المسلمين، تظهر في شعرهم ونثرهم وغنائهم وتمثيلهم ورقصهم، وعلى صفحهم ومجلاتهم، لقد جعلوا هذه الفتنة محور حياة يومية يصرفون بها القلوب، ويخطفون بها الأبصار، ويفتنون بها النفوس، حتى تسرب إليها هذا داء الشهوة المحرمة الآثمة.

فلا يكاد يسلم امرؤ من سماع أو رؤية وإن تحرج واحتاط إلا من رحم الله، فنسأل الله السلامة لقلوبنا من هذه الفتن.

وهذه الفتنة أمثلتها كثيرة، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من قصص بني إسرائيل على وجه الخصوص ما يبين لنا عظمة هذه الفتنة.

فهذا ابن حبان يروي في صحيحه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قصة لعابد من عباد بني إسرائيل، عبد الله عز وجل في صومعته ستين سنة، فأمطرت الدنيا واخضرت الأرض، فقال: لو خرجت من صومعتي وذكرت ربي، فخرج فلقي امرأة فكلمها وكلمته حتى غشيها -أي: حتى فعل بها الفاحشة- فأغمي عليه، ثم خرج يغتسل في ماء هناك، فقبض ومات على حاله تلك.

قال بعض السلف رضوان الله عليهم: لو استؤمنت على بيت مال المسلمين لأمنت نفسي، ولو استؤمنت على جارية سوداء أخلو بها ما أمنت نفسي!

وهذا يدل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) ، وتحذيرات النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كثيرة، والله عز وجل قد حذر من ذلك وقال: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32] .

ونجد أن العقوبة التي جعلها الله عز وجل لمرتكب هذه الفاحشة شديدة قاسية؛ حتى تكون رادعاً ومانعاً لهذا الباب العظيم من أبواب الفتنة؛ لأنه إذا انفتح على الأمة أوقع فيها من الفساد واختلال الأمن وشيوع الانحلال وكثرة الاضطراب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وشاهده الحديث الذي يرويه الإمام أحمد بسند حسن عن ميمونة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا فيوشك أن يعمهم الله بالعذاب)، وفي رواية في مسند أبي يعلى : (لا تزال أمتي بخير متماسك أمرها ما لم يظهر فيهم ولد الزنا) .

والأمر في ذلك يطول، والحديث عنه يكثر، وهذه الفتنة من أعظم الفتن، ولها طلاب كثر، ليس لهم هم إلا نيل هذه الفتنة وقصد هذه الشهوة الآثمة.

المسلك الرابع: اللذة والنشوة في الخمور وتعاطي المخدرات

هذا مسلك وطريق رابع ابتليت به كثير من مجتمعات المسلمين: اللذة والنشوة في شرب الخمور وتعاطي المخدرات:

والله جل وعلا قال: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] ، والنبي عليه الصلاة والسلام لعن في الخمر عشرة: (لعن شاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه) كما روى ذلك أبو داود وزاد ابن ماجة : (والذي يأخذ ثمنها) .

وفي حديث أبي موسى الأشعري عند ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه: (ثلاثة لا ينظر لله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر) ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وأما مدمن الخمر فيغمس يوم القيامة في نهر الغوطة، قيل: وما نهر الغوطة يا رسول الله؟! قال: نهر يجري من فروج المومسات يؤذي أهل النار ريحه) .

هكذا يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم، ونجد هذه النشوة واللذة يسعى بها أعداء المسلمين لينشروها في مجتمعات المسلمين، وليبثوها بين شبابهم وشاباتهم؛ حتى تبطل العقول عن العمل، وحتى تنهك الأجساد بالعلل، وحتى يقع التعيير الكامل والإجرام التام في واقع مجتمعات المسلمين.

فنسأل الله عز وجل أن يسلمنا وإياكم من الفتن، وأن يصرف عنا ما ظهر منها وما بطن، وأن يعصمنا بالإيمان، وأن يحرسنا بالقرآن، وأن يجعلنا من المتبعين للمصطفى صلى الله عليه وسلم.

أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

المسلك الخامس: حب الدنيا وطلب السلامة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.

إن خامس هذه الأبواب والطرق والمسالك التي يسلكها طلاب الدنيا، وهو باب ومسلك قل من يسلم منه: حب الدنيا وطلب السلامة:

أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في حديث معروف متداول محفوظ عند كثير من الناس بقوله: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا! إنكم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم، وليجعلن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) .

مما يغلب على أهل الدنيا تشبثهم وتمسكهم بها، وخوفهم من أي طريق يظنون من قريب أو من بعيد أنه يخرجهم عنها وينقلهم عنها، فهم يخافون الموت في صبحهم ومسائهم، فهم فيما يسمعون: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمُ، وفيما ينظرون مما يتعلق بحياتهم: تراهم تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت من شدة الخوف والرهبة، فهم قوم قد آثروا السلامة:

حب السلامة يثني هم صاحبه عن المعالي ويغري المرء بالكسل

وهي صفة ذميمة مرذولة، وصم الله عز وجل بها اليهود عليهم لعائن الله، فقال جل وعلا: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96] يحرصون على أية حياة، ولو كانت حياة ذل، ولو كانت حياة يبيعون فيها مبادئهم، وينافقون فيظهرون خلاف ما يبطنون، ويتراجعون فلا يثبتون، كما أخبر الحق جل وعلا عن وصف بعض أولئك: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11] .

هؤلاء قوم إذا رأوا أن حظهم من الدنيا سيذهب، أو أن طريقهم إليها سينتهي، طلبوا الخلاص والحياة ولو ببيع دينهم، ولو بالتفريط في أعراضهم، ولو بذلة نفوسهم، ولو بأي شيء يفعلون:

يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب

والقرآن قد أفشى خبر أولئك: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:204] .. وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [البقرة:205] ، أولئك المنافقون الذين يبطنون خلاف ما يظهرون، وكم في بيئات ومجتمعات المسلمين من هذه العينات التي تشدها الأرض شداً وتجذبها الحياة جذباً، كما أخبر الحق جل وعلا: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176].

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في أثر الحياة وملذاتها والتعلق بها، فقال: (الولد مجبنة مبخلة) أي: باعث على الجبن وباعث على البخل، ولذا يقول الحق سبحانه وتعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] .

فينبغي للمرء ألا يجعل حب الحياة وتغلغلها في قلبه مانعاً من الثبات على الحق، أو المضي في الواجب، أو القيام بالأمر، وينبغي ألا يكون في حال من الأحوال معطياً للدنية في دينه، أو بائعاً دنياه بأخراه، فذلك هو الخسران المبين.

الزينة والمال: الذهب الذي يذهب بالأبصار، والفضة التي تفضض ما في القلوب فلا يبقى فيها إلا محبتها والرغبة فيها، الأموال التي يلهث وراءها الناس.

الدنيا بهذه القوة المالية التي حرفت مسار كثير من أربابها الذين يدبون على أرضها، وصار ليس لهم هم ولا غاية إلا أن يستكثروا من الأموال، وإلا أن يستزيدوا منها، فإذا زادوا منها رغبوا في المزيد على الزيادة، ولا يزالون كذلك كما هي أصل فطرة الإنسان إذا لم يهذبها الإيمان.

وقد نصب لنا القرآن الكريم مثلاً هو المضرب في هذا الباب؛ ليعطينا صورة من صور طلاب الدنيا، الذين انتهوا في هذا الطريق إلى الكفر والجحود، وإلى جهنم وساءت مصيرًا.

فهذا قارون الذي ذكره الله سبحانه وتعالى، ووصف أمواله وثروته بقوله جل وعلا: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص:76]، مفاتيح الخزائن لا يستطيع رفعها إلا الرجال الأشداء الأقوياء، فما ظنكم بالخزائن؟! وما ظنكم بالذي فيها من الأموال من الذهب والفضة والجواهر واللآلئ؟!

ماذا كان حال قارون ؟ وأي شيء أدت به هذه الدنيا بفتنتها؟

قال الله عز وجل حاكياً عن قارون : قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] لقد نسي المنعم، وجحد الخالق المتفضل سبحانه وتعالى، وأعلن بكبريائه كفره، ثم لننظر إلى أثر هذا المسار والمسلك في الناس من حوله.

فالذين فتنتهم الدنيا بالتفكير فيما أوتي أربابها من الأموال، فهم منشغلون ومهمومون ومغمومون، قال الحق جل وعلا: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79].

وكم نسمع اليوم في بيئاتنا ومجتمعاتنا وديار المسلمين من لا أمنية له إلا أن ينال مثلما نال فلان من الثراء، وأن يكون عنده الأموال والدور والقصور، كأنه ليس وراء هذه الدنيا من متاع، ولا من عطاء، ولا من جنة، ولا من خير يسوقه الله عز وجل لمن أخذ من هذه الدنيا نصيبه المقسوم، مع بقاء قلبه معلقاً بالآخرة وبرضوان الله ونعيمه الموعود في جنة الخلد عند مليك مقتدر.

هذا كان قول أولئك القوم.

وذكر الله قول أهل العلم والإيمان حيث قال: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص:80].

ثم جاءت الصورة التي تختم لنا هذه القوة الدنيوية والثراء والمال الذي هو -كما يقولون اليوم- عصب الحياة، ماذا كان شأنه؟! وأي شيء أغنى عنه هذا المال وهذه القوة؟!

قال عز وجل: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81].

ذكر الله فاء التعقيب التي تقتضي السرعة في هذه الأحداث التي وقعت: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ) وانتهى قارون ، وتناثرت أمواله، وتبعثرت دنانيره ودراهمه، وما أغنت عنه شيئاً من هذا المصير المحتوم؛ لأنه كان من طلاب الدنيا ومن أربابها، وجحد بالآخرة، وجحد بالمنعم سبحانه وتعالى.

وكم نرى اليوم من يجمع القرش إلى القرش، والريال إلى الريال، وهو لا يحب أن يسمع ذكر الفقراء، ولا يرغب أن يعرف حاجات المحتاجين، وإذا اضطر أو أحرج أن ينفق شيئاً من ماله فكأنما يقطر بعضاً من دمه، يخرج مع كل ريال يخرجه نفساً من أنفاسه، وكأن عروقه تتقطع؛ لأنه لا يحب أن يخرج شيئاً من هذا المال، فهو يكنزه ويحب أن يراه صباح مساء، فلا ينظر إلا إليه، ويمسي فلا يفكر إلا فيه، وينسى قول الله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35] .

وكم نرى اليوم من يتنافسون ويسعون لمضاعفة أموالهم من طرق الكسب الحرام، وأعظمها وأكثرها جرماً وأفدحها خطراً الربا الذي قال الحق سبحانه وتعالى في شأنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278]، ثم توعد الوالغين فيه والمصرين عليه: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] .

وكم نرى فتنة المال في حياتنا المعاصرة وفي كثير من مجتمعات المسلمين، وهي تحدد للناس مسارهم، وتملك عليهم مشاعرهم، وتحدد منهجية تفكيرهم وتدبيرهم، لا يألون جهداً في جمع هذا المال.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2909 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2732 استماع
فاطمة الزهراء 2699 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2630 استماع
المرأة والدعوة [1] 2544 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2534 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2534 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2488 استماع
خطبة عيد الفطر 2469 استماع
التوبة آثار وآفاق 2453 استماع