المنهج الوقائي في الإسلام


الحلقة مفرغة

الحمد لله الواحد الديان، الرحيم الرحمن، الكريم المنان، ذي الفضل والإحسان، والجود والإكرام، جعل السلامة في الإسلام، وربط السعادة بالإيمان، وأودع الهداية في القرآن، أحمده سبحانه وتعالى حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويكافئ فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، هو جل وعلا أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه؛ هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وبعثه رحمة للعالمين، وأرسله إلى الناس أجمعين.

وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! الإيمان هو النعمة الكبرى، والإسلام هو المنة العظمى، والقرآن هو الهداية التي ليس بعدها هداية.

وهنا قفه يطول الحديث فيها، وهي عن الوقاية في الإسلام، ذلك المنهج الذي نستجلي به كم يدفع الله عز وجل عنا من الشرور! وكم يقينا من الآثام وكم يسلمنا من الرزايا والبلايا إذا استمسكنا بإيماننا والتزمنا إسلامنا واتبعنا قرآننا واقتفينا آثار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

الوقاية خير من العلاج، ودرهم وقاية خير من قنطار علاج، هذه مقالات نعرفها ونحفظها، بل نعقتدها ونستيقنها، بل ونأخذ بها، ونعمل بها، ونطبقها في مجال الصحة والطب، وكل يوم يمر علينا نرى حملات للوقاية من شلل الأطفال، وأخرى للوقاية من الحصبة، وثالثة ورابعة، فهل الوقاية مختصة بالأجساد والأبدان؟ وهل مشكلتنا في علل الأجساد وأمراض الأبدان؟

إن المسألة التي يعالجها الإسلام أعظم وأشمل وأكمل من هذه الجوانب التي لا تمثل إلا جزءاً يسيراً من هذا الدين العظيم، إن هذه الشعارات التي تعمل لها الحملات للتوعية هدفها أن يقتنع الناس ويوقنوا بأن العمل قبل وقوع الضرر أفضل لهم وأيسر، وأنه أقوى أثراً، وأوفر في التكاليف التي قد يتصورونها أو يرونها، فما هو معنى الوقاية؟

إن الوقاية تشتمل على معنى الصيانة والحماية، إنها حفظ ورعاية، وستر وحماية، مأخوذة من: وقاه من الشيء إذا صانه، ووقيت الشيء إذا حفظته وسلمته من الأذى، كما قال الله جل وعلا: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان:11].

ولابد أن نفهم أن الوقاية ينبغي أن تكون شاملة للأبدان والقلوب والعقول، لأنه ما الفائدة إذا صحت الأبدان وضلت العقول؟ وما الفائدة إذا سلمت الأجساد وزاغت القلوب؟ نسأل الله عز وجل السلامة.

إن العالم اليوم يبذل مئات الآلاف من الملايين في شأن الصحة، ومنظمات للصحة العالمية، وأبحاث وتجارب وكثير وكثير، لكنه لا يعدو أن يكون في دائرة ضيقة، ولا يعدو أن يعالج أسباباً محدودة، وإذا بنا نرى أن الأمراض تتكاثر وتعظم، وأن الضحايا تتوالى وتتابع؛ لأن العلاج إنما تناول جزءاً واحداً، وكأنما أنت في مكان تخشى عدواً فأحكمت إغلاق باب من الأبواب إغلاقاً جيداً، ولكن الأبواب الأخرى أو بعض النوافذ مفتوحة، فإنه ولاشك سوف يدخل عليك العدو أو يأتيك البلاء الذي تحذره من جانب آخر، فما الفائدة إذا عملوا على تحصين الأجساد وتلقيحها والبحث عن أدوية الأمراض ولم يعالجوا أسبابها من الانفراط الأخلاقي والانحلالي السلوكي الذي يؤدي إلى مثل تلك الأمراض؟

لننتبه إلى أن الوقاية التي نريد أن نتحدث عنها في لقاءات متتابعة تشمل الإنسان كله، وتشمل الفرد وحده كما تشمل المجتمع برمته، إنها وقاية تغير وجه الحياة لتجعلها مبنية على الأمن والسلامة باطناً وظاهراً، وتعالج الأمراض من أسبابها، وتوقف الخطر من منابعه، وهذه هي المهمة الأعظم الأشمل الأكمل التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تتوفر إلا في وحي الله عز وجل الذي أكرمنا وأنعم علينا به.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: المرض نوعان: مرض القلوب ومرض الأبدان، وكلاهما مذكور في القرآن. ومرض القلوب ينقسم إلى قسمين: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي، وكلاهما مذكور في القرآن. وهذا هو الذي ينبغي أن ننتبه له.

الوقاية تقوم على التقوية والحماية

ولنعلم أن الوقاية تقوم على أمرين اثنين مهمين: أولهما التقوية، وهي التي تماثل في الطب التغذية، ونحن قبل أن نحقق أول أسباب الوقاية لابد أن يكون هناك قوة في البدن، ثم بعد ذلك نأتي إلى الجانب الآخر وهو الحماية، وهي عند أهل الطب الحمية.

فإنه لابد أولاً من أسباب قوة توفر لهذه الذات قوة في الجوانب المختلفة، ثم نحافظ على هذه القوة التي أنشأناها بذلك الغذاء بأن نحميها من العوارض والأسباب التي تنقص تلك القوة أو التي تضعفها.

ومنهج الإسلام يقوي الإنسان بإيمانه وإسلامه ويقينه بالله عز وجل، وفيه زكاة نفسه، وطهارة قلبه، ورشد عقله، وحسن قوله، وصلاح عمله، فإذا كان هذا النموذج الإيماني القرآني النبوي قد حرصنا على حفظه، فبعد ذلك إذا بقيت له هذه القوة في إيمانه وخلقه وقوله وعمله، فنقول له: احذر كذا وكذا، وانتبه من كذا وكذا، ولا تفعل كذا لأنه يؤدي إلى كذا، فتجيء الشرائع كأنما هي سياج أمني حافظ لتلك القوة أن يصيبها ضرر، وكأنما هي خطوط أولية للدفاع عن التي تليها؛ حتى يبقى المؤمن في حصن من إيمانه، وفي سياج من إسلامه، وفي قوة من يقينه بإذن الله سبحانه وتعالى.

نموذج قرآني للوقاية الإيمانية

ولننتبه إلى صور عامة، وننظر إليها في بعض آيات القرآن وبعض أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لنرى ما الذي، أو لنعرف ما المعنى الذي نريد أن نبينه في شأن الوقاية الإيمانية في منهج الإسلام.

ولننظر إلى أمثلة من الوقاية العقدية والأخلاقية والاجتماعية في عجالة سريعة حتى ندرك ما المفهوم الذي نتحدث عنه:

في الوقاية العقدية تقوية وإقامة للحجة وإظهار للبرهان على وحدانية الله سبحانه وتعالى، وعلى ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وعلى قضايا الإيمان كلها: من الإيمان بالرسل والأنبياء والكتب والصحف وما يكون في اليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.

وكل ذلك مبسوط في آيات القرآن، كقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، وقوله: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، وقوله: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ [المؤمنون:91]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25].

وآيات كثيرة في إثبات البعث الذي ينكره المنكرون، ويعترضون عليه لضعف عقولهم، فيأتينا القرآن بأمثلة وقصص وإثباتات كثيرة، كقوله سبحانه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78-79]، وأمثلة يضربها الله عز وجل في الحياة التي تبعث في البذرة الصماء حتى تكون نباتاً يزهر ويثمر.. إلى غير ذلك.

ثم يأتينا جانب الحماية والتحذير والوقاية بعد هذا البناء الذي قام على أسس راسخة من الأدلة الظاهرة والحجج القاطعة؛ كقوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30]، ويأتينا التحذير أيضاً في آيات أخرى كقوله: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [الإسراء:22]، وتأتينا الآيات القرآنية المحذرة من الشرك ومن كل أسبابه، والمبطلة لصوره عند أربابه، فكان هذا منهجاً متكاملاً ألمحنا إلى بعض صوره من خلال هذه الآيات.

نماذج قرآنية للوقاية الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية

وتأتينا الوقاية النفسية من أمراض كثيرة وعلل عديدة من أهمها: شح النفس وأمراض القلب؛ قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

وهناك وقاية أخلاقية تسلم الإنسان من الفواحش والفتن، قال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151]، وقال جل في علاه: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، والتعبير القرآني بقوله: (وَلا تَقْرَبُوا) يعني: لا تفعلوه ولا تقربوا منه، أي: لا تفعلوا ما يؤدي إليه أو يقرب منه، فالنهي أعظم وأشمل، والوقاية أتم وأكمل، ونرى في ذلك كثيراً وكثيراً من الآيات التي تبين لنا هذا الوجه وتحثنا عليه.

وتأتينا الوقاية الاجتماعية التي تسلم المجتمع من الأمراض التي تفتك به وتقطع أواصره وتجعل الشحناء في القلوب والبغضاء في النفوس؛ فيأتينا قول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]، وهذه الآيات هي في التحذير والوقاية، وفي التنبيه على الأمر اليسير الذي قد يكون ظناً يجول بالخاطر ويحوك في النفس، وإذا به ينتقل من طور إلى طور حتى يدفع إلى التجسس والتحسس، ثم يدفع إلى القول والغمز واللمز والغيبة والنميمة، ثم يدفع إلى التباغض والتدابر، ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، والله سبحانه وتعالى ينهانا عن هذا فيقول: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30]، أي: لما يؤدي إليه أيضاً من المشاكل الاجتماعية الخطيرة.

وقال سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]، وقال: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فأمر بالاعتصام بالكتاب والسنة حماية من الفرقة حتى يبقى المجتمع متماسكاً مترابطاً.

والوقاية الاقتصادية في أن يكون الإنسان المسلم متبعاً لشرع الله في بيعه وشرائه وكسبه وإنفاقه، كما أخبر الحق سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278]، وقليل الأمر في مثل هذا وكثيره سواء، والله سبحانه وتعالى يسوق لنا الآيات في كثير من جوانب الحياة ليعلمنا ما الذي يدعونا إليه إيماننا، وما الذي يرسمه لنا إسلامنا، ثم ليحذرنا ويقينا ويسلمنا من الزيغ والضلال والانحراف عن ذلك، ويكشف لنا ما يئول إليه الأمر، أو ما آل إليه الأمر بالفعل لمن ارتكب مثل ذلك من أهل الكفر والضلال؛ فإن العاقبة تكون وخيمة، والخاتمة تكون شر خاتمة، نسأل الله عز وجل السلامة.

نماذج من السنة للوقاية الأخلاقية

وإذا التفتنا إلى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فإننا سنرى أحاديث كثيرة كلها يبدأ بقوله: إياكم!

إنها لفظة التحذير التي ترفع الضوء الأحمر للتدليل على الخطر قبل وقوعه، والتنبيه عليه قبل الوصول إليه، وهذا رسولنا عليه الصلاة والسلام يقول: (إياكم والجلوس في الطرقات! قالوا: يا رسول الله! مجالسنا ما لنا منها بد، قال: فإن كنتم فاعلين فأعطوا الطريق حقه: غض البصر، ورد السلام، وكف الأذى).

وهذا من حرصه عليه الصلاة والسلام على لفت الأنظار إلى ضرورة الوقاية، ولكن حالنا اليوم بخلاف ذلك؛ حيث لم يأخذ كثير من الناس بهذا التحذير، فصار في مجتمعاتنا ما نشكو منه من جلاس الطرق وأبناء الشوارع الذين يؤذون الرائح والغادي، ويتعرضون للنساء، وهذا جزء مما يقع إذا لم يأخذ الناس بالتحذير، وإذا لم يلتزموا الوقاية.

وهذا رسولنا عليه الصلاة والسلام بين شأن الفتنة العظمى والبلية الكبرى التي بدأ الناس يتجاوزون فيها حدود الوقاية، ثم يشكون من الآثار والأضرار والأخطار، وذلك في شأن المرأة ودعوة الاختلاط والتخفف من الحجاب ونحو ذلك، ولنا في كل هذا أحاديث مفصلة: يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء! قالوا: يا رسول الله أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت)، والحمو: أقارب الرجل.

ولعل هذا الحديث بمجرد التأمل في لفظه من غير شرح ولا تفصيل يبين لنا أن القضية تحذيرية، وأنها إشارة قوية؛ لئلا يقع المحظور الذي يكون بعده عض أصابع الندم واللطم، أو محاولة العلاج بعد ألا يكون هناك فائدة.

ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم)، ويقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا ومعها ذو محرم)، وغير ذلك من أحاديثه عليه الصلاة والسلام في الناحية الإيمانية والتربوية.

وروى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إياكم ومحقرات الذنوب! فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)، وكم نرى نحن في حالنا ما نقول فيه أو عنه: هذه بسيطة، وهذه يسيرة، وهذه لا بأس بها، وهذه نسأل الله عنها العافية، وهذه وهذه وهذه؛ حتى تهلكنا تلك الذنوب التي نراها صغائر!

وكان أنس رضي الله عنه يقول: (إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات).

فلما حذروا ولما انتبهوا ولما تيقظوا، ولما كانوا على أهبة الاستعداد وعلى قدم المواجهة وعلى عقلية اليقظة والفطنة تنبهوا لذلك فسلموا، وعوفوا بإذن الله عز وجل، ولما غفل الغافلون وتساهل المتساهلون، وفرط المفرطون وردت إلينا أدواء القلوب وأمراض النفوس، وبدأت تشيع بين الناس بعض المنكرات وبعض الجرائم وبعض المشكلات التي يلتمسون لها حلاً، والحل فيما فرطوا فيه وفيما تركوه من أسباب الوقاية، فالأب مثلاً لا يسأل عن ابنه ولا يلتفت إلى ابنته ولا يربي أبناءه ثم يشكو أن ابنه قد صار صريع المخدرات! أو أن ابنته صارت من اللاهيات العابثات! وهذا أمر نعرفه في حياتنا الاجتماعية.

وهكذا في الجوانب المهمة الأخرى تأتينا التحذيرات النبوية؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو في الدين)، وقوله: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون)، وقال: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)، وقال: (إن هذا الدين يسر ولن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه؛ فأوغلوا فيه برفق).

هكذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وحذر حتى فيمن يريد أن يزيد أو أن يتقدم، ولكنه يتقدم بما لم يثبت في كتاب الله، وبما لم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعل من السنة واجباً، ومن الواجب فرضاً، ويغير الأمور حباً بزعمه للخير، ورغبة في القوة في الحق، وهو متنكب للطريق ينسى ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم.

وهكذا نرى في القرآن والسنة منهجاً واضحاً لهذه الوقاية، وتأكيداً عليها وتنبيهاً على أهميتها، وتذكيراً بخطر التهاون فيها.

ولنعلم أن الوقاية تقوم على أمرين اثنين مهمين: أولهما التقوية، وهي التي تماثل في الطب التغذية، ونحن قبل أن نحقق أول أسباب الوقاية لابد أن يكون هناك قوة في البدن، ثم بعد ذلك نأتي إلى الجانب الآخر وهو الحماية، وهي عند أهل الطب الحمية.

فإنه لابد أولاً من أسباب قوة توفر لهذه الذات قوة في الجوانب المختلفة، ثم نحافظ على هذه القوة التي أنشأناها بذلك الغذاء بأن نحميها من العوارض والأسباب التي تنقص تلك القوة أو التي تضعفها.

ومنهج الإسلام يقوي الإنسان بإيمانه وإسلامه ويقينه بالله عز وجل، وفيه زكاة نفسه، وطهارة قلبه، ورشد عقله، وحسن قوله، وصلاح عمله، فإذا كان هذا النموذج الإيماني القرآني النبوي قد حرصنا على حفظه، فبعد ذلك إذا بقيت له هذه القوة في إيمانه وخلقه وقوله وعمله، فنقول له: احذر كذا وكذا، وانتبه من كذا وكذا، ولا تفعل كذا لأنه يؤدي إلى كذا، فتجيء الشرائع كأنما هي سياج أمني حافظ لتلك القوة أن يصيبها ضرر، وكأنما هي خطوط أولية للدفاع عن التي تليها؛ حتى يبقى المؤمن في حصن من إيمانه، وفي سياج من إسلامه، وفي قوة من يقينه بإذن الله سبحانه وتعالى.

ولننتبه إلى صور عامة، وننظر إليها في بعض آيات القرآن وبعض أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لنرى ما الذي، أو لنعرف ما المعنى الذي نريد أن نبينه في شأن الوقاية الإيمانية في منهج الإسلام.

ولننظر إلى أمثلة من الوقاية العقدية والأخلاقية والاجتماعية في عجالة سريعة حتى ندرك ما المفهوم الذي نتحدث عنه:

في الوقاية العقدية تقوية وإقامة للحجة وإظهار للبرهان على وحدانية الله سبحانه وتعالى، وعلى ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وعلى قضايا الإيمان كلها: من الإيمان بالرسل والأنبياء والكتب والصحف وما يكون في اليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.

وكل ذلك مبسوط في آيات القرآن، كقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، وقوله: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، وقوله: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ [المؤمنون:91]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25].

وآيات كثيرة في إثبات البعث الذي ينكره المنكرون، ويعترضون عليه لضعف عقولهم، فيأتينا القرآن بأمثلة وقصص وإثباتات كثيرة، كقوله سبحانه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78-79]، وأمثلة يضربها الله عز وجل في الحياة التي تبعث في البذرة الصماء حتى تكون نباتاً يزهر ويثمر.. إلى غير ذلك.

ثم يأتينا جانب الحماية والتحذير والوقاية بعد هذا البناء الذي قام على أسس راسخة من الأدلة الظاهرة والحجج القاطعة؛ كقوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30]، ويأتينا التحذير أيضاً في آيات أخرى كقوله: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [الإسراء:22]، وتأتينا الآيات القرآنية المحذرة من الشرك ومن كل أسبابه، والمبطلة لصوره عند أربابه، فكان هذا منهجاً متكاملاً ألمحنا إلى بعض صوره من خلال هذه الآيات.

وتأتينا الوقاية النفسية من أمراض كثيرة وعلل عديدة من أهمها: شح النفس وأمراض القلب؛ قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

وهناك وقاية أخلاقية تسلم الإنسان من الفواحش والفتن، قال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151]، وقال جل في علاه: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، والتعبير القرآني بقوله: (وَلا تَقْرَبُوا) يعني: لا تفعلوه ولا تقربوا منه، أي: لا تفعلوا ما يؤدي إليه أو يقرب منه، فالنهي أعظم وأشمل، والوقاية أتم وأكمل، ونرى في ذلك كثيراً وكثيراً من الآيات التي تبين لنا هذا الوجه وتحثنا عليه.

وتأتينا الوقاية الاجتماعية التي تسلم المجتمع من الأمراض التي تفتك به وتقطع أواصره وتجعل الشحناء في القلوب والبغضاء في النفوس؛ فيأتينا قول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]، وهذه الآيات هي في التحذير والوقاية، وفي التنبيه على الأمر اليسير الذي قد يكون ظناً يجول بالخاطر ويحوك في النفس، وإذا به ينتقل من طور إلى طور حتى يدفع إلى التجسس والتحسس، ثم يدفع إلى القول والغمز واللمز والغيبة والنميمة، ثم يدفع إلى التباغض والتدابر، ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، والله سبحانه وتعالى ينهانا عن هذا فيقول: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30]، أي: لما يؤدي إليه أيضاً من المشاكل الاجتماعية الخطيرة.

وقال سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]، وقال: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فأمر بالاعتصام بالكتاب والسنة حماية من الفرقة حتى يبقى المجتمع متماسكاً مترابطاً.

والوقاية الاقتصادية في أن يكون الإنسان المسلم متبعاً لشرع الله في بيعه وشرائه وكسبه وإنفاقه، كما أخبر الحق سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278]، وقليل الأمر في مثل هذا وكثيره سواء، والله سبحانه وتعالى يسوق لنا الآيات في كثير من جوانب الحياة ليعلمنا ما الذي يدعونا إليه إيماننا، وما الذي يرسمه لنا إسلامنا، ثم ليحذرنا ويقينا ويسلمنا من الزيغ والضلال والانحراف عن ذلك، ويكشف لنا ما يئول إليه الأمر، أو ما آل إليه الأمر بالفعل لمن ارتكب مثل ذلك من أهل الكفر والضلال؛ فإن العاقبة تكون وخيمة، والخاتمة تكون شر خاتمة، نسأل الله عز وجل السلامة.