خطب ومحاضرات
درس في العفة
الحلقة مفرغة
عقيدة المسلم بمثابة الطاقة الدافعة والروح، والإيمان الصادق هو أصل الأصول في النظام العام لحياة المسلم جميعها، وقد دلت الأدلة العقلية والنقلية على الإيمان بالله تعالى ووحدانيته وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، وأن كل إله يعبد سواه فباطل.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذه هي المحاضرة الثانية من الدروس التربوية التي اتفقنا أن تكون بمشيئة الله أول أحد من كل شهر، وبين يدي في الواقع بعض الأمور التي أود أن أشير إليها قبل البدء في المحاضرة، منها:
أننا اقترحنا بعض البرامج في المحاضرة السابقة، وأفادني بعض الإخوة أنهم طبقوا بعض هذه البرامج، منها ما وردتني رسالة من أحد الإخوة قال: أولاً: وزعنا مجموعة أشرطة أو كتيبات فكانت ردة الفعل جيدة جداً بل ممتازة وجمعيهم يدعون للمهدي ويشكرونه ولم يشذ إلا واحد وضعها فوق لوح السبورة.
فهذا يذكر أن جميع طلاب الفصل عندما وزعت عليهم هذه الأشرطة شكروا وقدروا وأنهم كلهم استجابوا ما عدا شخصاً واحداً وضع هذا الشريط فوق لوح السبورة.
ويقول أيضاً: إنه كلم بعضهم عن بعض بالقضايا الأخلاقية التي كانت منه سراً فأبدى تجاوباً ملحوظاً وبعضهم كلم في المرة الأولى فلم يستجب فلما كلم مرة أخرى أبدى استجابة كبيرة جداً.
وأيضاً يقول: إنه جمع مبلغ مائة وعشرين ريالاً من أربعة أشخاص في الفصل واشترى بعض الكتيبات والأشرطة للفصل.
على كل حال أشكر الإخوة الذين قدموا هذا الشيء ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل عملهم خالصاً لوجهه، وفي الواقع ذكر لي أكثر من واحد من الإخوة أنهم طبقوا هذه الطريقة وكانت ناجحة، وأنا أذكرها من باب حث الإخوة جميعاً على المساهمة، فإن الأخ عندما يرى غيره قد عمل وقد كان لعمله نتيجة وثمرة فإن ذلك يدعوه لا شك إلى أن يعمل أكثر، فعندما يطرح اقتراح محدد يعطي دافعاً، لكن أن تعرض تجربة عملية قد طبقت فهذا يعطي دافعاً أكبر.
ومن هنا فأنا أحث الإخوة جميعاً على أن يحرصوا على ما يطرح من برامج أو أن يبتكروا برامج، وكذلك أحثهم على تزويدنا ببعض هذه النتائج مما له أثر طيب حتى تقرأ على الإخوة الحاضرين فيتشجعوا ويشعروا بأن هذه الأمور سيكون فيها إن شاء الله خير كثير.
هذا الدرس سنركز فيه على قضايا الشباب، ولكن هذا لا يعني أن نقتصر عليها وحدها؛ ولهذا رأينا أن يكون اسم هذه السلسلة: دروس تربوية.
وبين يدي مجموعة من الموضوعات تكاد تكون متكاملة .. وهذا لا يعني أنني أستغني عن مواصلة الإخوة ومشاركتهم لي بما لديهم، فلدي موضوع بعنوان: حتى نستفيد من خطبة الجمعة، وموضوع بعنوان: حصاد الأفلام، وموضوع بعنوان: سد ذرائع الفاحشة، وموضوع بعنوان: إذ تلقونه بألسنتكم، وموضوع: الشباب والمشكلات، وموضوع: عدم الثقة بالنفس، وموضوع: من آفات النجباء، هذه كلها موضوعات تكاد تكون شبه متكاملة، لكني أطلب من الإخوة أن يواصلوني ويعطوني مما لديهم من أفكار أو معلومات، وخاصة في الموضوعين الأولين: حتى نستفيد من خطبة الجمعة، وموضوع: حصاد الأفلام، فلدي رصيد طيب من المقالات والإحصائيات وغيرها، لكن إذا كان أحد من الإخوة لديه أي معلومات حول الموضوع أو مقترحات فيزودنا بها؛ لأن المقصود هو فائدة الجميع.
وكذلك أيضاً إذا كان أحد الإخوة يقترح موضوعاً معيناً أو بعض الأفكار التي يرى طرحها ولو ضاق عنها هذا الدرس فإننا يمكن أن نطرحها في محاضرة أخرى، أو يستفاد منها في مناسبة أخرى.
هذا الموضوع التي سنتحدث عنه هو درس في العفة، وفي الواقع إن من أشد ما يعاني منه الشباب -خاصة في هذا العصر- مشكلة الشهوات، ومشكلة هذه الشهوة العارمة مع انتشار بواعث الفتنة والمثيرات وتنوعها وكثرتها، وفي خضم مثل هذه المثيرات وهذه الفتن يبقى الشاب صريعاً بين وازع الخير والإيمان والتقوى الذي يدعوه للعفة والمحافظة وبين الاستجابة لنفسه الأمارة بالسوء وهذه الغرائز.
وهذا الموضوع لي معه قصة قديمة: فقد كنت ألقيت محاضرة قبل سنوات بعنوان: الشباب والشهوة، ثم بعد ذلك أصدرت كتيباً وكان عنوانه: أخي الشاب كيف تواجه الشهوة، وبعد أن أصدرت هذا الكتيب وردت إلي رسائل كثيرة جداً، رسائل بريدية وأحياناً مكالمات هاتفية من كثير من الشباب يعرض مشاكل كثيرة حول هذا الموضوع مزعجة، ومنها رسائل أتتني من خارج المملكة، أما من خارج مدينة الرياض فهي كثيرة جداً ويكاد يكون بمعدل رسالة أو رسالتين أسبوعياً منذ أن صدر الكتاب إلى الآن، وأحرص أن أرد على كل رسالة ترد إلي ولو تأخرت في ذلك، ولكن في الواقع هذه الرسائل وتواليها أعطاني شعوراً بأن الموضوع ذو أهمية، وما كنت أظن أنه سيبلغ هذا الصدى وهذا الأثر عندما طرقته مما يشعر بأن الشباب لا يزالون يحتاجون.. وأن الشباب فعلاً يعانون من هذه المشكلة.
وهناك رسائل مؤثرة ومؤلمة في الواقع ولكن المشكلة أن الكثير من الشباب عندما يبعثون لي بالرسالة يقول: أرجو أن لا تقرأ هذه الرسالة في محاضرة أو تذكرها في كتاب، مع أني لو قرأت جزءاً منها فإنني لن أشير من قريب ولا بعيد إلى واقع مثل هذا الشاب، لكن من حقه علينا ما دام قد طلب منا هذا الطلب واستأمننا على سره أن لا نذكره، وأعرف أني لو أعرضه فإن الناس لن يفهموا من قريب ولا من بعيد أنه فلان، لن يفهم إلا هو ولكن ما دام قد طلب منا ذلك فليس لنا الحق، وما أريد أن أضيع الوقت بقراءة مثل هذه الرسائل لكنها معاناة كثيرة؛ ونتيجة لذلك رأيت أن الموضوع يستحق أيضاً معالجات أخرى وطرح أكثر.
وتحدثت في هذا الموضوع في بعض المدارس، وفي مناسبات أخرى فكانت تردني أسئلة كثيرة من الشباب تنم عن معاناة من هذه المشكلة، ومن هنا فأقول: ما دامت المشكلة بهذا القدر فهي تحتاج إلى عناية ومعالجة أكثر وتحتاج إلى تنويع الأساليب، ومن هنا فلدي ضمن هذا الدرس محاضرات خاصة في هذا الموضوع تعالجه من وجه آخر.
ومن هنا رأيت أيضاً أن أطرح هذا الموضوع الذي يعالج هذه القضية من جانب غير الجانب السابق الذي سبق أن طرحناه، وسنعرض لنموذج ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه عن قصة يوسف عليه السلام عندما واجهته الفتنة، وكيف صبر ونجاه الله سبحانه وتعالى منها.
ومن القضايا المهمة التي يحتاج إليها الشاب: القدوة العملية.. الصورة التي يراها شاخصة أمامه فيتخيل هذه الصورة ويتخيل تلك الحال والمغريات التي فيها والمثيرات التي فيها، وكيف نجاه الله سبحانه وتعالى فلا شك أن هذا يعتبر قدوة وأنموذجاً له.
أمامنا عدة نقاط منها:
عوامل الإغراء، ثم قوارب النجاة، ثم وقفات حول القصة، وأخيراً دروس أخيرة.
عوامل إغراء سيدنا يوسف عليه السلام بامرأة العزيز
أما عوامل الإغراء: فنحن عندما نتأمل هذه القصة وحتى نعرف الثبات الذي ثبته يوسف عليه السلام، وحتى نعرف كيف كان هذا ابتلاءً لنبي الله لا بد أن نتصور ونعيش جو القصة ونتصور عوامل الإغراء والإثارة التي كانت موجودة لدى يوسف عليه السلام، وهي عوامل يستطيع كل واحد منا أن يتصورها عندما يقرأ القصة ويتخيلها في ذهنه، وقد أشار الحافظ ابن القيم رحمه الله إلى عدة أمور أوصلها إلى ثلاثة عشر كلها كانت وسائل تغري وتثير وتهيج الفتنة لدى يوسف عليه السلام في مثل هذا الموقف.
أولها: العامل الطبعي، يعني: أن الرجل يميل إلى المرأة أصلاً، وكل الرجال -إلا من شذ- عنده هذه الشهوة.
العامل الثاني: كونه شاباً، ولا شك أن الشهوة عند الشاب تكون أكثر توقداً منه عند غيره، ومع زيادة الشهوة عنده فقدرته على ضبط نفسه وعلى الانتصار على نفسه أقل من قدرة غيره، ومن هنا تكون الصعوبة أكثر.
وتعرفون أنتم أن يوسف عليه السلام رمي وهو صغير، ثم بعد ذلك أخذ رقيقاً وهو لا يزال غلاماً حتى قال الله عز وجل: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ [يوسف:22-23] المهم أنه لا يهمنا الآن كم كان سن يوسف لكنه كان ولا شك قريباً من العشرين يزيد عنها قليلاً أو ينقص عنها قليلاً، المهم أنه في زهرة الشباب التي تشتد فيها هذه الشهوة.
العامل الثالث: أنه كان أعزب لم يتزوج بعد، ولا شك أن هذا أيضاً أمر له أهميته، فالمتزوج قد يسر الله له طريق الحلال والطريق الشرعي، فلو أثاره ما أثاره فأمامه المصرف الشرعي، أما هذا الشاب الذي لم يتزوج بعد ولم يحصن نفسه فإنه أكثر عرضة للوقوع في المعصية من غيره.
ومن هنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الشباب فقال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) .
العامل الرابع: كونه في بلد غربة، فالإنسان عندما يكون غريباً بعيداً عن أهله فإن هذا يدعوه أن يمارس ما يمارس خاصة عندما يتركهم وهو في سن الطفولة، فليس هناك وازع يمنعه.
فوجود الغربة لا شك أنها تدعوه إلى أن ينطلق وينفلت من هذه القيود التي قد تقيده وتحجمه، وكما نشاهد الآن أن المرء إذا اغترب عن بلده أصبح أكثر عرضة للانفلات والضياع منه عندما يكون عند بني قومه وأهله وعشيرته.
العامل الخامس: أن المرأة ذات منصب وجمال، أما كونه ذات منصب فهذا واضح، وأما كونها ذات جمال فقال رحمه الله: إن العادة في مثل العزيز أن لا يتزوج إلا امرأة ذات جمال.
العامل السادس: كونها غير ممتنعة ولا أبية، فإن مما يصد المرء أحياناً عن مواقعة المعصية أن تتمنع المرأة وتأبى، وهي هنا غير ممتنعة.
العامل السابع: أنها طلبت وأرادت وراودت وبذلت الجهد فكفته مؤنة الطلب وبذل الرغبة، فهي الراغبة الذليلة وهو العزيز المرغوب فيه، فإن الشاب مثلاً قد تدعوه الشهوة إلى أن يواقع المعصية لكن أمامه عقبة، وعندما يتجرأ فيصرح برغبته ويطلب ذلك فإنه يقابل عقبة قد تكون كبيرة، وقد تكون حائلاً دون مواقعة المعصية، أما الآن فقد زالت هذه العقبة، بل المرأة قد أبدت رغبتها وصرحت وراودته ودعته وتجاوز الأمر إلى قضية التهديد والوعيد له فاجتمع له الترغيب والترهيب كما سيأتي.
فحينئذ حتى ولو كان الشاب ليس لديه رغبة ابتداءً فإن مثل هذا الموقف يثير الرغبة لديه.
العامل الثامن: أنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها، بحيث يخشى أذاها إن لم يطاوعها فاجتمع له الرغبة والرهبة.
العامل التاسع: أنه لا يخشى أن تنم عليه لأنها الراغبة، فالمرء قد يترك المعصية لا خوفاً من الله عز وجل إنما يخشى من الفضيحة ويخشى من نتائج المعصية في الدنيا، أما الآن فهو لا يخشى فالمرأة هي الراغبة وهي الداعية، فحينئذ يكون في أمان من أن يفتضح ويشتهر أمره.
العامل العاشر: قربه منها وكونه مملوكاً لها مما يورث طول الأنس.
فهو مملوك يقابلها كل يوم ويلقاها ويخدمها ويدخل عليها في أحوال لا يدخل عليها فيها غيره، بل لا شك أن هذا يدعوه إلى أن يرى منها ما لا يرى منها غيره وهذا يكون أدعى إلى أن تثور لديه الرغبة، بخلاف من يلتقي بفتاة لأول مرة أو يرى صورة عارية لأول مرة.
العامل الحادي عشر: استعانتها بأئمة المكر والاحتيال وهن النساء، فإن النساء عندما كدنها: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا [يوسف:30-31] فهي هنا استعانت عليه بالنساء وهن أئمة المكر والاحتيال، بل منهم من قال: إن كيد المرأة قد فاق كيد الشيطان قال تعالى: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28] وقال في آية أخرى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76] .
ولكن لا شك أن المرأة الصالحة القانتة التائبة العابدة بعيدة عن هذا كله.
المهم: أن المرأة استعانت عليه أيضاً بالنسوة مرة أخرى فتكرر الموقف مرة أخرى، فإنها راودته عن نفسه وحصل ما حصل فاستعصم وأعانه الله سبحانه وتعالى، فلما أثارت النساء القضية أرادت الآن أن تصيد عصفورين بحجر، فأرادت أن تكيد النسوة وأرادت أن تستعين عليه بذلك، فجمعت النسوة على الطعام وآتت كل واحدة منهن سكيناً، فدعت يوسف عليه السلام أن يخرج إليهن: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:31-32].
تخيل معي يوسف عليه السلام ينجو من الابتلاء الأول، ثم يأتي مرة أخرى فتتآمر عليه المرأة مع النسوة فتجتمع النسوة فعندما يخرج عليهن يسمع هذا الكلام بمحضره: مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31] قالت المرأة: فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] يسمع حينئذ كيد النسوة وحديث النسوة، ثم يسمع مرة أخرى هذه المرأة تقولها بكل وقاحة وجرأة أمام النسوة متهددة: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] حينئذ لجأ إلى الله وقال: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33].
العامل الثاني عشر: التوعد بالسجن والصغار، وهذا نوع إكراه؛ لأنها قالت: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] وهي تملك ذلك، فهي زوجة العزيز والأمر بيديها وهي ممن وصفت بأن كيدها عظيم، فتستطيع أن تتصرف وأن تسجنه، وقد تم ذلك فعلاً ودخل يوسف عليه السلام السجن.
العامل الثالث عشر: أن الزوج لم يظهر الغيرة والنخوة، جاء الزوج وشهد الشاهد واتضحت الأمور أمامه، ماذا كان موقفها من الزوج الديوث كما وصفه شيخ الإسلام ابن تيمية ؟ هذا الزوج قال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [يوسف:29] وانتهى الموضوع، يعني: يا يوسف ليس هناك داع لإثارة الموضوع ولا إثارة المشاكل وأغلق الملف ولا تتحدث عن هذا الموضوع، وأنت استغفري لذنبك فإنك قد وقعت في خطأ وانتهت القضية، وهذه دياثة.
ولـسيد قطب رحمه الله في الظلال إشارة جميلة حول هذه القضية، يقول: ها هو يوسف يعيش في هذا البيت، عادة بيوت علية القوم قضية الفاحشة وقضية الفساد الأخلاقي يكون منتشراً فيها، أو على الأقل هذه القضايا لا تحرك ساكناً عندهم، فتأتي امرأته وتراود فتاها وتظهر القضية، وبعد ذلك تكون الصورة واضحة أمامه ثم ما يكون منه إلا أن يقول: (أعرض عن هذا) دع الموضوع، ما في داعي لإثارة الموضوع، وأنت استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين.
الآن حصلت هذه المحاولة الأولى أمام يوسف فعرف أن هذا الزوج ديوث لن يمانع، فالمرء قد تحدثه نفسه بالفاحشة لكنه يخشى من الوالد أو من الزوج أو من غيره، فالآن اتضح له أن مثل هذا الزوج لا يحرك ساكناً، وكل الجو الذي كان في بيت الملك جو فساد، وتأتي المرأة وتجمع النسوة وبكل تبجح: فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] .
هنا يوسف عليه السلام واجه ابتلاءً، وواجه عوامل إغراء كثيرة، ولعلكم تصورتم الموقف الذي عاشه يوسف ومع ذلك نجا، وكل منا يتطلع إلى هذا النموذج ليكون قدوة له يحتذي به، وحينئذ عندما ينتصر على نفسه ويستعلي على شهواته يرى أنه يسير على خطى مثل هذا الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل: (من خير الناس؟ قال: أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فخير الناس نبي الله! بن نبي الله! بن نبي الله! بن خليل الله - يوسف عليه السلام - قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألونني: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا).
المهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعله خير الناس، والله سبحانه وتعالى يقول في مقدمة هذه السورة: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف:3] .
ويقول: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111] .. وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120] .. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام:90].
هذه نماذج يتطلع إليها الشاب.. فهو يتطلع إلى أن يتأسى بيوسف عليه السلام وأن يكون مثله، وقد لا يصل إلى هذه المنزلة وأنى لمرء أن يصل إلى هذه المنزلة التي يصل إليها أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، ولكنه يرى هؤلاء مثلاً وقدوة يحتذي بهم.
والشاب مهما بلغ به الضعف واستحكمت به الشهوة قادر أن يصل إلى تلك المنازل أو إلى قريب منها بالعفة والانتصار على النفس عندما يستعين بالله سبحانه وتعالى.
ما الأمور التي نجا بها يوسف، أو ما اصطلحنا على أن نسميه: قوارب النجاة التي تمسك بها يوسف فأنجاه الله سبحانه وتعالى، ولكني أرى أن نؤخر هذه النقطة فنقدم النقطة التي تليها، ثم بعد ذلك نعود إليها.
أما عوامل الإغراء: فنحن عندما نتأمل هذه القصة وحتى نعرف الثبات الذي ثبته يوسف عليه السلام، وحتى نعرف كيف كان هذا ابتلاءً لنبي الله لا بد أن نتصور ونعيش جو القصة ونتصور عوامل الإغراء والإثارة التي كانت موجودة لدى يوسف عليه السلام، وهي عوامل يستطيع كل واحد منا أن يتصورها عندما يقرأ القصة ويتخيلها في ذهنه، وقد أشار الحافظ ابن القيم رحمه الله إلى عدة أمور أوصلها إلى ثلاثة عشر كلها كانت وسائل تغري وتثير وتهيج الفتنة لدى يوسف عليه السلام في مثل هذا الموقف.
أولها: العامل الطبعي، يعني: أن الرجل يميل إلى المرأة أصلاً، وكل الرجال -إلا من شذ- عنده هذه الشهوة.
العامل الثاني: كونه شاباً، ولا شك أن الشهوة عند الشاب تكون أكثر توقداً منه عند غيره، ومع زيادة الشهوة عنده فقدرته على ضبط نفسه وعلى الانتصار على نفسه أقل من قدرة غيره، ومن هنا تكون الصعوبة أكثر.
وتعرفون أنتم أن يوسف عليه السلام رمي وهو صغير، ثم بعد ذلك أخذ رقيقاً وهو لا يزال غلاماً حتى قال الله عز وجل: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ [يوسف:22-23] المهم أنه لا يهمنا الآن كم كان سن يوسف لكنه كان ولا شك قريباً من العشرين يزيد عنها قليلاً أو ينقص عنها قليلاً، المهم أنه في زهرة الشباب التي تشتد فيها هذه الشهوة.
العامل الثالث: أنه كان أعزب لم يتزوج بعد، ولا شك أن هذا أيضاً أمر له أهميته، فالمتزوج قد يسر الله له طريق الحلال والطريق الشرعي، فلو أثاره ما أثاره فأمامه المصرف الشرعي، أما هذا الشاب الذي لم يتزوج بعد ولم يحصن نفسه فإنه أكثر عرضة للوقوع في المعصية من غيره.
ومن هنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الشباب فقال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) .
العامل الرابع: كونه في بلد غربة، فالإنسان عندما يكون غريباً بعيداً عن أهله فإن هذا يدعوه أن يمارس ما يمارس خاصة عندما يتركهم وهو في سن الطفولة، فليس هناك وازع يمنعه.
فوجود الغربة لا شك أنها تدعوه إلى أن ينطلق وينفلت من هذه القيود التي قد تقيده وتحجمه، وكما نشاهد الآن أن المرء إذا اغترب عن بلده أصبح أكثر عرضة للانفلات والضياع منه عندما يكون عند بني قومه وأهله وعشيرته.
العامل الخامس: أن المرأة ذات منصب وجمال، أما كونه ذات منصب فهذا واضح، وأما كونها ذات جمال فقال رحمه الله: إن العادة في مثل العزيز أن لا يتزوج إلا امرأة ذات جمال.
العامل السادس: كونها غير ممتنعة ولا أبية، فإن مما يصد المرء أحياناً عن مواقعة المعصية أن تتمنع المرأة وتأبى، وهي هنا غير ممتنعة.
العامل السابع: أنها طلبت وأرادت وراودت وبذلت الجهد فكفته مؤنة الطلب وبذل الرغبة، فهي الراغبة الذليلة وهو العزيز المرغوب فيه، فإن الشاب مثلاً قد تدعوه الشهوة إلى أن يواقع المعصية لكن أمامه عقبة، وعندما يتجرأ فيصرح برغبته ويطلب ذلك فإنه يقابل عقبة قد تكون كبيرة، وقد تكون حائلاً دون مواقعة المعصية، أما الآن فقد زالت هذه العقبة، بل المرأة قد أبدت رغبتها وصرحت وراودته ودعته وتجاوز الأمر إلى قضية التهديد والوعيد له فاجتمع له الترغيب والترهيب كما سيأتي.
فحينئذ حتى ولو كان الشاب ليس لديه رغبة ابتداءً فإن مثل هذا الموقف يثير الرغبة لديه.
العامل الثامن: أنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها، بحيث يخشى أذاها إن لم يطاوعها فاجتمع له الرغبة والرهبة.
العامل التاسع: أنه لا يخشى أن تنم عليه لأنها الراغبة، فالمرء قد يترك المعصية لا خوفاً من الله عز وجل إنما يخشى من الفضيحة ويخشى من نتائج المعصية في الدنيا، أما الآن فهو لا يخشى فالمرأة هي الراغبة وهي الداعية، فحينئذ يكون في أمان من أن يفتضح ويشتهر أمره.
العامل العاشر: قربه منها وكونه مملوكاً لها مما يورث طول الأنس.
فهو مملوك يقابلها كل يوم ويلقاها ويخدمها ويدخل عليها في أحوال لا يدخل عليها فيها غيره، بل لا شك أن هذا يدعوه إلى أن يرى منها ما لا يرى منها غيره وهذا يكون أدعى إلى أن تثور لديه الرغبة، بخلاف من يلتقي بفتاة لأول مرة أو يرى صورة عارية لأول مرة.
العامل الحادي عشر: استعانتها بأئمة المكر والاحتيال وهن النساء، فإن النساء عندما كدنها: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا [يوسف:30-31] فهي هنا استعانت عليه بالنساء وهن أئمة المكر والاحتيال، بل منهم من قال: إن كيد المرأة قد فاق كيد الشيطان قال تعالى: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28] وقال في آية أخرى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76] .
ولكن لا شك أن المرأة الصالحة القانتة التائبة العابدة بعيدة عن هذا كله.
المهم: أن المرأة استعانت عليه أيضاً بالنسوة مرة أخرى فتكرر الموقف مرة أخرى، فإنها راودته عن نفسه وحصل ما حصل فاستعصم وأعانه الله سبحانه وتعالى، فلما أثارت النساء القضية أرادت الآن أن تصيد عصفورين بحجر، فأرادت أن تكيد النسوة وأرادت أن تستعين عليه بذلك، فجمعت النسوة على الطعام وآتت كل واحدة منهن سكيناً، فدعت يوسف عليه السلام أن يخرج إليهن: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:31-32].
تخيل معي يوسف عليه السلام ينجو من الابتلاء الأول، ثم يأتي مرة أخرى فتتآمر عليه المرأة مع النسوة فتجتمع النسوة فعندما يخرج عليهن يسمع هذا الكلام بمحضره: مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31] قالت المرأة: فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] يسمع حينئذ كيد النسوة وحديث النسوة، ثم يسمع مرة أخرى هذه المرأة تقولها بكل وقاحة وجرأة أمام النسوة متهددة: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] حينئذ لجأ إلى الله وقال: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33].
العامل الثاني عشر: التوعد بالسجن والصغار، وهذا نوع إكراه؛ لأنها قالت: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] وهي تملك ذلك، فهي زوجة العزيز والأمر بيديها وهي ممن وصفت بأن كيدها عظيم، فتستطيع أن تتصرف وأن تسجنه، وقد تم ذلك فعلاً ودخل يوسف عليه السلام السجن.
العامل الثالث عشر: أن الزوج لم يظهر الغيرة والنخوة، جاء الزوج وشهد الشاهد واتضحت الأمور أمامه، ماذا كان موقفها من الزوج الديوث كما وصفه شيخ الإسلام ابن تيمية ؟ هذا الزوج قال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [يوسف:29] وانتهى الموضوع، يعني: يا يوسف ليس هناك داع لإثارة الموضوع ولا إثارة المشاكل وأغلق الملف ولا تتحدث عن هذا الموضوع، وأنت استغفري لذنبك فإنك قد وقعت في خطأ وانتهت القضية، وهذه دياثة.
ولـسيد قطب رحمه الله في الظلال إشارة جميلة حول هذه القضية، يقول: ها هو يوسف يعيش في هذا البيت، عادة بيوت علية القوم قضية الفاحشة وقضية الفساد الأخلاقي يكون منتشراً فيها، أو على الأقل هذه القضايا لا تحرك ساكناً عندهم، فتأتي امرأته وتراود فتاها وتظهر القضية، وبعد ذلك تكون الصورة واضحة أمامه ثم ما يكون منه إلا أن يقول: (أعرض عن هذا) دع الموضوع، ما في داعي لإثارة الموضوع، وأنت استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين.
الآن حصلت هذه المحاولة الأولى أمام يوسف فعرف أن هذا الزوج ديوث لن يمانع، فالمرء قد تحدثه نفسه بالفاحشة لكنه يخشى من الوالد أو من الزوج أو من غيره، فالآن اتضح له أن مثل هذا الزوج لا يحرك ساكناً، وكل الجو الذي كان في بيت الملك جو فساد، وتأتي المرأة وتجمع النسوة وبكل تبجح: فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] .
هنا يوسف عليه السلام واجه ابتلاءً، وواجه عوامل إغراء كثيرة، ولعلكم تصورتم الموقف الذي عاشه يوسف ومع ذلك نجا، وكل منا يتطلع إلى هذا النموذج ليكون قدوة له يحتذي به، وحينئذ عندما ينتصر على نفسه ويستعلي على شهواته يرى أنه يسير على خطى مثل هذا الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل: (من خير الناس؟ قال: أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فخير الناس نبي الله! بن نبي الله! بن نبي الله! بن خليل الله - يوسف عليه السلام - قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألونني: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا).
المهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعله خير الناس، والله سبحانه وتعالى يقول في مقدمة هذه السورة: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف:3] .
ويقول: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111] .. وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120] .. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام:90].
هذه نماذج يتطلع إليها الشاب.. فهو يتطلع إلى أن يتأسى بيوسف عليه السلام وأن يكون مثله، وقد لا يصل إلى هذه المنزلة وأنى لمرء أن يصل إلى هذه المنزلة التي يصل إليها أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، ولكنه يرى هؤلاء مثلاً وقدوة يحتذي بهم.
والشاب مهما بلغ به الضعف واستحكمت به الشهوة قادر أن يصل إلى تلك المنازل أو إلى قريب منها بالعفة والانتصار على النفس عندما يستعين بالله سبحانه وتعالى.
ما الأمور التي نجا بها يوسف، أو ما اصطلحنا على أن نسميه: قوارب النجاة التي تمسك بها يوسف فأنجاه الله سبحانه وتعالى، ولكني أرى أن نؤخر هذه النقطة فنقدم النقطة التي تليها، ثم بعد ذلك نعود إليها.
هناك وقفات حول القصة: وهي قضايا تحتاج إلى أن نوضحها ونقف حول ما ذكره المفسرون في هذه القصة ثم نعود بعد ذلك إلى قوارب النجاة والأمور التي استمسك بها يوسف عليه السلام فنجا.
أولاً: يقول الله عز وجل: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24] فهنا ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه أن يوسف هم بالمرأة.
أما كونها همت به فهذه قضية واضحة لا إشكال فيها، ولكن الإشكال هنا أن يوسف عليه السلام هم بالمرأة، فما معنى الهم هنا؟
أقوال المفسرين كثيرة حول هذه القضية نشير إليها بإيجاز، ثم نختار بعد ما يظهر أنه يليق بمقام أنبياء الله.
هناك مقدمة لا بد منها، وهي: أننا نعتقد نزاهة أنبياء الله ونزاهة يوسف عليه السلام، ويوسف ما عرضه الله سبحانه وتعالى في هذه القصة؛ إلا أنه نموذج ومثل يحتذى، ولا ينبغي أن ننساق وراء الأقوال التي يذكرها بعض المفسرين والتي كثير منها منقول عن بني إسرائيل، وفيها أحياناً اتهام ليوسف، وفيها كما قال سيد قطب رحمه الله تصوير لا يليق بنبي الله عز وجل يوسف وقد أسرف بعض من تحدث في هذه القصة وأطال في ذكر الإسرائيليات أحياناً لا تليق بمقام أنبياء الله:
ومن ذلك ما يذكره بعضهم أن أحدهم دعته أعرابية فامتنع فرأى يوسف في المنام فقال: من أنت؟ فقال: أنا يوسف الذي هممت وأنت لم تهم، فكأن مثل هذا يجعل نفسه أفضل وأعلى من منزلة يوسف عليه السلام، ومن أجمل ما قيل فيها ما قاله شيخ الإسلام ، قال: هب أن يوسف قال هذا الكلام في اليقظة فإنه يقوله تواضعاً كما يقول المرء: فلان خير مني، ويقول: أنا ظالم لنفسي وأنا مقصر، ولكن مهما كان لا يمكن أبداً يكون مثل يوسف عليه السلام.
المهم: أننا عندما نقرأ في التفسير سواء حول هذه القصة أو غيرها يجب أن لا ننساق وراء بعض الإسرائيليات أو الروايات، وعلينا أن نقرأ مثل هذه الأمور ونتعامل معها بروح التقدير واعتقاد العفة والمنزلة العالية لأنبياء الله عليهم صلوات الله وسلامه.
هنا قيلت أقوال كثيرة منها: أنه هم بهذه السيئة ولم يعملها حين حدثته نفسه لكنه لم يعمل ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من هم بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة كاملة) وقالوا: فالهم هنا مثل الصائم يرى الماء البارد فهو يحدث نفسه أن يشرب الماء البارد لكنه لا يقدم على ذلك؛ مخافة من الله سبحانه وتعالى، وقالوا: فهذه حسنة يثاب عليها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب السيئات والحسنات فمن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة).
ويقول شيخ الإسلام : إن الله عز وجل لم يذكر عن أي نبي من أنبيائه أنه وقع في معصية إلا وذكر أنه تاب منها واستغفر منها فهو هنا لم يذكر أن يوسف تاب واستغفر، وهذا دليل على أنه لم يقع منه أي معصية.
القول الثاني: قالوا: أنه هم بضربها.
القول الثالث: أنه حدث نفسه أن تكون زوجة له، فإنه لما رأى جمالها ومنصبها قال: ماذا لو كانت هذه زوجة لي.
الذي يقول هذه الأقوال يعتقد أن يوسف عليه السلام بعيد عن كل هذه الأمور ويحاول أن يدافع عنه وينزهه، فيحاول أن يجد مخرجاً يلجأ إليه.
وهناك قول آخر ذكره أبو حيان واختاره الشنقيطي في أضواء البيان وأطال في استظهار هذا القول، قال: إن يوسف لم يقع منه الهم أصلاً؛ لأن الله عز وجل قال: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24] و(لولا): حرف امتناع لوجود، فهو هنا قد امتنع منه الهم؛ نظراً لأنه رأى برهان ربه، وكأن الكلام فيه تقديم وتأخير فيكون: ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها، مثل قول الله عز وجل: إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا [القصص:10] فهي لم تبد به أصلاً لأن الله ربط على قلبها، فحينئذ يقول: إن يوسف لم يهم أصلاً لأنه رأى برهان ربه، وهو قول له وجاهته كما ذكر أبو حيان وكما ذكر الشنقيطي ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى أضواء البيان.
وفعلاً: عندما تتأمل في هذا القول تجده قوياً ووجيهاً فهو نظير قول الله عز وجل: إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا [القصص:10]، فهي لم تبد به أصلاً؛ لأن الله قد ربط على قلبها وحينئذ يكون يوسف عليه السلام لم يهم؛ لأن قد رأى برهان ربه.
ولو لم يصح هذا القول فإن القول الآخر الذي لا ينبغي خلافه هو أن يوسف عليه السلام حدثته نفسه كما تحدث نفس الإنسان في أي معصية لكنه لم يفعل شيئاً.
أما ما يذكرونه من أنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته ثم رأى صورة يعقوب ثم أقدم، ثم رأى كفه ثم أقدم، حتى دفعه جبريل بيده كما قال سيد رحمه الله، قال: يخيل يوسف قد بلغ منه الشهوة والاندفاع لحد أنه لا يمتنع حتى يدفعه جبريل عليه السلام، هذه قضية أبعد ما يكون منها أنبياء الله عز وجل.
المهم: أن الذي يظهر كما قلنا هو ما ذكره أبو حيان واختاره الشنقيطي من أنه لم يهم أصلاً؛ لأنه رأى برهان ربه، ولو امتنع هذا القول فإن القول الآخر الذي لا ينبغي خلافه: هو أن ما حصل من يوسف هو مجرد حديث للنفس، وهذا أمر يثاب عليه كما تقدم.
بل هذا بشر يقع في هذا الموقع لا بد أن تحدثه نفسه، لكن العبرة هي بانتصاره على نفسه وثباته بعد ذلك.
الوقفة الثانية: ما المقصود ببرهان ربه: لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24]؟
ذكر المفسرون أقوالاً كثيرة منها: أنه رأى صورة يعقوب عاضاً على أنامله.
منها: أنه رأى كف يعقوب.
منها: أنه رأى آية: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32]، ومنهم من قال: إنه رآها مكتوبة على جبهتها.. وقيل: رآها مكتوبة على الحائط.. وقيل: إنه خرجت له كف مكتوب فيها: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى) ثم لم يمتنع، ثم خرجت له كف مكتوب فيها: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] ولم يمتنع حتى جاء جبريل ودفعه، وهذا كما قلنا لا يليق أبداً بحال يوسف عليه السلام.
منهم من قال: إن جبريل دفعه بيده حتى هرب بعد ذلك.
ومنهم من قال: إنه كان هناك صنم في الغرفة فجاءت تغطيه، فقال: لماذا؟ قالت: أستحي من إلهي، قال: وأنا أحق أن أستحي.
على كل حال: كل هذه الأقوال ليس عليها دليل صحيح، وكلها مرويات عن بني إسرائيل، وليس لنا حاجة أن نعرف ما هذا البرهان ولو كان فيه حاجة لأخبرنا الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل أبهمه: لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24].
وإنما ذكرناها؛ لأني أعرف أن هناك من يتساءل عنه، وهي قضايا كثيرة أحياناً يوقف عندها، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ [يس:13] من هم أصحاب القرية؟ في قصة أصحاب الكهف مثلاً.. سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22] ما لون الكلب وما اسمه ومن فلان؟ هذه أمور أبهمها الله عز وجل فلا حاجة ولا مصلحة إلى أن نفتش عنها، ومهما ذكرها المفسرون، بل يجب أن نتعامل مع مثل هذه الآيات ومع مثل هذه القصص كما ذكرها الله في كتابه، فنقول: رأى يوسف عليه السلام برهان ربه، وهذا البرهان لا يعنينا بقليل ولا بكثير، المهم أن الله وفقه وأعانه فرأى هذا البرهان.
يقول ابن جرير رحمه الله: وجائز أن تكون تلك الآية صورة يعقوب، وجائز أن تكون صورة الملك، وجائز أن يكون الوعيد في الآيات التي ذكرها الله في القرآن على الزنا، ولا حجة للعذر قاطعة بأي ذلك، والصواب أن يقال في ذلك ما قاله الله تبارك وتعالى والإيمان به وترك ما عدا ذلك إلى عالمه.
يعني: الصواب أن نقول: إن يوسف رأى برهان ربه، أما ما يروى عن بني إسرائيل فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم).
قضية أخرى: قال الله عز وجل: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ [يوسف:26].
نفس الكلام نقوله في الشاهد، ومن هنا: فأرى أنه ليس هنا حاجة للاستطراد في قضية الشاهد، وما قاله المفسرون هنا حول الشاهد حتى نتربى ونتعود على هذا المنهج، فهذا أمر أبهمه الله، ولم يذكر: هل هو رضيع.. هل هو رجل كبير.. هل هو القميص.. والمهم: أن الله وفقه ومنَّ عليه فرأى برهان ربه فأعانه الله سبحانه وتعالى وحفظه فرأى هذا الشاهد فحماه الله سبحانه وتعالى.
القضية الرابعة: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23]، ما المقصود هنا بقوله: (إِنَّهُ رَبِّي)؟
الأظهر أن قوله: (إِنَّهُ رَبِّي) يعني: العزيز ، يعني: سيده، وهذا أمر كان مستعملاً عندهم فقد قال: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ [يوسف:50] .. أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا [يوسف:41] .. اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف:42] كل هذه مقصود بها: العزيز .
إذاً: فقوله: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23] أي: إن العزيز قد أحسن مثواي وأكرمني فلا يليق أن أخونه في أهله، لكن لماذا قال يوسف عليه السلام لما دعته إلى نفسها: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23] فاعتذر بهذا العذر، فلماذا لم يخوفها بالله، والمانع الحقيقي الذي منع يوسف عليه السلام هو الخوف من الله؟
قال شيخ الإسلام وغيره: إن المرأة هنا امرأة مستحكمة الشهوة لا تخاف الله عز وجل، فلو خوفها بالله لم ترتدع لكنه هو يريد أن يصرفها عن نفسه بأي وسيلة، فأراد أن يخوفها بزوجها فقال: إن هذا الزوج هو ربي وسيدي وأحسن مثواي وأكرمني فلا يليق بي أن أخونه في أهله، كان يظن يوسف عليه السلام أن زوجها يملك قدراً من الغيرة أو عنده بقية من الغيرة فحينئذ المرأة قد لا تخاف من الله عز وجل لكن عندما يخوفها بزوجها حينما يعلم عنها قد ترتدع.
وهذا فيه درس أن الإنسان يصرف الفتنة عنه ولو بما دون ذلك، أي: قد يذكر فلاناً من الناس أو يحدثه أو ينصحه ويعظه بما هو دون ما ينبغي، فهو مثلاً قد لا يرتدع من خوفه من الله عز وجل، قد يكون إنساناً عنده إيمان ضعيف لكن يمكن أن نحدثه عن قضايا دون ذلك، نحدثه مثلاً عن الأمراض الجنسية، أو نحدثه عن شؤم المعصية في الدنيا، أو غير ذلك، المهم هو ردعه عن هذه المعصية بأي وسيلة.
فيوسف عليه السلام هنا رأى أن أفضل طريقة تخلصه من هذه المرأة هو أن يقول لها هذا الكلام، أن يقول لها: إنني لا أريد أن أخون سيدي وزوجك فأراد أن يستثير عندها قضية غيرة الزوج.
أخيراً: برأ الله سبحانه وتعالى يوسف هنا، وهنا عدة أمور تدل على براءة يوسف عليه السلام:
أولها: تبرئة الله سبحانه وتعالى له، وأعظم بها شاهدة! كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] .
الأمر الثاني: الشاهد، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27] فقد برأه الشاهد هنا.
الأمر الثالث: العزيز نفسه، فإنه لما حصلت القضية قال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [يوسف:29] فهذا دليل على أن العزيز يعترف فعلاً ويرى أن يوسف بريء من هذه التهمة.
كذلك المرأة نفسها قالت: وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] وفي الآية الأخرى: قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51] .
كذلك النسوة: فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:50] فماذا قال النسوة؟ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ [يوسف:51].
كذلك هو نفسه عليه السلام تبرأ من هذه التهمة: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي [يوسف:23].
وأخيراً قالوا: إن الشيطان أيضاً قد شهد ليوسف بالبراءة: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83] والله سبحانه وتعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، فقد حكم الله ليوسف بأنه من المخلصين، والشيطان قد أخبر بأنه ليس له سلطان على هؤلاء المخلصين.
بعد ذلك ننتقل إلى نقطة أخرى وهي: قوارب النجاة.
ما هي الأمور التي تمسك بها يوسف عليه السلام فكانت بعد توفيق الله عز وجل سبباً لحمايته ولنجاحه في هذا الابتلاء:
أول أمر: الورع والخوف من الله عز وجل:
والخوف من الله سبحانه وتعالى هو العاصم بإذن الله عز وجل من الوقوع في أي معصية وأي فاحشة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله - وذكر منهم قال -: ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).
الإنسان قد تدعوه المغريات.. قد يأمن عقوبة الدنيا.. قد تكون هناك أمور كثيرة تدعوه إلى مواقعة المعصية، لكنه عندما يعلم أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليه فحينئذ لا يمكن أن يتجرأ على هذه المعصية: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12] .. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:31-33] .
فإذا أردت النجاة من معاصي الله سبحانه وتعالى صغيرها وكبيرها فرب في نفسك الخوف من الله سبحانه وتعالى، واحرص على تحصيل هذه العبادة، واحرص على أن تملأ قبلك من الخوف من الله سبحانه وتعالى وخشيته، حينئذ هذا أعظم رادع ومانع وحاجز للمرء عن الإقدام على معصية الله سبحانه وتعالى.
الأمر الثاني: توفيق الله وإعانته، فإن الله سبحانه وتعالى قال: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24] فإنه لو لم ير برهان ربه لهم بها.
ويقول الله عز وجل أيضاً في الآية الأخرى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] وتأمل هذا المعنى، فإن الله لم يقل: لنصرفه عن السوء والفحشاء بل قال: لنصرف عنه السوء والفحشاء، فكأن السوء والفحشاء صرفت عنه، وهذا أبلغ، وهو من تمام توفيق الله عز وجل وحفظه له؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس : (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك) فحينما يحفظ الله سبحانه وتعالى يحفظه الله عز وجل، وأتم حفظ الله سبحانه وتعالى لهذا العبد أن يحفظه في أمور دينه، وأن يعصمه من الوقوع في المعصية والفحشاء.
الأمر الثالث أيضاً: الفرار من أسباب المعصية، فيوسف عليه السلام خشي الله سبحانه وتعالى وخافه، ورأى برهان ربه، ومع ذلك ما وقف بل فر، وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ [يوسف:25] فرأى أنه مع خوفه من الله ومع خشيته من الله عز وجل، ومع امتناعه لم يبق في هذا المقام، بل رأى أنه لا بد أن يفارق مكان المعصية وأسباب المعصية.
وهذه قضية مهمة في علاج مثل هذا الداء، وهي أن ترك المرء دواعي المعصية، وأن يفعل كما فعل يوسف عليه السلام، حيث وصل به الأمر إلى أن يجري وتجري المرأة وراءه كل يريد أن يدرك الباب قبل صاحبه (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) فلا تثق بنفسك وتقف! بل أغلق على نفسك أبواب المعصية، وهذا من تمام اعتماد المرء على الله سبحانه وتعالى وتمام تخليه عن الحول والطول، وشعوره بأنه لا يمكن أن يستغني عن الله سبحانه وتعالى كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء: (اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين) فإنك إذا وكلك الله إلى نفسك لا يمكن أبداً أن تنجو.
وكلما ازداد المرء توكلاً على الله سبحانه وتعالى وأخذاً بالأسباب وتفويضاً إليه سبحانه وتعالى كان ذلك أولى أن يحفظه الله سبحانه وتعالى ويعينه.
الأمر الرابع: الدعاء، دعا الله عز وجل فقال: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33]، سأل الله أن يصرف عنه كيدهن، وتبرأ إلى الله من كل حول وطول (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) فإذا كان يوسف عليه السلام لا يستغني عن توفيق الله وإعانة الله فغيره من باب أولى.
فالدعاء هو سلاح المؤمن، وهو الوسيلة التي يتصل بها المرء بالله سبحانه وتعالى، ومن هنا يخاطب الله عز وجل عباده: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] .. وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديث جامع: (ما على وجه الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها) وهذا نص عام، فما بالك إذا كان هذا الداعي مقبلاً على الله.. ما بالك إذا كان هذا الداعي قد نفى عن نفسه الحول والطول وطرح نفسه بين يدي الله عز وجل.. ما بالك إذا كان مضطراً: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62] .
إذاً: فينبغي لنا أن ندعو الله عز وجل، ونتوجه إلى الله في كل ما نحتاج إليه من أمر ديننا ودنيانا، ومهما بلغ العبد من التقوى والطاعة والإقبال على الله عز وجل فإنه لا يستغني عن استهداء الله وسؤال الله التثبيت، أليس الله قد افترض على كافة عباده الأتقياء قبل الفجار أن يتوجهوا إليه كل يوم: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] .. أليس الله يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم).
نبينا صلى الله عليه وسلم يدعو الله عز وجل فيقول: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
ويسأل الله فيقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك).
وانظروا إلى إبراهيم عليه السلام يدعو الله سبحانه وتعالى بعد أن حطم الأصنام وواجه من قومه ما واجه يقول: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35] إذاً: فلا ينبغي أن نقصر في الدعاء ونترك الدعاء، ومهما شعر المرء بثباته وتقواه وطاعته فإنه لا يستغني أبداً عن دعاء الله سبحانه وتعالى أن يثبته وأن يعينه وأن يهديه إلى صراطه المستقيم.
الأمر الخامس: هو صلاحه وطاعته وتقواه فكان ذلك من أسباب توفيق الله له: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] وقرأ هذه الآية ابن عامر وأبو عمرو وابن كثير : (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ) بكسر اللام، وكلاهما يدل على هذا المعنى، المهم أن الله وفقه بإخلاصه وطاعته وتقواه لله سبحانه وتعالى، فكلما كان المرء مطيعاً لله حافظاً لله كان ذلك أدعى إلى أن يحفظه الله وأن يثبته على طاعته.
ومن هنا: فازدياد المرء من الطاعة والعبادة وحرص الشاب على ذلك مما يؤهله لتوفيق الله وإعانة الله سبحانه وتعالى بعد ذلك.
يقول الله سبحانه وتعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:98-99] .
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83] .
ويقول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24] يقول ابن مسعود رضي الله عنه حول هذه الآية: إن الله يحول بين العبد المؤمن وبين المعصية فيمنعه عنها عندما يهم بها، وذكرنا قبل قليل قول النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس : (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك).
إذاً: يستعين الشاب بعبادة الله وطاعة الله ويقبل على الله عز وجل، فيكون أحرى أن لا يتسلط عليه الشيطان: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36-37] .
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83] .
الأمر السادس: اختياره الأذى على فعل المعصية فهو يقول: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] يختار يوسف أن يسجن وأن يقاسي مرارة السجن ولا يقع في هذه المعصية، فحينما وصل به الأمر إلى هذه القضية أعانه الله سبحانه وتعالى ووفقه، ولا بد أن ينال الأذى والمصيبة في الدنيا، وما هذه الدنيا إلا دار مصائب فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117].
قد يستسلم لداعي المعصية والفاحشة فيواقعها فتكون النتيجة بدلاً من مقاساته لألم ومواجهة هذه الشهوة أن يقاسي بعد ذلك مرضاً جنسياً يكتب له شقاء الدنيا والآخرة، فيعاني أضعاف أضعاف ما حصله من تلك الشهوة العاتية، قد يقاسي فضيحة تشوه حياته وتاريخه كلها حتى يتمنى أنه خرج من الدنيا ولم يخرج إلى الدنيا، هذا أذى ومصيبة أشد مما قد يواجهه حينما يمتنع عن المعصية، فالأذى معرض له المرء سواء سلك طاعة الله أو سار مع المعصية، فخير له أن يختار الأذى ويتحمله، وما هذه الدنيا إلا دار شقاء وتعب، وقد تكون النتيجة أن يعاني ويقاسي من هذه المعصية مع ما يدخره الله من العقوبة.
أخيراً: ننتقل إلى دروس من قصة يوسف:
أولاً: ضرورة البعد عن أسباب المعصية، فيوسف عليه السلام بعد أن نجح واجتاز هذا الابتلاء استبق الباب وأصبح يجري يريد أن يخرج من الباب، فلا بد أن يبتعد الشاب عن أسباب المعصية ودواعي المعصية، وهذه لعلها أن يكون لها حديث إن شاء الله في محاضرة لاحقة.
الأمر الثاني: ضرورة التضحية والتحمل، لا بد أن يتحمل المرء ما يلاقيه في الدعوة إلى الله، أو ما يلاقيه في طاعة الله عز وجل، أو ما يلاقيه في البعد عن المعصية.
فلا بد أن يتحمل ما يعانيه في نفسه من غليان الشهوة والتوقان إليها فيعصم نفسه ويجاهد نفسه ويتحمل، بل يتحمل الأذى الذي قد يصيبه في طاعة الله سبحانه وتعالى وفي ذات الله، وانظروا إلى النتيجة التي صار إليها يوسف عليه السلام: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ [يوسف:21] مكن الله سبحانه وتعالى له بعد ذلك وأثابه الثواب العاجل في الدنيا: وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يوسف:57].
فنتيجة هذه التضحية ونتيجة هذا التحمل لا شك أنها ستكون بعد توفيق الله سبحانه وتعالى الأجر العظيم والنجاح في مثل هذا الابتلاء، وستكون النتيجة الثمرة العاجلة التي يجدها المرء في الدنيا.
كذلك من الأمور المهمة: مراقبة الله سبحانه وتعالى، وأشرنا إلى ذلك.
أيضاً من الأمور المهمة: دعاء الله سبحانه وتعالى والاستعانة به.
الأمر الخامس: خطورة كثرة الخلطة والخلوة، فالذي دعا امرأة العزيز إلى أن تضحي وأن تتجرأ وتدعو وتُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ هو كثرة مخالطتها ليوسف عليه السلام، ومن هنا فيجب أن يحذر الشاب من كثرة مخالطة من قد تكون مخالطته سبباً للوقوع في المعصية.
فإذا رأى أن مخالطة فلان من الناس مدعاة لأن يقع في المعصية بصورة أو بأخرى فإنه عليه أن يتخفف من لقاءه بفلان من الناس أو على الأقل أن يحرص على أن لا يخلو به.
وهذه مكابرة مع النفس وفعلاً يصل المرء فيها إلى حالة قد لا يوفقه الله ولا يعينه؛ لأنه لم يسلك أسباب التوفيق، فهو يرى مثلاً أن مخالطته لفلان من الناس مدعاة لأن يقع في المعصية، ومع ذلك تجده يخالطه بل قد يخلو به ويجلس معه كثيراً ويبدأ يعيش في صراع، الحل: هو أن يتخلى من مثل هذا اللقاء ومن كثرة المخالطة.
الأمر السادس: عدم استغناء العبد عن الله سبحانه وتعالى مهما بلغ من الإيمان والتقوى والطاعة، فالله عز وجل يقول عن نبيه صلى الله عليه وسلم: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء:74] فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستغني عن الله سبحانه وتعالى ويحتاج إلى تثبيت الله عز وجل فغيره من باب أولى، ومن هنا: فمن أكبر المخاطر على العبد المطيع لله هو غروره وإعجابه بنفسه وتقواه وطاعته، فإنه عندما يعجب بنفسه ويثق بنفسه:
أولاً: هذا بحد ذاته ذنب يؤاخذ عليه.
الأمر الثاني: أنه عندما يعجب بنفسه يكله الله إلى نفسه فكأن هذا الإنسان الذي أعجب بنفسه يرى أنه مستغن عن الله.. وأن الناس الذين يحتاجون أن يدعوا الله ويسألوه الهداية هم أولئك العصاة.. أولئك الفساق.. أما هو فقد من الله عليه بالهداية، كما يقول كثير من الناس: أنا الآن الحمد لله عرفت الخير والشر وإنسان ماسك نفسي. وهي كلمة يقولها كثير من الشباب عندما تتحدث معه فنقول: لا يا أخي! لا عصمة لأحد إلا بعد توفيق الله سبحانه وتعالى، فإذا كان يوسف عليه السلام يحتاج إلى أن يريه الله برهان ربه.. وأن يصرف عنه السوء والفحشاء، فأنت مهما بلغت من الإيمان والتقوى والطاعة لا يمكن أن تصل إلى منزلة يوسف عليه السلام.
إذاً: فهو عندما يعجب بنفسه فإن الله سبحانه وتعالى يكله إلى نفسه.
الأمر الثالث: أنه عندما يعجب بنفسه لا يأخذ بالأسباب، فالذي يجعل مثلاً الإنسان يسلك أسباب ترك المعصية ويجتنب كل دواعي المعصية ومثيرات المعصية هو أنه يخاف.. وأنه لا يثق بنفسه ولا يطمئن إليها..
أقول: فمن نتائج الإعجاب بالنفس أن هذا الذي يعجب بنفسه لا يمكن أن يسلك الأسباب التي تبعده عن المعصية؛ لأنه يرى أنه ليس محتاجاً إلى ذلك وأنه واثق من نفسه وأنه يملك إيماناً يعصمه من مواقعة هذه المعصية.
الأمر الرابع: أن هذا هو سبب أول معصية وقعت وهي معصية الشيطان، فإنه لما أعجب بنفسه أضله الله سبحانه وتعالى إلى يوم الدين.
ومن هنا فيجب -أيها الإخوة- أن لا نثق بأنفسنا في هذه القضية وأن نتهم أنفسنا وأن نخشى من الله سبحانه وتعالى ونكون على وجل دائماً حتى يرى المرء اليقين، ولا يمكن أبداً أن يستغني المرء عن رحمة الله عز وجل وعن توفيقه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الباحثات عن السراب | 2589 استماع |
الشباب والاهتمامات | 2464 استماع |
وقف لله | 2325 استماع |
رمضان التجارة الرابحة | 2257 استماع |
يا أهل القرآن | 2190 استماع |
كلانا على الخير | 2189 استماع |
يا فتاة | 2183 استماع |
الطاقة المعطلة | 2120 استماع |
علم لا ينفع | 2087 استماع |
المراهقون .. الوجه الآخر | 2084 استماع |