حتى يغيروا ما بأنفسهم


الحلقة مفرغة

من أركان الإيمان بالله الإيمان بالرسل والأنبياء، وأن خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أرسله الله إلى الناس كافة، عربهم وعجمهم، وختم الله بنبوته النبوات، وبرسالته الرسالات، وخصه بخصائص لم تكن لأحد سواه كالوسيلة، والكوثر، والحوض، والمقام المحمود، وقد شهد الله سبحانه في القرآن على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكفى بها شهادة.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

أما بعد:

ففي هذه الليلة المباركة ليلة الجمعة الثالث من شهر جمادى الثانية عام 1416 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، يتم هذا اللقاء المبارك في هذا الجامع -جامع التنعيم- وعنوان حديثنا لهذه الليلة كما سمعتم: حتى يغيروا ما بأنفسهم، وهو حديث حول سنة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون والمجتمعات، سنة أحوج ما يكون المسلمون إليها في هذا العصر وهم يتطلعون للتغيير والإصلاح، إنك لو طرحت هذا السؤال على أي فرد من المسلمين أياً كانت ثقافته، وأياً كان مستوى تدينه، وأياً كانت قيمة الدين لديه: هل ترى أن واقع المسلمين اليوم واقع شرعي يرضي الله تبارك وتعالى؟ لو طرحت هذا السؤال لأجابك الجميع بالنفي، والجميع أياً كانوا ينتظرون ويتطلعون إلى التغيير، لكن هل يدرك المسلمون وهل يعي المسلمون وهم يعيشون في هذه المرحلة التي لم يعد هناك خلاف بين من يملك قدراً من الجدية من المسلمين حول أن التغيير أصبح ضرورة، وأن هذا الواقع الذي تعيشه الأمة ليس هو الواقع الشرعي، هل يدركون وهم كذلك سنن الله تبارك وتعالى في التغيير؟ وهل يدركون كيف يتم التغيير؟ إن هذه السنة من سنن الله تبارك وتعالى واحدة في الكون والمجتمعات، وهذا يدعونا إلى أن نتحدث بمقدمة ربما تطول حول هذه السنن الكونية التي جاء الحديث عنها في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل والقرآن مليء بالحديث عن هذه السنن كما سيتضح بعد قليل؛ حتى تتضح لنا قيمة هذه السنن، وحاجة المسلمين إلى مدارستها والعناية بها والأخذ بها وهم يتطلعون للتغيير، وهم يتطلعون لإصلاح هذا الواقع الفاسد.

إن لله تبارك وتعالى سنناً تحكم هذا الكون، وتحكم حركة التاريخ، هذه السنن تجعل المسلمين المستضيئين بنور الله تبارك وتعالى يفهمون الأحداث فهماً سليماً دقيقاً؛ لأنهم يطبقون هذه السنن التي جاءت في كتاب الله تبارك وتعالى، والتي جاءت عن الله تبارك وتعالى الذي أمور الكون والخلق بيده عز وجل، إن هذه السنن تجعل الناس يفهمون الأحداث فهماً سليماً، وتجعلهم أيضاً يتنبئون ويتوقعون حصول الأحداث من خلال المقدمات التي يعلمونها ويدركونها، وهي أيضاً تمثل أداة لهم في سيرهم في هذه الحياة.

إذاً فهذه السنن تؤدي هذه الأدوار الهامة في حياة المسلمين، فتعين على فهم الأحداث، وتعين على التنبؤ وتوقع ما لم يحصل منها بعد من خلال مقدماتها كما سيتضح بعد قليل، وهي أيضاً تمثل منارة وقاعدة يسير عليها المسلمون في حياتهم.

إن الحديث عن سنن الله تبارك وتعالى في الأنفس والمجتمعات والآفاق حديث يطول كثيراً في كتاب الله تبارك وتعالى، ولو أردنا أن نستقصي في هذا الوقت الآيات التي جاء فيها الحديث عن هذه السنن لضاق بنا المقام، لكني أشير إشارات ربما تطول قليلاً حتى تدركوا أهمية هذه السنن، وحاجة الناس إليها، ولهذا كررت كثيراً في كتاب الله تبارك وتعالى.

ورود قصص القرآن بذكر هذه السنن دليل على أن هناك سنناً تحكم الكون

إن أول أمر يدل على ذلك: إيراد القصص في القرآن، فإيراد قصص السابقين دليل على أن هناك سنناً تحكم حياة الناس وتحكم سيرهم في حياتهم، سواء أكانوا أفراداً أو مجتمعات، إن القرآن الكريم مليء بقصص السابقين والأولين، والله تبارك وتعالى يقول: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [يوسف:3]، ويقول: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى [يوسف:111].

ولعلنا نتساءل: لماذا تورد هذه القصص؟ ولماذا يكثر الحديث في القرآن حول قصص السابقين والغابرين أليس للاعتبار والاتعاظ؟ بلى، وإذا لم تكن هناك سنن ولم تكن هناك قواعد تحكم حياة المجتمعات فكيف يتعظ الناس؟ وكيف يتعظ الناس بقصة حصلت في سالف الأزمان وماضي الدهور إلا إذا كان ذلك يسير وفق سنن، فيقيسون حياتهم على حياة أولئك، ويعلمون أنهم إن سلكوا طريقهم فسيصيبهم ما أصابهم، وأنهم إن بذلوا جهدهم فسيحصلون ما حصل أولئك.

إن إيراد القصص للاعتبار والاتعاظ دليل كما قلنا على أن هناك سنناً ثابتة لا تتغير تحكم حياة الناس في هذه الدار.

ما قيمة أن يعلم الإنسان أن قوماً من الأقوام كذبوا فأهلكوا؟ أو أن قوماً من الأقوام آمنوا فأنجوا؟ ما قيمة أن يعلم ذلك إلا إذا كانت قاعدة مطردة فيقيس حاله على حالهم، ويكفي إيراد هذه القصص الكثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى على بيان سنن الله عز وجل في الآفاق والأنفس، وأيضاً يأتي التعليق على هذه القصص بالأمر بالاتعاظ والاعتبار، فبعد سياق كثير من هذه القصص يأتي الأمر بالاتعاظ والاعتبار بما أصاب أولئك، يقول تبارك وتعالى عن أولئك الذين أتوا جريمة من الجرائم وفاحشة من الفواحش، فكانوا يأتون الذكران من العالمين ويذرون ما خلق لهم ربهم من أزواجهم، يقول تبارك وتعالى واصفاً تلك العقوبة التي حلت بهم، والتي تليق بتلك الجريمة البشعة: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83].

إذاً فلئن سلك قوم سبيل قوم لوط فهم معرضون لأن يصيبهم ما أصاب قوم لوط، وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83]، ويقول تبارك وتعالى في شأن طائفة من أهل الكتاب حين تكبروا وأعرضوا عن الإيمان بالله، وخانوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم في ذلك القدح المعلى في نقض عهودهم مع الله ومع أنبيائهم قبل، يقول تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2].

إذاً فلو فعلتم ما فعل أولئك فيصيبكم ما أصابهم، فهذه سنة من سنن الله تبارك وتعالى: أن من فعل كما فعل أولئك فسيصيبه ما أصابهم، لذا فعليه أن يعتبر ويتعظ، وفي سورة الشعراء يقول تبارك وتعالى تعقيباً على كل موقف من مواقف الأنبياء مع أقوامهم، وتكذيبهم ثم حلول العذاب بهم: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:8-9]، ويقول تبارك وتعالى أيضاً في آية تتكرر في أكثر من موضع تعقيباً على هذه المواطن في سورة القمر: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر:15-16] إلى غيرها من الآيات التي يعقب الله تبارك وتعالى فيها على شأن أولئك، ويأمر عباده بأن يتعظوا بمواقفهم، والتعقيب والأمر بالاتعاظ والاعتبار ليس خاصاً بمواقف العذاب والجزاء بالعقوبة وحدها، بل نراه أيضاً في مواقف الخير والإنعام من الله تبارك وتعالى على عباده، كما قال تبارك وتعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88].

فمن كان كمثل ذي النون عليه السلام في صدق لجوئه وتسبيحه لله تبارك وتعالى، فكما نجاه الله عز وجل فكذلك ينجي تبارك وتعالى عباده المؤمنين، وأيضاً يقول تبارك وتعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:98]، والآيات في هذا الباب كثيرة.

إذاً فالتعقيب الذي يأتي على قصص القرآن آمراً بالاتعاظ والاعتبار دليل على ثبوت هذه السنن الكونية التي تحكم حياة الناس.

ثالثاً: يأتي أيضاً في قصص القرآن التعليل للجزاء -سواء أكان بالعقوبة أو بالإنعام- بوصف مناسب كما يقول علماء الأصول، والتعليل بالوصف المناسب دليل على أنه علة؛ يقول تبارك وتعالى في شأن القوم الذين أهلكهم: إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [الأعراف:64]، فبعد أن حكى إهلاكهم وصفهم بأنهم كانوا قوماً عمين، وهذا يعني: أن هذه هي العلة في إهلاكهم ويعني: أن من شابههم في العلة فسيشابههم في المصير، ويصل إلى ما وصلوا إليه.

ويقول تبارك وتعالى: وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ [الأعراف:72]، فهذا دليل على أن العلة التي من أجلها قطع دابر هؤلاء: أنهم كذبوا بآيات الله ولم يكونوا مؤمنين، ويقول تبارك وتعالى في جزائه للمؤمنين: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36]، فماذا يعني وصف هؤلاء بأنهم مؤمنون؟ يعني: أن العلة في نجاتهم هي الإيمان، وهذا يعني: أن من شاركهم في هذه العلة فسيشاركهم في النتيجة والنهاية.

ويقول تبارك وتعالى في شأن نبي الله العفيف الطاهر يوسف عليه السلام الذي تعرضت له الفتن، وأشرعت أبوابها أمام ناظريه، فلجأ إلى خالقه تبارك وتعالى مستعيناً به عز وجل أن ينجيه وأن يخلصه قائلاً: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33]، يقول تبارك وتعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ [يوسف:34]، ثم يقول تبارك وتعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].

فعلة صرف السوء والفحشاء عنه أنه كان من عباد الله المخلصين، وهذا يعني: أن من كان من عباد الله المخلصين فإنه يستحق هذا الجزاء وهذا النعيم.

رابعاً: يأمر الله تبارك وتعالى في كتابه بالسير في الأرض والاتعاظ بما حصل للسابقين في آيات كثيرة، كما قال تبارك وتعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد:13]، ويقول: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد:10]، ويقول: أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [غافر:21]، ويقول تبارك وتعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:11].

والآيات معشر الإخوة الكرام! التي يأمر الله فيها بالمسير في الأرض والاتعاظ بمصارع الغابرين كثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى، وهذا يعني: أن هناك سنناً ثابتة تحكم حركة التاريخ وحياة الناس وإلا فكيف يتعظ الناس؟ وكيف يعتبر الناس؟

لقد أمر الله تبارك وتعالى عباده بأن يسيروا في الأرض ويتعظوا ويعتبروا، وهذا يعني: أنهم حين يسيرون في الأرض ويتأملون في أحوال الأمم التي مضت وخلت فإنهم سيدركون أن تلك الأمم ما آلت إلى ما آلت إليه، وما استحقت النكال والعذاب إلا لتكذيبها وإعراضها، وهذا يعني: أنهم إن ساروا على نفس الطريق فسوف يصلون إلى النتيجة نفسها، وسوف تحق عليهم السنة نفسها، وسيصلون إلى المصير نفسه.

إذاً فالأمر بالسير في الأرض والاتعاظ بمصارع السابقين والغابرين كل هذا دليل على أن هناك سنناً ثابتة، وقوانين لا تتخلف تحكم حياة الناس في تاريخهم، وتحكم حياة الناس في أفرادهم وفي مجتمعاتهم، فمن فعل مثلما فعل أولئك استحق ما استحقوه.

الإشارة في كتاب الله إلى طائفة من السنن التي تحكم حياة الناس

الأمر الخامس: يأتي في كتاب الله تبارك وتعالى الإشارة إلى طائفة من هذه السنن التي تحكم حياة الناس في تاريخهم ومجتمعاتهم، فيخبر الله تبارك وتعالى أنه حين يطغى المسرفون، ويعلنون فسقهم وفجورهم فإن هذا إيذان بحلول الهلاك والتدمير للقرية أياً كانت هذه القرية، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].

وتبقى هذه الآية نذيراً يلوح في الأفق أمام المؤمنين الذين ينظرون بنور الله، فيتنبئون ويتوقعون أن يحصل الهلاك والبوار لأولئك أو لهؤلاء؛ لأنهم قد فسقوا وأعلنوا فسقهم وفجورهم، وحين قالوا ذلك ليس لأنهم يعلمون الغيب، وليسوا يقرءون ما وراء الأحداث، ولكنهم يعلمون ذلك من خلال معرفتهم بسنن الله تبارك وتعالى.

وأيضاً يخبر تبارك وتعالى أن هناك سنة للمكذبين المتجبرين لا تتخلف، سنة لأولئك المعرضين عن نور الله تبارك وتعالى، المعرضين عن دعوة الله عز وجل، المستكبرين عن الإيمان بالله تبارك وتعالى، وهي: أن هؤلاء يجابهون ويواجهون من يدعوهم إلى الإيمان والصلاح والتقوى لله تبارك وتعالى يجابهونه بالتكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء، يقول تبارك وتعالى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:43] على أحد القولين في تفسير هذه الآية، ويقول تبارك وتعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:52-53].

وكأن هؤلاء لاتفاقهم على هذه المقولة كأنهم قد تواصوا على هذه المقولة واتفقوا عليها، لكنها سنة الله تبارك وتعالى في المصلحين مع أقوامهم: أن يواجههم أقوامهم المكذبون بالتكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء، واتهامهم بما ليس فيهم.

ويخبر تبارك وتعالى متوعداً متهدداً أولئك الذين نجم نفاقهم؛ أهل الإرجاف والنفاق: أنهم إن لم يئوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله تبارك وتعالى فإنه ستحل عليهم سنة الله في السابقين، يقول تبارك وتعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:60-62].

إنها سنة الله التي لا تتخلف، سنة الله التي لا تتغير: أن يحل بهؤلاء المنافقين وبهؤلاء المرجفين عذاب الله تبارك وتعالى إن لم يئوبوا إلى رشدهم، ويتوبوا إلى الله تبارك وتعالى.

وأيضاً يخبر تبارك وتعالى عن سنة من سننه عز وجل فيقول: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:42-43]، ويقول تبارك وتعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الحجر:10-11]، ثم يقول تبارك وتعالى: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الحجر:13]، ويقول عز وجل مخبراً أنه لو تمالأ أهل الكفر على قتال المؤمنين فإن الله تبارك وتعالى سيحل بهم الهزيمة ويولي هؤلاء الأدبار وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الفتح:22-23]، سنة الله أنه حين يتمالأ ويجتمع أعداء الله على عباده المؤمنين أن تحل بهم الهزيمة، وأن يولي هؤلاء الأدبار، ثم يؤكد تبارك وتعالى أن هذه السنة لن تتبدل ولن تتغير.

ويقول تبارك وتعالى أيضاً مخبراً عن حال هؤلاء وأنهم يؤمنون حين يرون العذاب: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر:84-85].

أيها الإخوة! هذا غيض من فيض، وهذه شواهد يسيرة من الحديث الكثير المستفيض في كتاب الله تبارك وتعالى عن سنن الله عز وجل، إن هذا يعطينا دلالة يقينية قاطعة أن هناك سنناً تحكم حياة الناس، وأن هناك سنناً تحكم تاريخ الناس، جدير بالناس أن يتأملوها وأن يعوها وأن يتدبروها، وجدير بأولئك الذين يتطلعون للإصلاح والتغيير في مجتمعاتهم أو أولئك الذين تعنيهم قضية مجتمعاتهم أن يعوا هذه السنن ويدركوها.

الأدلة على ذلك من السنة

ويشير النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أحاديثه إلى شيء من هذه السنن، يقول صلى الله عليه وسلم في قصة قدوم أبي عبيدة بمال من البحرين: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم! ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم).

فهي سنة لا تتخلف: أنه حين يتنافس الناس في الدنيا، ويتنافسون في الدينار والدرهم كما تنافس الذين من قبلهم أن تهلكهم كما أهلكت من كان قبلهم.

ونظر صلى الله عليه وسلم إلى السماء فقال: (هذا أوان يختلس العلم، فقال زياد بن لبيد رضي الله عنه: كيف يفقد العلم ويرفع العلم وقد قرأنا القرآن وأقرأناه أبناءنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنت لأظنك من أفقه أهل المدينة! هذه الكتب عند أهل الكتاب أو اليهود والنصارى فلم تغن عنهم شيئاً)، فالسنة التي حقت على أولئك قد تحق على هؤلاء.

وحين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم حد الله على امرأة شريفة ذات مكانة: امرأة من بني مخزوم كانت تستعير المتاع فتجحده، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يدها، فشعر بنو مخزوم وشعرت قريش أن هذا فيه إهانة لشرف هذه القبيلة ذات المنزلة العالية، فأردوا أن يستشفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عنها الحد، ويسقط عنها هذه العقوبة، فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة رضي الله عنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فكلموا أسامة ، فكلم أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب صلى الله عليه وسلم على أسامة وقال: (أتشفع في حد من حدود الله؟!)، فالنبي صلى الله عليه وسلم عالج هذه القضية الخطيرة، والتي إن بدت في الأمة فهي نذير هلاك، أي: إن بدت فيهم المحاباة في أحكام الله تبارك وتعالى فهي نذير عقوبة وهلاك.

فلم يكتف صلى الله عليه وسلم بهذا الرد على أسامة ، ولم يكتف بإقامة الحد على هذه المرأة، بل صعد المنبر صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، إذاً فقد كان السابقون يحابون في الحدود، وكانوا يقيمون أحكام الله على الضعفاء، وعلى أهل الوضاعة وأهل المنزلة التي ليس لها قيمة ومكانة عند الناس، وأما الشرفاء وأما أهل الشأن وعلية القوم فلهم شأن آخر، ولهم موقف آخر.

ولهذا توعد صلى الله عليه وسلم أنكم إن فعلتم كما فعل من كان قبلكم فسوف تهلكون كما هلك من كان قبلكم، إذاً هذه المادة أيضاً من الحديث هي عن السنن الكونية في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

إن أول أمر يدل على ذلك: إيراد القصص في القرآن، فإيراد قصص السابقين دليل على أن هناك سنناً تحكم حياة الناس وتحكم سيرهم في حياتهم، سواء أكانوا أفراداً أو مجتمعات، إن القرآن الكريم مليء بقصص السابقين والأولين، والله تبارك وتعالى يقول: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [يوسف:3]، ويقول: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى [يوسف:111].

ولعلنا نتساءل: لماذا تورد هذه القصص؟ ولماذا يكثر الحديث في القرآن حول قصص السابقين والغابرين أليس للاعتبار والاتعاظ؟ بلى، وإذا لم تكن هناك سنن ولم تكن هناك قواعد تحكم حياة المجتمعات فكيف يتعظ الناس؟ وكيف يتعظ الناس بقصة حصلت في سالف الأزمان وماضي الدهور إلا إذا كان ذلك يسير وفق سنن، فيقيسون حياتهم على حياة أولئك، ويعلمون أنهم إن سلكوا طريقهم فسيصيبهم ما أصابهم، وأنهم إن بذلوا جهدهم فسيحصلون ما حصل أولئك.

إن إيراد القصص للاعتبار والاتعاظ دليل كما قلنا على أن هناك سنناً ثابتة لا تتغير تحكم حياة الناس في هذه الدار.

ما قيمة أن يعلم الإنسان أن قوماً من الأقوام كذبوا فأهلكوا؟ أو أن قوماً من الأقوام آمنوا فأنجوا؟ ما قيمة أن يعلم ذلك إلا إذا كانت قاعدة مطردة فيقيس حاله على حالهم، ويكفي إيراد هذه القصص الكثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى على بيان سنن الله عز وجل في الآفاق والأنفس، وأيضاً يأتي التعليق على هذه القصص بالأمر بالاتعاظ والاعتبار، فبعد سياق كثير من هذه القصص يأتي الأمر بالاتعاظ والاعتبار بما أصاب أولئك، يقول تبارك وتعالى عن أولئك الذين أتوا جريمة من الجرائم وفاحشة من الفواحش، فكانوا يأتون الذكران من العالمين ويذرون ما خلق لهم ربهم من أزواجهم، يقول تبارك وتعالى واصفاً تلك العقوبة التي حلت بهم، والتي تليق بتلك الجريمة البشعة: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83].

إذاً فلئن سلك قوم سبيل قوم لوط فهم معرضون لأن يصيبهم ما أصاب قوم لوط، وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83]، ويقول تبارك وتعالى في شأن طائفة من أهل الكتاب حين تكبروا وأعرضوا عن الإيمان بالله، وخانوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم في ذلك القدح المعلى في نقض عهودهم مع الله ومع أنبيائهم قبل، يقول تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2].

إذاً فلو فعلتم ما فعل أولئك فيصيبكم ما أصابهم، فهذه سنة من سنن الله تبارك وتعالى: أن من فعل كما فعل أولئك فسيصيبه ما أصابهم، لذا فعليه أن يعتبر ويتعظ، وفي سورة الشعراء يقول تبارك وتعالى تعقيباً على كل موقف من مواقف الأنبياء مع أقوامهم، وتكذيبهم ثم حلول العذاب بهم: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:8-9]، ويقول تبارك وتعالى أيضاً في آية تتكرر في أكثر من موضع تعقيباً على هذه المواطن في سورة القمر: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر:15-16] إلى غيرها من الآيات التي يعقب الله تبارك وتعالى فيها على شأن أولئك، ويأمر عباده بأن يتعظوا بمواقفهم، والتعقيب والأمر بالاتعاظ والاعتبار ليس خاصاً بمواقف العذاب والجزاء بالعقوبة وحدها، بل نراه أيضاً في مواقف الخير والإنعام من الله تبارك وتعالى على عباده، كما قال تبارك وتعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88].

فمن كان كمثل ذي النون عليه السلام في صدق لجوئه وتسبيحه لله تبارك وتعالى، فكما نجاه الله عز وجل فكذلك ينجي تبارك وتعالى عباده المؤمنين، وأيضاً يقول تبارك وتعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:98]، والآيات في هذا الباب كثيرة.

إذاً فالتعقيب الذي يأتي على قصص القرآن آمراً بالاتعاظ والاعتبار دليل على ثبوت هذه السنن الكونية التي تحكم حياة الناس.

ثالثاً: يأتي أيضاً في قصص القرآن التعليل للجزاء -سواء أكان بالعقوبة أو بالإنعام- بوصف مناسب كما يقول علماء الأصول، والتعليل بالوصف المناسب دليل على أنه علة؛ يقول تبارك وتعالى في شأن القوم الذين أهلكهم: إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [الأعراف:64]، فبعد أن حكى إهلاكهم وصفهم بأنهم كانوا قوماً عمين، وهذا يعني: أن هذه هي العلة في إهلاكهم ويعني: أن من شابههم في العلة فسيشابههم في المصير، ويصل إلى ما وصلوا إليه.

ويقول تبارك وتعالى: وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ [الأعراف:72]، فهذا دليل على أن العلة التي من أجلها قطع دابر هؤلاء: أنهم كذبوا بآيات الله ولم يكونوا مؤمنين، ويقول تبارك وتعالى في جزائه للمؤمنين: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36]، فماذا يعني وصف هؤلاء بأنهم مؤمنون؟ يعني: أن العلة في نجاتهم هي الإيمان، وهذا يعني: أن من شاركهم في هذه العلة فسيشاركهم في النتيجة والنهاية.

ويقول تبارك وتعالى في شأن نبي الله العفيف الطاهر يوسف عليه السلام الذي تعرضت له الفتن، وأشرعت أبوابها أمام ناظريه، فلجأ إلى خالقه تبارك وتعالى مستعيناً به عز وجل أن ينجيه وأن يخلصه قائلاً: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33]، يقول تبارك وتعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ [يوسف:34]، ثم يقول تبارك وتعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].

فعلة صرف السوء والفحشاء عنه أنه كان من عباد الله المخلصين، وهذا يعني: أن من كان من عباد الله المخلصين فإنه يستحق هذا الجزاء وهذا النعيم.

رابعاً: يأمر الله تبارك وتعالى في كتابه بالسير في الأرض والاتعاظ بما حصل للسابقين في آيات كثيرة، كما قال تبارك وتعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد:13]، ويقول: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد:10]، ويقول: أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [غافر:21]، ويقول تبارك وتعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:11].

والآيات معشر الإخوة الكرام! التي يأمر الله فيها بالمسير في الأرض والاتعاظ بمصارع الغابرين كثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى، وهذا يعني: أن هناك سنناً ثابتة تحكم حركة التاريخ وحياة الناس وإلا فكيف يتعظ الناس؟ وكيف يعتبر الناس؟

لقد أمر الله تبارك وتعالى عباده بأن يسيروا في الأرض ويتعظوا ويعتبروا، وهذا يعني: أنهم حين يسيرون في الأرض ويتأملون في أحوال الأمم التي مضت وخلت فإنهم سيدركون أن تلك الأمم ما آلت إلى ما آلت إليه، وما استحقت النكال والعذاب إلا لتكذيبها وإعراضها، وهذا يعني: أنهم إن ساروا على نفس الطريق فسوف يصلون إلى النتيجة نفسها، وسوف تحق عليهم السنة نفسها، وسيصلون إلى المصير نفسه.

إذاً فالأمر بالسير في الأرض والاتعاظ بمصارع السابقين والغابرين كل هذا دليل على أن هناك سنناً ثابتة، وقوانين لا تتخلف تحكم حياة الناس في تاريخهم، وتحكم حياة الناس في أفرادهم وفي مجتمعاتهم، فمن فعل مثلما فعل أولئك استحق ما استحقوه.

الأمر الخامس: يأتي في كتاب الله تبارك وتعالى الإشارة إلى طائفة من هذه السنن التي تحكم حياة الناس في تاريخهم ومجتمعاتهم، فيخبر الله تبارك وتعالى أنه حين يطغى المسرفون، ويعلنون فسقهم وفجورهم فإن هذا إيذان بحلول الهلاك والتدمير للقرية أياً كانت هذه القرية، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].

وتبقى هذه الآية نذيراً يلوح في الأفق أمام المؤمنين الذين ينظرون بنور الله، فيتنبئون ويتوقعون أن يحصل الهلاك والبوار لأولئك أو لهؤلاء؛ لأنهم قد فسقوا وأعلنوا فسقهم وفجورهم، وحين قالوا ذلك ليس لأنهم يعلمون الغيب، وليسوا يقرءون ما وراء الأحداث، ولكنهم يعلمون ذلك من خلال معرفتهم بسنن الله تبارك وتعالى.

وأيضاً يخبر تبارك وتعالى أن هناك سنة للمكذبين المتجبرين لا تتخلف، سنة لأولئك المعرضين عن نور الله تبارك وتعالى، المعرضين عن دعوة الله عز وجل، المستكبرين عن الإيمان بالله تبارك وتعالى، وهي: أن هؤلاء يجابهون ويواجهون من يدعوهم إلى الإيمان والصلاح والتقوى لله تبارك وتعالى يجابهونه بالتكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء، يقول تبارك وتعالى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:43] على أحد القولين في تفسير هذه الآية، ويقول تبارك وتعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:52-53].

وكأن هؤلاء لاتفاقهم على هذه المقولة كأنهم قد تواصوا على هذه المقولة واتفقوا عليها، لكنها سنة الله تبارك وتعالى في المصلحين مع أقوامهم: أن يواجههم أقوامهم المكذبون بالتكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء، واتهامهم بما ليس فيهم.

ويخبر تبارك وتعالى متوعداً متهدداً أولئك الذين نجم نفاقهم؛ أهل الإرجاف والنفاق: أنهم إن لم يئوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله تبارك وتعالى فإنه ستحل عليهم سنة الله في السابقين، يقول تبارك وتعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:60-62].

إنها سنة الله التي لا تتخلف، سنة الله التي لا تتغير: أن يحل بهؤلاء المنافقين وبهؤلاء المرجفين عذاب الله تبارك وتعالى إن لم يئوبوا إلى رشدهم، ويتوبوا إلى الله تبارك وتعالى.

وأيضاً يخبر تبارك وتعالى عن سنة من سننه عز وجل فيقول: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:42-43]، ويقول تبارك وتعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الحجر:10-11]، ثم يقول تبارك وتعالى: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الحجر:13]، ويقول عز وجل مخبراً أنه لو تمالأ أهل الكفر على قتال المؤمنين فإن الله تبارك وتعالى سيحل بهم الهزيمة ويولي هؤلاء الأدبار وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الفتح:22-23]، سنة الله أنه حين يتمالأ ويجتمع أعداء الله على عباده المؤمنين أن تحل بهم الهزيمة، وأن يولي هؤلاء الأدبار، ثم يؤكد تبارك وتعالى أن هذه السنة لن تتبدل ولن تتغير.

ويقول تبارك وتعالى أيضاً مخبراً عن حال هؤلاء وأنهم يؤمنون حين يرون العذاب: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر:84-85].

أيها الإخوة! هذا غيض من فيض، وهذه شواهد يسيرة من الحديث الكثير المستفيض في كتاب الله تبارك وتعالى عن سنن الله عز وجل، إن هذا يعطينا دلالة يقينية قاطعة أن هناك سنناً تحكم حياة الناس، وأن هناك سنناً تحكم تاريخ الناس، جدير بالناس أن يتأملوها وأن يعوها وأن يتدبروها، وجدير بأولئك الذين يتطلعون للإصلاح والتغيير في مجتمعاتهم أو أولئك الذين تعنيهم قضية مجتمعاتهم أن يعوا هذه السنن ويدركوها.

ويشير النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أحاديثه إلى شيء من هذه السنن، يقول صلى الله عليه وسلم في قصة قدوم أبي عبيدة بمال من البحرين: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم! ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم).

فهي سنة لا تتخلف: أنه حين يتنافس الناس في الدنيا، ويتنافسون في الدينار والدرهم كما تنافس الذين من قبلهم أن تهلكهم كما أهلكت من كان قبلهم.

ونظر صلى الله عليه وسلم إلى السماء فقال: (هذا أوان يختلس العلم، فقال زياد بن لبيد رضي الله عنه: كيف يفقد العلم ويرفع العلم وقد قرأنا القرآن وأقرأناه أبناءنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنت لأظنك من أفقه أهل المدينة! هذه الكتب عند أهل الكتاب أو اليهود والنصارى فلم تغن عنهم شيئاً)، فالسنة التي حقت على أولئك قد تحق على هؤلاء.

وحين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم حد الله على امرأة شريفة ذات مكانة: امرأة من بني مخزوم كانت تستعير المتاع فتجحده، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يدها، فشعر بنو مخزوم وشعرت قريش أن هذا فيه إهانة لشرف هذه القبيلة ذات المنزلة العالية، فأردوا أن يستشفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عنها الحد، ويسقط عنها هذه العقوبة، فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة رضي الله عنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فكلموا أسامة ، فكلم أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب صلى الله عليه وسلم على أسامة وقال: (أتشفع في حد من حدود الله؟!)، فالنبي صلى الله عليه وسلم عالج هذه القضية الخطيرة، والتي إن بدت في الأمة فهي نذير هلاك، أي: إن بدت فيهم المحاباة في أحكام الله تبارك وتعالى فهي نذير عقوبة وهلاك.

فلم يكتف صلى الله عليه وسلم بهذا الرد على أسامة ، ولم يكتف بإقامة الحد على هذه المرأة، بل صعد المنبر صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، إذاً فقد كان السابقون يحابون في الحدود، وكانوا يقيمون أحكام الله على الضعفاء، وعلى أهل الوضاعة وأهل المنزلة التي ليس لها قيمة ومكانة عند الناس، وأما الشرفاء وأما أهل الشأن وعلية القوم فلهم شأن آخر، ولهم موقف آخر.

ولهذا توعد صلى الله عليه وسلم أنكم إن فعلتم كما فعل من كان قبلكم فسوف تهلكون كما هلك من كان قبلكم، إذاً هذه المادة أيضاً من الحديث هي عن السنن الكونية في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

إن لله تبارك وتعالى سنناً تحكم هذا الكون، وتحكم حركة التاريخ، وتحكم دنيا الناس، وهي سنن لا تتغير ولا تتبدل: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:62]، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43]، كما أن لله عز وجل سنناً تحكم عالم المادة ودنيا الناس، وحين اكتشف الناس السنن المادية أو ما يسميه العلم المعاصر بقوانين الطبيعة؛ حين اكتشفوا هذه السنن وهذه القوانين استطاعوا أن يستفيدوا منها، وأن يوظفوا هذه القوانين وهذه السنن توظيفاً في خدمة الناس في أمور دنياهم، فمن ذلك مثلاً: قانون الجاذبية، وهي قضية يراها كل الناس ولا يجهدون أنفسهم في التفكير فيها، ولا يجهدون أنفسهم في تفسير هذا الموقف الذي يرونه والذي لا يتغير ولا يتبدل.

وحين اكتشف العلم المعاصر هذا القانون استطاع أن يوظف هذا القانون وأن يستثمره، فيعبر القارات، ويعبر الفضاء من خلال السيطرة على هذا القانون، وحين يكتشف العلم المعاصر المواد التي تقبل الاحتراق والتي لا تقبل الاحتراق فإنه يوظف هذه السنة في تحقيق مقصد الناس ومصالحهم في أمور دنياهم، ولهذا نرى النبي صلى الله عليه وسلم يربط بين القضيتين: يربط بين السنن الكونية وبين السنن المادية، بين السنن التي تحكم حياة المجتمعات ودنيا الناس وبين السنن التي تحكم عالم المادة، ومن ذلك مثلاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أسفلها وكان بعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أردوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).

إن النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن سنة من سنن الله تبارك وتعالى في المجتمعات، وعن سنة من سنن الله عز وجل في التاريخ وهي: أنه حين يقع الناس في المعاصي، ويتجرءون على حدود الله فإنه سيهلك المجتمع بمن فيه، ثم يربط النبي صلى الله عليه وسلم هذه السنة وهذا القانون بقانون يراه الناس في عالم المادة: فحين تخرق السفينة التي تسير على البحر فإن هذا إيذان بأن يلج إليها الماء فتمتلئ فتغرق بمن فيها ولو كان فيها طائفة لم يكن لهم دور في خرق هذه السفينة.

وأيضاً يذكر لنا صلى الله عليه وسلم سنة أخرى من السنن المادية التي يراها الناس، فيربطها بسنة من سنن الله في المجتمعات، يقول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).

إذاً ما موقف الناس وما دور الناس وما دور العلم المعاصر في التعامل مع سنن الله في عالم المادة أو ما يسمونه بقوانين الطبيعة، ما دورهم في التعامل معها؟ أترى الناس مثلاً: يستسلمون لهذه السنن وهذه القوانين أم أنهم يحرصون قدر الإمكان على اكتشافها وتفسيرها، ثم محاولة توظيفها واستثمارها والتعامل معها؟ إن هذا هو دأب الناس، وكم استفاد العلم المعاصر من ذلك، وثورة العلم المعاصر إنما قامت على استثمار هذه السنن الثابتة التي تحكم الناس في أمور معاشهم وفي دنياهم، ولكن هل نحن نصنع ذلك في تطلعنا للتغيير الاجتماعي؟ وهل نحن نصنع ذلك في قراءتنا للتاريخ الماضي وفهمنا للتاريخ الحاضر؟ وهل نحن نتعامل مع ذلك كما نتعامل مع السنن في عالم المادة؟ وكتابنا الذي لا ينطق عن الهوى مليء بالإشارة إلى هذه السنن، والحديث عن هذه السنن، ولم نكلف عبئاً في محاولة اكتشافها ودراستها.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2585 استماع
الشباب والاهتمامات 2462 استماع
وقف لله 2321 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2254 استماع
يا أهل القرآن 2188 استماع
يا فتاة 2180 استماع
كلانا على الخير 2171 استماع
الطاقة المعطلة 2116 استماع
علم لا ينفع 2083 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2072 استماع