بر الوالدين (1)
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
بسم الله الرحمن الرحيم عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( «دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة. قلت من هذا؟) فقالوا: حارثة بن النعمان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلكم البر كذلكم البر [وكان أبر الناس بأمه]» (1) من روائع هذا الدين، تمجيده للبر، حتى صار يعرف به، فحقا إن الإسلام دين البر الذي بلغ من شغفه به أن هون على أبنائه كل صعب في سبيل ارتقاء قمته العالية، فصارت في رحابه أجسادهم كأنها في علو من الأرض وقلوبهم معلقة بالسماء. وأعظم البر «بر الوالدين» الذي لو استغرق المؤمن عمره كله في تحصيله لكان أفضل من جهاد النفل، الأمر الذي أحرج أدعياء القيم والأخلاق في دول الغرب، فجعلوا له يوما واحدا في العام، يردون فيه بعض الجميل للأبوة المهملة، بعدما أعياهم أن يكون من الفرد منهم بمنزلة الدم والنخاع كما عند المسلم الصادق. وبالوالدين إحسانا: قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83]..
والإحسان نهاية البر، فيدخل فيه جميع ما يحب من الرعاية والعناية، وقد أكد الله الأمر بإكرام الوالدين حتى قرن تعالى الأمر بالإحسان إليهما بعبادته، التي هي توحيده والبراءة عن الشرك اهتماما به وتعظيما له (2).. قال القرطبي: وقرن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد، لأن النشأة الأولى من عند الله، والنشء الثاني - وهو التربية - من جهة الوالدين، ولهذا قرن تعالى الشكر لهما بشكره، فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14].
والإحسان إلى الوالدين: معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما، وامتثال أمرهما، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما، وصلة أهل ودهما (3).. {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36] أوصى سبحانه بالإحسان إلى الوالدين، إثر تصدير ما يتعلق بحقوق الله عز وجل التي هي آكد الحقوق وأعظمها، تنبيها على جلالة شأن الوالدين، بنظمهما في سلكها، بقوله: { {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وقد كثرت مواقع هذا النظم في التنزيل العزيز، كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] أي أحسنوا بهما إحسانا يفي بحق تربيتهما، فإن شكرهما يدعو إلى شكر الله المقرب إليه، مع ما فيه من صلة أقرب الأقارب الموجب لوصلة الله وقطعها لقطعه (4).. وقال القرطبي: أحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والإحسان والتزام البر والطاعة له والإذعان من قرن الله الإحسان إليه بعبادته وطاعته وشكره بشكره وهما الوالدان (5).. {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الأنعام:151] ولما كان إيجاب الإحسان تحريما لترك الإحسان، ذكر في المحرمات، فإن الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده، كأن الأوامر ذكرت وقصد لوازمها.. {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23- 24] قال ذو النون: ثلاثة من أعلام البر: بر الوالدين، بحسن الطاعة لهما، ولين الجناح، وبذل المال، وبر الولد بحسن التأديب لهم والدلالة على الخير، وبر جميع الناس بطلاقة الوجه وحسن المعاشرة (6)، وطلبت أم مسعر ليلة من مسعر ماء، فقام فجاء بالكوز فصادفها وقد نامت، فقام على رجليه بيده الكوز إلى أن أصبحت فسقاها (7) وعن محمد ابن المنكدر قال: بت أغمز [المراد بالغمز ما يسمى الآن بالتكبيس] رجلي أمي، وبات عمي يصلي ليلته، فما سرني ليلته بليلتي.
ورأى أبو هريرة رجلا يمشي خلف رجل، فقال من هذا؟ قال: أبي.
قال: لا تدعه باسمه ولا تجلس قبله ولا تمش أمامه (8).. ووصينا الإنسان بوالديه قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:8]..
قيل: نزلت في سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- كما روى الترمذي: قال سعد: أنزلت في أربع آيات: فذكر قصة، وقالت: أم سعد، أليس قد أمر الله بالبر؟ والله لا أطعم طعاما، ولا أشرب شرابا، حتى أموت أو تكفر.
قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها، شجروا فاها.
فنزلت هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي...
} (9).. {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 15-16].. {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 14- 15].. قال سيد قطب رحمه الله تعالى: توصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم وفي وصايا رسول صلى الله عليه وسلم، ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلا، ومعظمها في حالة الوأد، وهي حالة خاصة في ظروف خاصة، ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها برعاية الوليد من والديه، فالفطرة مدفوعة إلى رعاية الجيل الناشئ، لضمان امتداد الحياة كما يريدها الله، وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن كل ما يملكان من عزيز وغال في غير تأفف ولا شكوى، بل في غير انتباه ولا شعور بما يبذلان بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما هما اللذان يأخذان! فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاة، فأما الوليد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولي الذاهب في أدبار الحياة، بعدما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة!..ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالهوامش والمصادر: (1) رواه ابن وهب في الجامع وأحمد في المسند ــ باقي مسند الأنصار برقم 22951 والبغوي في شرح السنة 3/420 ط المكتب الإسلامي، وابن النجار في ذيل التاريخ (10/134/2) من طريق عبد الرزاق، وعبد الرزاق في المصنف رقم 201999، والحاكم (3/208) وصححه ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في الإصابة (1/ 618) إسناده صحيح، قال الصدر المناوي وغيره: وصح لنا برواية الحاكم والبيهقي أن قوله كان أبر الناس من كلام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وليس بمدرج ثم بسطه، وقال الألباني إسناده صحيح على شرط الشيخين السلسلة الصحيحة برقم 913، صحيح الجامع برقم 3371، مشكاة المصابيح برقم 4854.. (2) تفسير القاسمي ــ محاسن التأويل ج1-2 ص 178دار الفكر (3) تفسير الجامع لأحكام القرآن ــ للقرطبي ج1 ص 954 ط دار الغد العربي (4) تفسير القاسمي ــ محاسن التأويل ج5 ص 139دار الفكر (5) الجامع لأحكام القرآن ــ للقرطبي ج4 ص 251 (6) شعب الإيمان ج: 6 ص: 187 (7) شعب الإيمان ج: 6 ص: 207 برقم 7920 (8) الآداب الشرعية ــ ابن مفلح ج1 ص 479 مؤسسة الرسالة (9) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ــ كتاب تفسير القرآن برقم 3113..