التكامل والتوازن في التربية


الحلقة مفرغة

الوقوف بعرفة ركن الحج الأعظم، ومن فاته فلا حج له، كما أن للحج واجبات، منها: الوقوف بعرفة إلى بعد الغروب، ومنها المبيت بمزدلفة، ورمي جمرة العقبة يوم النحر، والحلق أو التقصير بعد جمرة العقبة، والمبيت بمنى ثلاث ليال، ورمي الجمرات الثلاث بعد زوال كل يوم من أيام التشريق. كما أن هناك سنناً مستحبات ينبغي للحاج أن يفعلها حتى يكون حجه مبروراً.

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أما بعد:

فهي فرصة طيبة أن نلتقي بالإخوة الكرام، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيبهم ويجزيهم خير الجزاء على ما تسببوا به من إحياء هذا اللقاء الذي أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا فيه ممن يذكرهم الله سبحانه وتعالى فيمن عنده.

وهذا الموضوع -التكامل والتوازن في التربية- موضوع بائت، فقد كان ضمن سلسلة الدروس الشهرية في شهر ذي القعدة من العام المنصرم، ولكن حالت ظروفي الصحية دون إلقائه، وشاء الله عز وجل أن يكون من نصيبكم، ولئن كان الطعام لا يشتهى بائتاً وحين يبيت فإنه يأسن ويفسد، فأحسب أن الفكرة حين تبيت تصبح أكثر نضجاً ويصبح صاحبها أكثر اقتناعاً بطرحها.

وقديماً كان ابن النوام حين يطلب منه أن يخطب وهو لم يعد لخطبته كان يقول: لا أشتهي الخبز إلا بائتاً.

فأرجو ألا يكون من سوء حظكم وسوء وفائكم أن يكون نصيبكم هذا البائت، بل إن الفكرة البائتة أكثر نضجاً وأعمق أثراً.

معشر الإخوة الكرام! إن الحديث عن إنقاذ الأمة، وعن ضرورة رسم المنهج ذي المعالم الواضحة في إحياء الأمة وإنقاذها، حديث أحسب أنا قد تجاوزناه، وأحسب أنه أصبح من البداهيات لدى كل مسلم يشعر بواقع الأمة، ولدى كل مسلم يشعر بدوره في إنقاذ الأمة، لكن مدار النقاش والحديث حول المناهج ووسائل التغيير.

وأحسب أن الجميع أو أن الأغلب من قطاع الصحوة يوافقنا أن التربية ضرورة ملحة لغرس المعاني والتوجيهات الشرعية في صفوف الناشئة وعلى صعيد الأمة أجمع، وضرورة ملحة لغسل أوضار الماضي وآثاره السيئة، أن التربية ضرورة ملحة لإعداد الأمة لأن تكون أهلاً أن تحمل هذا الدين وأن تحمل هذه الرسالة، لا لهذه الأمة وحدها، بل للعالم أجمع، فقد اختار الله عز وجل هذه الأمة وأتمنها على هذه الرسالة للبشرية كلها فخصها الله عز وجل بخاتمة الرسالات وخاتمة الشرائع، وكانت أمة وسطاً خير أمة أخرجت للناس، شهيدة على الناس في الدنيا والآخرة، وهي حين تسعى للقيام بهذا الدور وأداء هذا الواجب فلابد أن تكون مؤهلة لهذه المنزلة.

ولا أظن أبداً -أيها الإخوة- أننا يمكن أن نبلغ هذا المستوى وهذه المنزلة، وأننا يمكن أن نرقع الخلل الذي تعاني منه الأمة من غير تربية، وأرى أنها تستحق منا الحديث الكثير عن ضرورتها، والمطالبة بها، والحديث عن المناهج التربوية والأخطاء التربوية، والحديث عن أساليب التربية، وأرى أن هذا الباب وهذا الجانب أمر ينبغي أن نعنى به جميعاً، لا على مستوى الصحوة فحسب، بل على كافة الطبقات والمستويات.

وهذا الموضوع موضوع شمولي يتحدث عن جوانب كثيرة، سواء أكانت جوانب فرديه أم كانت جوانب على مستوى الأمة، وسواء كانت جوانب تخص الفرد في حد ذاته أو كانت تتعلق بالأسرة ودور الأب ودور الأم، أو كانت تتعلق بالمؤسسات التربوية من المدرسة وغيرها من المحاضن التربوية، ونحن حين نتحدث هذا الحديث فإننا لا نعدو أن نذكر خواطر مجردة، وإلا فالحديث عن هذه القضية لا نستطيع أن نأتي عليه في هذه الأمسية.

ثانياً: حين نتحدث عن القضايا التربوية فنحن نطرح منهجاً ونظرية رأياً قد يكون قابلاً للصواب والخطأ، لكن هذا شيء وتطبيقه على آحاد الأفراد والأحوال شيء آخر، فنحن نتحدث عن أسلوب أو عن منهج أو عن برنامج، وهذا لا يعني بالضرورة أن زيداً من الناس أو عمرواً ينطبق عليه هذا الكلام أو ذاك، أقول هذا لأنه يحصل كثيراً أن الكثير من إخوتي الأساتذة والآباء والمربين يطبق ما تقول حرفاً بحرف على حالة يعيشها هو مع من يربيه، مع تلميذه أو مع ابنه، وقد تكون حالة فريدة لها اعتبارات خاصة، فحينئذ يشعر بنوع من عدم التوافق، بين ما يطرح ويسمع وبين ما يراه على أرض الواقع.

ثالثاً: التربية ليست مسئولة عن مشكلات لم تكن هي السبب في إحداثها وفي وقوعها، إنك مثلاً قد تجد البعض من الآباء يشكو لك مشكلة ابن من أبنائه أو بنت من بناته قد بلغ سن التكليف، واستعصى على التوجيه فلم يعد قابلاً للتربية، فيعرض عليك مشكلة ويطلب منك حلاً لهذه المشكلة، قد تجد حلاً وقد تنجح، لكن ينبغي أن نعلم أن هذه المشكلة لم تكن التربية هي المسئولة عن حدوثها، فهي تعكس إخلالاً، تعكس إهمالاً للتربية ابتداءً.

وهكذا حين يعرض عليك الأستاذ مشكلة يطلب منك حلاً لابد أن يتحقق على أرض الواقع، وحينئذ يراجع ويراهن على عدم صحة ما تقوله أو ما تطرحه، فنحن حين نتحدث عن التربية وحين نرى أن التربية كفيلة بإذن الله في تجاوز الكثير من المشكلات والعقبات، فهي ليست مسئولة عن حل مشكلات لم تكن هي السبب فيها ابتداءً.

إننا نفترض أن يتربى الشاب من صغره، بل من طفولته على أن يرعى هذا الجانب قبل أن يخرج إلى هذه الدنيا، فضلاً عن طفولته ومراهقته وشبابه، وحين يسار به وفق المنهج الشرعي والتربوي السليم فالأغلب حينئذ والأعم بأن الله أن يستقيم وفق المنهج القويم، وحين يفلت فلان أو فلان فالقلوب بيد الله عز وجل.

رابعاً: حين نتحدث عن هذه القضايا التربوية التي تخص فئة وقطاعاً عاماً من الناس فهي تعني الأستاذ وتعني الأب وتعني الأم، تعني الكثير من الناس ولسنا نتحدث حديثاً أكاديمياً ولا حديثاً للمختصين، وحينئذ ينبغي أن يخرج حديثنا عن هذا الإطار.

وقد نحتاج إلى الاستشهاد واستخدام مصطلحات عند أصحاب الدراسات الإنسانية كعلم النفس والتربية وغيرها، ونحتاج للحديث عن بعض القضايا التي هي من شئونهم وخصائصهم، ويجب أن نفرق بين حديث لعامة الناس وبين حديث أكاديمي للمختصين، حينئذ فلابد أن نتجوز في المصطلحات، ولابد أن يكون حديثنا عاماً يأخذ طابع العمومية، وحينئذ أرجو ألا يؤاخذني أهل الاختصاص والاصطلاح حين أسطو على مصطلح من مصطلحاتهم فأستخدمه أوسع أو أضيق مما يستخدمونه هم.

والمقصود -معشر الإخوة الكرام- هو أن نعالج المشكلات، وأن نتحدث عن أوضاعها، وأظن أن باب المصطلحات والتخصصات العلمية الأمر فيه أوسع بكثير من أن يضيق بهذه الدائرة.

هذه مقدمات حول هذه القضايا التربوية التي قد نطرحها سواءً في هذا الدرس أو غيره، وبعد ذلك ندلف للحديث عن هذا الموضوع.

خلق الله الإنسان وفيه جوانب مختلفة

إننا نطالب بأن تكون التربية متكاملة متوازنة في الوقت نفسه، سواءً على مستوى الأفراد أو على مستوى المجتمع ككل، وحين نطالب بذلك فإن الذي يدعونا لهذا الأمر مسوغات عدة:

أولها: أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان يحوي جوانب مختلفة، فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وفيه جسم، وفيه عواطف متقابلة بل ومتناقضة، وخلق الإنسان وفيه عقل، وخلق فيه مشاعر.

إذاً: خلق الله عز وجل الإنسان وفيه جوانب كثيرة متنوعة، وحينئذ فالمنهج التربوي الذي يريد أن يرقى بهذا الإنسان يجب أن يكون متوافقاً مع فطرة هذا المرء، ولهذا صار أي تشريع للبشر من غير هذا المصدر الشرعي محكوم عليه بالفشل والبوار؛ لأنه تشريع صادر من البشر، والله سبحانه وتعالى هو الذي خلقهم: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، وغالباً ما ترى تشريعات البشر تأخذ جانباً على حساب جانب آخر، وغالباً ما تراها تخل بهذا التكامل أو هذا التوازن في شخصية المرء.

إذاً: فالتكامل والتوازن هو الذي يتوافق مع خلق الإنسان وفطرته التي فطره الله عز وجل عليها، ولأضرب على ذلك مثلاً: إننا حين نربي الناس مثلاً على الخضوع والتسليم لكل الآراء التي تطرح عليهم أياً كان مصدرها، ونطلب منهم أن يعطلوا عقولهم وألا يفكروا فيما يقال لهم، فإننا حينئذ نعطل هذا العقل الذي ما خلقه الله سبحانه وتعالى إلا لحكمة، ولو استقامت أمور الناس على التقليد والتبعية لخلق الله عز وجل لنخبة من الناس عقولاً وترك سائر الناس دون عقول، أما وقد خلق الله عز وجل العقول للناس جميعاً فإن هذا يعني أن يربى الناس على أن يستخدموا عقولهم بالدرجة التي لا تخرجهم عن حدود الدائرة الشرعية، وأي تربية تسعى إلى الحجر حريات الناس وعقولهم وتفكيرهم فإنها تعارض الفطرة، وأي منهج يعارض الفطرة فإنه يحمل في طياته بذور الهلاك والبوار.

وحين نأخذ منهجاً تربوياً يأخذ جانب العقل والمعرفة وحدها ويغفل عن جانب الوجدان في نفس الإنسان نجد أنه متناقض؛ لأن المرء مفطور على العبودية والخضوع فإن لم يخضع لله عز وجل خضع لغيره من البشر، إن لم يرب على العبادة لله سبحانه وتعالى توجه بالعبادة لغيره من البشر؛ ولهذا نرى المناهج التربوية الغربية التي تصر على التخاطب مع العقل وحده، وتهمل الجوانب الإيمانية وجوانب الوجدان والعاطفة؛ نراها تخالف الفطرة وتناقضها، وحينئذ تعيش في تناقض يحكم عليها بالفشل والبوار.

سنة التكامل والتوازن في الحياة

ثانياً: سنة الله عز وجل في الحياة التكامل والتوازن:

فالجنون مثلاً يحصل نتيجة لعدم توازن القدرات العقلية والعصبية؛ ولهذا يقال عن المجنون: إنسان غير موزون، والصرع العضوي من أسبابه زيادة الكهرباء في دماغ الإنسان، وفقر الدم أو ضعفه يحصل نتيجة عدم توازن الكريات البيضاء والحمراء في الدم، ثم إن زيادة سائل الأذن قد يتسبب في الإغماء لدى الإنسان.

هذه بعض النتائج التي يخلفها عدم التوازن لدى الكائن البشري، وهناك عشرات الأمثلة الأخرى على ذلك.

أما نتائج عدم التوازن في الكون والحياة فأكثر من أن تحصر، فإن تغير نسبة الأكسجين في الهواء تجعله ملوثاً وقد تجعله سماً قاتلاً، وتغير المعادلة المتوازنة في دوران الأرض والشمس والأفلاك ينتج عنه كثير من الأمور أقلها اختلال انتظام الليل والنهار وتعاقب الفصول، وما يؤدي ذلك من أضرار على الإنسان والحيوان والحياة بكاملها، وحتى ما يصنعه الإنسان من آلات وما يشيده من بنايات فجميعه محكوم بقاعدة التوازن، وأي خلل في المقادير والمعايير يتسبب بنتائج خطيرة ومأساوية.

وجوانب الشخص نفسها حين لا تكون متوازنة ولا متناسقة فإنها تخرج إنساناً غير متناسق، فجمال الوجه مثلاً في توازن نسبي بين حجم الأنف والعينين والفم والرأس، بحيث لو اضطربت هذه النسب لكانت صورة مشوهة أو هزيلة أو ناقصة، وقيمة الطعام تكمن في مختلف عناصره الغذائية، بحيث تتحقق النسبة المتوازنة لسلامة الجسم من مختلف الدهون والسكريات والأملاح والمعادن والفيتامينات.. إلى غير ذلك، والحديث في هذا يطول.

المقصود: أن الحياة قائمة على التوازن، وأن الإخلال في التوازن حتى في المظهر الجمالي أمر يدعو الناس إلى النفور.

إن البناء -مثلاًً- حين تزيد فيه نسبة الأسمنت على نسبة الحجارة التي توضع معه فإن هذا يحصل منه خلل، وحين تقل نسبة الحديد أو تزيد فإن هذا الأمر أيضاً يكون غير متناسق، بل حين يسعى الإنسان إلى أن يجمل منزله مثلاً فيبالغ في هذا الجمال، أو يجعله بصورة غير متوازنة يصبح أمراً مرفوضاً، ونقرأ الحديث عن توازن هذا الكون في القرآن، يقول الله سبحانه وتعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، ويقول: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج:65]، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:3-4].

قيام الشرع على الوسطية

ثالثاً: شرع الله عز وجل قائم على الوسطية في الاعتقاد والعبادة والأخلاق والسلوك، فشرع الله عز وجل قائم على هذه القاعدة.

ظاهرة التكامل التشريعي

رابعاً: الشرع تبدو فيه ظاهرة التكامل معلماًً بارزاً، فما من مجال من مجالات الحياة إلا وللشرع فيه حكم، فإنك ترى الشرع له حكم في معتقد الإنسان الذي قد لا يعدو أن يكون عقيدة مستقرة في القلب، وترى للشرع حكماً في تعامل الإنسان مع غيره، وحكماً في عبادة الإنسان، وحكماً في سلوكه وأخلاقه، وفي الاقتصاد، والسياسة، وحياة الناس الاجتماعية وعلاقاتهم.

إنك لا تجد باباً من أبواب الحياة إلا وتجد للشرع فيه حكماً واضحاً ظاهراً، وهذا يعني أننا أمام شرع متكامل، وحين نربي الناس على هذا الشرع فينبغي أن نربي الناس تربية متكاملة متوازنة؛ ولهذا أنكر الله عز وجل على بني إسرائيل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:85].

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:150-151].

ولهذا فمن إعجاز القرآن أن حذر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن صورة نراها في واقعنا، حين أمره أن يحكم بشرع الله، وحين أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين الناس بما أنزل إليه وأن يحذر من اتباع أهوائهم قال بعد ذلك: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:49]، وكأن هذه الآية تنطق بواقع هذه القرون المتأخرة، أن هناك من يساوم على شرع الله، فيأخذ بعض شرع الله عز وجل ويرفض بعضه، فينادي بالاحتكام إلى شرع الله عز وجل في باب من أبواب الحياة، ويرفض بعد ذلك سائر الأبواب، وهذا هو اتباع الهوى والإعراض عن شرع الله عز وجل؛ ولهذا حذر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من أهل الأهواء الذين يريدون أن يحكموا شرع الله في أمر من أمور الحياة ويهملوه في سائرها.

إن هذا -معشر الإخوة الكرام- دليل على أن هذا الشرع جاء ليحكم الحياة كلها، وحينئذ فأي منهج تربوي يريد أن يربي الناس على خلاف ذلك فهو معارض لهذه القاعدة الشرعية التي لا تنخرم، وتراها في كل حكم شرعي في سائر أبواب الحياة.

التحدي التربوي الذي تواجهه الأمة

خامساً: الأمة الإسلامية تواجه تحدياً تربوياً من أبواب شتى:

فالشباب يعانون من تخطيط ماكر وغزو مدبر، والطفل المسلم تعد له أفلام وتكتب له قصص ومجلات يقصد منها تربيته تربية تحرفه عن المنهج الشرعي، وكذلك الشاب والفتاة والعلاقات الاجتماعية والأسرة وحياة الناس في اقتصادهم وعقيدتهم وحياتهم السياسية، إن الأمة ستواجه تحدياً شاملاً متكاملاً لخلعها عن دينها وتربيتها على غير شرع الله عز وجل، وحينئذ فالتربية التي تستهدف إنقاذ الأمة والوقوف في وجه هذا التيار الوافد لن تكون مؤهلة للمواجهة ما لم تكن آخذة بالتكامل والتوازن.

إننا نطالب بأن تكون التربية متكاملة متوازنة في الوقت نفسه، سواءً على مستوى الأفراد أو على مستوى المجتمع ككل، وحين نطالب بذلك فإن الذي يدعونا لهذا الأمر مسوغات عدة:

أولها: أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان يحوي جوانب مختلفة، فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وفيه جسم، وفيه عواطف متقابلة بل ومتناقضة، وخلق الإنسان وفيه عقل، وخلق فيه مشاعر.

إذاً: خلق الله عز وجل الإنسان وفيه جوانب كثيرة متنوعة، وحينئذ فالمنهج التربوي الذي يريد أن يرقى بهذا الإنسان يجب أن يكون متوافقاً مع فطرة هذا المرء، ولهذا صار أي تشريع للبشر من غير هذا المصدر الشرعي محكوم عليه بالفشل والبوار؛ لأنه تشريع صادر من البشر، والله سبحانه وتعالى هو الذي خلقهم: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، وغالباً ما ترى تشريعات البشر تأخذ جانباً على حساب جانب آخر، وغالباً ما تراها تخل بهذا التكامل أو هذا التوازن في شخصية المرء.

إذاً: فالتكامل والتوازن هو الذي يتوافق مع خلق الإنسان وفطرته التي فطره الله عز وجل عليها، ولأضرب على ذلك مثلاً: إننا حين نربي الناس مثلاً على الخضوع والتسليم لكل الآراء التي تطرح عليهم أياً كان مصدرها، ونطلب منهم أن يعطلوا عقولهم وألا يفكروا فيما يقال لهم، فإننا حينئذ نعطل هذا العقل الذي ما خلقه الله سبحانه وتعالى إلا لحكمة، ولو استقامت أمور الناس على التقليد والتبعية لخلق الله عز وجل لنخبة من الناس عقولاً وترك سائر الناس دون عقول، أما وقد خلق الله عز وجل العقول للناس جميعاً فإن هذا يعني أن يربى الناس على أن يستخدموا عقولهم بالدرجة التي لا تخرجهم عن حدود الدائرة الشرعية، وأي تربية تسعى إلى الحجر حريات الناس وعقولهم وتفكيرهم فإنها تعارض الفطرة، وأي منهج يعارض الفطرة فإنه يحمل في طياته بذور الهلاك والبوار.

وحين نأخذ منهجاً تربوياً يأخذ جانب العقل والمعرفة وحدها ويغفل عن جانب الوجدان في نفس الإنسان نجد أنه متناقض؛ لأن المرء مفطور على العبودية والخضوع فإن لم يخضع لله عز وجل خضع لغيره من البشر، إن لم يرب على العبادة لله سبحانه وتعالى توجه بالعبادة لغيره من البشر؛ ولهذا نرى المناهج التربوية الغربية التي تصر على التخاطب مع العقل وحده، وتهمل الجوانب الإيمانية وجوانب الوجدان والعاطفة؛ نراها تخالف الفطرة وتناقضها، وحينئذ تعيش في تناقض يحكم عليها بالفشل والبوار.

ثانياً: سنة الله عز وجل في الحياة التكامل والتوازن:

فالجنون مثلاً يحصل نتيجة لعدم توازن القدرات العقلية والعصبية؛ ولهذا يقال عن المجنون: إنسان غير موزون، والصرع العضوي من أسبابه زيادة الكهرباء في دماغ الإنسان، وفقر الدم أو ضعفه يحصل نتيجة عدم توازن الكريات البيضاء والحمراء في الدم، ثم إن زيادة سائل الأذن قد يتسبب في الإغماء لدى الإنسان.

هذه بعض النتائج التي يخلفها عدم التوازن لدى الكائن البشري، وهناك عشرات الأمثلة الأخرى على ذلك.

أما نتائج عدم التوازن في الكون والحياة فأكثر من أن تحصر، فإن تغير نسبة الأكسجين في الهواء تجعله ملوثاً وقد تجعله سماً قاتلاً، وتغير المعادلة المتوازنة في دوران الأرض والشمس والأفلاك ينتج عنه كثير من الأمور أقلها اختلال انتظام الليل والنهار وتعاقب الفصول، وما يؤدي ذلك من أضرار على الإنسان والحيوان والحياة بكاملها، وحتى ما يصنعه الإنسان من آلات وما يشيده من بنايات فجميعه محكوم بقاعدة التوازن، وأي خلل في المقادير والمعايير يتسبب بنتائج خطيرة ومأساوية.

وجوانب الشخص نفسها حين لا تكون متوازنة ولا متناسقة فإنها تخرج إنساناً غير متناسق، فجمال الوجه مثلاً في توازن نسبي بين حجم الأنف والعينين والفم والرأس، بحيث لو اضطربت هذه النسب لكانت صورة مشوهة أو هزيلة أو ناقصة، وقيمة الطعام تكمن في مختلف عناصره الغذائية، بحيث تتحقق النسبة المتوازنة لسلامة الجسم من مختلف الدهون والسكريات والأملاح والمعادن والفيتامينات.. إلى غير ذلك، والحديث في هذا يطول.

المقصود: أن الحياة قائمة على التوازن، وأن الإخلال في التوازن حتى في المظهر الجمالي أمر يدعو الناس إلى النفور.

إن البناء -مثلاًً- حين تزيد فيه نسبة الأسمنت على نسبة الحجارة التي توضع معه فإن هذا يحصل منه خلل، وحين تقل نسبة الحديد أو تزيد فإن هذا الأمر أيضاً يكون غير متناسق، بل حين يسعى الإنسان إلى أن يجمل منزله مثلاً فيبالغ في هذا الجمال، أو يجعله بصورة غير متوازنة يصبح أمراً مرفوضاً، ونقرأ الحديث عن توازن هذا الكون في القرآن، يقول الله سبحانه وتعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، ويقول: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج:65]، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:3-4].

ثالثاً: شرع الله عز وجل قائم على الوسطية في الاعتقاد والعبادة والأخلاق والسلوك، فشرع الله عز وجل قائم على هذه القاعدة.

رابعاً: الشرع تبدو فيه ظاهرة التكامل معلماًً بارزاً، فما من مجال من مجالات الحياة إلا وللشرع فيه حكم، فإنك ترى الشرع له حكم في معتقد الإنسان الذي قد لا يعدو أن يكون عقيدة مستقرة في القلب، وترى للشرع حكماً في تعامل الإنسان مع غيره، وحكماً في عبادة الإنسان، وحكماً في سلوكه وأخلاقه، وفي الاقتصاد، والسياسة، وحياة الناس الاجتماعية وعلاقاتهم.

إنك لا تجد باباً من أبواب الحياة إلا وتجد للشرع فيه حكماً واضحاً ظاهراً، وهذا يعني أننا أمام شرع متكامل، وحين نربي الناس على هذا الشرع فينبغي أن نربي الناس تربية متكاملة متوازنة؛ ولهذا أنكر الله عز وجل على بني إسرائيل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:85].

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:150-151].

ولهذا فمن إعجاز القرآن أن حذر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن صورة نراها في واقعنا، حين أمره أن يحكم بشرع الله، وحين أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين الناس بما أنزل إليه وأن يحذر من اتباع أهوائهم قال بعد ذلك: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:49]، وكأن هذه الآية تنطق بواقع هذه القرون المتأخرة، أن هناك من يساوم على شرع الله، فيأخذ بعض شرع الله عز وجل ويرفض بعضه، فينادي بالاحتكام إلى شرع الله عز وجل في باب من أبواب الحياة، ويرفض بعد ذلك سائر الأبواب، وهذا هو اتباع الهوى والإعراض عن شرع الله عز وجل؛ ولهذا حذر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من أهل الأهواء الذين يريدون أن يحكموا شرع الله في أمر من أمور الحياة ويهملوه في سائرها.

إن هذا -معشر الإخوة الكرام- دليل على أن هذا الشرع جاء ليحكم الحياة كلها، وحينئذ فأي منهج تربوي يريد أن يربي الناس على خلاف ذلك فهو معارض لهذه القاعدة الشرعية التي لا تنخرم، وتراها في كل حكم شرعي في سائر أبواب الحياة.

خامساً: الأمة الإسلامية تواجه تحدياً تربوياً من أبواب شتى:

فالشباب يعانون من تخطيط ماكر وغزو مدبر، والطفل المسلم تعد له أفلام وتكتب له قصص ومجلات يقصد منها تربيته تربية تحرفه عن المنهج الشرعي، وكذلك الشاب والفتاة والعلاقات الاجتماعية والأسرة وحياة الناس في اقتصادهم وعقيدتهم وحياتهم السياسية، إن الأمة ستواجه تحدياً شاملاً متكاملاً لخلعها عن دينها وتربيتها على غير شرع الله عز وجل، وحينئذ فالتربية التي تستهدف إنقاذ الأمة والوقوف في وجه هذا التيار الوافد لن تكون مؤهلة للمواجهة ما لم تكن آخذة بالتكامل والتوازن.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2589 استماع
الشباب والاهتمامات 2464 استماع
وقف لله 2325 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2257 استماع
يا أهل القرآن 2190 استماع
كلانا على الخير 2189 استماع
يا فتاة 2183 استماع
الطاقة المعطلة 2120 استماع
علم لا ينفع 2087 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2083 استماع