الدعاة الصامتون


الحلقة مفرغة

للجهاد آداب هي من عوامل النصر فيه، ومن أسرار هزيمة العدو، منها: عدم إفشاء الأسرار والخطط، واختيار الأماكن الصالحة للقتال، ودعوة الكفار إلى الإسلام قبل بدء الحرب، وعدم السرقة من الغنائم، وعدم الغدر بمن أجاره مسلم وأمنه، كما لا يجوز إحراق العدو بالنار، ولا يجوز المثلة بالقتلى، وأن يلتزم المقاتلون الوسائل الشرعية عند القتال، ويستعينون بدعاء الله تعالى أن ينصرهم على الأعداء.

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد:

فعنوان حديثنا هذه الليلة: الدعاة الصامتون، وحديثنا يتضمن النقاط الآتية:

أولاً: وقفة حول العنوان.

ثانياً: وقفة مع نصوص القرآن الكريم.

ثالثاً: الداعية الأول، والدعوة الصامتة.

رابعاً: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده يترسمون معالم المنهج.

خامساً: مزايا الدعوة الصامتة.

سادساً وأخيراً: من مجالات الدعوة الصامتة.

إن البعض قد يظن أننا نعني بالحديث عن الدعاة الصامتين، أولئك الذين صمتوا عن بيان كلمة الحق، وأولئك الذين قعدوا عن سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، هذا الفهم ربما يتبادر إلى ذهن من يسمع العنوان، لكن هؤلاء إنما هم شياطين خرس ليسوا جديرين بوصف الدعوة، لهذا فلا يسوغ أن يوصف هؤلاء بأنهم دعاة صامتون، بل هم شياطين خرس، إن الذين يسكتون عن الحق حيث يجب بيانه، والذين يقعدون عن القيام بنصرة هذا الدين خاصة في هذا العصر الذي تكالب فيه الأعداء على هذه الأمة، وكشروا عن أنيابهم، وأعلنوها حرباً ضروساً شاملة على الإسلام وأهله، وعلى كل من دعا لدين الله عز وجل، إن أولئك الذين يقفون على الحياد في هذه المعركة التي تعيشها الأمة، ليسوا جديرين بأن يوصفوا بأنهم دعاة صامتون، إنما هم شياطين خرس، فالساكت عن الحق شيطان أخرس.

إنما نعني بالدعاة الصامتين: أولئك الذين يدعون إلى الله عز وجل بأحوالهم، أولئك الذين تبلغ أحوالهم عن دعوتهم، فهم يدعون الناس بأفعالهم وسيرهم وأحوالهم، إنهم لم يتكلموا ولم ينطقوا، لكن أحوالهم وأمورهم ناطقة بما يدعون إليه، بل ربما كانت هذه الأحوال أبلغ من أي كلمة وأي بيان.

أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالتأسي بمن سبقه من الأنبياء والاقتداء بهديهم، يقول تبارك وتعالى عن إبراهيم: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا [الأنعام:84-90].

إن الله تبارك وتعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدي أولئك الذين قص عليه سيرهم وأنباءهم في هذا الكتاب، وهذا الخطاب ليس للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، بل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده، إنها دعوة للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدي من سبقه من الأنبياء، وهي دعوة أيضاً لمن يقرأ القرآن بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسير على نفس المنهج، ويسلك السبيل نفسها.

ثانياً: أمر الله نبيه وأمته من بعده بالتأسي بإبراهيم عليه السلام ومن معه: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ [الممتحنة:4]، ثم قال تبارك وتعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة:6].

ثالثاً: أمر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالتأسي به: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].

رابعاً: نهى تبارك وتعالى عن التناقض بين القول والعمل، وذم ذلك المسلك وعابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3]، وعاب تبارك وتعالى على بني إسرائيل أنهم ينسون أنفسهم إذ يأمرون بالبر غيرهم، فقال: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] ، وتتوالى الآيات في كتاب الله التي تدعو المؤمنين إلى أن يكون العمل مصداقاً للقول وما يدعو إليه الإنسان، يقول تبارك وتعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، وقد استنبط بعض المفسرين من هذه الآية أن فيها الأمر بأن يعمل الداعية بما يقول ويدعو إليه.

خامساً: قص القرآن قصص بعض الصالحين والسابقين فيما مضى، يقول تبارك وتعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ [الكهف:10].. الآيات، وهي آيات يقرؤها المسلم كل أسبوع في يوم الجمعة، يقرأ فيها قصة هؤلاء الفتية من أهل الكهف، ويقرأ في القرآن الكريم أيضاً قصة أصحاب الأخدود، ويقرأ في القرآن الكريم قصة سحرة فرعون حينما آمنوا بموسى وقالوا لفرعون: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72].

وهي آيات كثيرة يقصها الله عز وجل علينا في كتابه عن السابقين أتباع الأنبياء الذين ساروا على سننهم وطريقتهم.

أيضاً: يذكر الله تبارك وتعالى في القرآن أحوال بعض الذين عاصروا التنزيل فأثنى على مواقفهم، فبقيت خالدة تتجاوز حدود الزمان والمكان الذي كانت فيه؛ لتبقى منارة للأجيال من بعدهم: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23]، لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ [التوبة:117]، ثم قال الله تبارك وتعالى بعد ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ * مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ [التوبة:119-120].

ويقول تبارك وتعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:8-9].

فهذه آيات كثيرة نقرؤها في كتاب الله عز وجل في الثناء على تلك المواقف التي وقفها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت صوراً خلدها لنا القرآن الكريم كنماذج لأتباع الأنبياء السابقين عامة، وأتباع النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.

ويقص علينا النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً قصصاً أخرى من مواقف أولئك الصادقين الصابرين، الذين دعوا لدين الله عز وجل، وبذلوا أرواحهم وأنفسهم وأموالهم ومهجهم في سبيل الله عز وجل، إننا نقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قصة شاب آمن بالله ودعا قومه وضحى بنفسه في سبيل الله حتى آمن أهل قرية حين رأوا موقف هذا الشاب وقد جاد بنفسه في سبيل الله، فتنادى الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام؛ لتنطلق هذه الكلمة سهماً آخر يتجه إلى صدور أولئك الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، بعد أن أحرقهم وقطع أحشاءهم ذاك السهم الذي انطلق من قلب هذا الغلام الصادق الذي ضحى بنفسه في سبيل الله عز وجل، وظن أولئك المفسدون المجرمون أنهم حين يقتلون هذا الغلام أنهم سيقتلون هذه الدعوة التي دعا إليها، وأنهم سيدفنون هذا الدين الذي آمن به ودعا إليه، فإذا بهم يسمعون الناس يتنادون: آمنا بالله رب الغلام، إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قص علينا هذه القصة، أو حين قص علينا قصة نفر آواهم المبيت إلى غار، فدعوا الله عز وجل بصالح أعمالهم، أو حين قص علينا قصة تمثل نموذج الشاكر لنعمة الله عز وجل، ونموذج المعرض عن شكر هذه النعمة في قصة الأعمى والأقرع والأبرص وغيرها من القصص التي تملأ دواوين السنة، إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قص علينا هذه النماذج إنما أراد لها أن تكون قدوة لمن يقرأ هذه الأخبار، لتكون قدوة لمن جاء بعدهم، ويصبح أولئك الماضون دعاة صامتين لدين الله عز وجل.

سابعاً: أمر الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو على المؤمنين سيرة ابني آدم بالحق إذ قتل أحدهما أخاه ظلماً وعدواناً، فصار من الدعاة الصامتين للجريمة والقتل، فما من نفس تقتل ظلماً إلا صار على ابن آدم الأول كفل منها، إذ هو أول من سن القتل، كل ذلك تأصيل للقدوة والأسوة الحسنة، ودعوة للدعاة إلى الله على منهاج النبوة أن يترسموا معالمها، وهو أيضاً تأصيل لمبدأ التأثير بالسلوك والعمل، وامتداد لميدان الدعوة والمخاطبة لتتجاوز الكلمة المجردة فتمتد عبر ميدان فسيح لتصبح الكلمة وسيلة من الوسائل وأسلوباً من الأساليب، لا أن تحصر الدعوة في الكلمة وحدها.

إن الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى مهما علا شأن قضية الدعوة لديهم، ومهما ابتكروا من الأساليب والوسائل فهم رهن بمنهج الداعية الأول والإمام الأوحد صلى الله عليه وسلم، والتحرر من ذلك يعني التحرر من المنهج، والعدوان على السنة المتبعة، وولوج الطريق المبتدعة، لذا فنحن حين ندعو إلى أن تأخذ الدعوة بعداً شمولياً لدى أصحابها فتتجاوز الجمود على الأساليب التقليدية التي يرثونها، ندعو في ذات الوقت إلى أن تحاط الدعوة إلى الله عز وجل بسياج الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، وألا يكون تخطي الأساليب التقليدية لتجاوز هديه، لهذا كان كل داع إلى الله عز وجل أحوج ما يكون إلى أن يحشد النصوص ويحشد الآثار التي تؤيد هذا المنهج الذي يدعو إليه، والتي تعلن للناس أنه لم يأت ببدعة من القول.

ومن صور الاقتداء الواردة في السنة ما كان صلح الحديبية، حين دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن ينحروا هديهم وأن يحلقوا رءوسهم فلم يستجب له أحد حيث أصاب الناس ما أصابهم من الإحباط؛ ذلك أنهم جاءوا إلى هذا المكان، وكانوا قد سمعوا الوعد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلوا البيت الحرام، وأن يطوفوا به آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون، فحين رأوا ما رأوا من مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم لقريش، وآلمهم الموقف وهم يرون أبا جندل يرسف في قيوده، ولا يملك الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يعيده إلى المشركين، فلم يطق أولئك المؤمنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يستجيبوا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان منه إلا أن أتى أم سلمة رضي الله عنها يشكو إليها عدم امتثال أصحابه لأمره، فأشارت عليه أن يخرج ولا يكلم أحداً، فيدعو بالحلاق فيحلق رأسه، ثم ينحر بدنه، فخرج صلى الله عليه وسلم وفعل ذلك، فما كان من الناس حين رأوا ذلك إلا أن اجتمعوا يحلق بعضهم لبعض حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً من الغم.

وكان صدق حاله صلى الله عليه وسلم من أعظم ما استدل به البعض على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم حتى دخلوا في الإسلام، ومن هؤلاء عبد الله بن سلام رضي الله عنه إذ قال بعد أن رآه: فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب.

لقد كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم ناطقة بصدقه، وأنه لم يكن ينطق عن الهوى، وأنه كان يأتي بالوحي من الله تبارك وتعالى، وأنه إنما كان يأتيهم بخبر السماء؛ لذلك كانت حاله وحدها كافية في دعوة الكثير من الناس للإسلام، فمن رآه صلى الله عليه وسلم عرف الصدق في وجهه.

ومن الناس من دخل في الإسلام وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لموقف أبصره أو مشهد رآه، والسيرة تزخر بالكثير من هذه المواقف التي دخل فيها فئام من الناس الإسلام، وأعلنوا متابعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم لما رأوه من المواقف.

واختار الله عز وجل له أن يكون في مبدأ حياته أميناً صادقاً ليكون ذلك مرآة على صدقه، وليقرأ في سيرته وهديه -من سمع بدعوته- الصدق وسمو المنهج، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقب بالصادق الأمين، حيث عاش مع بني قومه أربعين سنة عرفوا منه خلالها الصدق والإحسان للناس، والأمانة وحسن الخلق، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يجاريهم في مجونهم ولهوهم، إن تلك الحال التي كان يعيشها صلى الله عليه وسلم كانت دعوة صامتة، وكانت إشارة إلى أولئك الجادين في معرفة الحق أن هذا الرجل الذي عرفوا مدخله ومخرجه، وعرفوا سيرته لم يكن ليتحاشى الكذب على الناس، ثم يتجرأ على الكذب على الله تبارك وتعالى، وهو أمر لم يختص به النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء، بل يحكي الله تبارك وتعالى عن قوم صالح أنهم قالوا: قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [هود:62]، نعم لقد كانت سيرة صالح في قومه كسيرة محمد صلى الله عليه وسلم وكسيرة سائر الأنبياء، لقد كانوا يرجون فيه الخير، ويؤملون فيه الخير، فلما دعاهم إلى الله تبارك وتعالى وإلى أن يفارقوا ما كانوا عليه خاب ظن أولئك الضالين بنبيهم صالح، وقد كانوا يؤملون فيه الخير، وأي خير أعظم من أن يدعوهم إلى عبادة الله تبارك وتعالى وحده.

إذاً: ها هي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وها هي حياته تزخر بالعديد من المواقف التي تظهر أنه لم يكن داعية بمقاله فقط، بل كان صلى الله عليه وسلم داعية إلى الناس بحاله ومواقفه، وها نحن نرى الناس الصادقين، نرى الناس المتعبدين لله تبارك وتعالى، لا يخطئهم هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، نراهم يسعون إلى أن يعرفوا كيف كان صلى الله عليه وسلم يصلي، وكيف كان صلى الله عليه وسلم يصوم، وكيف كان صلى الله عليه وسلم ينام ويستيقظ، وكيف كان يضحك صلى الله عليه وسلم، وكيف كان في سفره وإقامته، وفي سلمه وحربه، وفي أحواله كلها صلى الله عليه وسلم.

رابعاً: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده هم حملة الدعوة، فكانوا هم أيضاً رضوان الله عليهم دعاة صامتين لمن جاء بعدهم، فقد كانوا رضوان الله عليهم يترسمون معالم منهج اختطه لهم صلى الله عليه وسلم، فتعيش الدعوة حية في قلوبهم وضمائرهم، يقرأ ذلك من يطلع على سيرهم قبل أن يسمع أقوالهم، حين دعا صلى الله عليه وسلم الناس للصدقة، وقد جاء قوم مجتابي النمار فرق صلى الله عليه وسلم -وهو صاحب القلب الرحيم- لحالهم، وتألم صلى الله عليه وسلم لمنظرهم فخطب في الناس ودعاهم لأن يتصدقوا مما يملكون من درهمهم من دنانيرهم من صاع برهم من صاع تمرهم من ثيابهم، فلم يتصدق أحد، فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه صرة كادت يده أن تعجز عنها بل قد عجزت، فألقاها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فتتابع الناس بعد ذلك، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فصار هذا الرجل داعية صامتاً، صار هذا الرجل داعية بحاله لأولئك الذين كانوا يشهدون هذا المشهد حتى تتابعوا في بذل صدقاتهم، حتى رئي عند النبي صلى الله عليه وسلم كومين من ثياب وطعام، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).

وحين استنفر النبي صلى الله عليه وسلم الناس ليغزوا الروم ولم يعذر أحداً في ذلك، جاء أقوام لا يجدون ما يحملهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملهم، فلم يجد صلى الله عليه وسلم ما يحملهم، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، تولى هؤلاء وهم يبكون أن لم يفتح لهم الميدان ليشاركوا في الجهاد في سبيل الله، فخلد القرآن ذكرهم وسيرتهم، ليكون هذا الموقف دعوة لمن جاء بعدهم أن يعيش كما كان يعيش أولئك: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:92].

إن من لم يفتح له الميدان للجهاد في سبيل الله، إن من لم يطق أن يشارك مع المجاهدين الصادقين الصابرين، ولم يجد مالاً ينقله إلى ساحة الجهاد، أو لم يجد سلاحاً يقاتل به، أو لم يجد ميداناً يفتح له ليجاهد في سبيل الله، إن ذلك لا يمكن أن يعذره بحال في ألا يحدث نفسه بالجهاد في سبيل الله، والنصح لله ورسوله، إن الذي لم يجد ميداناً يشارك فيه، ولم يجد ميداناً يعيش فيه مع الصادقين الصابرين المخلصين لا يعذر أبداً في ألا يعيش معهم بقلبه، وأن يعيش معهم بحاله، وأن ينصح لله ورسوله.

وهاهم جمهور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى أهل مكة برسالة مع عروة بن مسعود فيرجع مشدوهاً إلى أصحابه يحدثهم بما رأى، وقد أدرك أنه أمام جيل آخر دون أن يكون منهم تعبير باللسان، يرجع إلى أصحابه يقول: لقد وفدت على الملوك، وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف واحد منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له.

نعم أيها الأخوة، لقد رجع عروة بغير الوجه الذي ذهب به، لقد رجع وقد رأى هذا الموقف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رأى هذا الموقف الذي يعبر عن الحب الصادق، الذي يعبر عن الود البعيد عن أبهة الملوك التي كان يعيشها قيصر وكسرى والنجاشي، وقد سبق له أن وفد عليهم فعلم هذا الرجل أن للنبي صلى الله عليه وسلم شأناً آخر غير شأن أولئك الملوك، وعلم أن هؤلاء أتباع صادقون جادون غير أتباع أولئك الملوك:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع

أولئك أصحاب النبي وحزبه ولولاهم ما كان في الأرض مسلم

ولولاهم كادت تميد بأهلها ولكن رواسيها وأوتادها هم

ولولاهم كانت ظلاماً بأهلها ولكن همُ فيها بدور وأنجم

فيا لائمي في حبهم وولائهم تأمل هداك الله من هو ألوم

بأي كتاب أم بأية حجة ترى حبهم عار علي وتنقم

وها هي سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تبقى صورة ناطقة للأجيال، ما إن يتحدث متحدث وما إن يتكلم متكلم إلا ويجد نفسه مضطراً لأن يزين مقالته ويدبجها بمواقف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله عز وجل في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وفي تعلم العلم، وفي الإحسان إلى الناس، وفي عبادة الله عز وجل، وفي كل ميدان من الميادين ما إن يتحدث متحدث أو يخطب خطيب إلا وهو يرى أمام عينيه مواقف لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تبقى منارة للأجيال من بعدهم، ذكر ذلك الجيل الذي اختاره الله عز وجل ليكون فرط هذه الأمة، الذي اختاره الله تبارك وتعالى ليتشرف بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وحمل هذا الدين، يبقى ذلك الجيل داعية لسائر الأجيال من بعده، يبقى داعية لهم في كل الميادين؛ في ميدان الجهاد، وفي ميدان الدعوة، وفي ميدان العلم، وفي ميدان العبادة لله تبارك وتعالى، وفي ميدان الإحسان إلى الناس.

إننا حين ندعو إلى أن نكون دعاة صامتين إلى دين الله تبارك وتعالى بأحوالنا ومواقفنا وسيرنا، ونستشهد على ذلك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومواقف أصحابه من بعده، ومواقف سلف الأمة من بعدهم، إننا أيضاً نضيف إلى ذلك مزايا تمتاز بها هذه الدعوة الصامتة، والتي تعنى بالأحوال قبل الأقوال، ومن هذه المزايا:

أحوال الداعية أبلغ من أقواله

أن الدعوة بالأحوال قبل الأقوال، وأن الدعوة الصامتة أبلغ من القول، فإن المرء يستطيع أن يدبج المقال، ويستطيع أن يحسن الحديث، ويستطيع أن يتفوه بما لا يعتقد، يستطيع المرء أن يزخرف القول ويزينه، لكن أن يكون ذلك المقال مصداقه حال هذا الرجل وفعله فهي صورة أخرى وحالة أخرى.

لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يحلقوا رءوسهم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن ينحروا بدنهم كما مر معنا، وما كان أولئك الذين أمرهم صلى الله عليه وسلم بالذين هم يتلكئون عن الاستجابة لأمره، وهم أسرع الناس مبادرة للاستجابة لأمره صلى الله عليه وسلم وطاعته، لكن لم يكن ذلك الأمر أبلغ من حاله صلى الله عليه وسلم حين خرج وحلق شعره صلى الله عليه وسلم، ونحر بُدنه أمام الناس، فكان ذلك الفعل منه صلى الله عليه وسلم رسالة للناس للاستجابة له صلى الله عليه وسلم.

ولهذا حين سئلت إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم: أكان صائماً يوم عرفة؟ أرسل له صلى الله عليه وسلم بقدح لبن فشربه صلى الله عليه وسلم أمام الناس، فكان ذلك أبلغ دلالة لكل من حضر الموقف أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن صائماً.

أحوال الداعية يستوعبها سائر طبقات الناس

ثانياً: تمتاز الدعوة الصامتة أنها تدرك من جميع الطبقات، إن الكلمة المسموعة أو المكتوبة تعيش أزمة اختلاف مستويات ومدارك الناس، والذي يتحدث أمام من ينصت له أو يكتب لمن يقرأ له يجد نفسه بين طبقتين ممن يستمع ويقرأ، فإن حسن المقال وارتفعت لغته شعر أن هناك من لا يدرك هذا الكلام أو من لا يفهمه حق فهمه، وإن كان مقاله دون ذلك شعر أن هذا نزولاً بالكلمة عما يليق بها، وأن هذا نزولاً بالسامعين والقراء الذين ينبغي له أن يحترم أسماعهم ويحترم أفهامهم، أما الذي يدعو الناس بحاله فهو يدعو بدعوة يدركها الجميع، ويفهمون مغزاها، يدركها من يقرأ ومن لا يقرأ، يدركها الذي قد بلغ الغاية في إدراك فصيح الكلام وبليغه، ومن كان دون ذلك.

المواقف الحية تبقى في الأذهان أكثر من الكلمات

الميزة الثالثة للدعوة الصاتمة: إن الكلام ولا شك له أثر عظيم على النفوس، وكم تترك الكلمة الصادقة من أثر، بل كم تصنع الكلمة الصادق من مواقف، لكن الكلمة الصادق مهما كانت تبقى بعد ذلك عرضة للنسيان، فهي تبقى في الذاكرة فترة ثم تزول ويأتيها ما يغمرها ويمحوها.

أما الموقف والمشهد فإنه يبقى في الذاكرة لا يزول أبداً، إن النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم كان مع أصحابه، فرأى جارية من السبي تأتي لرضيعها وتضمه وترضعه، فاستوقفه الموقف صلى الله عليه وسلم وهو الرجل الذي كانت قضية الدعوة وقضية التعليم قضية حية في ضميره صلى الله عليه وسلم، فخاطب أصحابه قائلاً لهم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فيقول أصحابه: لا، فيقول صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعبده من هذه بولدها)، ويمضي هذا الموقف ويزول، لكن أولئك الذين سمعوا هذه الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلم ربما ينسون حديثاً كثيراً سمعوه منه صلى الله عليه وسلم، أما إذا رأوا امرأة ترضع طفلها فإنهم سيتذكرون ذلك الموقف الذي سمعوا فيه تلك الكلمة منه صلى الله عليه وسلم.

المواقف الحية تثبت للمدعو إمكانية تحقيق ما يدعى إليه

رابعاً: إن الكلمة أيضاً تترك أثراً على الناس وتدعوهم إلى العمل والسلوك، لكن ربما يظن البعض من الناس أن هذه الصورة التي يتحدث عنها المتحدث صورة مثالية يصعب تطبيقها، وإذا أمكن تطبيقها فهي في هذا الزمان الذي مرجت فيه العهود وفسد فيه الناس صورة تستعصي على التطبيق، أما حين تكون دعوة بالحال وموقفاً يراه الناس فإنها تكون دعوة لكل من يرى هذا الموقف أن هذه الصورة يمكن أن تحدث، وأن هذا الموقف يمكن أن يكون، إن الذي يسمع عن مواقف الاستشهاد في سبيل الله والجهاد في سبيل الله ربما يهزه هذا الموقف، لكنه قد يشعر أن النفوس البشرية قد لا تطيق هذا البذل وهذه التضحية، لكنه حين يرى هذه النماذج أمام عينيه يدرك أن هذه القضية ترقى إلى ميدان الواقع، وتتجاوز الحيز النظري، إنه حين يسمع عن الإنفاق في سبيل الله، فيرى بعينه من يجود بماله، وحين يسمع عن الاجتهاد في عبادة الله تبارك وتعالى وطاعة الله عز وجل، وحين يسمع عن الصبر عما حرم الله تبارك وتعالى، وعن مجاهدة النفس ومقاومة الفتن ثم يرى النموذج أمام عينيه، سواء كان نموذجاً حياً يراه أمام عينيه، أو كان نموذجاً يقرؤه، فتتخيل تلك الصورة في ذهنه، إنه حين يعيش هذا الموقف لا شك أن ذلك يترك في نفسه أثراً أعظم بكثير من أثر الكلمة مهما عظمت فصاحتها وبلاغتها.

إنه يشعر أن هذه القضية التي يدعو إليها أصحابه يمكن أن يطبقها البشر، ويمكن أن يعملها البشر، ولهذا اختار الله تبارك وتعالى أن يكون أنبياؤه صلوات الله وسلامه عليهم بشراً يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ليكونوا قدوة وأسوة للناس.

مواقف الدعاة وأفعالهم تدل المدعوين على صدق ما يدعون إليه

أخيراً: من مزايا الدعوة الصامتة أنها أعظم إجابة على شبه المضلين والمفسدين، إن الصراع لا يمكن أبداً أن يتوقف بين أهل الحق وأهل الباطل، فال يزال أهل الباطل يثيرون الشبه أمام دعاة الحق، فيتهمونهم بأبشع التهم، وهي تهم ورثوها من فرعون حين قال عن موسى: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]، وقال عن السحرة الذين آمنوا لموسى: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:123]، ورثوه من أولئك الذين ما أتاهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون، لقد كان أولئك يتهمون الأنبياء بأنهم سحرة، وبأنهم مجانين، وبأن أتباع الأنبياء ضعفاء بادي الرأي، وأن أولئك إنما كان إيمانهم واتباعهم لموسى إنما كان عن مؤامرة خفية كان يستهدف منها عرش فرعون ومجده وملكه، لكن صبر أولئك السحرة على ما واجههم، وسيرة موسى عليه السلام الذي كان قد عاش مع بني إسرائيل، وكانوا يعرفونه صلى الله عليه وسلم ويعرفون سيرته؛ كانت تلك المواقف أعظم إجابة على تلك التهمة والفرية التي أطلقها فرعون على أولئك المصلحين.

وهي أيضاً أعظم إجابة كانت على تلك الفرية التي أطلقها كفار قريش على النبي صلى الله عليه وسلم، فاتهموه بأنه صابئ وأنه ساحر يفرق بين المرء وزوجه، واتهموه بما اتهموه به صلى الله عليه وسلم، وما يزال المفسدون الأفاكون الظالمون يثيرون الشبه والتهم على من يتبع سنة الأنبياء ويسير على طريقتهم، فحين تكون حال هؤلاء حالاً صادقة للناس، وحالاً واضحة للناس تكون هذه أعظم إجابة على كذب أولئك وإفكهم.

أن الدعوة بالأحوال قبل الأقوال، وأن الدعوة الصامتة أبلغ من القول، فإن المرء يستطيع أن يدبج المقال، ويستطيع أن يحسن الحديث، ويستطيع أن يتفوه بما لا يعتقد، يستطيع المرء أن يزخرف القول ويزينه، لكن أن يكون ذلك المقال مصداقه حال هذا الرجل وفعله فهي صورة أخرى وحالة أخرى.

لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يحلقوا رءوسهم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن ينحروا بدنهم كما مر معنا، وما كان أولئك الذين أمرهم صلى الله عليه وسلم بالذين هم يتلكئون عن الاستجابة لأمره، وهم أسرع الناس مبادرة للاستجابة لأمره صلى الله عليه وسلم وطاعته، لكن لم يكن ذلك الأمر أبلغ من حاله صلى الله عليه وسلم حين خرج وحلق شعره صلى الله عليه وسلم، ونحر بُدنه أمام الناس، فكان ذلك الفعل منه صلى الله عليه وسلم رسالة للناس للاستجابة له صلى الله عليه وسلم.

ولهذا حين سئلت إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم: أكان صائماً يوم عرفة؟ أرسل له صلى الله عليه وسلم بقدح لبن فشربه صلى الله عليه وسلم أمام الناس، فكان ذلك أبلغ دلالة لكل من حضر الموقف أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن صائماً.

ثانياً: تمتاز الدعوة الصامتة أنها تدرك من جميع الطبقات، إن الكلمة المسموعة أو المكتوبة تعيش أزمة اختلاف مستويات ومدارك الناس، والذي يتحدث أمام من ينصت له أو يكتب لمن يقرأ له يجد نفسه بين طبقتين ممن يستمع ويقرأ، فإن حسن المقال وارتفعت لغته شعر أن هناك من لا يدرك هذا الكلام أو من لا يفهمه حق فهمه، وإن كان مقاله دون ذلك شعر أن هذا نزولاً بالكلمة عما يليق بها، وأن هذا نزولاً بالسامعين والقراء الذين ينبغي له أن يحترم أسماعهم ويحترم أفهامهم، أما الذي يدعو الناس بحاله فهو يدعو بدعوة يدركها الجميع، ويفهمون مغزاها، يدركها من يقرأ ومن لا يقرأ، يدركها الذي قد بلغ الغاية في إدراك فصيح الكلام وبليغه، ومن كان دون ذلك.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2585 استماع
الشباب والاهتمامات 2462 استماع
وقف لله 2321 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2254 استماع
يا أهل القرآن 2188 استماع
يا فتاة 2180 استماع
كلانا على الخير 2171 استماع
الطاقة المعطلة 2116 استماع
علم لا ينفع 2083 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2072 استماع