تحريم المظاهرات وبيان خطرها


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

عباد الله! إن المحافظة على الجماعة من أعظم أصول الإسلام، وهو مما وصى الله تعالى به في كتابه العزيز، وعظم ذم من تركه، قال الله عز وجل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103]، وقال سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159].

وهذا الأصل العظيم الذي هو المحافظة على الجماعة أيضاً مما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة وخاصة، روى ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يد الله مع الجماعة )، رواه الترمذي وابن حبان، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية )، وروى عرفجة بن شريح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان )، رواه مسلم.

عباد الله! وما عظمت الوصية باجتماع الكلمة ووحدة الصف؛ إلا لما يترتب على ذلك من مصالح كبرى، وفي مقابل ذلك ما يترتب على فقدها من مفاسد عظمى يعرفها العقلاء، ولها شواهدها في القديم والحديث، ولقد أنعم الله على بلادنا هذه ولله الحمد باجتماعهم حول قادتهم على هدي الكتاب والسنة، لا يفرق بينهم أو يشتت أمرهم تيارات وافدة أو أحزاب لها منطلقاتها المتغيرة؛ امتثالاً لقوله سبحانه: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32].

ولقد حافظت بلادنا ولله الحمد على هذه الهوية الإسلامية، فمع تقدمها وتطورها وأخذها بالأسباب المباحة الدنيوية، فإنها لم ولن تسمح -بإذن الله- بأفكار وافدة من الغرب أو الشرق، تتنقص من هذه الهوية أو تفرق هذه الجماعة.

وإن من نعم الله عز وجل علينا في هذه البلاد؛ أن شرفنا بخدمة الحرمين الشريفين اللذين ولله الحمد ينالان الرعاية التامة من هذه البلاد، عملاً بقوله سبحانه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125]، وقد نالت هذه البلاد مزية خاصة في العالم الإسلامي، فهي قبلة المسلمين، وبلاد الحرمين، والمسلمون يأمونها من كل حدب وصوب، في موسم الحج حجاجاً، وعلى مدار العام عماراً وزواراً.

عباد الله! لهذا وغيره فإن الخروج عن الجماعة سبب للفتن والفرقة والاختلاف والفساد العريض، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن والوقوع فيها، روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنها ستكون فتنٌ، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي )، خرجاه في الصحيحين، وثبت في حديث آخر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفتن الملبسة التي لا يتبين فيها الحق: ( كن كخيري ابني آدم )، أخرجه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث أبي موسى رضي الله عنه.

وثبت في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بكسر جفون السيوف في الفتنة، وفي حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن )، رواه أبو داود في سننه، والطبراني في معجمه.

عباد الله! وإذا وقعت الفتن التي لا يعلم المسلم وجه الحق فيها، فالواجب على المسلم أمور، منها:

الاعتصام بالكتاب والسنة، والرجوع إلى أهل العلم والبصيرة المعتبرين؛ حتى يوضحوا له الأمر ويجلوا له الحقيقة، قال الله عز وجل: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، وقال أبو العالية رحمه الله تعالى: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تتحركوا عنه يميناً ولا شمالاً.

ثانياً: أن يبتعد المسلم عن الفتنة وأن لا يشارك فيها بقول أو فعل أو حث أو تأييد أو دعوة إليها أو جمهرة حولها، بل يجب عليه البعد عنها والتحذير من المشاركة فيها، ثبت من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سمع بالدجال فلينأ عنه )؛ أي: ليبتعد عنه، رواه الإمام أحمد وأبو داود.

ثالثاً: في الفتن يشرع للمسلم أن يقبل على العبادة، وأن يشتغل بها وأن يعتزل الناس؛ لما ثبت في صحيح مسلم من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( العبادة في الهرج كهجرة إليّ )؛ والهرج: اختلاط الأمور والقتل والقتال.

رابعاً: ينبغي للمسلم في الفتن أن يكثر من الاستغفار، قال الله عز وجل: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]، أيضاً عليه أن يبادر بكثرة التوبة، والدعاء والتضرع إلى الله عز وجل، قال الله عز وجل: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:43].

ونحن في هذه البلاد ولله الحمد تحت ولاية مسلمة تدين بالحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي أعناقنا بيعة لها على ذلك، ووقوع الخطأ لا يجيز الخروج على ولاة الأمر، وبناء على ذلك فإنه لا يجوز الخروج في المظاهرات التي يخرج فيها بعض الناس، قال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: فالمسيرات في الشوارع، والهتافات والمظاهرات ليست هي طريق الإصلاح والدعوة، فالطريق الصحيح هي المناصحة بالزيارة والمكاتبة التي هي أحسن الطرق.

ولما يترتب على هذه المظاهرات من مفاسد، فمن مفاسد هذه المظاهرات:

أولاً: أن فيها الخروج على ولي الأمر، والخروج على ولي الأمر من كبائر الذنوب، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وثبت من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً إلا مات ميتةً جاهلية )، رواه البخاري في صحيحه.

فالخروج على ولي الأمر محرم ولا يجوز، وهو من كبائر الذنوب التي دل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في بيان هيئة كبار العلماء في هذه البلاد ما يلي: وبما أن المملكة العربية السعودية قائمة على الكتاب والسنة والبيعة ولزوم الجماعة والطاعة، فإن الإصلاح والنصيحة فيها لا تكون بالمظاهرات والوسائل والأساليب التي تثير الفتن، وتفرق الجماعة، وهذا مما قرره علماء هذه البلاد قديماً وحديثاً من تحريمها، والتحذير منها، والهيئة إذ تؤكد على حرمة هذه المظاهرات في هذه البلاد، فإن الأسلوب الشرعي الذي يحقق المصلحة ولا يكون معه مفسدة هو المناصحة التي سنها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وسار عليها صحابته الكرام وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا يا ذا الجلال والإكرام.

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

عباد الله! تقدم أن هذه المظاهرات تترتب عليها مفاسد كثيرة، ومن مفاسدها ما تقدم أنه خروج على ولي الأمر، وهذا محرم بالكتاب والسنة.

ومن مفاسدها: إراقة الدماء، وسفك الدماء يعتبر من أعظم الجرائم بعد الشرك بالله تعالى، قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام:151]، وقال سبحانه: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، وقال سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام:151].

ومنها: اختلال الأمن، وهذا من أعظم البلايا والمصائب، فإنه لا طعم للحياة مع الخوف، ولا يمكن أن يقام بشرع الله عز وجل مع الخوف، وإذا اختل الأمن ذهبت الأنفس، وسفكت الدماء، وانتهكت الأعراض، وسلبت الأموال، وقد امتن الله تعالى على قريش بقوله تعالى: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:4].

ومن مفاسد هذه المظاهرات: اختلال الحياة كلها، فيختل التعليم، وتختل الصناعة، وتختل الزراعة والتجارة.

ومن مفاسدها: فتح المجال لتدخل الدول الأجنبية الكافرة، وسيطرتها وهيمنتها على المسلمين، وإذلال شعوبها، واستغلال خيراتها.

ومن مفاسد هذه المظاهرات: فتح المجال للمفسدين في الأرض، من عصابات كالسراق ونحوهم، وعصابات المنتهكين للأعراض، وغيره من الفتن التي لا أول لها ولا آخر، التي تأتي على الأخضر واليابس.

لهذا ولغيره لا يجوز الخروج في مثل هذه المظاهرات، ويحذر من المشاركة فيها أو الحث أو التأييد أو التجمهر؛ لأن هذه الأمور من عظائم وكبائر الذنوب.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحمي بلادنا منها، وأن يوفق ولاة أمرنا لما يكون سبباً في حفظ الأمن من الاستقامة على دين الله، وتحكيم شرعه، وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاح، وأن يثبتنا على دينه القويم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل اللهم الدائرة عليهم.

اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظ عليهم دماءهم، واحفظ عليهم أموالهم، واحفظ عليهم أعراضهم، اللهم فك أسرى المأسورين، اللهم ردهم إلى أهليهم وبلادهم سالمين غانمين يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم اجعل ما أصابهم كفارة لسيئاتهم، ورفعة لدرجاتهم، اللهم اغفر لموتى المسلمين، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم صل على نبينا محمد.