أهمية الإجازات والإسناد وضبط المرويات حتى في عصرنا الحالي
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
أهمية الإجازات والإسناد وضبط المروياتحتى في عصرنا الحالي
ما يزال صحيحُ البخاري مَرجِعاً موثوقاً به عند عموم المسلمين، والسببُ في هذه الثقة هو الإجازاتُ والأسانيدُ المتصلةُ مِن طلاب العلم في زماننا وحتى الإمام البخاري، فإذاً ماذا سيَحصُلُ في حال انقطاعِ الإسناد والتلقي؟!
الجواب: لن نستطيع إثباتَ صحة نسبة أُمَّاتِ الكتب إلى مؤلِّفيها، مما سيَفتح البابَ عريضاً للتشكيك بالسُّنّة، ثم إسقاط حُجِّيتها، وهذا الخطرُ العظيم.
وإن ضبط الإجازات والإسناد لا يقتصر على إسناد كتب الحديث فقط، بل إنّ ضبط إسناد القرآن الكريم هامٌّ أيضاً، فعلى الرغم مِن أنّ القرآن الكريم منقولٌ حتى يومنا هذا بالتواتر إلاّ أنه لا بدّ من ضبط آحاد الأسانيد أيضاً، وإلاّ بدأ الخطأُ يتسلّل إلى القرآن الكريم، نَعَم، إنّ الله سيحفظه ولكنْ علينا اتّخاذُ الأسباب الكفيلة بهذا الحفظ، فإنْ لم نتخذ هذه الأسبابَ فإنّ الله سيحاسبنا على تقصيرنا وسيَحفظُ القرآنَ قطعاً، وكي لا يَستغرب ويَستنكر القارئُ الكريم هذه الفكرةَ حولَ أهميةِ ضبط أسانيد القرآن الكريم أرجو مشاهدةَ الرابط في الحاشية[1] حيث يَظهَرُ فيه بشكلٍ واضح كيف أنّ أحد كبار علماء القرآن الكريم في العالم الإسلامي قد تَجاوزَ الإسنادَ والتلقّي في مسألةٍ مِن المسائل المنقولة بالتلقّي والإسناد، حتّى تأثّر بكلامه وتابعه بعضُ كبار قرّاء العالم الإسلامي، ومنهم الشيخ عبدالباسط عبدالصمد والشيخ محمود الحصري والشيخ محمود علي البنّا والشيخ مصطفى إسماعيل رحمهم الله، ثمّ بعد هذا كلّه جاء د.
أيمن رشدي سويد ليُظهِر حقيقةَ هذا التجاوز للإسناد والتلقّي، ويَقبل كلامَه سائرُ علماءِ القرآن في العالم الإسلامي، فلولا الإسنادُ والتلقّي لكان هذا الانحرافُ قد تسلّل للقرآن الكريم[2]، فكيف سيكون الحالُ فيما يتعلّق بالإسناد والتلقّي في كتب الحديث الشريف؟!
هذا، وقد حذّرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وحذّرَ المسلمين في آخر الزمان من قَبول كلام مَن يُحدِّثنا بما لم نسمعه نحن ولا آباؤنا، وكيف نعرف ما سَمِعَه آباؤنا إلاّ بالنَّقْل الصحيح عنهم، وهم سَمِعُوه من آبائهم، وهكذا؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون في آخر أمّتي أناسٌ يُحدِّثونكم ما لم تَسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيّاكم وإياهم"[3].
وفي روايةٍ: "يكونُ في آخر الزمان دَجَّالون كذّابون، يأتونكم مِن الأحاديث بما لم تَسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيّاكم وإيّاهم، لا يُضِلّونكم ولا يَفتنونكم"[4].
بل لقد حَذّرَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن أنه سيأتي زمانٌ يَتَمثّل فيه الشياطينُ بهيئة المحدِّثين، فيُحدِّثون الناسَ بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، فيَنشرُ مَن سَمِعهم هذه الأحاديثَ[5]، قال عبدالله بن عمرو رضي الله عنه: "إنّ في البحر شياطينَ مسجونةً أوثَقَها سليمانُ، يُوشِكُ أن تَخرجَ فتقرأَ على الناس قُرآناً"[6].
وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "إنّ الشيطان ليَتَمثّل في صورة الرَّجل، فيأتي القومَ، فيُحدِّثهم بالحديث مِن الكذب، فيَتفرّقون، فيقولُ الرَّجلُ منهم: سمعتُ رجلاً أعرفُ وجهَه ولا أدري ما اسمُه يُحدِّث"[7].
والآن - وبعدَ هذه المقدمة المختصَرة التي تَجزمُ بأهمية الإسناد في عصرنا الحالي - أسردُ بعضَ النقول لأئمة الإسلام:
• قال عبدالله بن المبارك: "الإسنادُ من الدِّين، ولولا الإسنادُ لقال مَن شاء ما شاء، فإذا قيل له: مَن حَدَّثَك؟ بَقِي"[8].
• قال علي القاري: "أصلُ الإسناد خَصِيصة فاضلةٌ من خصائص هذه الأمة، وسُنةٌ بالغة من السُّنن المؤكَّدة، بل من فروض الكفاية"[9].
• قال الحافظ القسطلاني: "الإسناد خصيصةٌ فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسُنّةٌ بالغة مِن السنن المؤكَّدة، وقد رُوِّينا من طريق أبي العباس الدغولي قال: سمعت محمد بن حاتم بن المظفر يقول: إنّ الله تعالى قد أَكرمَ هذه الأمةَ وشَرَّفَها وفَضَّلَها بالإسناد، وليس لأحدٍ مِن الأمم كلِّها قديمها وحديثها إسنادٌ موصول، إنما هو صُحُفٌ في أيديهم، وقد خَلَطُوا بكتبهم أخبارَهم، فليس عندهم تمييزٌ بين ما نزل مِن التوراة والإنجيل وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي اتَّخذوها عن غير الثقات"[10].
وغير هذه مِن النقول الكثيرة عن أئمةِ الإسلام في القديم والحديث.
[1]https://www.youtube.com/watch?v=Fwflh9q6wHM&feature=youtube_gdata_player
[2] ما أجملَ كلام د.
أيمن رشدي سويد عندما قال في المحاضرة نفسها: "لا يمكن أن أَفهَم نصوصَ الأئمة إلاّ مقروناً بتلقّي الشيوخ"، وهذه إحدى فوائد الإٍسناد والتلقّي، وكلّ هذا حصل فيما يتعلق بالقرآن الكريم، فكيف سيكون الوضع لو حصل مثله في كتب الحديث الشريف؟! لذلك علينا التأكيد على ضبط الإسناد والتلقي أكثر وأكثر.
[3] مسند أحمد، ابن حنبل، تحقيق: شُعَيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1421هـ 2001م)، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة، 14/19، رقم الحديث 8267.
ومقدمة صحيح مسلم، مسلم بن الحجّاج، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، الطبعة الأولى، (القاهرة: دار الحديث، 1412هـ، 1991م)، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، 1/12، رقم الحديث 6.
وصحيح ابن حبان، محمد بن حِبّان البُسْتِي، تحقيق: شُعَيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1408هـ 1988م)، كتاب السير، باب طاعة الأئمة، ذكر وصف الأئمة المضلين التي كان يتخوفها على أمته r، 15/169 رقم الحديث 6766.
[4] مسند أحمد، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة، 14/252 رقم الحديث 8596، ومقدمة صحيح مسلم، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، 1/12 رقم الحديث 7.
[5] أخذتُ هذا من الأَثَرَينِ التاليينِ؛ لأنهما ممّا تستحيل معرفتُه بالرأيّ، وبالنسبةِ للروايةِ عن أهل الكتاب فإن عبدالله بن عمرو بن العاص مِمّن روى عنهم، فأَثَرُه ليس له حُكمُ المرفوع، ولكنْ قال أحمد بن الحسين البيهقيُّ في دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، تحقيق: د.
عبدالمعطي قلعجي، الطبعة الثالثة، (بيروت: دار الكتب العلمية، 2008م)، 6/550: "وقد رُوِيَ ذلك عن عبدالله بن عمرو مرفوعاً".
ويَدعَمُ رفعَه أثرُ ابن مسعود التالي، وأمّا ابنُ مسعود فمِمّن لا يروي عن أهل الكتاب، بل كان يَنهَى المسلمين حتى عن سؤالِهم، فأَثَرُه له حكمُ الرفعِ قطعاً، والله أعلم.
[6] مقدمة صحيح مسلم، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، 1/12، رقم الحديث 7.
[7] مقدمة صحيح مسلم، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، 1/12، رقم الحديث 7.
[8] مقدمة صحيح مسلم، باب في أن الإسناد من الدِّين وأن الرواية لا تكون إلاّ عن الثقات وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل مِن الذبّ عن الشريعة المكرمة، 1/15، والعِلَل الصغير المطبوع في آخر السنن، محمد بن عيسى التِّرمِذي، تحقيق: أحمد شاكر، (القاهرة: مطبعة الحلبي وشركاه، بدون تاريخ)، 5/740.
وللتوسع حول هذه الكلمة الهامة وتصحيفاتها انظر: أبو غدة، عبدالفتاح، الإسناد من الدين وصفحة مشرقة من تاريخ سماع الحديث عند المحدثين، الطبعة الأولى، (دمشق: دار القلم، 1412هـ 1992م)، ص51.
[9] القارِي، علي بن سلطان، شرح شرح نُخبة الفِكَر في مصطلحات أهل الأثر، تحقيق: محمد نزار تميم وهيثم نزار تميم، الطبعة: بلا رقم، (بيروت: دار الأرقم، بلا تاريخ)، ص617.
[10] الزَّرْقاني، محمد بن عبدالباقي، شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية بالمِنَح المحمدية للقَسْطَلاني، تحقيق: محمد عبدالعزيز الخالدي، الطبعة الأولى، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1417هـ 1996م)، 7/474.