ميزان الرجولة


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد.

أيها الإخوة الكرام! لم يكن أحد يحسب أن نكون بحاجة إلى أن نحدث الناس عن الرجولة وأن نذكر بصفات الرجال وسماتهم.

فالرجولة وصف اتفق العقلاء على مدحه والثناء عليه، ويكفي حين تمدح إنساناً أن تصفه بالرجولة، وحين تذمه وتعيبه أن تنفي عنه الرجولة، أليس الأب والمعلم يعاتب ولده بنفي الرجولة قائلاً: ألست رجلاً؟ أليس يذكره بالرجولة قائلاً له: لقد أصبحت الآن رجلاً؟ أليس يعيبه ويذمه حين يقول: إنك طفل ولست من الرجال؟

يتطلع الصغير والصبي إلى ذلك اليوم الذي يوصف فيه بالرجولة ويحدث من حوله من الصغار والكبار عما سيفعل حين يكون رجلاً، إنه يتشبه بالرجال في حديثهم وفي مشيتهم وفي لباسهم، وحين تعود إلى دنيا الناس ترى العجب من أخلاقهم وطباعهم وترى ما لا يخطر لك على بال لكنك مع ذلك كله لا ترى فيهم من يرضى بأن تنفى عنه الرجولة، إنه أمر يتفق عليه الجميع مؤمنهم وكافرهم.. برهم وفاجرهم.. عاقلهم وسفيههم.. بل أنت ترى كثيراً من الحمقى والسفهاء يبررون حماقتهم بأنها مقتضى الرجولة، ومع هذا كله فالمسافة بين واقع الناس وبين الرجولة ليست مسافة قريبة فالبون بين الواقع والدعوى شاسع، وواقع الناس يكذب ادعاءهم.

فيما مضى في عصر العرب الأوائل كانت الرجولة إرثاً.. كانت مفخرة وممدحة، وبغض النظر عما انحط فيه أولئك من السفاسف والرذائل فقد كان لديهم سمو في الأخلاق ونبل في المعدن، ولذا فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه بعث في خير الناس.

لقد خلق الله عز وجل الخلق عرباً وعجماً وجعل المصطفى صلى الله عليه وسلم من العرب فهم خير فرقة من الناس، وهو صلى الله عليه وسلم خيرهم وأبرهم وأتقاهم وأكملهم رجولة.

وفي عصر الحضارة والمدنية المعاصرة.. في عصر غزو الفضاء وحرب النجوم.. في عصر التقنية والاتصال؛ تحول العالم إلى قرية صغيرة فارتقى الناس في عالم المادة وانحطوا في عالم الأخلاق والقيم.. صعدوا إلى الفضاء وأقدامهم في الحضيض.. تطلعوا إلى الإنجاز المادي وهمهم شهواتهم وأهوائهم: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44] وورث المسلمون وذرية العرب الأوائل.. ورثوا من هؤلاء العفن والفساد.. ورثوا منهم مساوئ الأخلاق، وساروا وراءهم في لهث وسعار، فلا المدينة والحضارة أدركوا ولا أخلاقهم ورجولتهم أبقوا، فاندثرت الأخلاق والشيم مع عالم المادة.

وصرت بحاجة إلى أن تذكر الرجال بسمات الرجولة وتطالب الشباب بأن يكونوا رجالاً لا صغاراً.

إن هذا يدعونا إلى أن نتحدث عن الرجولة.. إن هذا يدعونا إلى أن نذكر الرجال بسمات الرجولة وصفات أهلها.

وذكر هذا الحديث ليس عيباً لهؤلاء الذين تحلقوا في هذا المكان، فهم من خير الرجال وأبرهم، لكننا جزء من هذا المجتمع والكيان المتكامل نتأثر بما فيه ونؤثر فيه، ونحن الذين ينتظر منا أن نحمل لواء الإصلاح والتغيير والبناء في المجتمع، فنحن بحاجة إلى أن نذكر أنفسنا بسمات الرجال وصفاتهم؛ لأن من مهمتنا جمعياً أن نسعى في بناء الرجولة في مجتمعاتنا، ولئن كان أمراً استفدناه وتربينا عليه فهذا لا يعني بالضرورة أننا لا نحتاج إلى أن نذكر به خاصة حين نريد أن نحمله إلى الآخرين، وحين يراد أن نربي أبنائنا وجيلنا على هذا المعنى.

الرجل في اللغة: يطلق على الذكر من بني الإنسان، وهو ضد المرأة.

قال في اللسان: الرجل معروف، الذكر من نوع الإنسان خلاف المرأة.

وعلى هذا المعنى فكل من لم يكن امرأة من بني البشر فهو رجل، لكن الرجولة في عرف الناس اليوم تعني معنىً زائداً عن مجرد الذكورة، فهل لهذا العرف أصل في لغة العرب أم أنه أمر تعارف الناس عليه، ولا حرج في ذلك حيث لا مشاحة في الاصطلاح.

حديثنا ليس عن المصطلح لكن عن المضمون، حديثنا عن المعنى الذي يتحدث الناس حوله ويطالب به الآباء أبناءهم والمعلمون تلامذتهم.. يطالبونهم أن يكونوا رجالاً وأن يعيشوا في مصاف الرجال.

فحديثنا عن المعنى والمضمون، والأمر لا يعني بقليل أو كثير مدى صحة هذا المعنى في استعمال العرب الأوائل، لكننا حين نفتش في معادن اللغة ونبحث فيها فإننا نجد ما يوحي بذلك.. نجد أن العرب وإن أطلقوا الرجولة على الذكورة فإنها قد تأتي ويراد بها معنىً زائد قد يتحقق في بعض الرجال دون غيرهم.

وها هي بعض الأمثلة مما ذكره أهل اللسان في ذلك: قال في لسان العرب: قال ابن سيده : وقد يكون الرجل صفة -أي: تكون صفة وليست لمجرد الذكورة فقط- يعني بذلك الشدة والكمال، وعلى ذلك أجاز سيبويه الجر في قولهم: مررت برجل رجل أبوه. وقال في موضع آخر: إذا قلت: هذا الرجل فقد يجوز أن تعني كماله وأن تريد كل رجل تكلم ومشى على رجلين فهو رجل لا تريد غير ذلك، وفي معنىً تقول: هذا رجل كامل، وهذا رجل أي: فوق الغلام، ويقال: رجل به بالرجلة ورجل بين الرجولة والرجلة والرجلية والرجولية، وهذا أرجل الرجلين، أي: أشدهما، أو فيه رجلية ليست في الآخر، والرجيل: القوي على المشي الصبور، والرجيل أيضاً من الرجال: الصلب.

إن هذه المعاني توحي بأن لهذا الاستخدام العرفي لدى الناس أصلاً، فكما أن الرجل يراد به الذكر من بني الإنسان فهو يعني وصفاً زائداً، ومن ثم فقد تنفى الرجولة عن طائفة من الناس وإن كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وينجبون البنين والأحفاد.

ويطلق الرجل على البالغ فيقال: هذا غلام وذاك رجل، فالبلوغ يتأهل به المرء للمسئولية ويدرك منزلة الرجال، وينزل منازلهم، كيف لا وقد أمره من خلقه تبارك وتعالى وهو أعلم به من نفسه ومن الناس؛ أمره عز وجل ونهاه وحمله أعظم مسئولة.

إذاً: فالرجولة: هي اتصاف المرء بما يتصف به الرجال عادةً؛ ولهذا فالجلد والصبر والقوة والتحمل هي من معاني الرجولة، وفي القرآن الكريم جاء وصف الرجولة في مواضع ومنها: تحمل الرسل عليهم صلوات الله وسلامه لأعباء الرسالة، قال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف:109].

ومما جاء في التنزيل: صدق الرجل فيما عاهد الله عليه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23].

ومن صفات الرجال في كتاب الله عز وجل: عدم الانشغال بالعوارض عن الذكر والآخرة: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:37-38].

ومن سمات الرجال في كتاب الله: حب التطهر: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108].

ومع ذلك جاء في القرآن الكريم استخدام الرجال في مقابل النساء: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7] .. وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ [النساء:12].

وجاء وصف طائفة ممن سيق خبرهم في سياق الذم أنهم رجال، قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا [الكهف:32] لكن هذا لا يعني نفي أن يكون للرجولة إطلاقان:

إطلاق عام، وإطلاق خاص وهو موضوع حديثنا.

أيها الإخوة والأخوات! يدرك المسلمون جميعاً صغيرهم وكبيرهم.. جاهلهم ومتعلمهم يدركون مهما كان علمهم ومهما كانت ثقافتهم؛ أن الله عز وجل لم يخلق الناس ويوجدهم إلا لعبادته تبارك وتعالى، قال عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ومن ثم فمنزلتهم وقيمتهم تقاس بمدى تحقيقهم لهذه الغاية، فهم يوزنون بالتقوى والصلاح: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

وكما أن كمال رجولة المرء بكمال تقواه وطاعته فالتقوى والطاعة تهذب الأخلاق وتسمو بالنفوس وتعلو بصاحبها إلى مصاف الرجال، وها هو صلى الله عليه وسلم يعبر عن مقصد من مقاصد رسالته قائلاً: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) ويخبر أن خيار الناس أحاسنهم أخلاقاً الذي يألفون ويؤلفون.

فرجولة المرء تقاس بمدى تحقيقه لتلك الغاية التي خلق من أجلها وهي العبودية لله تبارك وتعالى.. فأكرم الناس عند خالقهم أتقاهم له عز وجل وأعبدهم له، والتقوى والعبادة والطاعة تهذب الإنسان وتربيه.. وتعلي فيه سمات الرجولة، وحين ترى رجلاً من الصالحين وتعيب عليه شيئاً مما يفتقده الرجال فإنه لو اتقى الله عز وجل حقاً لما كان كذلك.

الناس معادن: إن الرجال الذين تتحقق فيهم سمات الرجولة الحقة حين يستضيئون بنور الإيمان يغدو لهم أثر ليس لغيرهم من الناس، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس؟ قال: أتقاهم لله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألونني! الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)، وفي رواية: (تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية، وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه).

إن معادن الناس يسودون في الجاهلية ويسودون في الإسلام وأثرهم في نصر الدين والقيام به ليس كأثر غيرهم من سائر الناس.

الناس تأسرهم المظاهر ويسحرهم بريقها فمن يجلونه ويقدرونه ليس بالضرورة هو أهل الإجلال والتوقير، ومن يحتقرونه ويزدرونه قد يكون من أولياء الله الصالحين المقربين وماذا يضيره حين يرضى عنه الله عز وجل ويسخط عنه الناس؟! لذا يرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى أن لا يهتموا بالمظاهر، فالرجولة مضمون قبل أن تكون مظهراً، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رب أشعث مدفوع في الأبواب لو أقسم على الله لأبره).

وهاهو نموذج من الرجال الذين بلغوا هذه المنزلة وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، عن أنس رضي الله عنه قال: (غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني: أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني: المشركين- ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ! الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس : فوجدنا فيه بضعاً وثمانين ما بين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس : كنا نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23] إلى آخر الآية، وقال: إن أخته وهي تسمى الربيع كسرت ثنية امرأة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقال أنس : يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فرضوا بالأرش وتركوا القصاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) رواه البخاري .

إنهم ضعفاء يستضعفهم الناس لكن ذلك لا يضيرهم فعند الله هم أهل المنزلة العالية، عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟! كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟! كل عتل جواظ مستكبر) رواه البخاري .

وهاهو نموذج آخر يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاح والتقى وإجابة الدعاء، وهو مع ذلك يعيش في دهماء الناس فلا يقيم له من تأسرهم المظاهر وزناً؛ عن أسير بن جابر قال: (كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سأل: أفيكم أويس بن عامر ؟ حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر ؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فاستغفر لي فاستغفر له، فقال له عمر : أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي، قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس قال: تركته رث البيت قليل المتاع، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فأتى أويساً فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهداً بسفر صالح فاستغفر لي، قال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهداً بسفر صالح فاستغفر لي، قال: لقيت عمر ؟ قال: نعم، فاستغفر له ففطن الناس، فانطلق على وجهه قال أسير : وكسوته بردة، فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لـأويس هذه البردة؟) رواه مسلم .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع).

هؤلاء هم الرجال حقاً، وإن كان الناس لا يرون في مظاهرهم ما يرفع هؤلاء إلى مصاف أولئك الذين يعليهم من تأسرهم المظاهر ويخدعهم بريقها وتقف الموازين عندهم من خلال ما تدركه أبصارهم، ومن خلال ما ينطبق على تلك القيم التي يجعلونها هي المقياس الذي يقيسون به الناس، فمن حازها علت مكانته وارتفعت منزلته، ومن قصر دونها احتقروه وأهانوه.

وهاهم أصحاب النار عافانا الله وإياكم يتنادون يوم القيامة: مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ [ص:62] نعم، لقد اتخذوهم سخرياً أم يعتقدون أن أبصارهم قد زاغت عنهم؟ لا، لكن موازينهم كانت غير الموازين الصحيحة، فسخروا منهم وكتب الله عز وجل لهم أنهم هم الفائزون المفلحون.

يوم القيامة تطيش المظاهر بأصحابها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرءوا: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]) والحديث في الصحيحين، وفي رواية: (الرجل العظيم السمين الطويل الأكول الشهو).

وكما أن الرجولة في المضمون لا المظهر فهي في الروح لا الجسد، فرب من أوتي بسطة في الجسم وصحة في البدن يطيش عقله فيغدو كالهباء، ورب من كان معوق البدن وهو مع ذلك يعيش بهمة الرجال، ولهؤلاء سلف في عمرو بن الجموح رضي الله عنه الذي أصر على أن يطأ بعرجته الجنة.

وفي العصر الحديث يوقد شرر الجهاد في الأرض المباركة رجل لا تحمله قدماه، ويقاضى بأن يغيب عن الناس مدى الحياة، لولا أن كانت مصالح لأعدائه تقتضي المساومة على أن يسمح له بأن يتنفس الهواء النقي.

إثبات الذات بطرق خاطئة

يسعى الناس لتحقيق الرجولة والامتداح بها، ويحذرون من أن يوصموا بنقصها، لذا فأولئك الذين لا يسعفهم رصيدهم من الرجولة يلجئون إلى أساليب ترفع لهم هذا النقص وتسد لهم هذا الخلل، ومن ذلك إثبات الذات، وكثيراً ما يلجأ الشاب المراهق لذلك فيصر على رأيه ويركب رأسه وتغدو مخالفة رأي معلمه أو والده مطلباً بحد ذاته، فلسانه دوماً يردد: ألست رجلاً؟ ألست أدرك مصالح نفسي؟ كيف يكون مصيري بيد الآخرين؟ ويسهم رفاقه وأقرانه في دفعه إلى هذا التصلب مشيدين برجولته ونجاحه معيرين من لا يحالفهم الحظ في الانتصار على السلطة الغاشمة في نظرهم.

وربما يكون جهل بعض المربين بحاجات هذا الشاب وسماته مدعاة لهذا التصلب، لكن هذا الشاب لو أدرك أن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بخفض الجناح للوالدين فقال: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24] ولو أدرك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لشاب جاء يريد أن يصحبه قال له صلى الله عليه وسلم آمراً أن يعود إلى والديه: (اذهب إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)؛ لو أدرك ذلك لكان له شأن آخر.

إن الشاب الذي يملك مقومات الرجولة ليس بحاجة إلى تصنعها وإقناع الآخرين بها، فما لم تنطق حاله بذلك وما لم تشهد أفعاله برجولته فالتصنع لن يقوده إلا إلى مزيد من الفشل والإحباط، وبدلاً من ذلك فالأولى به أن يقنع من حوله برجولته من خلال اتزانه وهدوئه وأنه لم يعد يستفز كالأطفال، ومن خلال قدرته على إدارة الخلاف مع الآخرين، ومن خلال قدرته على إبداء رأيه لمن يكبره سناً وقدراً وأن يقدم هذا الرأي بلغة تليق بمقام المخاطرة، ومن خلال نضج رأيه وانطلاقه من أسس موضوعية تقنع الآخرين.

التصلب في غير موطنه

ومن المفاهيم الخاطئة للرجولة: التصلب في غير موطنه.

يعد كثير من الناس الثبات على الكلمة التي تقال مظهراً من مظاهر الرجولة لذا توصف الكلمة بأنها كلمة رجل، ويعيره الناس حين يتراجع عن كلمة قالها بانتفاء الرجولة، لا شك أن من الرجولة الحقة أن يقر الرجل على كلمة حق قالها يريد بها وجه الله وأن يستعد لدفع الثمن من أجلها ولو كان غالياً، وأن يأبى التراجع مهما كلفه من ثمن.

ومن الرجولة الحقة أن يصر المرء على الوفاء بوعد كريم نبيل قطعه على نفسه، ولو كلفه ذلك ثمناً باهظاً، لكن حين يقول كلمة يدرك أن الحق بخلافها أو حين يزل بكلمة لا يريد بها وجه الله، أو حين يفسح له من حوله الطريق فيستبين له بعض ما كان يجهل، أو يذكر بعض ما كان ينسى، فالرجولة حينها أن يعود إلى الحق، والرجولة الحقة أن يقول بشجاعة: إنني أخطأت وبالباطل نطقت.

من السهل أن يتشبث المرء بباطله أو يصر على كلمته، لكن الشجاعة أن ينتصر على نفسه.. أن لا يسيره إلا الحق.. أن يتجرأ على الموقف الذي يضعف الكثير عن التجرؤ عليه فيتراجع عن قول الباطل ويخضع للحق.

القسوة على الأهل

ومن المفاهيم الخاطئة للرجولة: القسوة على الأهل.

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34] كما جاء في كتاب الله تعالى، والرجل هو الآمر الناهي، والسيد المطاع في بيته، وهي سنة للحياة الزوجية لا تستقيم بدونها.. سنة يدركها العقلاء ويتعبد باتباعها المسلمون الأتقياء.

وثمة فئة من الأزواج يدير بيت الزوجية كما تدار المعركة ويبني صوراً من الأوهام حوله.

إن معالم الرجولة لدى هؤلاء استقرت في أن يقول: لا، وأن يرفض إعادة النظر في رأي رآه أو موقف اتخذه.. أو يوصد الأبواب أمام الحوار أو الاستماع لشريكة عمره وحياته، إن البيوت لا تبنى إلا على التأني والطمأنينة، ولا تشاد أسوارها إلا بالرحمة الشفقة، لذا امتن الله تبارك وتعالى على عباده بهذه المنة: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].

إن حال أولئك الذين يتصنعون الرجولة في بيوتهم حال من فقد الرحمة والمودة، وأين هم من صاحب الرجولة الحقة الذي آتاه الله كمالها وجمالها.. حين كان حاجاً للبيت العتيق أصاب زوجته ما يصيب بنات آدم فلم تعتمر معه قبل حجه، وأعلمها صلى الله عليه وسلم أن حجها حج وعمرة لكنها رضي الله عنها سألته أن يأذن لها في العمرة، فما كان من الحبيب صلى الله عليه وسلم إلا أن لبى رغبتها، وصفه جابر رضي الله عنه بقوله: (وكان رسول صلى الله عليه وسلم رجلاً سهلاً إذا هوت الشيء تابعها عليه).

أين هذا الحال وهذا الواقع من أولئك الذين يفتخرون ويعتزون بأن رجولتهم تتحقق في مخالفتهم لما تريد نساؤهم ولو كانت تريد حقاً مشروعاً.. ولو كان ما تريده هو الحق، فالسيد والمطاع والرجل الحق عند هؤلاء هو الذي يقول: لا، وهو الذي لا يرضخ لطلبات أهله وزوجته.

وحين سأل النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه عن أحب الناس إليه قال: عائشة ، وها هو صلى الله عليه وسلم يعطيها حظها من اللعب واللهو فتقول: (والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن حريصة على اللعب).

لكن لينه صلى الله عليه وسلم وحبه لزوجه لم يكن دافعاً له أن يقرها على أمر يسخط الله، فرضا الله أولى من رضا المخلوق، وطاعة الله أولى ما تؤسس عليه البيوت، فها هي تحكي ما رآه صلى الله عليه وسلم وما فعله حين رأى أمراً منكراً تقول رضي الله عنها: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رآه هتكه وتلون وجهه وقال: عائشة ! أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله، قالت عائشة : فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين).

تلك مجالات للرجولة يحسب أصحابها أنهم يكونون رجالاً بذلك، وما أتي هؤلاء إلا من جهلهم أو فشلهم في تحقيق الرجولة الحقة، ولو وعوا الرجولة وفهموها لعلموا أنهم ليسوا بحاجة إلى أن يتصنعوها، إنها سلوك يفرض صاحبه.. إنها روح يبدو أثرها على الناس دون أن يتصنعها صاحبها، أما أولئك الذين يتصلبون أو يركبون الباطل محتجين بأن هذا من شيم الرجال وشأنهم فإن هؤلاء من أبعد عن الرجولة الحقة.

يسعى الناس لتحقيق الرجولة والامتداح بها، ويحذرون من أن يوصموا بنقصها، لذا فأولئك الذين لا يسعفهم رصيدهم من الرجولة يلجئون إلى أساليب ترفع لهم هذا النقص وتسد لهم هذا الخلل، ومن ذلك إثبات الذات، وكثيراً ما يلجأ الشاب المراهق لذلك فيصر على رأيه ويركب رأسه وتغدو مخالفة رأي معلمه أو والده مطلباً بحد ذاته، فلسانه دوماً يردد: ألست رجلاً؟ ألست أدرك مصالح نفسي؟ كيف يكون مصيري بيد الآخرين؟ ويسهم رفاقه وأقرانه في دفعه إلى هذا التصلب مشيدين برجولته ونجاحه معيرين من لا يحالفهم الحظ في الانتصار على السلطة الغاشمة في نظرهم.

وربما يكون جهل بعض المربين بحاجات هذا الشاب وسماته مدعاة لهذا التصلب، لكن هذا الشاب لو أدرك أن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بخفض الجناح للوالدين فقال: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24] ولو أدرك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لشاب جاء يريد أن يصحبه قال له صلى الله عليه وسلم آمراً أن يعود إلى والديه: (اذهب إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)؛ لو أدرك ذلك لكان له شأن آخر.

إن الشاب الذي يملك مقومات الرجولة ليس بحاجة إلى تصنعها وإقناع الآخرين بها، فما لم تنطق حاله بذلك وما لم تشهد أفعاله برجولته فالتصنع لن يقوده إلا إلى مزيد من الفشل والإحباط، وبدلاً من ذلك فالأولى به أن يقنع من حوله برجولته من خلال اتزانه وهدوئه وأنه لم يعد يستفز كالأطفال، ومن خلال قدرته على إدارة الخلاف مع الآخرين، ومن خلال قدرته على إبداء رأيه لمن يكبره سناً وقدراً وأن يقدم هذا الرأي بلغة تليق بمقام المخاطرة، ومن خلال نضج رأيه وانطلاقه من أسس موضوعية تقنع الآخرين.

ومن المفاهيم الخاطئة للرجولة: التصلب في غير موطنه.

يعد كثير من الناس الثبات على الكلمة التي تقال مظهراً من مظاهر الرجولة لذا توصف الكلمة بأنها كلمة رجل، ويعيره الناس حين يتراجع عن كلمة قالها بانتفاء الرجولة، لا شك أن من الرجولة الحقة أن يقر الرجل على كلمة حق قالها يريد بها وجه الله وأن يستعد لدفع الثمن من أجلها ولو كان غالياً، وأن يأبى التراجع مهما كلفه من ثمن.

ومن الرجولة الحقة أن يصر المرء على الوفاء بوعد كريم نبيل قطعه على نفسه، ولو كلفه ذلك ثمناً باهظاً، لكن حين يقول كلمة يدرك أن الحق بخلافها أو حين يزل بكلمة لا يريد بها وجه الله، أو حين يفسح له من حوله الطريق فيستبين له بعض ما كان يجهل، أو يذكر بعض ما كان ينسى، فالرجولة حينها أن يعود إلى الحق، والرجولة الحقة أن يقول بشجاعة: إنني أخطأت وبالباطل نطقت.

من السهل أن يتشبث المرء بباطله أو يصر على كلمته، لكن الشجاعة أن ينتصر على نفسه.. أن لا يسيره إلا الحق.. أن يتجرأ على الموقف الذي يضعف الكثير عن التجرؤ عليه فيتراجع عن قول الباطل ويخضع للحق.