خطب ومحاضرات
حاجتنا إلى التربية
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أرسله الله منقذاً للبشرية من الضلال إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، ومعلماً ومربياً للبشرية ومزكياً لها، وما عرفت البشرية معلماً أحسن تعليماً ولا تأديباً ولا تربية منه صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
أيها الإخوة! إن الحديث عن التربية حديث ملح، ومطلب له أهميته، ذلك أننا نشهد -ولله الحمد- في عالمنا الإسلامي صحوة إسلامية طيبة مباركة، هذه الصحوة التي تنوعت مظاهرها ومجالاتها، وعمت العالم بأسره، لا العالم الإسلامي وحده، إنها صحوة تعلن لكل متأمل وناظر لها أن الإسلام قادم؛ ليحكم حياة الناس، وأن الإسلام قادم ليتبوأ المكانة التي اختار الله سبحانه وتعالى هذه الأمة لها.
وإننا ينبغي أن نقف وقفات طويلة مع أنفسنا، وأن نتمعن في مسيرة هذه الصحوة، وأن نراجع الحسابات بين الفينة والأخرى.
إن العاطفة وحدها لا يمكن أن تكون مقياساً لمسيرتنا، ولا يمكن أن تكون قائداً لدعوتنا، إنها إذا لم تربط بالمنهج، والعلم الشرعي، والتربية، والاستقامة، قد تقودنا إلى مهالك.
ومن هنا كان لزاماً علينا أن نتحدث عن التربية التي نحتاج إليها جميعاً، نحتاج إليها لأنفسنا، سواء كنا شباباً أو شيباً، رجالاً أو نساءً، يحتاج إليها المربي ليربي من ولاه الله أمانته ومسئوليته، أخاً كان أو تلميذاً أو ابناً، أو حتى هذا المجتمع العريض، إنه يتلقى تربيته من قادة هذا المجتمع خطيباً، أو متحدثاً، أو كاتباً، أو محاضراً.
وعناصر هذه المحاضرة هي:
مقدمة لا بد منها.
ماذا نعني بالتربية؟
من يمارس التربية؟
سؤال يفرض نفسه.
مسوغات مطالبتنا بالتربية.
لم يكن أسلافنا بمعزل.
نريد باختصار.
مقدمة بين يدي هذا الموضوع:
إنني حين أتحدث عن التربية هنا لست أتحدث حديث مختص، فلست أتحدث عن تلك التربية التي أصبحت علماً خاصاً له أصوله ونظرياته، وله قواعده ومنهجه في البحث، إنما نعني بالتربية هنا أن يسلك المرء بنفسه المنهج الشرعي، ويربيها على أوامر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى أخلاقيات هذا الدين.
وما أطرحه هنا أيضاً ليس نظرية تربوية متكاملة، وليس حديثاً عن أبعاد التربية، وأهدافها، ومجالاتها، وجوانبها، إنني أريد أن أصل إلى نتيجة واحدة باختصار هي: أن يخرج السامع وهو على قناعة بأننا بحاجة إلى التربية.
هذا ما أريد أن أتحدث عنه، ومن هنا فليس هذا وقت الحديث عن أهداف التربية، أو جوانبها، ومجالاتها، والأخطاء التربوية .. إلى غير ذلك، غاية ما نريد أن نصل إليه أن نقنع أنفسنا أننا بحاجة إلى التربية.
ماذا نعني بالتربية
إنها تعني الصياغة المتكاملة للفرد والمجتمع على وفق شرع الله سبحانه وتعالى، أن نصوغ الفرد بدءاً بصلته بالله سبحانه وتعالى، وأخلاقه، وسلوكه، ومهاراته، وقدراته العلمية والاجتماعية، وتعامله مع الناس، فهي تعني باختصار إعادة بناء الفرد، وإعادة بناء المجتمع بناءً مستقيماً وفق شرع الله سبحانه وتعالى.
من يمارس التربية
ولعل جزءاً من الأمراض التي تعاني منها الأمة كان نتيجة لتلك التربية السلبية، أو تلك التربية السيئة المتعمدة، أقول: قد تكون التربية تربية مقصودة ذات أهداف وخطا واضحة، سواء كانت تربية إيجابية أو كانت خلاف ذلك، وقد تكون أموراً ارتجالية غير مقصودة، ولكنها تربي الإنسان شاء أم أبى.
هذه التربية تمارسها طوائف شتى في المجتمع، وليس صحيحاً أن التربية منحصرة في إطار المؤسسات التربوية، فالمؤسسات التربوية جزء -ولاشك- ممن يمارس التربية، ولكننا حين نتأمل نجد أن الذين يمارسون التربية أصناف، الأب والأم في المنزل يمارسان التربية، أياً كانت هذه التربية، مقصودة أو غير مقصودة، فالأب أحياناً يساهم في تربية ابنه على الانحراف، وعلى عدم القيام بأوامر الله سبحانه وتعالى، وعلى أن يكون عبداً لشهواته وأهوائه، من خلال تلك القدوة السيئة التي يراها الابن من أبيه، أو من خلال ما ييسره الأب ويسخره لابنه من وسائل الإفساد، فهو هنا يمارس تربية سيئة.
وقد يمارس الأب أيضاً تربية سيئة من جانب آخر، فيقتل شخصية الابن؛ فيخرج الابن مسحوق الشخصية، لا يمكن أن يستقل في تفكير ولا رأي ولا قرار، ويتعود الابن أن يكون مقلداً للآخرين، محاكياً للآخرين، ضعيف الشخصية، لا يستطيع أن يتخذ أي قرار في حياته.
وقد يربي الأب أو الأم الولد على الجبن والخوف والهلع، فيحسب ألف حساب لكلمة يريد أن يقولها، أو موقف يريد أن يعمله، وحين نعود إلى حياة السلف نرى كيف كان السلف يربون أبناءهم على الشجاعة والتضحية، وكيف كان الجبن والهلع صفة ذم ينتقص بها الإنسان عندما يذم ويهجى.
وأحياناً يربي الأب ابنه على معاني الفضيلة، والحياء، والخلق الفاضل، والعفة، وعلى طلب العلم الشرعي، والسلوك الإسلامي، المهم أن الأب يمارس تربية لابنه، سواء كان مثقفاً، أو كان غير مثقف، وسواء كانت تربية مدروسة ذات أهداف وخطط وبرامج واضحة، أو كانت تربية ارتجالية.
والشيخ الذي يدرس العلم الشرعي هو الآخر يربي، وليس صحيحاً أن الشيخ في حلقته وفي درسه العلمي لا يزيد على أن يلقي جوانب علمية مجردة، بعيدة عن المفاهيم التربوية والسلوكية، بعيدة عن تربية المنهج العلمي عند الطالب.
ولهذا عندما تتأمل وتقرأ في سيرة عالم من العلماء، ترى بصمات شيخه واضحة عليه، من خلال عباراته، ومن خلال ترجيحاته واختياره، ومن خلال جوانب الضعف العلمي لديه، ترى بصمات ذاك الشيخ الذي لازمه طويلاً ظاهرة عليه، سواء كانت سلباً أو إيجاباً؛ لأن الشيخ يمارس تربية مع التعليم.
كذلك المؤسسات التربوية: المدارس، ودور الرعاية، والدور الاجتماعية، كل هذه المؤسسات التربوية أيضاً هي الأخرى تمارس التربية.
وكذلك تجمعات الشباب، سواء كانت هذه التجمعات تجمعات خيرة، كفئة من الشباب يجتمعون على حفظ القرآن، أو على تدارس العلم الشرعي، ويكون بينهم تجمعات ولقاءات داخل المدرسة وخارجها، أو داخل الحي وخارجه، أم كانت من التجمعات الفوضوية، فتجمعات الأحياء والشوارع والسوقة هي الأخرى أيضاً تمارس تربية، فهي تربي المنتمي لهذه المجموعة على معانٍ سائدة داخل هذا الوسط الاجتماعي المصغر الذي تعيشه هذه المجموعة، وعادة ما تكون تربية مثل هذه المجتمعات -أعني مجتمعات الشوارع- تربية سلبية.
المهم أن التجمعات أياً كانت تمارس تربية، وتصبغ الفرد من خلال هذا الجو العام السائد على هذه المجموعة، سواء كانت سلبية أو إيجابية.
كذلك الموروثات الاجتماعية من آداب وتقاليد يرثها الناس ويتوارثها المجتمع، فتصبح جزءاً مستقراً في كيان هذا الشخص، فأنت ترى مثلاً مجتمعاً ألف الكرم والسخاء والجود، فترى مثل هذه الجوانب تظهر على كل فرد يخرج من هذا المجتمع، وترى مجتمعاً تربى على الشجاعة والإرادة فترى أفراده كذلك.
وبالعكس، ترى مجتمعاً تربى على الجبن والخوف والبخل وبذاءة اللسان، فترى أيضاً هذه الموروثات تصبغ هذا المجتمع بصبغة معينة من خلالها يتربى الفرد، ويتأثر من خلال هذه الموروثات التي يرثها من مجتمعه.
وكذلك وسائل الإعلام: التلفاز، الفيديو، الإذاعة، أياً كانت هذه الوسائل، فهي الأخرى تمارس تربية.
والفرد نفسه يمارس تربية لنفسه، من خلال عبادته، وتعامله مع الناس، ومحاسبته لنفسه، ومن خلال تلك المعاني التي يغرسها في نفسه أياً كانت هذه المعاني.
إذاً: فالتربية -كما قلنا- ليس صحيحاً أنه لا يمارسها إلا المؤسسات التربوية، أو الأساتذة، أو التربويون، فالجميع يمارس التربية، حتى الفرد نفسه، وقد تكون هذه التربية -كما قلت- مدروسة، وقد تكون غير مدروسة، المهم أنها تربية.
إن التربية التي نتحدث عنها والتي ترد في مصطلحات الدعاة إلى الله عز وجل، ومصطلحات من يتخاطب مع جيل الصحوة هي أبعد من أن تكون نظريات فلسفية، أو مفاهيم سلوكية مجردة.
إنها تعني الصياغة المتكاملة للفرد والمجتمع على وفق شرع الله سبحانه وتعالى، أن نصوغ الفرد بدءاً بصلته بالله سبحانه وتعالى، وأخلاقه، وسلوكه، ومهاراته، وقدراته العلمية والاجتماعية، وتعامله مع الناس، فهي تعني باختصار إعادة بناء الفرد، وإعادة بناء المجتمع بناءً مستقيماً وفق شرع الله سبحانه وتعالى.
إن الإنسان أياً كان لا بد أن يتعرض للتربية، والتربية ليست بالضرورة تربية إيجابية، فقد تكون تربية سلبية، وقد تكون تربية على مفاهيم خاطئة، وقد تكون تربية منحرفة، لكن الناس كل الناس لا بد أن يتعرضوا للتربية، إما تربية ذات منهج وخطا واضحة، أياً كان هذا المنهج، قد يكون منهجاً للإصلاح والخير والاستقامة، وقد يكون منهجاً يراد به الإفساد، ويراد به الانحراف، كما نلمس الآن في المناهج التي تخاطب بها الأمة، حيث نشروا الفساد والرذيلة، وعملوا على محاصرة أبواب الخير، وهي -لاشك- جهود منظمة لإحداث إخلال تربوي في وسط هذه الأمة.
ولعل جزءاً من الأمراض التي تعاني منها الأمة كان نتيجة لتلك التربية السلبية، أو تلك التربية السيئة المتعمدة، أقول: قد تكون التربية تربية مقصودة ذات أهداف وخطا واضحة، سواء كانت تربية إيجابية أو كانت خلاف ذلك، وقد تكون أموراً ارتجالية غير مقصودة، ولكنها تربي الإنسان شاء أم أبى.
هذه التربية تمارسها طوائف شتى في المجتمع، وليس صحيحاً أن التربية منحصرة في إطار المؤسسات التربوية، فالمؤسسات التربوية جزء -ولاشك- ممن يمارس التربية، ولكننا حين نتأمل نجد أن الذين يمارسون التربية أصناف، الأب والأم في المنزل يمارسان التربية، أياً كانت هذه التربية، مقصودة أو غير مقصودة، فالأب أحياناً يساهم في تربية ابنه على الانحراف، وعلى عدم القيام بأوامر الله سبحانه وتعالى، وعلى أن يكون عبداً لشهواته وأهوائه، من خلال تلك القدوة السيئة التي يراها الابن من أبيه، أو من خلال ما ييسره الأب ويسخره لابنه من وسائل الإفساد، فهو هنا يمارس تربية سيئة.
وقد يمارس الأب أيضاً تربية سيئة من جانب آخر، فيقتل شخصية الابن؛ فيخرج الابن مسحوق الشخصية، لا يمكن أن يستقل في تفكير ولا رأي ولا قرار، ويتعود الابن أن يكون مقلداً للآخرين، محاكياً للآخرين، ضعيف الشخصية، لا يستطيع أن يتخذ أي قرار في حياته.
وقد يربي الأب أو الأم الولد على الجبن والخوف والهلع، فيحسب ألف حساب لكلمة يريد أن يقولها، أو موقف يريد أن يعمله، وحين نعود إلى حياة السلف نرى كيف كان السلف يربون أبناءهم على الشجاعة والتضحية، وكيف كان الجبن والهلع صفة ذم ينتقص بها الإنسان عندما يذم ويهجى.
وأحياناً يربي الأب ابنه على معاني الفضيلة، والحياء، والخلق الفاضل، والعفة، وعلى طلب العلم الشرعي، والسلوك الإسلامي، المهم أن الأب يمارس تربية لابنه، سواء كان مثقفاً، أو كان غير مثقف، وسواء كانت تربية مدروسة ذات أهداف وخطط وبرامج واضحة، أو كانت تربية ارتجالية.
والشيخ الذي يدرس العلم الشرعي هو الآخر يربي، وليس صحيحاً أن الشيخ في حلقته وفي درسه العلمي لا يزيد على أن يلقي جوانب علمية مجردة، بعيدة عن المفاهيم التربوية والسلوكية، بعيدة عن تربية المنهج العلمي عند الطالب.
ولهذا عندما تتأمل وتقرأ في سيرة عالم من العلماء، ترى بصمات شيخه واضحة عليه، من خلال عباراته، ومن خلال ترجيحاته واختياره، ومن خلال جوانب الضعف العلمي لديه، ترى بصمات ذاك الشيخ الذي لازمه طويلاً ظاهرة عليه، سواء كانت سلباً أو إيجاباً؛ لأن الشيخ يمارس تربية مع التعليم.
كذلك المؤسسات التربوية: المدارس، ودور الرعاية، والدور الاجتماعية، كل هذه المؤسسات التربوية أيضاً هي الأخرى تمارس التربية.
وكذلك تجمعات الشباب، سواء كانت هذه التجمعات تجمعات خيرة، كفئة من الشباب يجتمعون على حفظ القرآن، أو على تدارس العلم الشرعي، ويكون بينهم تجمعات ولقاءات داخل المدرسة وخارجها، أو داخل الحي وخارجه، أم كانت من التجمعات الفوضوية، فتجمعات الأحياء والشوارع والسوقة هي الأخرى أيضاً تمارس تربية، فهي تربي المنتمي لهذه المجموعة على معانٍ سائدة داخل هذا الوسط الاجتماعي المصغر الذي تعيشه هذه المجموعة، وعادة ما تكون تربية مثل هذه المجتمعات -أعني مجتمعات الشوارع- تربية سلبية.
المهم أن التجمعات أياً كانت تمارس تربية، وتصبغ الفرد من خلال هذا الجو العام السائد على هذه المجموعة، سواء كانت سلبية أو إيجابية.
كذلك الموروثات الاجتماعية من آداب وتقاليد يرثها الناس ويتوارثها المجتمع، فتصبح جزءاً مستقراً في كيان هذا الشخص، فأنت ترى مثلاً مجتمعاً ألف الكرم والسخاء والجود، فترى مثل هذه الجوانب تظهر على كل فرد يخرج من هذا المجتمع، وترى مجتمعاً تربى على الشجاعة والإرادة فترى أفراده كذلك.
وبالعكس، ترى مجتمعاً تربى على الجبن والخوف والبخل وبذاءة اللسان، فترى أيضاً هذه الموروثات تصبغ هذا المجتمع بصبغة معينة من خلالها يتربى الفرد، ويتأثر من خلال هذه الموروثات التي يرثها من مجتمعه.
وكذلك وسائل الإعلام: التلفاز، الفيديو، الإذاعة، أياً كانت هذه الوسائل، فهي الأخرى تمارس تربية.
والفرد نفسه يمارس تربية لنفسه، من خلال عبادته، وتعامله مع الناس، ومحاسبته لنفسه، ومن خلال تلك المعاني التي يغرسها في نفسه أياً كانت هذه المعاني.
إذاً: فالتربية -كما قلنا- ليس صحيحاً أنه لا يمارسها إلا المؤسسات التربوية، أو الأساتذة، أو التربويون، فالجميع يمارس التربية، حتى الفرد نفسه، وقد تكون هذه التربية -كما قلت- مدروسة، وقد تكون غير مدروسة، المهم أنها تربية.
سؤال يفرض نفسه:
إن الحديث عن التربية ووضع أسسها وأهدافها وبرامجها، كل ذلك فرع عن القناعة بجدواها، فما مدى قناعتنا بجدوى التربية؟ وما مدى شعورنا بأهمية التربية؟
إننا بحاجة إلى التربية، وإن جيلنا مهما ارتقى ومهما بلغ من مستوى فهو بحاجة إلى التربية.
أقول: إننا يجب أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال، والقضية لا يمكن أن نجيب عليها بـ (نعم) أو (لا)، فمستوى القناعة يتفاوت عند الناس، فما لم يكن لدينا قناعة تامة بأهمية التربية، وحاجتنا إليها وضرورتها؛ فإن الحديث عن أهدافها وعن أسسها وبرامجها، والحديث عن الجوانب التربوية يعتبر من فضول الحديث؛ لأن هذا -كما قلنا- إنما هو فرع عن شعورنا وقناعتنا بأهمية التربية.
كثرة الفتن والمغريات
نحن حينما نطالب بالتربية، ونرى أننا بحاجة إليها، فما المسوغات التي تدفعنا لذلك؟
عندما نقول: إن جيل الصحوة يجب أن يعتني بالتربية، وأن توجه له التربية، وأن تقوم مؤسسات ودراسات وبحوث وجهود لتأصيل النظرية التربوية المتكاملة، ومن خلال برنامج عملي أيضاً، وألا تكون القضية مجرد كلام وطرح نظري معرفي فقط، أقول: عندما نطالب بذلك فإن لنا حججاً ومسوغات:
أولها: كثرة الفتن والمغريات:
إن الشاب الآن يتعرض لفتن كثيرة خاصة في مرحلة المراهقة وما يعقبها، ومن هنا فتراه يعيش صراعاً مع نفسه، وصراعاً مع شهواته، وصراعاً مع هذه الفتن والمغريات التي تؤزه أزاً للفساد وتدفعه دفعاً، ويرى أن هناك عوامل عدة تدفعه دفعاً إلى الرذيلة والفساد، فيرى وسائل الإثارة والإغراء، بدءاً بالأفلام والتلفاز.
وها نحن أقبلنا على خطر داهم يدركه الجميع ألا وهو البث المباشر، فأصبح الشاب الذي قد لا يكون خرج من مدينته، بل قد لا يكون جاوز قريته يدير التلفاز ومحطات الاستقبال، فينقله إلى أوروبا وأمريكا ودول الكفر والإلحاد؛ ليرى الإباحية والتفسخ والانحلال.
وهو خطر قادم أشعر أننا لم ندرك حقاً حجم خطورته، وأشعر أن تعاملنا مع هذا الخطر دون مستوى خطورته، وأخشى أيها الإخوة! أن نحصد النتيجة مرة، من خلال خسارتنا لعفاف بناتنا، وعفاف أبنائنا، وهي قضايا لسنا نتحدث عنها من خلال مبالغة، وها نحن نرى نماذج مرة من الانحلال والفساد والتفسخ والجريمة إنما تحصل من خلال هذه المغريات وهذه المثيرات التي يراها الشاب أو تراها الفتاة.
كم جنينا وعانينا من جراء أفلام الفيديو، والتي تتعرض لمراقبة أياً كانت هذه المراقبة، لكنها تتعرض لمراقبة، وقد يصعب على الشاب الحصول على الفلم الذي يريد، ولكن الآن أصبح العالم كله يعرض بين يديه دون مراقبة، ودون استثناء، في الطعن في عقيدته وأخلاقه وسلوكه، وتعليمه أساليب الجريمة، وسائل الإثارة والإغراء والفتن تعرض أمام ناظريه، فماذا يفعل هذا الشاب؟!
وحينما يذهب إلى أي محل تجاري يرى تلك المجلات الساقطة التي زينت أغلفتها بصور النساء تعرض أمامه، حينما يذهب يمنة ويسرة يرى هذه الفتن تدعوه وتؤزه أزاً.
إن الشاب الملتزم المستقيم يعيش معاناة لا يعلمها ولا يدركها إلا هو، واسمحوا لي أيها الإخوة! لأقول: إن الكثير من الآباء، بل الكثير من الأساتذة، بل الكثير من أهل التوجيه يعيشون بمعزل عن عمق المعاناة التي يعاني منها الشاب، والجحيم الذي يعيشه، ومن هنا فأنت ترى أسئلة الشباب كثيرة، تدور حول الثبات، ومعاني الثبات، والخشية من الانحراف, إلى غير ذلك.
لا شك أن هذا سؤال يبعث على الفهم، ونحن حينما نرى الشاب يشعر بعمق الخطر، لا شك أن هذه بداية لمواجهة هذا الخطر، ولكن مثل هذا التساؤل الذي يطرحه الشاب كثيراً، إنه نتيجة إفراز معين عن شعور من تلك المعاناة العميقة التي يعاني منها الشاب، والتي للأسف لا يجد الشاب من يشاركه هذه المعاناة، فيتحدث مع أبيه، ويطرح على أبيه مطالب، فيرى أنه يعيش في وادٍ ووالده يعيش في وادٍ آخر.
إن الأب يحاكم هذا الشاب المراهق التي تتوقد الشهوة لديه، وقد أشرعت الفتن ناظريها أمام عينيه، يحاكم هذا الشاب إلى نفسه، وإلى عقليته، وإلى ظروفه، وإلى مرحلته التي عاشها، وقد تكون هذه المرحلة مضت بكل مشاعرها ومغرياتها وبكل الفتن وكأنها حلم أو رؤيا رآها، غير أنه عاش مرحلة ومجتمعاً يختلف عن هذا المجتمع، وهذه المعاناة التي يعاني منها الشاب.
أقول أيها الإخوة: إن هذه المعاناة، وهذه الفتن والمغريات التي أصبحت تعصف بالشباب يمنة ويسرة من أهم المسوغات التي تدعونا إلى المطالبة بالتربية الجادة والعميقة، إن هذا الشاب يواجه ألواناً من الفتن والمغريات والضغوط التي تدعوه وتؤزه إلى الفساد، فحينئذٍ يحتاج إلى الثبات، ويحتاج إلى ما يعينه، ليس ثم إلا تلك التربية القوية التي تربي عند الشاب الخوف من الله سبحانه وتعالى، والتضحية لله عز وجل، والصبر، والتحمل، وضبط النفس، والإرادة، كل هذه المعاني بحاجة إلى أن تغرس عند الشاب؛ حتى تكون سلاحاً له بعد توفيق الله سبحانه وتعالى وتثبيته، حتى يقف أمام هذه المغريات وهذه الشهوات.
ولعل قراءتنا وتأملنا السريع في السيرة تعطينا القناعة بذلك، حينما تتأمل مثلاً في حادثة الردة، ترى أن الذين ارتدوا عن الإسلام هم أولئك الذين دخلوا في الإسلام حديثاً، هم أولئك الذين قال الله عز وجل عنهم: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14].
فبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت قبائل من العرب، ولكن أهل المدينة ومكة ومن حولهم من الأعراب الذين قال الله عز وجل عنهم: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [التوبة:120].
أولئك لم نر أحداً منهم ارتد؛ أهل بدر، وبيعة العقبة، وبيعة الرضوان، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار لم نر أحداً منهم عاش هذه الردة اللهم إلا حالات نادرة جداً، لماذا؟ لأن أولئك تعرضوا لتربية قوية عميقة، أما تلك الجموع فكانت يوم أن دخلت في الإسلام حديثاً، ولم تترب التربية الكاملة، ومن هنا عندما جاءت أول فتنة هزت تلك الجموع التي كانت قناعتها غير متكاملة بعد في هذا الدين.
ضخامة الدور المنوط بالصحوة
الجانب الثاني أو المسوغ الثاني من مسوغات مطالبتنا بالتربية: ضخامة الدور المنوط بالصحوة:
إن إعداد الشاب المسلم أبعد من مجرد تخريج فرد ملتزم بالإسلام بحد ذاته، إننا حينما نعد الشاب فإننا نعد الصف الأول على مستوى الأمة الذي يطلب منه أن يساهم في إنقاذ الأمة، وأن يساهم في إعادة صياغة مجتمعات المسلمين، وأن يساهم في إعادة بناء مجتمعات الأمة، وهو هدف ضخم وبعيد لا يمكن أبداً أن يقوم إلا من خلال تربية، وإعداد متكامل، لا يمكن أن يقوم به مجرد شخص يحمل عواطف جياشة، وحماسة ثائرة.
إن ذاك التفكير الذي كنا نفكر به سابقاً، وتلك النظرية التي كنا نطرحها أحياناً كنوع من التخدير، والتي تعني أن القضية ببساطة أن يصلح الفرد، وتصلح الأسرة، ويصلح المجتمع، وتصلح الأمة، إنه تفكير ساذج، وتفكير غير واقعي، ولماذا لا تتحول النظرة إلى أسلوب آخر، إننا حين نفكر بهذه العقلية نحتاج إلى مدى وإلى قرون متطاولة؛ لأنك أنت تعمل وتملك وسائل محدودة في حين إن تيارات الفساد تملك وسائل وأبواب لا تملك أنت واحداً، أو جهدك ووسائلك ومجالاتك لا توازي واحداً فقط من تلك الأبواب التي يملكها دعاة الفساد وأهل الفساد.
فماذا تصنع مع هذا الزخم الهائل؟
إذاً: لماذا لا نفكر بعقلية أخرى؟! ولماذا لا يكون هدفنا هدفاً آخر؟! لا أن نعد مجرد الفرد الملتزم بالإسلام، بل نعد الفرد العامل للإسلام، نعد الفرد الذي يرى أنه ينبغي أن يصلح، فبدلاً من أن نعد فرداً يتخلى عن تقصيره وإهماله ومعصيته، ويقتصر على التزامه الشخصي، ينبغي أن يتحول هدفنا إلى أن نعد فرداً يدعو إلى الله عز وجل، أن نعد فرداً عاملاً، فرداً مصلحاً يساهم معنا في دفع العجلة، وأن الجهد المنوط بالدعوة والصحوة جهد ضخم، لا يمكن أبداً أن يقتصر على فئة من الناس وفئة من البشر.
مع عدم إهمالنا للإصلاح المجرد، لا شك أن إنقاذ مسلم واحد من الضلال والانحراف يعتبر إنجازاً، ويعتبر هدفاً بحد ذاته، وأنت ترى النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى عمه أبي طالب وهو عند الموت، فيدعوه إلى الإسلام ويلح، وماذا سيحصل الإسلام وتحصل الأمة من إسلام أبي طالب مثلاً في تلك اللحظة، إنه رجل على فراش الموت، ولكن إنقاذ فرد من النار يعتبر مكسباً وهدفاً.
جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى شاب يهودي يحتضر فعاده صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى الإسلام وأسلم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار).
لا شك -كما قلت- أن إنقاذ الفرد المسلم أياً كان من النار، بل إنقاذه من معصية واحدة عمل وإنجاز، ولكن ينبغي ألا يكون هذا هو الهدف الوحيد، وأن نتجاوزه إلى هدف أبعد مدى، فبدلاً من أن يكون الهدف مجرد تخريج إنسان ملتزم بالإسلام بسلوكياته وأخلاقه أن نهدف إلى أن نخرج رجلاً عاملاً للإسلام، داعياً إلى الله سبحانه وتعالى، أن نخرج الصف الأول الذي يقود الأمة.
المعاني الكبيرة التي يحتاج المسلم إلى أن يتربى عليها
الصبر: يسهل أن تتحدث عن الصبر في خطبة، في درس، في كتاب، في مقالة، في أي مكان يمكن أن تتحدث عن الصبر، ولكن أيها الإخوة! الصبر معنىً عميق يجب أن تتربى عليه النفوس، الصبر الذي نريد يحتاج إلى مجاهدة، ويحتاج إلى جهد وتربية، وليست قضية تقف عند مجرد طرح معان معرفية، يقول الله عز وجل: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].
فالصبر إذاً معنىً يحتاج إلى أن يتواصى على تحقيقه والوصول إليه.
التأني والروية، وعدم الاستعجال، الكرم، الشجاعة، المبادرة، الثقة بالنفس، أدب الحوار، معانٍ كثيرة يمكن أن نطرحها طرحاً نظرياً مجرداً، ونتحدث عن هذه المعاني، ونتذكر الصور من التاريخ من القديم والحديث، ولكن لا تتصور أن هذا وحده كافٍ بأن تغرس هذه المعاني عند النفوس أبداً، إن هذه المعاني بحاجة إلى تربية من الفرد نفسه، ومن الأستاذ، ومن الأب، ومن الجميع أن يتربى الفرد على الصبر، ويتربى على الكرم، ويتربى على الشجاعة، ويتربى على المبادرة والثقة في النفس.
هذه المعاني -كما قلت- يحتاجها الإنسان العادي؛ حتى يعيش حياة سوية، فضلاً عن المسلم، فضلاً عمن نريد منه دوراً أعظم من ذلك كله، نريد منه أن يساهم في قيادة الأمة.
من السذاجة أيها الإخوة! أن نتصور أننا يمكن أن نصل إلى هذه المعاني وأن نحققها من خلال الطرح النظري المجرد، ومن خلال الحديث العاطفي، الجميع يجيد الحديث عن ذلك، ولو طلبت من أحد الإخوة الحضور أن يتحدث عن جانب من هذه الجوانب لأشبعه حديثاً، ولكن هذا شيء والتربية عليه شيء آخر، مع عدم إهمالنا أيضاً للطرح المعرفي والنظري، فهو خطوة أولى في طريق التربية.
هذه المعاني -كما قلت- لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال التربية.
تأمل مثلاً في السيرة النبوية مرة أخرى، فهناك معانٍ تربى عليها الجيل الأول من خلال الميدان، من خلال العمل والواقع، ولم تكن تعرض هكذا عرضاً أجوف، اقرأ في القرآن مثلاً لترى أن القرآن يربي الأمة من خلال الأحداث والمواقف.
كانت حادثة الإفك حدثاً هز المجتمع كله، وصار حديث الناس كلهم، فانظر كيف تربت الأمة من خلال هذا الحدث على معاني التثبت، والتأني، وحسن الظن بالمؤمنين، إلى غير ذلك من تلك المعاني العميقة التي لو طرحت طرحاً مجرداً لم يكن أثرها في النفوس مثلما كان من خلال التربية بالحدث.
معاني النصر والهزيمة التي تراها تطرح مثلاً في سورة الأنفال بعد أحداث غزوة بدر، ولا يزال رنين السيوف في آذان المسلمين، في ذلك الوقت سمعوا الحديث عن معاني النصر والهزيمة، وحقيقة الحياة الدنيا، وسمعوها بعد غزوة أحد، وجراحهم لا تزال تنزف، وقتلاهم لم يدفنوا بعد، تنزلت تلك الآيات التي تتحدث عن معاني النصر والهزيمة، والتمحيص، والحياة الدنيا، والتعلق بها .. إلى غير ذلك.
تلك المعاني التي تربى عليها الجيل الأول من خلال الحدث، من خلال الميدان، لم تكن معاني مجردة تطرح على الناس وهم في بيوتهم، أو في المساجد أو في المدارس.
عمق الخلل التربوي في المجتمع
لو نحينا جانباً الانحرافات والخلل الشرعي الموجود في المجتمع من خلال التقصير في الأوامر الشرعية، ومن خلال ارتكاب المعاصي، وحرمات الله عز وجل، مع أننا نعتبر أن هذا أكبر خلل، لكن نريد جانباً آخر نغفل عنه له أهميته، وهو جانب المعاني التربوية التي يحتاج إليها الإنسان.
مثلاً: مجتمعاتنا تربي الفرد على الاتكال على الآخرين، وغياب الروح الجماعية، فأنت ترى مثلاً مؤسسة أياً كانت هذه المؤسسة أهلية أو حكومية تفكر بعقلية الرجل الواحد، فالمدير هو كل شيء في هذه المؤسسة، هو الذي يفكر، وهو الذي يتخذ القرار، وهو الذي يعمل، وكل عامل في هذه المؤسسة لا يرى أن عليه أي مسئولية تجاه مثل هذه المؤسسة.
حتى داخل قطاع الصحوة عندما تأتي مثلاً إلى الجهود الدعوية، وترى المؤسسات الدعوية، تراها أيضاً هي تقاد من خلال الرجل الواحد.
فالفرد يشعر باتكالية، ولا يشعر بأي مسئولية، يرى أن المسئولية تقع على فلان.
عندما تأتي إلى الأسرة ترى أن كل شيء على الأب، ولا تكاد ترى من يشعر بالمسئولية المشتركة والمسئولية الجماعية.
ونتج عن ذلك خلل في معان شرعية مهمة، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتناصح، فهذا الآخر كنتيجة من نتائج هذه التربية، حيث يشعر كل إنسان أنه غير مسئول عن هذا المنكر فينهى عنه، ولا عن هذا المعروف والأمر به، إنما المسئول فلان.
الفردية: فلا نحسن العمل الجماعي مطلقاً، قد ترى عملاً جباراً من خلال فرد وشخص نشيط وقوي ومفكر وعامل، أما عمل جماعي فعلاً فتكاد تراه، وإذا رأيت عملاً جماعياً منتجاً ترى وراءه فرداً واحداً.
أما أن تكون هناك جهود متكاتفة ومجتمعة فهذه حالات نادرة، هذا مرض من الأمراض التي تعاني منها مجتمعات المسلمين.
التعصب: التعصب مرض ترثه الأمة، التعصب لإقليم، لقطر، لبلد، لحزب، وأياً كان هذا التعصب فهو مرض من أمراض الأمة، ونادراً ما ترى أحداً يخلو منه.
النظرة العاطفية المجردة: أي: أن تقييمنا للأمور تقييم عاطفي، فعندما يحصل حدث من الأحداث التي تمر بها الأمة فإننا نحلل الحدث تحليلاً عاطفياً، ونطرح حلولاً عاطفية، ويكون تعاملنا مع الأحداث بعاطفة، فليس عندنا عمق للتفكير، ولا عمق في الحلول، ولا في العمل، كل أمورنا دائماً تسير وراء العاطفة.
الثقة بالنفس، المبادرة، الكرم، الشجاعة، معانٍ كثيرة نرى أن هناك خللاً تربوياً في المجتمع، وأن هذه المعاني بحاجة إلى تصحيح، وبحاجة إلى تربية أيضاً هي الأخرى، فكلما ازداد هذا الخلل في المجتمع ازدادت ضرورة المطالبة بالتربية والحاجة إليها.
الخلل في واقع الصحوة
إن الصحوة قطعت خطوات طيبة مباركة، ولكنها لا تزال تعاني من أمراض، وتعاني من مشاكل كثيرة، فحدث واحد يمكن أن يهز قطاع الصحوة، كأن يأتي إنسان ويطرح كلمة تشكك الكثير بقناعات تربو عليها فترة طويلة، يمكن أن يأتي إنسان يشكك في قيادات الصحوة، ويشكك في منطلقات، ويشكك في بدهيات، وفي قضايا كثيرة، ويجب أن يستجيب له، ويسمع له، فهذه الاستجابة والسماع مظهر من مظاهر المرض الذي تعاني منه الصحوة.
أمراض كثيرة تعاني منها الصحوة لست بحاجة إلى الحديث عنها، ويجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا، نعم نحن نرى آثار الصحوة طيبة وظاهرة، ولا ينكرها إلا مكابر، ولكن هناك أمراض، وهناك خلل يجب أن نعترف به، ويجب أن نكون صرحاء، وألا ننتظر الحديث من أعدائنا، ولا ننتظر النقد من الآخرين.
هذا المرض وهذا الخلل الموجود داخل الصحوة لا يمكن أن نصححه إلا من خلال التربية العميقة والتربية التي تكون عن قناعة تامة، أما إذا كانت الأمور مجرد عاطفة ومجرد حماسة ثائرة، وأعمال مرتجلة فلا يمكن أبداً أن نعالج مثل هذا الخلل وهذا الخطأ، بل سيزيد الخلل عمقاً، بل هذا الخلل إنما هو نتيجة إهمال التربية ابتداءً.
الانفصام الواقع في المؤسسات التربوية بين النظرية والتطبيق
خذ على سبيل المثال أهداف التعليم في المرحلة الثانوية، أو في المرحلة المتوسطة، تراها أهدافاً عالية، وهي تربية الشاب على الجهاد، وعلى المعاني الإسلامية، والأخلاق الفاضلة، وارجعوا إلى سياسة التعليم وخطة التعليم؛ لتروا كيف أنها أهداف متميزة؛ لكن عندما تأتي إلى الواقع العملي ترى أن هناك مسافة شاسعة بين تلك الأهداف النظرية وبين الواقع العملي.
مثلاً: قد لا أبالغ إذا قلت: إنك يمكن أن تجد أستاذاً يدرس منهجاً من المناهج سنوات عديدة وهو لا يعرف أهداف المنهج، ولم يطلع على أهداف المنهج وخططه.
قد ترى مثلاً موجهاً تربوياً، أو ترى شخصاً يقوم بالتخطيط التربوي، فتجد أنه يعيش في واقع نظري بحت بعيداً عن الواقع العملي، وترى العزلة بين الأستاذ والموجه، وبين من يقوم بالتخطيط، ترى أن الأستاذ أصبح يتصور أن عمله مجرد مهنة يتقاضى عليها راتباً، والموجه هو الآخر كذلك، ومن يقوم بالتخطيط التربوي، ومن يتولى المؤسسات التربوية أياً كانت فإن قطاعاً عريضاً من هؤلاء يتعامل مع هذا العمل على أنه مهنة مجردة يتقاضى عليها راتباً، فلا تسأل بعد ذلك عن نتيجة تربية مثل هذا الإنسان الذي ينظر هذه النظرة التربوية.
أقول: إن هناك خللاً في المؤسسات التربوية من خلال جوانب عدة، من خلال المسافة الشاسعة بين النظرية والتطبيق، فقد يكون التأصيل النظري جيداً ورائعاً، ولكن الخلل في العمل والتطبيق، بل قد ترى أستاذاً له سنوات طويلة في المرحلة الثانوية لو تسأله عن أهداف التعليم في المرحلة الثانوية لا يعرف الأهداف.
إذاً: لماذا نضع نحن هذه الأهداف حبراً على ورق، تسأله عن أهداف المنهج لا يعرف أهداف المنهج، فضلاً عن تطبيقه لها وسعيه إليها.
توسع مجالات الدعوة
هذا التوسع أدى إلى نتائج منها:
النتيجة الأولى: التوسع الأفقي لجيل الصحوة، وازدياد قوافل التائبين، الذين يمثلون خلفيات تربوية متناثرة، فهذا رجل كان مدمن مخدرات، هذا رجل كان صاحب فساد أخلاقي، هذا رجل جاء من الشارع.
المهم أننا نرى أفواجاً من التائبين والعائدين والمنخرطين في سلك الصحوة، والذين يمثلون خلفيات تربوية متناثرة، هذا الجيل وهذه الأفواج أليست بحاجة إلى التربية؟ أليست بحاجة إلى جهد يغسل عنها غبار الماضي؟
لا ينبغي أن نفْرط في السذاجة، ونتصور أن هذا الشاب الذي عاش سنوات طويلة في الفساد وفي تلك التربية السيئة أنه من خلال قناعة عاجلة وقناعة سريعة تحول إلى إنسان مصلح، وإلى شاب مستقيم لمجرد ذلك التغير في مظهره، لا.
أقول: ازدياد قوافل التائبين، وازدياد التوسع الأفقي لجيل الصحوة، مع أنه أمر يبعث على الفأل، فإنني أشعر أننا لا نتعامل معه إلا من خلال نظرة واحدة فقط، وهي نظرة التفاؤل، ونظرة الحديث بإفراط عن هذه القوافل العائدة إلى الله، وهذه نظرة سليمة وإن كانت تحتاج إلى نوع من التوازن، أعني: هل فكرنا تفكيراً آخر، وهل طرأ يوم من الأيام على ذهننا أن هذه الأفواج المتقاطرة والوافدة بحاجة إلى تربية، بحاجة إلى غسل أوضار الماضي، بحاجة إلى إعداد؛ حتى لا تكوِّن بعد ذلك خللاً من الداخل، وحتى لا تمارس بعد ذلك الفساد وتمارس الخلل في الصحوة من الداخل، فتضرب الصحوة من خلال هؤلاء الذين لا يملكون إلا مجرد العاطفة فقط؟
كذلك النتيجة الثانية لسعة مجالات الدعوة وجوانبها:
كثير من الطاقات الدعوية والعاملة انشغلت في هذه البرامج العامة التي تخاطب الجماهير، وتتحدث مع الجماهير، مما أدى إلى فقدان جهودها التربوية، كانت هناك طاقات كثيرة موظفة في الميدان التربوي والعمل التربوي، وكانت تمارس التربية للشباب أياً كان ميدان هؤلاء، ولكن مع سعة مجالات الدعوة انفتحت أبواب، فتفرغت وانشغلت كثير من هذه الطاقات لملء ذاك الجانب وذاك الجانب العام، ونحن لا نهمل هذا الجانب، ولكن نحن الآن فقدنا طاقات.
والمفترض مع زيادة قوافل التائبين والعائدين، ومع التوسع الأفقي للصحوة أنا نحتاج إلى عدد أكثر ممن يمارس التربية، فأصبحنا نجد أننا نعاني من النقص والقصور في هذه الطاقات، ونعاني أيضاً من ازدياد الحاجة التي لا تفي بها تلك الطاقات السابقة.
كذلك الكثير من الجوانب والمجالات العامة لها نتائج مغرية وبريق عاجل يغري الشباب، مثلاً قد ترى بعض جوانب الدعوة الجماهيرية التي تتم عن طريق مخاطبة الجماهير، وتحريك عواطف الناس، لها نتائج عاجلة، ولها بريق عاجل قد يغري، فيتوجه الكثير إلى مثل هذه المجالات.
إنها مجالات مهمة لا ينبغي أن تهمل، ولكن لا ينبغي أن تكون هي المجال الوحيد، ولا ينبغي أن ننخدع بها ونترك المواقع المهمة، ونهمل التربية والعناية بالإعداد؛ لأجل الانخداع والسير وراء مثل هذا البريق العاجل، والبريق اللامع.
وذلك أن الجهد التربوي يحتاج إلى عمل طويل وبعيد ونتائج، ثم نتائجه مع ذلك غير منظورة، فمثلاً: أستطيع أن أصور لك التربية مثل الطفل في البيت، كل يوم ينمو، لكنك لا تشعر بهذا النمو ولا تقيسه، لكن الإنسان البعيد عندما يرى ابنك بعد سنة يقول: لقد تغير ابنك.
الآن لو قلت لإنسان: نريدك أن تحمل بقرة من الدور الأسفل إلى الدور العلوي لم يقدر؛ لكن لو كان يحملها كل يوم منذ أن ولدت، يحملها اليوم، وعندما يأتي من الغد سيحملها وهكذا، فسيجد أنه بعد فترة يحمل تلك البقرة الكبيرة.
أقول: التربية تمتاز بميزتين:
أولاً: أنها تحتاج إلى عمل طويل، وجهد مضن، ثم نتائجها غير منظورة ولا قريبة، فليست مثل العمل العام والجماهيري الذي نتائجه واضحة وسريعة، ومن هنا فإذا كانت التربية تحتاج إلى جهد، وعمل طويل، ونتائجها غير سريعة ولا مغرية فإن الإنسان الذي تربى على الاستعجال، ويريد الثمرة عاجلة، تغريه النتائج العاجلة، ومن هنا فسينصرف الكثير عن الميدان التربوي؛ نظراً لأنهم يخدعون ببريق العمل الجماهيري، والأعمال العامة التي يجد أن الآلاف والجميع يهتدون ويصيرون وراء هذا العمل، فيهمل ذاك الجانب المهم.
مرة أخرى: أنا لا أهمل هذه الأعمال، وأرى أنها كلها مهمة، لكن أن تكون هي النظرة التي ننظر إليها، وألا ننظر إلا بهذه العين، وأن نحتقر العمل التربوي من خلال الانخداع ببريق العمل الجماهيري أيضاً، فهذا خطأ.
كذلك أيضاً النتيجة الرابعة من نتائج توسع مجالات الدعوة: قيادات المستقبل لابد أن تكون من قواعد وجيل الحاضر:
فنحن نحتاج إلى قيادات تقود الدعوة على كافة المستويات، قيادات علمية، قيادات دعوية، قيادات فكرية، قيادات على المستويات العليا، قيادات وسيطة، لابد أن تقود هذه الصحوة قيادات، وليس صحيحاً أن القيادات هي القيادات العليا من شخص أو شخصين فقط قيادة علمية وقيادة فكرية، لا، فإننا سنحتاج إلى قيادات على مستويات أقل، إلى أن نصل إلى آخر حد.
هذه القيادات لابد لها من تربية، والجيل الذي نراه الآن سيكون هو القيادات في المستقبل، فإما أن يكون قيادة قوية متربية، أو يكون قيادة متخلفة لا تملك إلا العاطفة، ولا تملك إلا الحماسة المجردة.
بعد هذه المسوغات أتصور أننا وصلنا إلى نوع من القناعة في أهمية التربية والحاجة إليها.
بعد ذلك ننتقل إلى النقطة الأساسية والمقصودة من خلال عرض هذا الموضوع، ألا وهي: مسوغات مطالبتنا بالتربية.
نحن حينما نطالب بالتربية، ونرى أننا بحاجة إليها، فما المسوغات التي تدفعنا لذلك؟
عندما نقول: إن جيل الصحوة يجب أن يعتني بالتربية، وأن توجه له التربية، وأن تقوم مؤسسات ودراسات وبحوث وجهود لتأصيل النظرية التربوية المتكاملة، ومن خلال برنامج عملي أيضاً، وألا تكون القضية مجرد كلام وطرح نظري معرفي فقط، أقول: عندما نطالب بذلك فإن لنا حججاً ومسوغات:
أولها: كثرة الفتن والمغريات:
إن الشاب الآن يتعرض لفتن كثيرة خاصة في مرحلة المراهقة وما يعقبها، ومن هنا فتراه يعيش صراعاً مع نفسه، وصراعاً مع شهواته، وصراعاً مع هذه الفتن والمغريات التي تؤزه أزاً للفساد وتدفعه دفعاً، ويرى أن هناك عوامل عدة تدفعه دفعاً إلى الرذيلة والفساد، فيرى وسائل الإثارة والإغراء، بدءاً بالأفلام والتلفاز.
وها نحن أقبلنا على خطر داهم يدركه الجميع ألا وهو البث المباشر، فأصبح الشاب الذي قد لا يكون خرج من مدينته، بل قد لا يكون جاوز قريته يدير التلفاز ومحطات الاستقبال، فينقله إلى أوروبا وأمريكا ودول الكفر والإلحاد؛ ليرى الإباحية والتفسخ والانحلال.
وهو خطر قادم أشعر أننا لم ندرك حقاً حجم خطورته، وأشعر أن تعاملنا مع هذا الخطر دون مستوى خطورته، وأخشى أيها الإخوة! أن نحصد النتيجة مرة، من خلال خسارتنا لعفاف بناتنا، وعفاف أبنائنا، وهي قضايا لسنا نتحدث عنها من خلال مبالغة، وها نحن نرى نماذج مرة من الانحلال والفساد والتفسخ والجريمة إنما تحصل من خلال هذه المغريات وهذه المثيرات التي يراها الشاب أو تراها الفتاة.
كم جنينا وعانينا من جراء أفلام الفيديو، والتي تتعرض لمراقبة أياً كانت هذه المراقبة، لكنها تتعرض لمراقبة، وقد يصعب على الشاب الحصول على الفلم الذي يريد، ولكن الآن أصبح العالم كله يعرض بين يديه دون مراقبة، ودون استثناء، في الطعن في عقيدته وأخلاقه وسلوكه، وتعليمه أساليب الجريمة، وسائل الإثارة والإغراء والفتن تعرض أمام ناظريه، فماذا يفعل هذا الشاب؟!
وحينما يذهب إلى أي محل تجاري يرى تلك المجلات الساقطة التي زينت أغلفتها بصور النساء تعرض أمامه، حينما يذهب يمنة ويسرة يرى هذه الفتن تدعوه وتؤزه أزاً.
إن الشاب الملتزم المستقيم يعيش معاناة لا يعلمها ولا يدركها إلا هو، واسمحوا لي أيها الإخوة! لأقول: إن الكثير من الآباء، بل الكثير من الأساتذة، بل الكثير من أهل التوجيه يعيشون بمعزل عن عمق المعاناة التي يعاني منها الشاب، والجحيم الذي يعيشه، ومن هنا فأنت ترى أسئلة الشباب كثيرة، تدور حول الثبات، ومعاني الثبات، والخشية من الانحراف, إلى غير ذلك.
لا شك أن هذا سؤال يبعث على الفهم، ونحن حينما نرى الشاب يشعر بعمق الخطر، لا شك أن هذه بداية لمواجهة هذا الخطر، ولكن مثل هذا التساؤل الذي يطرحه الشاب كثيراً، إنه نتيجة إفراز معين عن شعور من تلك المعاناة العميقة التي يعاني منها الشاب، والتي للأسف لا يجد الشاب من يشاركه هذه المعاناة، فيتحدث مع أبيه، ويطرح على أبيه مطالب، فيرى أنه يعيش في وادٍ ووالده يعيش في وادٍ آخر.
إن الأب يحاكم هذا الشاب المراهق التي تتوقد الشهوة لديه، وقد أشرعت الفتن ناظريها أمام عينيه، يحاكم هذا الشاب إلى نفسه، وإلى عقليته، وإلى ظروفه، وإلى مرحلته التي عاشها، وقد تكون هذه المرحلة مضت بكل مشاعرها ومغرياتها وبكل الفتن وكأنها حلم أو رؤيا رآها، غير أنه عاش مرحلة ومجتمعاً يختلف عن هذا المجتمع، وهذه المعاناة التي يعاني منها الشاب.
أقول أيها الإخوة: إن هذه المعاناة، وهذه الفتن والمغريات التي أصبحت تعصف بالشباب يمنة ويسرة من أهم المسوغات التي تدعونا إلى المطالبة بالتربية الجادة والعميقة، إن هذا الشاب يواجه ألواناً من الفتن والمغريات والضغوط التي تدعوه وتؤزه إلى الفساد، فحينئذٍ يحتاج إلى الثبات، ويحتاج إلى ما يعينه، ليس ثم إلا تلك التربية القوية التي تربي عند الشاب الخوف من الله سبحانه وتعالى، والتضحية لله عز وجل، والصبر، والتحمل، وضبط النفس، والإرادة، كل هذه المعاني بحاجة إلى أن تغرس عند الشاب؛ حتى تكون سلاحاً له بعد توفيق الله سبحانه وتعالى وتثبيته، حتى يقف أمام هذه المغريات وهذه الشهوات.
ولعل قراءتنا وتأملنا السريع في السيرة تعطينا القناعة بذلك، حينما تتأمل مثلاً في حادثة الردة، ترى أن الذين ارتدوا عن الإسلام هم أولئك الذين دخلوا في الإسلام حديثاً، هم أولئك الذين قال الله عز وجل عنهم: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14].
فبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت قبائل من العرب، ولكن أهل المدينة ومكة ومن حولهم من الأعراب الذين قال الله عز وجل عنهم: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [التوبة:120].
أولئك لم نر أحداً منهم ارتد؛ أهل بدر، وبيعة العقبة، وبيعة الرضوان، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار لم نر أحداً منهم عاش هذه الردة اللهم إلا حالات نادرة جداً، لماذا؟ لأن أولئك تعرضوا لتربية قوية عميقة، أما تلك الجموع فكانت يوم أن دخلت في الإسلام حديثاً، ولم تترب التربية الكاملة، ومن هنا عندما جاءت أول فتنة هزت تلك الجموع التي كانت قناعتها غير متكاملة بعد في هذا الدين.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الباحثات عن السراب | 2589 استماع |
الشباب والاهتمامات | 2464 استماع |
وقف لله | 2325 استماع |
رمضان التجارة الرابحة | 2257 استماع |
يا أهل القرآن | 2190 استماع |
كلانا على الخير | 2189 استماع |
يا فتاة | 2183 استماع |
الطاقة المعطلة | 2120 استماع |
علم لا ينفع | 2087 استماع |
المراهقون .. الوجه الآخر | 2084 استماع |