خطب ومحاضرات
تفسير سورة العنكبوت [48-51]
الحلقة مفرغة
قال تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48].
يقول الله لمحمد عليه الصلاة والسلام: إنك يا محمد كما تعلم أنت ويعلم قومك، ويعلم كل من رآك وعرفك، أنك قبل نزول الكتاب إليك، لم تكن تتلو شيئاً من الكتاب، فقد كنت أمياً لا تقرأ كتاباً ولا تكتبه بيمينك، فأعظم معجزة أنك لم تتعلم، ولم تجلس بين يدي شيخ، ولم تقرأ كتابا ولم تكتب بيدك شيئاً.
ومع ذلك وبعد الأربعين من السنين أصبحت محيطاً بعلم الأوائل والأواخر، علم الأنبياء وعلم الكتب السابقة، بل جئت فصححت ما كان عندهم من كذب، وتحريف، وتغيير، فعلمت علم خلق الدنيا، وخلق السموات والأرض.
وعلمت الله جل جلاله بنعوته وصفاته وبمقامه جل وعلا وأنه الخالق الواحد الذي لا شريك له، وعلمت ما كان بعلم الله لك وما سيكون، وعلمت من شأن الأمم قبلك والأمم بعدك ما علمكه الله بما أنزل إليك من هذا الكتاب الكريم، الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42].
هذا الكتاب المعجز في لفظه، والمعجز في معناه، جئت به وأنت الأمي، كما يقول العارف:
كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم
فيكفي معجزة لنبينا عليه الصلاة والسلام أنه وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب جاء بعلم لم يأت به أحد قبله: لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وكل ذلك قد صادق خبره الخبر، سواء فيما مضى أو فيما هو آت.
فقد جاءكم بكتاب فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، والفصل فيما بينكم، هو الجد ليس بالهزل، ما تركه من جبار إلا وقصمه الله، فيه الحق الصراح في الخبر والنبأ والحكم، والعقائد والقصص والآداب والرقائق.
قوله: إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48].
أي: لو كان النبي يكتب ويقرأ لقال أهل الباطل من أهل الشرك ومن يهود ونصارى: لا غرابة فيما جاء به محمد، فهو قد قرأ كما يقرأ الناس، وكتب كما يكتب الناس، وحضر مجالس العلماء، فهو يقرأ ويكتب.
ولكن لما كان الأمر ليس كذلك كانت المعجزة مما ظهر في عقول العقلاء قبل غيرهم، وكانت أعظم معجزة أتى بها هي القرآن، فلم يأت من قبله إلا بمعجزة قد انتهى زمانها، كعصا موسى وناقة صالح وما إلى ذلك، ولكن المعجزة الدائمة الباقية ما بقيت الدنيا هي هذا الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فأعظم المعجزات التي كانت والباقية إلى يوم القيامة هي هذا الكتاب الذي تحدى الله الخلق جنهم وإنسهم أن يأتوا بمثله، أو بسورة منه، أو بعشر آيات منه، فعجزوا وما استطاعوا.
والتحدي لا يزال قائماً منذ ألف وأربعمائة عام، فلم يستطع أحد أن يجاري القرآن في فصاحته وبلاغته وإعجازه، لا القريب من اللغة العربية، ولا البعيد عنها.
قال الله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ [العنكبوت:48].
أي: لم تكن تتلو كتاباً وتقرؤه من قبل القرآن الكريم المنزل إليك.
وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت:48].
أي: ولم تكن تكتب بيمينك، وذكر اليمين هنا هو في الأغلب وإلا فبعض الشواذ يكتب باليسار، والمقصود أن النبي لم يكن يكتب قط.
والخط باليمين هنا المراد به الكتابة، بمعنى أنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وكونه لا يقرأ ولا يكتب هو ما جاء ذكره في القرآن الكريم، وجاء في التوراة والإنجيل قبل ذلك، وأجمع عليه المسلمون قاطبة، حتى لقد قالوا: من زعم أن محمداً يقرأ ويكتب فهو كافر بالله، إما أن يتوب إلى الله وإما أن يقتل على الردة.
وقد زعم أبو الوليد الباجي من علماء الأندلس في القرن الخامس أن النبي عليه الصلاة السلام كان يقرأ ويكتب، وقال هذا الكلام وهذا الهراء وهذا الجهل على جلالته وعلمه ومكانته بين المفسرين والمحدثين والعلماء والفقهاء.
وقد أخذ ذلك من كلمة ذكرت في صحيح البخاري ، وذلك عندما اتفق النبي صلى الله عليه وسلم مع خصومه وأعدائه من كفار مكة أن يكتبوا معاهدة الحديبية، وكان الكاتب للرسالة هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له النبي: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله، وإذا بسفير قريش يقول: اكتب: باسمك اللهم كما كان يكتب سلفك وقومك، ثم قالوا له: اكتب اسمك واسم أبيك كما يكتب الناس، ولو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، وكان علي قد كتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فغيرها باسمك اللهم، فقال له النبي: امح رسول الله واكتب: هذا ما عاهد عليه محمد بن عبد الله ، فامتنع علي وقال: والله يا رسول الله لن أمحو رسالتك لا في قول ولا في عمل.
في رواية عند البخاري : فمحاها النبي صلى الله عليه وسلم وكتب: محمد بن عبد الله ، وفي الرواية الثانية في البخاري : فأمر رسول الله غير علي بأن يمحوها ويكتب اسمه واسم أبيه، فجاء الباجي فقال: قد كتب رسول الله: محمد بن عبد الله ، فنسب الكتابة للنبي، وقال: كانت تلك معجزة لرسول الله. وهذا فهم أعوج لأمرين:
أولاً: أن المعجزات لا تتضارب، فالمعجزة كانت في كونه أمياً، لا في كونه قارئاً، فلو اعتبرنا المعجزة انقلبت من أمي إلى قارئ وكاتب لكان هناك تضارب، والمعجزات لا تتضارب.
ثانياً: أنه لو كان يكتب لدخل في عموم الآية: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48].
إذاً: لو كان يقرأ ويكتب لتشكك وارتاب في صدق رسالته ونبوءته المبطلون البعداء عن الحق من أهل مكة وغيرهم من الوثنيين ومن الكتابيين، ولذلك قامت ضجة على هذا الرجل في المشارق والمغارب، وخطب الناس على المنابر في تكفيره وفي شتمه، وقال بقوله اثنان أو ثلاثة، وذكروا حديثاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما مات حتى تعلم القراءة والكتابة).
وهذا حديث باطل لا أصل له ولا سند له، ولا مخرج له، وهو من الأكاذيب التي كذبها الزنادقة أو الجهلة، وفي هذه النتائج دائماً يلتقي الجهلة مع الزنادقة.
وعلى ذلك فالقرآن صرح هنا بأنه لم يكن يقرأ كتاباً، ولم يكن يكتب كتاباً قبل نزول القرآن عليه.
وهو بذلك عندما جاءه الوحي بلغ الرسالة، ونشر علوم الأولين والآخرين، ونطق بما جاء به القرآن عن الله، وكان له أكثر من عشرين كاتباً يكتبون الوحي عندما ينزل عليه، ويكتبون الرسائل بينه وبين أمراء الأقاليم والملوك .. يدعوهم إلى الله الواحد الذي لا شريك له.
أما أنه يكتب ويقرأ فالقرآن صريح في عدم ذلك، وقد وصفة الله في التوراة والإنجيل من قبل أنه أمي، قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157].
وجاءت صفة رسول الله في التوراة والإنجيل كما يقول الله: إنه النبي الأمي، والأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، ومع أميته وصفه القرآن بأنه رسول ونبي، وأنه جاء ليأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، وينهاهم عن الخبائث، ويرفع عنهم إصرهم، أي: ما كان في دينهم مما لا تكاد تحتمله الناس من شدة وقسوة في عبادتهم.
والأغلال التي كانت عليهم: كانوا عبيداً للملوك مستذلين، قويهم يأكل ضعيفهم، وغنيهم يستبيح مال فقيرهم، إلى أن جاء النبي عليه الصلاة السلام، فرفع هذا من الكون كله، ورفع الظلم الذي كان في ديار العرب، وأمر برفعه من ديار الروم والفرس، فامتثل أمره الخلفاء الراشدون عندما ذهبوا فاتحين في أقطار الأرض، ناشرين رسالته وأمره ونهيه صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت:49].
الجحود: نكران الحق بعد العلم به، وقد كان هكذا كفر اليهود والنصارى، بعد أن وجدوا صفته في التوراة والإنجيل كما ذكر القرآن.
والعرب علموا حياته، وقد عاش عمراً من حياته بينهم، وما كان يعرف بينهم إلا بالصادق الأمين، وفجأة أخذوا يشتمونه ويكذبونه، عتواً في الأرض وفسادا.
وقد آمنوا بصدقه واعترفوا به، ولكنهم جحدوا الحق، فكفروا به وبما أتى به، قال تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت:49].
بل: للإضراب، بمعنى: بل علم محمد والرسالة المحمدية، والقرآن الكريم بما فيه: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49].
أي: آيات بينات ظاهرات واضحات: فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49].
فهذا القرآن وهذه الرسالة المحمدية هي بالنسبة للمسلمين أتباع محمد لا يحتاجون فيها إلى كتاب ولا ورق، بل هي في صدورهم، يحفظونها حفظاً عن ظهر قلب.
فهكذا كان العرب المسلمون، فقد عرفوا بأن القرآن الكريم يحفظه الكبار والصغار، وحتى مع فساد الزمن ونشر الكفر، وإذاعة النفاق لا يزال في جميع العوالم، ولا تخلو بقعة من أرض إلا وفيها مسلمون يحفظون القرآن الكريم، أو فيهم من يحفظ القران الكريم، هذا على ما أصيب به المسلمون من جهل وكفر ونفاق.
فتجدهم يحفظون كتاب الله في صدورهم.
وهناك من الآثار والأحاديث ما يزيد هذا بيانا، ففي الحديث النبوي: (أناجيل أمتي في صدورها) .
الإنجيل الذي عرف عند النصارى أنه كتاب ربهم، هو بالنسبة للمسلمين في صدورهم، يحفظونه غيباً ويتلونه صباحاً ومساء، يحفظون لفظه، ويحفظون معناه، وشرحه وبيانه.
يحفظون شرحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من سنته، ويحفظون شرحه وتفسيره من الآيات التي يفسر بعضها بعضا.
ويحفظون تفسيره من لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم.
يعلمون أفعاله ومصادره، أسماءه وحروفه، فيستنبطون المعنى حلالاً وحراماً، قصصاً وعقائد وآداباً ورقائق، ولا يعرف هذا في غير الأمة المحمدية، وفي العرب بصفة خاصة قبل غيرهم، فلقد كان سلفنا الصالح يحفظون كتاب الله عن ظهر قلب، ويحفظون مع كتاب الله مئات الآلاف من الأحاديث النبوية.
كان مالك بن أنس يحفظ السنة النبوية، وكان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، وكان الشافعي يحفظ مئات الآلاف من الأحاديث.
كان أبو حنيفة على طعن أعدائه في حفظه للسنة يحفظ الآلاف من الأحاديث، وعليها بنى فقهه واستنباطه واجتهاده، لا كما زعم ابن خلدون الدخيل في دينه وإسلامه بأن أبا حنيفة لم يكن يحفظ من السنة إلا سبعة عشر حديثاً.
قال: وعليها بنى فقه وحديثه وإسلامه، وبذلك زعم وأفسح المجال لمن جاء بعده بأن قالوا: فقه الأحناف كله الرأي، وليس معتمداً على السنة، والإمام أبو حنيفة لم يكن يعرف السنة، وفقهه اجتهادات واستنباطات لا ترجع لدليل من السنة قط، فجاء الكفرة والمنافقون في عصرنا فقالوا: فقه أبي حنيفة فقه الرومان، وهو فقه حمورابي، وخرجوا به عن الدائرة الإسلامية الفقهية جميعها، فكذبوا على الله وافتروا!
الزيلعي الإمام الحجة العلم المرجع، وهو حنفي المذهب، بل إمام من أئمة الحنفية، خرج فقه الأحناف في عصره، وإذا به يأتي بعشرات الآلاف من الأدلة مما استدل بها أبو حنيفة وأصحابه، وذلك في كتابه المسمى بنصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، وهو في أربعة مجلدات، مطبوع أجمل الطبعات، حرفاً وورقاً، والمحقق له أحد أصدقائنا من علماء الحديث في باكستان: محمد يوسف البنوري الذي توفي حديثا، رحمه الله وجزاه عن مذهبه وعن المسلمين خيرا.
وقبله الإمام الطحاوي، فقد جاء إلى كتابه شرح معاني الآثار، وإلى غيره، فخرج واستنبط وشرح وفسر من فقه الأحناف ما استدل به الإمام في عشرات الآلاف من الأحاديث.
ومما أكرمت به منذ ثماني عشرة سنة وأنا في جامعة دمشق أن خرجت أحاديث الأحناف في كتاب التحفة السمرقندية: تحفة الفقهاء للسمرقندي، فطبعت في أربعة مجلدات، طبعتها جامعة دمشق، وعلى ذلك فالأئمة الأربعة يحفظون كتاب الله عن ظهر قلب، ويحفظون السنة النبوية، وكان كذلك السلف الصالح منذ عصر الصحابة والتابعين.
فـأبو هريرة راوية الصحابة كان يحفظ سبعة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثا، وهو أروى الصحابة على الإطلاق.
لا تجد كتاباً في السنة من الصحاح إلى السنن إلى المعاجم إلى المصنفات إلا وتروي عن أبي هريرة .
واعترف له الكبار من الصحابة بأنه لزم رسول الله، وجالس رسول الله، وتعلم من رسول الله، وما اشتغل بتجارة ولا زراعة، فكان ليله ونهاره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب كل ما سمع، بل ويحفظه عن ظهر قلب، وكانت الكتابة طارئة.
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يحفظ عن رسول الله كذلك كل ما يسمعه، فكتب ما سماه الصادق، وهو أول كتاب دون في الإسلام، في حياة النبي عليه الصلاة السلام.
وكان مشتملاً على ألفي حديث، ولا نجد كتاباً بهذا الاسم، ولكنها أحاديث وزعت ورويت في الصحيحين: البخاري ومسلم ، وبقية الكتب الستة، وجميع أمهات السنة، لم يضع منها حديث واحد.
بل أكثر من هذا أن أدباء العرب ورواة العرب يحفظون من الشعر، ومن اللغة ما يتجاوز عشرات الآلاف من القصائد والمقطعات، والأراجيز والأبيات.
جاء مرة بدوي إلى عبد الملك بن مروان ، فدخل عليه، فوجده في هيئة زريئة كالأعراب خاصة إذا كانوا مدقعين فقراء، فقال: من أنت؟ قال أنا راوية العرب، قال: أنت راوية العرب؟ قال: نعم أنا روايتهم، قال: ما تحفظ؟ قال: ما الذي تريد، أشعر قريش أم شعر العرب؟ وإذا به يأمر بأن يحضر الأصمعي ، وأن يحضر رواة العرب الكبار، وبأن يسمعوا منه.
فقال له: أريد أراجيز بني تميم خاصة، وهم أهل نجد آنذاك، فأخذوا يحصون عليه وإذا به يروي من حفظه، فهماً وإدراكاً وشرحاً للمفردات اللغوية، وللتعابير اللغوية، ويعلم اسم شاعر كل قصيدة، وما هي حياته، وفي أي عصر كان، وكيف كان، ومتى مات، وفي أي بلدة مات، إلى أن سمعوا منه عشرات المئات بل الآلاف من أراجيز العرب وحدها.
هذه صفة أكرم الله بها العرب، ثم أكرم بها المسلمين كافة ممن درس العربية، ودرس الإسلام جيدا، قال تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49].
أي: هو آيات واضحات بينات في صدورهم يحفظونها، ويحفظون أحكامها، ويحفظون ألفاظها، ويحفظونها لمن يأتي بعدهم، وهكذا حفظ القرآن في الصدور جيلاً بعد جيل إلى عصرنا.
يحكون عن يهودي أراد أن يختبر صحة سماع الأجيال التوراة والإنجيل والقرآن، فجاء إلى عالم يهودي فأخبره، وحضر معه جماعة من أمثالة، قال: اقرأ علي من التوراة، فقرأ من التوراة نفسها، وأخذ يتلكأ ويزيد وينقص، والحاضرون لا يرد عليه منهم أحد، مما يدل على أنهم لم يحفظوا شيئاً من التوراة.
ثم اتصل بعالم نصراني، ومعه جماعة مثله، فقال: اقرأ علي من الإنجيل، فأخذ يقرأ متلكئاً والحاضرون لا يزيدون على قوله ولا ينقصون، مما يدل على أنهم لم يحفظوا شيئاً، ثم جاء إلى مسلم عامي بين مجموعة من الناس، فقال: اقرأ علي من المصحف، قال: لا حاجة للمصحف، فمصحفي صدري، وأخذ يقرأ وإذا أخطأ في كلمة إذا بالحاضرين جميعاً يردون عليه، وإذا باليهودي يقول: أشهد أن الإسلام حق، وأن القرآن حق، وأنه لم يستطع أحد على مر القرون أن يغير في القرآن كلمة واحدة، أما التوراة والإنجيل فقد غيرت في العصور الأولى.. في العصر الثالث بعد موسى وعيسى، حتى غيرت وبدلت في أصولها وجوهرها، بدلت من التوحيد إلى الشرك، من الأخلاق الفاضلة إلى الأخلاق الزائفة، من احترام الأنبياء وتقديرهم إلى شتمهم وسبهم.
فالتوراة والإنجيل قد غيرتا وبدلتا في الجوهر وفي الكم والكيف.
أما القرآن الكريم فنحن الآن في أواخر القرن الرابع عشر، وما زال يقرأ في التراويح في كل بقاع الأرض.
باللفظ الواحد وبالحركة وبالمدة، وكما كان يقرؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، وفي مسجده، وبما كان يتلوه ويقرؤه بعده خلفاؤه الراشدون، وأصحابه الأكرمون، والتابعون فمن جاء بعدهم إلى عصرنا.
تلك معجزة المعجزات الخالدة التالدة في الإسلام، وكل معجزة سواها فهي خاصة بزمن نزولها، وقد ماتت مع أصحابها، ولم تبق إلا كسيرة نبوية.
وأما المعجزة التي رأوها، ورأيناها، ويراها أسباطنا وأولادنا بعدنا وإلى يوم القيامة فهي القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49].
فهؤلاء لا يحتاجون إلى كتابة.
والكتابة ليست إلا لمن لا يحفظ، والقرآن محفوظ في الصدور، وحفظه في السطور وفي التفسير، وفي البيان، ولذلك حفظ القرآن لفظاً وبيانا.. لغة وحركات ووقفات، ولم يلغ منه شيء، ولم ينقص منه شيء، ولم يزد عليه شيء، ومن حاول أن يقرأ ما لا يقرأه الناس قام الناس في وجهه معترضين عليه سواء كانوا صغاراً أو كباراً؛ لأنه لا يمكن للقرآن أن يخطأ فيه أو أن يغير، وجل من لا يسهو، وليست كذلك الكتب الأخرى.
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49].
أي في صدور العلماء. والله هنا استشهد بالعلماء، ومن أجل ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (العلماء ورثة الأنبياء).
النبي عليه الصلاة السلام حفظه عندما نزل عليه وحياً من الله، ثم تلقاه العلماء بعده، فحفظوه لفظاً ومعنى، وهكذا بقي في صدورهم جيلاً بعد جيل وسيبقى إلى يوم القيامة.
وكل من حفظ القرآن من قارئ وغير قارئ، فهو عالم به، إما بحفظه، وإما بحفظه وبيانه.
قال تعالى: وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت:49].
فمرة أخرى ذكر الجحود، والجحود معرفتك للشيء، ثم إنكارك له.. ظلماً وعتواً وفساداً في الأرض.
وهذه الآية تتحدث عن هؤلاء الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ومن كفر به بعده وإلى عصرنا وإلى يوم القيامة، فقد علموا صدق نبينا، وصدق القرآن المنزل عليه، وأنه من الله، ومع ذلك حسدوه بغياً وجحوداً، فبقوا على كفرهم، تائهين ضالين: وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت:49].
والظالم هنا الكافر، والكفر أشد أنواع الظلم، وهو أظلم الظلم.
بعد أن علم المشركون ما علموا، وأدركوا ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أخذوا ينتقدون، قال الله تعالى: وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [العنكبوت:50].
أخذوا يقولون: إن كان محمد رسولاً فأين معجزاته؟ أين العصا التي أوتيها موسى؟ وأين الناقة التي أوتيها صالح؟ أين الناقة التي تشبهها؟ وهكذا أخذوا يزيفون ويقلبون الحقائق، ويقولون ما لا أصل له مما أوحى إليهم به شياطينهم.
قال الله له: يا محمد! قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ [العنكبوت:50].
أي: لست أنا الذي آتي بالآيات، فالآيات والمعجزات والمكرمات الواضحات، والتي تعجز الخلق والبشر هي من الله، وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [العنكبوت:50].
لست إلا نذيراً لكم ولأمثالكم ممن كفر بالله، وجحد دين الله، وأبى إلا الكفر، أنذركم يوم القيامة، وأنذركم عذاب الله الخالد الدائم.
قال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت:51].
قال الله: قل لهم يا محمد: أولم يكفهم؟ وهذا استفهام إنكاري توبيخي تقريعي، بمعنى: ألم يكتفوا بنزول القرآن الكريم الذي أنزلناه عليك، يتلى عليهم؟ يسمعون كلامه، ويسمعون وحيه، ويسمعون حلاله وحرامه، ويقرأ عليهم صباحاً وعشياً، ويدعون به إلى الله.
هذا القرآن المعجز الخالد الذي لم يستطع الجن والإنس -وقد تحداهم الله- أن يأتوا بمثله، أو بسورة من مثله، أو بعشر آيات من مثله، فلم يستطيعوا.
هذا القرآن الذي جاء به محمد النبي الأمي، الذي لا يقرأ ولا يكتب فيه علم من قبلكم ونبأ ما بعدكم وحكم ما بينكم، ما تركه من جبار إلا وقصمه الله، من أين أتاه هذا العلم، وأنتم تعلمون أنه لم يقرأ، ولم يكتب، وعاش أربعين عاما ولا يعرف إلا ما يعرفه قومه، وقومه كذلك أميون؟ يقول النبي عليه الصلاة السلام عن العرب: (إنا أمة أمية، لا نقرأ ولا نكتب).
هؤلاء الذين في مكة جميعهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون، ومن تعلم منهم بعد أن خرج للخارج لن يكتب إلا سطراً أو سطرين، وأشبه بكتابة الأمي.
ومرة قالوا: هناك قين رومي كان يجلس إليه، ويستكتب ما يقوله، ولكن هذا الرجل لا يكاد يبين، فليس بعربي، ولا يفهم القول، وهو جاهل، وبعيد عن المعرفة، ولا ينطق بالعربية. فهذا الكتاب الكريم كيف أتى به؟
وهنا قال النبي عليه الصلاة السلام -فيما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم في صحيحيهما-: (ما من نبي من الأنبياء إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر -أي: من المعجزات- وإنما كان الذي أوتيته وحياً، وأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة).
وهذا القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو المعجزة الشاهدة في كل عصر وأوان على أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أتى بالمعجزات الكثيرات، خاطبه الدواب وفهم عن الدواب، وسجدت له الدواب، واشتكى له الجمل، واشتكى له الذئب، بل إن المنبر الذي كان يخطب عليه في المدينة المنورة عندما حاولوا أن يزيلوه ويأتوا بغيره حن حنين الناقة التي يفصل عنها فصيلها حتى سمع حنينه كل من في المسجد.
النبي عليه الصلاة السلام حضر مغازي وحروبا، فلم يجدوا أكلا، ولم يجدوا شراباً فدعا بما عندهم، فأتوا بكسر قليلة، والجيش فيه المئات، فوضع يده وقال: باسم الله، فأكل جميع الحاضرين، وبقي الكثير من الخير.
ولم يجدوا الماء، وكادون يموتوا عطشاً، فوضع يده وسمى الله، وإذا بالماء يفور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، كما تفور العيون من الأرض، فشرب الجميع.
النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري ، وهو متواتر عن أكثر من عشرة من الصحابة- (صلى الصبح ثم صعد المنبر، فبقي يخطب إلى أذان الظهر، فنزل فصلى الظهر، ثم عاد إلى المنبر، فبقي يخطب إلى أذان العصر، فنزل فصلى العصر، ثم صعد المنبر، فبقي يخطب إلى أذان المغرب، فنزل وصلى المغرب واكتفى)، قال عمر بن الخطاب ، وأبو هريرة ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبو عبيدة عامر بن الجراح ، وسعد بن معاذ ، وحذيفة بن اليمان ، قالوا: لقد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان ويكون إلى قيام الساعة، ومنذ بدأ الخلق، إلى نهاية الدنيا، إلى حساب الناس، إلى أن دخل من دخل الجنة، ودخل من دخل النار.
لقد حدثنا بما يكون بعده، وما من قائد فتنة ومعه رجل أو رجلين أو أكثر إلا وحدثنا باسمه، وبنسبه، ومتى كان.
كان ذلك من رسول الله وحياً وإخباراً من الله: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27].
وتكررت مثل هذه الخطبة، وحدث بالفتن الحادثة بعده، من قتل عثمان إلى استشهاد علي إلى الفتن التي كانت أيام الصحابة، إلى استشهاد آل البيت، إلى ما صدر عن بني أمية، إلى ما حدث بعد ذلك في بني العباس ، إلى أن أخبر عليه الصلاة والسلام بأنه: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة على قصعتها، قيل: يا رسول الله، أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت).
قال هذا والمسلمون في إقبال، ولم يمض على قوله بضع سنوات إلا وأصبح الإسلام يحكم العالم، من أقصى الصين إلى أقصى ديار الغرب، وما بينهما.
فكان هذا عندما يذكر لا يكاد يخطر ببال، كيف سيصل بنا الحال إلى ما نحن فيه، تداعت علينا الأمم من كل جانب، حتى اليهود وهم أذل الخلق وعبدة الطاغوت، لماذا؟
الجواب: لبعدنا عن الله، ولكراهيتنا للموت، ولعدم حربنا وقتالنا لأعدائنا، ولخروجنا عن أمر الله وطاعته، فهي عقوبة لا نخرج عنها إلا إذا تبنا إلى الله وعدنا إليه.
قال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت:51].
أي: ألم يكفهم من هذه المعجزات هذا الكتاب الكريم، وهذا القرآن العظيم، وهم أفصح الناس، وأبلغ الناس، وأشعر الناس، وأخطب الناس، وهم أدرى الناس بالبلاغة، وأدرى الناس بالفصاحة؛ من أين لمحمد هذا؟ لقد عاش بينهم أربعين عاما، فلم يكن خطيباً، ولم يكن شاعراً، ولم يعلم الشعر حتى بعد ذلك: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69].
فإذا به فجأة ينزل عليه الوحي، ويأتيه جبريل إلى غار حراء، وينزل عليه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1].
ثم يتتابع الوحي، ويظهر النور، والعلم، والمعارف في كل حركاته وسكناته من فعله وقوله وإقراره.
وكانوا يحاولون سماع القرآن، ولا يريدون أن يسمعوه من النبي وهو يراهم، فكانوا يذهبون إلى داره وهو يتهجد به ليلاً، ويرفع به صوته كما هي صلاة التهجد ليلاً، فيتجمعون وينصتون، إلى أن افتضحوا.
فكان يأتي أبو سفيان ، وأمية بن خلف ، وأبو جهل وآخرون، وإذا بهم يلتقون صدفة واتفاقاً، ويعرف كل منهم أن الآخر يأتي لسماع القرآن، فأخذوا يقولون: والله لقد قرأنا الشعر، وما هو به، وقرأنا أراجيز العرب وما هو بها، وقرأنا خطب الخطباء، وما هو بها، والله إن عليه لحلاوة، وإن له لطلاوة، ولو سمعته الجن لآمنت به. وهذا الذي حدث.
فقالوا للوليد : إذاً ماذا ترى؟ قال: أقول: هذا سحر، وهكذا الضلال والغواية، وهكذا إذا لعن الله قوماً طرد النور من قلوبهم بعد معرفته، ولذلك عبر الله بالجحود: َمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ [العنكبوت:47]، وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت:49].
ولقد قال بعد ذلك عليه الصلاة السلام (إن من البيان لسحراً).
أي: من البيان وشدة الإيضاح ما يسحر عقول الناس، فلا يميزون بين حق وباطل، ولا بين نور وظلمة.
قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:51].
أي: في القرآن الكريم، وفي هذا الوحي الكريم، لمن آمن به، فيخرجه من الظلمات إلى النور، ومن الباطل إلى الحق، ومن الوثنية إلى التوحيد.
قوله: وَذِكْرَى أي: تذكيراً لما فيه من وعيد وتهديد.
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يذكرهم بأنهم لو لم يؤمنوا، ولو لم يصدقوا أن محمداً رسول الله وخاتم الأنبياء، وأن القرآن الذي أتى به هو من عند الله؛ لعاشوا في الظلمات.
فهو رحمة وذكرى لقوم آمنوا بالحق عندما سمعوه، وشهدوا بالأدلة العقلية الواضحة، وهكذا كان القرآن أكبر المعجزات، وأعظم المعجزات، وأخلد المعجزات.
استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة العنكبوت [52-60] | 2267 استماع |
تفسير سورة العنكبوت [28-33] | 2194 استماع |
تفسير سورة العنكبوت [22-27] | 2161 استماع |
تفسير سورة العنكبوت [41-45] | 1813 استماع |
تفسير سورة العنكبوت [61-69] | 1770 استماع |
تفسير سورة العنكبوت [1] | 1705 استماع |
تفسير سورة العنكبوت [1-7] | 1538 استماع |
تفسير سورة العنكبوت [18-22] | 1490 استماع |
تفسير سورة العنكبوت [46-47] | 1218 استماع |
تفسير سورة العنكبوت [8-11] | 1178 استماع |