شرح زاد المستقنع باب الغسل والتكفين [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

يقول المصنف عليه رحمة الله: [ومحرم ميت كحي، يُغسل بماء وسدر]:

تقدم بيان الأحكام المتعلقة بغسل الميت، وبعد أن بين المصنف رحمه الله صفة الغسل وهي الصفة التي يمكننا أن نصفها بأنها عامة، شرع رحمه الله في بيان الصفة التي تتعلق بالنوع المخصوص، وهو المحرم، والمراد بالمحرم: من تلبس بالإحرام، فدخل في أحد النسكين، الحج أو العمرة.

ثم إن المصنف رحمه الله لما بدأ بالصفة العامة، وأتبعها بالصفات الخاصة دلنا ذلك على المنهج الفقهي، وهو أن الإنسان إذا أراد أن يبين أمرين: أحدهما عام، والثاني خاص، أن يبين القاعدة العامة أولاً، ثم بعد ذلك يبين ما استُثني من هذا العموم، أو هذه القاعدة.

فبعد أن بين لنا صفة الغسل عموماً قال رحمه الله: (والمحرم كحي) أي: أن المحرم حكمه حكم الحي إذا مات، وذلك من جهة كونه يُمنع من الطيب ويُمنع من إلباسه المخيط، كما سيأتي -إن شاء الله- تفصيله.

قوله: [ومحرم ميت كحي]: المحرم وصف إنما يصدق على الإنسان إذا تلبس بأحد النسكين وهما الحج أو العمرة، ولذلك يقال: أحرم بالشيء إذا دخل في حرماته، كما يقال: أنجد إذا دخل نجداً، وأتهم إذا دخل تِهامة.

فالعلماء -رحمهم الله- يقولون: أحرم إذا نوى أحد النسكين أو هما معاً.

بناءً على ذلك: لو أن الإنسان نوى العمرة أو نوى الحج فخرج دون أن يصل إلى الميقات، أو قبل أن يصل إلى الميقات ثم توفي، أو كان في الميقات واغتسل من أجل أن ينوي، ثم توفي، فإننا نعامله معاملة الحي الذي ليس بمحرم، ونغسله بالصفة التي تقدمت، ولا يحضر علينا أن نمسه بالطيب وغيره من محظورات الإحرام.

فيشترط أن يكون المحرم قد تلبس بالنسك، فلو خرج لأجل العمرة كأن يخرج من مكة إلى الحل سواءً التنعيم أو غيره، ثم في الطريق توفي، فإننا نعامله معاملة الحلال، والعكس بالعكس، فلو أنه نوى ثم بعد النية مباشرة توفي، كما إذا لبى بأحد النسكين أوهما معاً فقال: لبيك حجاً، أو: لبيك عمرةً، أو: لبيك عمرةً وحجاً، ثم توفي فإنه بعد دخوله في نسك الإحرام نحكم بكونه يعامل معاملة المحرم سواءً بسواء، كذلك أيضاً لو مضى فأتم عمرته، وقبل أن يتحلل ولو بلحظة واحدة توفي، كأن يكون طاف وسعى بين الصفا والمروة، ثم توفي قبل أن يحلق أو يقصر فإنه لا زال في حكم المحرم، ونعامله معاملة المحرم، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله.

ولو أنه في الحج رمى جمرة العقبة ثم توفي ولم يتحلل، أو توفي عشية عرفة كما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو ليلة العيد، فإننا لا نحكم بمعاملته معاملة الحلال، بل نبقيه على حكم المحرم، ونحكم بالمحظورات في حقه كما نحكم بها في حق الحي.

يقول رحمه الله: [ومحرم ميت]: يعني إذا مات المحرم.

[كحي]: أي: حكمه حكم المحرم الحي، فلا نمسه بالطيب، ولا يخمر وجهه، ولا يغطى رأسه، وكذلك بقية المحظورات، والأنثى والرجل في المحظورات كل على تفصيل.

والأصل في هذا الحكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان واقفاً بعرفة، ووقف معه أصحابه رضي الله عنهم فسقط رجل من على دابته فوقصته فقتلته، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخبره، فقال عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا وجهه، ولا تغطوا رأسه) وفي رواية السنن: (ولا تمسوه بطيب فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) فلما قال عليه الصلاة والسلام: (فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) اعتبرها الأصوليون رحمة الله عليهم بمثابة التعليل، أي: أمرتكم أن تنزلوه بهذه المنزلة، وأن تحظروا عليه هذه الأمور؛ لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، فكأنه يقول لهم: حكمه حكم المحرم سواءً بسواء.

فلذلك قال المصنف رحمه الله يجمل هذه الأحكام: [ومحرم ميت كحي] أي: في تغسيله وما يُحظر عليه كالحي.

وقوله: [يغسل بماء وسدر]:

لأنها السنة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر)، وللسدر خاصية في طرد الهوام وكذلك في جلد الإنسان وظاهر بدنه.

قوله: [ولا يُقَرَّب طيباً]: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تمسوه بطيب) فهذا يدل على أنه لا يطيب، ولأن المحرم يحظر عليه الطيب، وهذا نص حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس) فنهى عليه الصلاة والسلام عن الطيب في البدن والطيب في الثياب.

وقوله: [ولا يُلْبَسُ ذكرٌ مخيطاً]:

ولا يلْبس الذكر المخيطَ، فالذكر محظور عليه المخيط، والمخيط: ما أحاط بالعضو، وليس المراد به أنه يُخاط، كما سيأتي تفصيله في الحج، فبعض الناس يظن أن المخيط: ما فيه خيط، وهذا خطأ، فما من ثوب إلا وفيه خيوط، وإنما المراد بالمخيط: ما أحاط بالعضو، ودليلنا على هذا الأمر الذي نص عليه جماهير العلماء أن المخيط أو الثوب الذي يحيط بالعضو محظور: أن النبي صلى الله عليه وسلم حظر إحاطة العضو في أعلى البدن، وإحاطته في أوسطه، وإحاطته في أسفله، وإحاطته كله، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تلبسوا القمص -والقميص كان لأعلى البدن- ولا العمائم -وهي تحيط بالرأس- ولا السراويلات)، فمنع من إحاطة أسفل البدن بقوله: (السراويلات) وأعلى البدن بقوله: (القمص)، وأعلى أعلاه بقوله: (العمائم)؛ لأن العمامة ليست مخيطة، وإنما تحيط بالرأس وتغطيه، ومن ثم قال العلماء: إنه إذا أحاط بالعضو فإنه يأخذ حكم المخيط، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ولا البرانس)، وهذا من دقته عليه الصلاة والسلام في اختيار المناسب للحكم، وهو من أمثل ما يكون في الشمولية في منهج التشريع.

ووجه ذلك: أن الثياب منها ما يتعلق بأعلى البدن، ومنها ما يتعلق بأسفله، ومنها ما يجمع الجميع؛ فالبرنس فيه غطاء للرأس، وفيه غطاء لجميع البدن، ففصل كل جهة.

وعلى هذا فإن من الأخطاء الشائعة الذائعة الآن والتي أصبحت تنتشر: تفصيل ثياب الإحرام بوجود ما يجعلها في حكم الفوط، وهذا النوع الذي انتشر الآن يُجعل له أزارير، فيأتزر بإحرامه ثم يظن أن هذا خارج عن المخيط، فوضعوا له زراً من الحديد، وهذا من وهمهم، فيظنون أن المخيط ما كان فيه خيط، والواقع أن المراد بالمخيط: ما أحاط بالعضو.

ومن لبس المخيط فإن عليه الفدية، ومن لبس هذه الأزر التي يكون فيها الحديد فإنها تأخذ حكم ما فصل للبدن؛ لأنها تعتبر كالمحيطة بالبدن، لأنها فصلت على البدن تفصيلاً لا على سبيل الإزار المعهود المعروف.

وقوله: [ولا يُغطى رأسه]:

لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس العمائم، والعمامة تغطي الرأس، وسميت عمامة لأنها تعم الرأس بالغطاء.

[ولا وجه أنثى]:

هذا على الأصل في الإحرام في حديث عبد الله بن عمر في صحيح البخاري: (ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين) على أن المرأة في الإحرام إحرامها في وجهها وكفيها، فإذا رأت الرجال الأجانب سدلت، كما في حديث أسماء رضي الله عنها وكذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وحديث أسماء أقوى من حديث أم المؤمنين عائشة : (أنهن كن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا مر بهن الركب سدلت إحداهن خمارها)، فدل على أن السدل يستثنى من هذا، وعلى هذا فإنه لا يُغطى.

وقوله: [ولا يغسل شهيد]:

شرع رحمه الله في بيان الأحكام الخاصة بالشهيد، والمناسبة بين الشهيد والمحرم، أن كلاًّ منهما فضله الله عزَّ وجلَّ، وشرفه وكرمه وخصه بهذه الخصائص.

فالمحرم لا يعامل معاملة الحلال، تشريفاً له وتكريماً وعاجل بشرى، ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: (فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) أي: يبعث على هذا الخير، وعلى هذه الطاعة التي قبض الله روحه وهو متلبس بها.

كذلك فإن الشهيد به آثار طاعة، وآثار قربة هي من أحب القربات وأجلها عند الله تبارك وتعالى، وهي الشهادة في سبيل الله عزَّ وجلَّ.

والشهيد سمي شهيداً: قيل: لأن الملائكة تشهده، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جابراً رضي الله عنه لما قتل أبوه يوم أحد جعل يكشف الثوب عن وجه أبيه ويبكي، فما زال يبكي، فقال له: (ابكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله حتى رفعته إلى السماء)، فقالوا: إنه لفضله سمي شهيداً.

وقيل: لشهادة الخير له.

وقالوا: إنه سمي شهيداً لأن الملائكة تشهده، بمعنى تحضره، ويقال: شهد الشيء إذا حضره، قال تعالى: وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [القصص:44] أي: من الحاضرين، فشهود الشيء: الحضور.

وقوله: [ولا يغسل شهيد]:

الشهيد هو شهيد المعركة، ولذلك خصه المصنف رحمه الله بشهيد المعركة، أي: الذي قتل في المعركة، لأن هناك من هو في حكم الشهيد، كالمبطون والغريق والحريق والهدمى والنفساء والطاعون، وغيرهم ممن سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كمن قتل دون ماله أو عرضه أو أهله.

فالشهادة من حيث هي -كما يقول العلماء رحمهم الله- مراتب، أشرفها وأكرمها وأقدسها: الشهادة في سبيل الله عزَّ وجلَّ بالقتل؛ لأن صاحبها قد باع أعز ما يملكه وهي نفسه التي بين جنبيه، ولذلك بشر أهل هذه الصفقة فقال: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ [التوبة:111].

فالمقصود أن الشهيد هنا شهيد المعركة، وهو الذي يقتل في المعركة، ويشمل ذلك: أن يكون قد بقيت منه أجزاء أو بقي كاملاً، فيكون قد طُعن، أو بُقرت بطنه، أو ضرب في مقتل فمات، أو ذهبت أشلاء أو أعضاء منه وبقي جزء من بدنه، فالحكم كله سواء، سواء بقي البدن كاملاً أو بقي أكثر البدن، أو جزء من البدن، وكل ذلك يعامل هذه المعاملة، فلو أنه انفجر وبقيت منه أشلاء وأعضاء، فإنها تجمع كما هي، ثم تدفن بحالها، وهذا على الأصل في الميت أنه إذا تلف بحرق أو نحو ذلك، فإنه يؤخذ ما بقي من بدنه ثم بعد ذلك يعامل معاملة بقية الجسد، على تفصيل عند العلماء رحمة الله عليهم من حيث الغسل وعدم الغسل بالنسبة لغير الشهيد، وشهيد المعركة هو الذي يموت في ساحة المعركة.

وعلى هذا فشهيد غير المعركة فيه تفصيل، فهناك الشهيد الذي يقتل دون ماله، ودون عرضه، ودون نفسه، والمقتول ظلماً كأن يعتدى عليه، فهؤلاء لهم أحكام تخصهم، وهم في حكم الشهداء.

والشهادة أصلاً لا تكون إلا في القتال بين المسلمين والكافرين؛ لكن لو أن طائفتين من المسلمين وقع بينهما قتال تأويل وشبهة، كما وقع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في معركتي صفين والجمل، فإنه يعامل معاملة الشهيد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن : (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين).

أما بالنسبة لفئة الجماعة، وهي التي تكون مع إمامهم، فإن من قتل مع إمامهم فهو شهيد بدون خلاف بين العلماء، ويعامل معاملة الشهيد.

حكم تغسيل من قتل في فئة باغية

ولكن اختُلِف في الفئة الباغية، لو أن قوماً خرجوا وقُتِلوا هل يعاملون معاملة الشهداء، بمعنى: أنهم لا يغسلون ولا يكفنون؟

اختلف العلماء في هذه المسألة، والذي مال إليه جمع من المحققين: أنهم يأخذون حكم الشهداء، والدليل على ذلك: إجماع الصحابة ومن حضر من التابعين في قضية صفين والجمل، فإنهم لم يغسلوا أحداً ممن قتل فيها، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في عمار : (تقتله الفئة الباغية)، كما في الحديث الصحيح، فوصف فئة معاوية بأنها باغية، ومذهب أهل السنة والجماعة أن الحق مع علي رضي الله عنه وأرضاه، وأن معاوية معذور في اجتهاده وله أجر واحد، ولـعلي رضي الله عنه الأجران، وعلى هذا فإن الصحيح أن من قُتِل في الفئة الباغية فإنه يعامل معاملة الشهيد، فلا يغسل ولا يكفن، وهذا اختاره جمع من المحققين، ومنهم الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني.

وقوله: [ولا يغسل شهيد معركة ومقتول ظلماً إلا أن يكون جنباً]:

قال العلماء: السبب في ذلك أن شهيد المعركة دمه وجراحه تشهد له بين يدي الله عزَّ وجلَّ.

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما مِنْ كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً، اللون لون دم، والريح ريح مسك).

أي: ما من إنسان يُطعن ولا يُجرح ولا يُخدش، قليلاً كان ذلك الكلم أو كثيراً.

(إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً): أي: كأنه قتل من ساعته.

وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام في السنن أنه قال في شهداء أحد: (زملوهم بدمائهم فإني شهيد لهم) أي: أشهد لهم بين يدي الله عزَّ وجلَّ أنهم قتلوا في ثيابهم، ولم يأمر عليه الصلاة والسلام بغسل شهداء أحد، فدلت هذه النصوص على أن السنة في الشهيد أنه لا يغسل، ولذلك يترك على حاله إلا إذا كانت به نجاسة، فلو أنه أثناء المعركة أصابته نجاسة أو بعد أن قتل جاءت النجاسة على طرف من أعضائه أو يده أو نحو ذلك، فإنها تغسل، فلو أنه قاتل كافراً ثم خرج عليه دم الكافر، ثم قتله الكافر، وأصبح أثر دم الكافر على يده، فإنا نغسل يده غسل تطهير من النجاسة، وليس المراد به غسل الميت المعهود.

حكم تغسيل من قتل ظلماً

وقوله: [ومقتول ظلماً]:

أي: وهكذا المقتول ظلماً، هذا أحد القولين عن العلماء، كأن يُعتدى على إنسان في عرضه فدافع فقتله الباغي، فإذا قتل دون العرض فهو شهيد، وهو مقتول ظلماً، وهكذا لو أنه اعتدي عليه فلم يشعر إلا بإنسان قد هجم عليه يريد أخذ ماله أو يريد قتله، وفي الحديث: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلتُه؟ قال: هو في النار، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت في الجنة).

وقال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد) فالمقتول ظلماً هو الذي يقتل بدون حق، فإذا قُتِل بدون حق فللعلماء فيه قولان:

قال طائفة من العلماء: المقتول ظلماً في غير ساحة المعركة يعامل معاملة الميت طبيعياً، فيغسل ويكفن ويصلى عليه.

والقول الثاني: أنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، وإنما يدفن بجراحه كالشهيد.

والصحيح: القول الأول؛ لأن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قتل، فغسلته أمه أسماء رضي الله عنه وعنها، فدل هذا على أن المقتول ظلماً باقٍ على الأصل، ولأن القاعدة في الأصول: (إعمال الأصل حتى يدل الدليل على الاستثناء)، فالأصل عندنا في كل ميت أنه يغسل حتى يدل الدليل على الاستثناء، فاستثنى الدليل الشهيد ولم يرد دليل باستثناء من قتل ظلماً.

وإنما قاس بعض العلماء من قتل ظلماً على الشهيد، بجامع كون كل منهما فاتته نفسه بدون حق؛ ولكن هذا القياس محل نظر، وذلك لأن القياس في العبادات ضيق، فقد يكون في الشهيد معنىً ليس بموجود في المقتول ظلماً، ولذلك قالوا: إنه يختص الحكم بالشهيد في المعركة دون غيره. وهذا هو الصحيح، وعلى هذا يكون تشريك المصنف -رحمه الله- بين المقتول ظلماً مع الشهيد على المرجوح، والراجح أن المقتول ظلماً يغسل ويكفن ويصلى عليه.

حكم تغسيل الشهيد أو المقتول ظلماً إذا كان جنباً

وقوله: [إلا أن يكون جنباً]:

أي: إذا كان الشهيد والمقتول ظلماً عليه جنابة، فحينئذٍ يغسل، وللعلماء في هذه المسألة قولان:

القول الأول: أن الشهيد إذا كان جنباً أنه يغسل، بناءً على أن الجنابة قد وجبت عليه.

والقول الثاني: أنه لا يغسل، وهذا مذهب الجمهور.

وهكذا المرأة إذا قتلت في المعركة وكانت شهيدة، فإنها لا تغسل، وكذا لا تغسل غسل الجنابة إذا قتلت وهي جنب، أو قتلت وقد طهرت من حيضها لكنها لم تتمكن من الغسل، فالصحيح في هؤلاء كلهم أنه لا يغسلون، وذلك إعمالاً للأصل.

وأما من قال بأنهم يغسلون فقد استدل بحديث حنظلة غسيل الملائكة، وذلك أنه رضي الله عنه: (لما سمع الهيعة -وهي: الصيحة- خرج إلى القتال فقُتِل، وكان قد جامع أهله، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم الملائكة تغسله، فأمرهم أن يسألوا أهله، فقالوا: إنه كان على جنابة، فسمع الهيعة فترك أهله -أي:لم يغتسل من الجنابة- ثم انطلق حتى قتل في سبيل الله شهيداً).

قالوا: لما غسلت الملائكة حنظلة دل على أن من قتل في سبيل الله شهيداً أنه يغسل إذا كان جنباً، والصحيح: أنه لا يغسل؛ لأن حديث حنظلة حجة لنا لا علينا، فإنه يدل على أنه لا يغسل، حيث إنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة غسلته، ولم يأمر الصحابة أن يغسلوه، فدل على أن الأصل باقٍ في أن الشهيد لا يغسل، وأنه يُلَفَّفُ في ثيابه على الأصل الذي قررناه في كل شهيد.

ولكن اختُلِف في الفئة الباغية، لو أن قوماً خرجوا وقُتِلوا هل يعاملون معاملة الشهداء، بمعنى: أنهم لا يغسلون ولا يكفنون؟

اختلف العلماء في هذه المسألة، والذي مال إليه جمع من المحققين: أنهم يأخذون حكم الشهداء، والدليل على ذلك: إجماع الصحابة ومن حضر من التابعين في قضية صفين والجمل، فإنهم لم يغسلوا أحداً ممن قتل فيها، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في عمار : (تقتله الفئة الباغية)، كما في الحديث الصحيح، فوصف فئة معاوية بأنها باغية، ومذهب أهل السنة والجماعة أن الحق مع علي رضي الله عنه وأرضاه، وأن معاوية معذور في اجتهاده وله أجر واحد، ولـعلي رضي الله عنه الأجران، وعلى هذا فإن الصحيح أن من قُتِل في الفئة الباغية فإنه يعامل معاملة الشهيد، فلا يغسل ولا يكفن، وهذا اختاره جمع من المحققين، ومنهم الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني.

وقوله: [ولا يغسل شهيد معركة ومقتول ظلماً إلا أن يكون جنباً]:

قال العلماء: السبب في ذلك أن شهيد المعركة دمه وجراحه تشهد له بين يدي الله عزَّ وجلَّ.

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما مِنْ كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً، اللون لون دم، والريح ريح مسك).

أي: ما من إنسان يُطعن ولا يُجرح ولا يُخدش، قليلاً كان ذلك الكلم أو كثيراً.

(إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً): أي: كأنه قتل من ساعته.

وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام في السنن أنه قال في شهداء أحد: (زملوهم بدمائهم فإني شهيد لهم) أي: أشهد لهم بين يدي الله عزَّ وجلَّ أنهم قتلوا في ثيابهم، ولم يأمر عليه الصلاة والسلام بغسل شهداء أحد، فدلت هذه النصوص على أن السنة في الشهيد أنه لا يغسل، ولذلك يترك على حاله إلا إذا كانت به نجاسة، فلو أنه أثناء المعركة أصابته نجاسة أو بعد أن قتل جاءت النجاسة على طرف من أعضائه أو يده أو نحو ذلك، فإنها تغسل، فلو أنه قاتل كافراً ثم خرج عليه دم الكافر، ثم قتله الكافر، وأصبح أثر دم الكافر على يده، فإنا نغسل يده غسل تطهير من النجاسة، وليس المراد به غسل الميت المعهود.

وقوله: [ومقتول ظلماً]:

أي: وهكذا المقتول ظلماً، هذا أحد القولين عن العلماء، كأن يُعتدى على إنسان في عرضه فدافع فقتله الباغي، فإذا قتل دون العرض فهو شهيد، وهو مقتول ظلماً، وهكذا لو أنه اعتدي عليه فلم يشعر إلا بإنسان قد هجم عليه يريد أخذ ماله أو يريد قتله، وفي الحديث: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلتُه؟ قال: هو في النار، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت في الجنة).

وقال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد) فالمقتول ظلماً هو الذي يقتل بدون حق، فإذا قُتِل بدون حق فللعلماء فيه قولان:

قال طائفة من العلماء: المقتول ظلماً في غير ساحة المعركة يعامل معاملة الميت طبيعياً، فيغسل ويكفن ويصلى عليه.

والقول الثاني: أنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، وإنما يدفن بجراحه كالشهيد.

والصحيح: القول الأول؛ لأن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قتل، فغسلته أمه أسماء رضي الله عنه وعنها، فدل هذا على أن المقتول ظلماً باقٍ على الأصل، ولأن القاعدة في الأصول: (إعمال الأصل حتى يدل الدليل على الاستثناء)، فالأصل عندنا في كل ميت أنه يغسل حتى يدل الدليل على الاستثناء، فاستثنى الدليل الشهيد ولم يرد دليل باستثناء من قتل ظلماً.

وإنما قاس بعض العلماء من قتل ظلماً على الشهيد، بجامع كون كل منهما فاتته نفسه بدون حق؛ ولكن هذا القياس محل نظر، وذلك لأن القياس في العبادات ضيق، فقد يكون في الشهيد معنىً ليس بموجود في المقتول ظلماً، ولذلك قالوا: إنه يختص الحكم بالشهيد في المعركة دون غيره. وهذا هو الصحيح، وعلى هذا يكون تشريك المصنف -رحمه الله- بين المقتول ظلماً مع الشهيد على المرجوح، والراجح أن المقتول ظلماً يغسل ويكفن ويصلى عليه.

وقوله: [إلا أن يكون جنباً]:

أي: إذا كان الشهيد والمقتول ظلماً عليه جنابة، فحينئذٍ يغسل، وللعلماء في هذه المسألة قولان:

القول الأول: أن الشهيد إذا كان جنباً أنه يغسل، بناءً على أن الجنابة قد وجبت عليه.

والقول الثاني: أنه لا يغسل، وهذا مذهب الجمهور.

وهكذا المرأة إذا قتلت في المعركة وكانت شهيدة، فإنها لا تغسل، وكذا لا تغسل غسل الجنابة إذا قتلت وهي جنب، أو قتلت وقد طهرت من حيضها لكنها لم تتمكن من الغسل، فالصحيح في هؤلاء كلهم أنه لا يغسلون، وذلك إعمالاً للأصل.

وأما من قال بأنهم يغسلون فقد استدل بحديث حنظلة غسيل الملائكة، وذلك أنه رضي الله عنه: (لما سمع الهيعة -وهي: الصيحة- خرج إلى القتال فقُتِل، وكان قد جامع أهله، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم الملائكة تغسله، فأمرهم أن يسألوا أهله، فقالوا: إنه كان على جنابة، فسمع الهيعة فترك أهله -أي:لم يغتسل من الجنابة- ثم انطلق حتى قتل في سبيل الله شهيداً).

قالوا: لما غسلت الملائكة حنظلة دل على أن من قتل في سبيل الله شهيداً أنه يغسل إذا كان جنباً، والصحيح: أنه لا يغسل؛ لأن حديث حنظلة حجة لنا لا علينا، فإنه يدل على أنه لا يغسل، حيث إنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة غسلته، ولم يأمر الصحابة أن يغسلوه، فدل على أن الأصل باقٍ في أن الشهيد لا يغسل، وأنه يُلَفَّفُ في ثيابه على الأصل الذي قررناه في كل شهيد.

وقوله: [ويدفن في ثيابه بعد نزع السلاح والجلود عنه]:

أي: سواء كانت الثياب يسيرة أو غالية، فالحكم واحد أنه يدفن في الثياب التي قتل فيها، وإذا لم يكن له ثوب قال العلماء: إذا جرد عن ثيابه أو احترقت ثيابه، أو نزعت عنه، فأصبح عارياً، قالوا: يشرع حينئذٍ أن يوضع شيء على عورته ثم يُنزل إلى قبره ويلحد، دون أن يكفن الكفن المعروف، وهذا على الأصل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (زملوهم في ثيابهم)، فأمر في الشهداء أن يزمَّلوا في ثيابهم، وأن يكونوا بنفس الثياب التي لقوا بها العدو، لا يزاد عليها ولا ينقص منها.

لكن يؤخذ من الثياب السلاح ونحوه، كمحامل الأسلحة ونحوها، ويؤخذ بثيابه ثم يلف فيها، قال صلى الله عليه وسلم في مصعب رضي الله عنه، وقد كانت له شملة إذا غطوا بها وجهه بدت قدماه وإذا غطوا قدميه بدا وجهه: : (غطوا بها وجهه، واجعلوا على رجليه إذخراً أو شيئاً من الإذخر)، وهذا فيه دليل على أنه إذا كانت ثيابه تسع أعلى البدن دون أسفله فإنه حينئذٍ يقدم ويشرف أعلى البدن ثم يترك الأسفل مكشوفاً، فإذا كان هناك إذخر فإنه يُستر بالإذخر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (واجعلوا على رجليه إذخراً أو شيئاً من الإذخر)، فدل على استثناء الإذخر وحده دون غيره.

حكم من قتل شهيداً ثم سلبت ثيابه

وقوله: [وإن سلبها كفن بغيرها]:

قال بعض العلماء: تستر عورته.

وقال بعضهم: بل يكفن الكفن الذي يكون ستراً لسائر بدنه، وهذا قول من يُعمِل الأصل، ويقول: إن الأصل أنه يحسن الإنسان في كفن أخيه المسلم، فلما كان الشهيد قد فاتت ثيابه واحترقت، أو زالت أو سلبها العدو أو أخذها، قالوا: حينئذٍ يُزَمَّل في ثياب ولو كانت جديدة، ثم بعد ذلك يدفن.

وقوله: [وإن سلبها كفن بغيرها]:

قال بعض العلماء: تستر عورته.

وقال بعضهم: بل يكفن الكفن الذي يكون ستراً لسائر بدنه، وهذا قول من يُعمِل الأصل، ويقول: إن الأصل أنه يحسن الإنسان في كفن أخيه المسلم، فلما كان الشهيد قد فاتت ثيابه واحترقت، أو زالت أو سلبها العدو أو أخذها، قالوا: حينئذٍ يُزَمَّل في ثياب ولو كانت جديدة، ثم بعد ذلك يدفن.

وقوله: [ولا يُصَلِّى عليه]:

هذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد، فإنه لم يصل عليهم، وهذا يدل على فضل الشهادة في سبيل الله عزَّ وجلَّ، فإن الصلاة على الميت فيها من الفضل والخير للأحياء والأموات ما الله به عليم، ولذلك: (ما من مسلم يقوم عليه أربعون يشهدون أن لا إله إلا الله، فيشفعون له إلا شفعهم الله فيه)، وهذا يدل على فضل الصلاة على الميت والدعاء له، فجعلها الله فضلاً للأحياء والأموات، أما الأحياء فجعل فيها القراريط من الأجر، وما يكون لهم من أجر الدعاء للميت.

وأما الأموات فلأنه خير يكون لهم قبل أن يلقوا الله عزَّ وجلَّ بدعاء إخوانهم وسؤال الرحمة، وقد يتجاوز الله عن سيئات الميت بسبب خالص دعاء الأحياء، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص الدعاء للأموات، وأن على الإنسان إذا دعا لأخيه الميت فعليه أن يخلص في الدعاء ويجتهد، فلما كانت الشهادة يُرجى لصاحبها من الخير والفضل ما يرجى، صار كأنه ارتفع عن هذا كله، لعظيم ما له عند الله من المنزلة، والدرجة، مع أن الصلاة فيها دعاء واستغفار له، فكأنه قد جاوز ذلك إلى رحمات وجنات وفضائل من الله سبحانه وتعالى تغنيه عن الدعاء.

ولذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام عن فتنة الشهيد في قبره: هل يُسأل الشهيد في قبره ويفتن بالفتان؟ قال عليه الصلاة والسلام: (كفى ببارقة السيوف فتنة)، أي: كفى ببارقة السيوف على رقبته فتنة، وذلك لأنه قتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر.. بائعاً نفسه لله عزَّ وجلَّ، فكأنه قد أقبل على الله سبحانه وتعالى بخير عظيم.

ولذلك ورد في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (تكفل الله. وفي رواية: تضمن الله..) والضمانة والحمالة والكفالة من الله سبحانه وتعالى تدل على ما له عند الله سبحانه وتعالى من الفضل العظيم والثواب الجزيل.

وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة، تشرب من أنهارها، تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش) وهذا يدل على فضل الشهادة في سبيل الله عزَّ وجلَّ، فلا يصلى عليه، لأنه في رحمة منذ أن تقبض روحه ويقتل في سبيل الله عزَّ وجلَّ.

والشهيد لا يجد من قبض الروح وفتنة السكرات كقرصة النحلة، وتؤخذ روحه -كما يقول بعض العلماء- كأنه أشبه بطرفة العين، تؤخذ منه كأحسن ما يكون من سلت الروح دون أذى ودون ضرر، ثم ما إن تقبض روحه حتى يكون له الفضل الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر).

وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه ذكر شهداء أحد وأنهم لقوا الله عزَّ وجلَّ فرضي عنهم ورضوا عنه).

وفي الحديث الصحيح أن جابراً رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! أخبرني عن أبي، إن كان في الجنة صبرت، فقال له: يا جابر ! إنها جنان، وإن أباك قد أصاب الفردوس الأعلى منها) وهذا يدل على فضل ما يكون للشهيد، وكلما أخلص وصدق مع الله، وكلما كان بلاؤه في الجهاد أعظم؛ كانت شهادتُه أرجى.

وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن الله لا يكلم أحداً إلا من وراء حجاب إلا ما كان من أبيك فقد كلمه كفاحاً، وقال: تمن عبدي، فقال: أتمنى أن أعود فأقتل في سبيلك ثانيةً) مما رأى من فضائل الشهادة.

فتبين أنه لا يصلى على الشهيد لعظيم ما له عند الله من الفضل والمثوبة.

نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يبلغنا هذا الفضل الكريم.

فقوله: [وإن سقط من دابته، أو وجد ميتاً ولا أثر به، أو حُمِل فأكل، أو طال بقاؤه عرفاً؛ غُسِّل وصُلِّي عليه]:

هذه الصور تستثنى من الأصل في الشهيد، فعندنا أصل عام، وهو تغسيل كل ميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وعندنا ما استُثني الشهيد من الأصل العام في تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، بقي دفنه، ثم هذا الشهيد يفصل فيه، فلا يقال: إن كل من قتل أنه يحكم بكونه يعامل هذه المعاملة، بل الأمر فيه تفصيل، فالشهيد الذي لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه هو الذي تقبض روحه في أرض المعركة، وشرط ذلك أن يكون مقتولاً، بمعنى: أن نفسه تفوت بسبب القتل.

فلو سقط من على دابته فإن السقوطَ قتل، ولكن لم يقتل شهيداً في هذه الحالة، وإن كان له فضل ومنزلة، وما من عبد يسأل الله الشهادة أو يأخذ بأسبابها -ولا تكون له- إلا بلغه الله منازل الشهداء.

هذا من جهة الفضل؛ لكن من جهة الحكم شيء آخر، فإنه لو زلت به دابته فسقط، أو كان في المعركة ثم حصل أمر فاتت به نفسه دون قتل، فإنه وإن فاتت نفسه في أرض المعركة؛ لكن بغير شهادة، فحينئذ يعامل معاملة غير الشهداء؛ كما إذا سقط من دابته، أو قتل أو لم يوجد به أثر، كأن وجد بكامل أعضائه دون أن يوجد فيه ضرب أو طعن مما يدل على أنه قتل، فحينئذ يحتمل أن يكون مات قدراً، كأن يكون مات من فجعة أو صدمة، فيبقى على الأصل.

فإننا متحققون أن الأصل فيه أن يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن؛ لكن لما شككنا هل مات بالشهادة أو مات بغيرها ولم توجد دلالة ظاهرة، قدم الأصل على الظاهر، وهذا من تقديم الأصل على الظاهر؛ لأنه ليست به علامة ولا أمارة ولا دليل يدل على أنه مات بسبب القتل، وبناءً على ذلك يحتمل أن يكون مات من فجعة أو صدمة، أو وافق قدراً فتوفي في أرض المعركة، أو رأى عزيزاً عليه قتل، أو رأى حالة قتل ففُجع بها ومات، وهذا محتمل، ولذلك قالوا: دلالة الظاهر من كونه في أرض المعركة، لا تكفي في الخروج والعدول عن الأصل، بل نبقى على هذا.

لكن لو أنني رأيته بعيني أو رآه من يوثق بخبره أنه دفعه عدو من على دابته، فسقط بدفع العدو ومات، فإنه في حكم الشهيد، وحينئذٍ قالوا: لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه.

وقال بعض العلماء: بل يغسل ويكفن ويصلى عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (زملوهم بدمائهم).

فامتنع التغسيل عند أصحاب القول الثاني لمكان الدم، فإذا كان موته بدون جرح، كأن يكون دفع أو رُضَّ فمات بالرض، قالوا: إنه لا يعامل معاملة الشهيد، وهذا بناءً على أن منع التغسيل لأثر الدم، وليس المراد به للشهادة بذاتها.

والقول الأول له وجهه من جهة الأصل من كونه شهيداً.

هذا بالنسبة للصور التي ذكرها.

بقيت معنا صورة.

إذاً: عندك حالتان:

الحالة الأولى: أن يوجد ميتاً في أرض المعركة ليس به دليل ولا عليه أمارة تدل على أنه قتل، فحينئذٍ تبقى على الأصل من كونه يحتمل أنه مات قدراً أو مات بفجعة أو بدفعة أو نحو ذلك، فحينئذٍ تغسله وتكفنه وتصلي عليه، وتعامله معاملة الأصل.

الحالة الثانية: أن تجد به أثر القتل كأن يطعن أو -مثلاً- يكون به جراح ثم يحمل من أرض المعركة، لكنه يأكل أو يشرب، فحينئذٍ يعامل معاملة الأصل، فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن.

أما بالنسبة لحالة كونه يأكل ويشرب، فإنهم يقولون: إذا أكل أو شرب بعد الطعن وبعد الأثر الذي كان به من الضرب، فإننا في هذه الحالة قد تحققنا حياته بعد طعنه، فيخرج عن حكم الشهيد، وموته بعد ذلك وإن كان بأثر القتل؛ لكنه تبع لا أصل، والموت وإن كان بأثر الضربة في سبيل الله عزَّ وجلَّ فإنه شهيد في الأصل؛ لكنه لا يعامل معاملة الشهيد.

والدليل أن سعداً رضي الله عنه وأرضاه ضرب في أكحله، فسأل الله عزَّ وجلَّ أن يؤخر موته حتى يقر عينه من بني قريظة؛ لأنهم خانوا الله ورسوله، وهذا من شدة غَيرته رضي الله عنه وأرضاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دين الله، وهو من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فسأل الله عزَّ وجلَّ ألَّا يموت حتى يقر عينه بما يشفي غيظه ويروي غليله فيهم، فكان الحاكم فيهم رضي الله عنه وأرضاه.

فلما ضُرب في أكحله أخر الله أثر الجرح، وهذه آية من آيات الله عزَّ وجلَّ، فسلم رضي الله عنه حتى حُمل إلى بني قريظة في قصة التحكيم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم فقال: (أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم، فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لقد حكمت فيهم بحكم الجبار من فوق سبع سماوات).

ثم انتقض عليه جرحه، فمات رضي الله عنه وأرضاه فغسله النبي صلى الله عليه وسلم وكفنه وصلى عليه، وعامله معاملة الأصل، مع أن الجرح الذي مات بسببه هو في الأصل من المعركة.

فلذلك قال العلماء: لما حيَّ حياةً مستقرة بعد الجرح نُزِّل منزلة الأصل، فصار الحكم خاصاً بمن قبض في أرض المعركة، دون من جُلِب عن أرض المعركة، ودون من أكل أو شرب بعد طعنه وضربه الذي فاتت به نفسه.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع