خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/1210"> الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/1210?sub=60941"> تفسير سورة العنكبوت
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
تفسير سورة العنكبوت [61-69]
الحلقة مفرغة
قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت:61].
أي: يا محمد هؤلاء كفرهم من نوع عجيب غريب، فلئن سألت كفار قريش.. ولئن سألت الكثيرين ممن يدّعون التوحيد، فاليهودي يدعيه، والنصراني يدعيه، والوثني يدعيه في حجارة، وإذا قلت له: من الذي خلق السموات والأرض؟ فسيقول لك: الله.
من خلقها وسخرها للعباد: لمصالحهم، ولأعمالهم، ولمزارعهم، ولحياتهم؟ لأجابوك جميعاً: الله، فكيف يوحدون الربوبية، ويشركون في الألوهية؟ ولا بد من توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، فالرب واحد، وهو الإله الذي لا ثاني له، ولا شريك له في ذات، ولا صفات ولا أفعال.
فكيف تعترفون بأن الله خالق الكون ثم مع ذلك تعبدون غيره، وتعيشون لغيره، وتشركون معه غيره، أهذا عقل العقلاء، وتدبير المدبرين؟!! أين ذهبت عقولكم وفهومكم وأديانكم؟
وقوله: (فأنى يؤفكون) أي: يفترون على الله، ويجعلون معه ثانياً ويشركون به فيفترون الإفك والكذب في خلق الأوثان والأصنام، وخلق الشركاء من دون الله.
يدعون ذلك زوراً وكذباً، وإفكاً وبهتاناً، ولا حقيقة لذلك ولا أصل له ولا وجود.
قال تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [العنكبوت:62].
وعندما جرى الكلام على الفقر والغنى ظنوا الغنى في بلدهم وليس الأمر كذلك، وطنوا الفقر في بلد الغربة، وليس الأمر كذلك، فليس كل من بقي في أرضه أغنياء، فمنهم الغني، ومنهم المستور، ومنهم الفقير، وقل مثل ذلك عن الذين هاجروا، فمنهم الغني، ومنهم الفقير، ومنهم المعدم البتة.
فالغنى والفقر من الله، والله هو الذي يبسط الرزق، فيغني من شاء من عباده، ويعطيه من الأموال ما شاء كيف شاء، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء:23].
فأغنى من شاء بغير حساب، وأفقر من شاء بغير حساب، وجعل بعضهم وسطاً بين الغنى والفقر.
قوله: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [العنكبوت:62].
أي: أن الله جل جلاله عليم بعباده، فهو أعلم بمن يصلحه الفقر، ويفسده الغنى، وبمن يصلحه الغنى ويفسده الفقر.
وفي الحديث: (إن لله عباداً لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغناهم لأفسدهم، وإن لله عباداً لا يصلحهم إلا الغنى، ولو أفقرهم لأفسدهم).
وكم من الخلق ممن عشنا معهم وعاشوا معنا كانوا فقراء، وكانوا على غاية من التقى والصلاح، وأداء الصلاة، وأداء القيم والأركان، حتى إذا اغتنوا وأخذوا السلطة والجاه تنكروا لله، ولعبادته، وتركوا الصلاة، وتركوا الصيام، وظلموا الخلق، واعتدوا على البشر، وتكبروا على عباد الله.
فقد كان الفقر أصلح لهم، ولكن الله ابتلاهم واختبرهم هل سيصبرون، وإذا بهم لم يصبروا.
وكم من فقراء عشنا معهم وكانت حياتهم على حال وسط، فإذا بالله الكريم يغنيهم، وأصبح لهم جاه وسلطان، فكثرت صلاتهم، وصيامهم، وصلاحهم، وتصدقوا في السر والعلن، وأصبحوا منفعة لعباد الله، فكان هذا وأمثاله ممن لا يصلحهم إلا الغنى، ولا يعلم هذا إلا الله خالقهم.
أما لم كان فلان غنياً وفلان فقيراً؟ فهذا سؤال غير وارد، ولا يسأله مؤمن، قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء:23]، والبواطن والعواقب والنهايات لا يعلمها إلا الله، والعبرة بالخواتم، فهل سيختم لهذا الغني بخير؟ وهل سيختم لهذا الفقير بخير؟ فقد يفسد الغنى وقد يفسد الفقر؟ ولذلك يقول الله ويجدد القول: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ [العنكبوت:62].
فالبعض يبسط له بالرزق، ويعطيه من الأموال ما لا يحصى كما أعطي قارون ، وكم من قارون في عصرنا ولكن اسألهم: ماذا فعلتم بمال الله؟ هل أعطيتموه للفقراء؟ هل زكيتم؟ هل أديتم حق الله في مالكم؟ فستسمع الجواب: لا، وقد يكذبون ويقولون: نعم، فإذا بحثت وجدتهم ضموا مع منع الزكاة ومنع حق الله الكذب على الله.
إن الزكاة لا تقل عن الصلاة، وقد كان أبو بكر رضي الله عنه، وابن مسعود رضي الله عنه، والجماهير من الصحابة يقولون: من لا يزكي فلا صلاة له، وأول حرب أهلية كانت بين المسلمين كانت على مانعي الزكاة وذلك عندما منعوا الزكاة، فوقف أبو بكر وقفة الأسد الهصور في إصرار وثبات، حتى لقد حاول عمر وبعض الصحابة أن يستدلوا بأدلة غير كاملة على عدم قتالهم، فأرشدهم أبو بكر وأفهمهم، وإذا بهم يفهمون ويرشدون، قال عمر : ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر حتى شرح صدري لما شرح له صدر أبي بكر، وكان إجماعاً على أنه إذا منع قوم الزكاة وحق الفقراء فإنهم يقاتلون على ذلك، فمن قتل فقد قتله سيف الإسلام، ودمه هدر، ومن قتل من يقاتلهم من أجل ذلك فقد احتمل إثماً عظيماً وكبيرة من كبائر الذنوب.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [العنكبوت:62].
أي: عليم بكل أحوال خلقه، فيعلم من الذي يصلحه الغنى ومن الذي يفسده، ومن الذي يصلحه الفقر ومن الذي يفسده، ولهذا تجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الأغنياء. (هلك المكثرون، إلا من قال هكذا وهكذا)، أي: بذل ماله لجميع النواحي.
والله وصف المؤمنين فقال عنهم: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25].
وجعل في جمله صفة المؤمنين الذي لا يتم إيمانهم إلا به، أن في أموالهم حقوقاً لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، فالسائل: من يسأل حقه، وللمحروم من رزقه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن للسائل حقاً ولو جاء على فرس).
وقال: (لو صدق السائل لما أفلح المسئول).
حتى ولو كان عنده ما عنده، فأنت ينبغي لك إن وجدت سائلاً وكان عندك ما تعطيه أن تعطيه من القليل القليل، ومن الكثير الكثير، حسب قدرتك وطاقتك.
قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [العنكبوت:63].
يقول الله لنبيه: اسأل يا محمد هؤلاء الكفار، كما سألتهم من خلق السموات والأرض؟ فأجابوك: الله، وكما سألتهم من سخر الشمس والقمر للخلق؟ فأجابوك: الله؛ سلهم كذلك: هذه الأمطار التي تنزل إلى الأرض، وكانت جدباء غير منبتة، وكانت في حاجة إلى الماء، من الذي أنزل هذا المطر؟ من الذي أحيا هذه الأرض وأغاثها فأنبتت فيها من كل زوج بهيج؟
قوله: فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا [العنكبوت:63].
أي: من بعد أن ماتت، بمعنى مات ما عليها من خضرة وثمرة، فهي لا تنبت، ولكن الله أمطرها، وأغاثها بالمطر، وإذا بها تهتز وتربو، وإذا بالبنات الأخضر ينبت من جديد، وإذا بالشجر يورق، وتشتد خضرته، ويعطي من الثمرات أنواعاً، ومن الفواكه أنواعاً، ومن كل ما يبهج ويحيي الناس والحيوان والطير.
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت:63] وقد أجابوا وقالوا: الله.
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [العنكبوت:63] أي: على أن الله هو خالق الكل، قل الحمد لله على أن اعترف هؤلاء بالحقيقة، رغم كونهم آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وحدوا الربوبية وكفروا بالألوهية، قالوا: الله رب كل شيء ، وخالق كل شيء، ولكن جعلوا مع الله آلهة، ذكروا أصناماً، وأوثاناً، وذكروا أوليا من الملائكة والجن والناس، فافتروا على الله، وكانوا متناقضين، كيف والله هو الخالق وحده فتركتموه، وذهبتم لعبادة غيره، وللتعلق بغيره، وأشركتم معه غيره، مما لا يستطيع خلقاً ولا يستطيع رزقاً، ولا يستطيع حياة ولا موتاً.
قل الحمد لله الذي اضطر هؤلاء الكفرة لأن يعترفوا بالحق ولو كان ذلك اعترافاً جزئياً.
قوله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [العنكبوت:63].
بل حرف إضراب.. وهو إضراب عن الماضي، أي مع اعترافهم بتوحيد الربوبية، وبأن الله هو الخالق للسماء، والخالق للأرض، وللشمس والقمر، والمنزل للأمطار، والمحيي للأرض بعد موتها، ثم مع ذلك يشركون معه غيره، والحمد لله على أنهم اعترفوا بأن الخالق الرازق هو الواحد، ولكن أكثرهم لا يعقلون، فهم جميعاً ليس لهم عقول تميز، ولا تدرك، ولا تعي، ولا تفهم.
وهكذا فكل كافر لا عقل له، مهما نسبت له الفلسفة، والعلم والمعرفة، فهي ظواهر من الحياة الدنيا، وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].
لا يعرفون حقيقة الحقائق، وهي وحدانية الله، فكيف يوصف هؤلاء بالعقل والعلم والفهم؟ فعلمهم أقل من علم الحيوان؛ لأن الحيوان يدرك ويفهم، ويوحد وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44].
فكل شيء في الخلق يسبح بحمد الله، بلهجاتهم، وبلغاتهم، وبما يدركون ويفهمون، إلا الكافر من بني الإنس والجن، فتجد الحيوان أشرف منه، وأعقل منه، وأقرب للتوحيد منه.
قال تعالى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64].
يقول تعالى: قل إنما هذه الحياة الدنيا لهو ولعب، فالحياة الدنيا هي الحياة الأولى القريبة منا وليست إلا لهواً ولعباً، واللهو الباطل، فنومنا ويقظتنا، وتنقلنا وتكسبنا، كل ذلك لهو إن لم يكن لعبادة الله، وللعمل للآخرة: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
فميزة الدنيا أنها برزخ الآخرة، وهي القنطرة للآخرة، فمن عبد الله فيها، ومن وحد الله فيها، فذاك، ومن لم يوحده فحياته كلها من مبتدئها إلى آخرها لهو ولعب، لهو باطل في التصرف.. في المنام.. في اليقظة.. لعب في المعاملة.. لعب في المناكحة.. لعب في الأولاد.. لعب في التجارة.. لعب في الزراعة، فما دام لم يعبد الله، ويعمل لما بعد الموت، فحياته كلها لهو ولعب، فالدنيا جميعها لهو وباطل ولعب.
فهذا يخاصم هذا ليكون كبيراً يأمر وينهى ويطاع، وهذا يحرص على أن يأكل مال هذا، ليملك أكثر وأكثر، ومع ذلك كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم (ليس لك من دنياك إلا ما لبست فأبليت، وأكلت فأفنيت) وما سوى ذلك يحاسب عليه ويكون ثقلاً يوم القيامة.
وهذا الغني كم سيأكل؟ وكم سيلبس من الأثواب؟ فطعامه أقل من طعام الفقير، لأنه أسرف على نفسه وأكل بتخمة أيام الشباب، وإذا به يمرض، وإذا بمعدته لا تستطيع الهضم، وإذا به يعيش بالحمية، يعيش بالجوع مضطراً، ولباسه لا يتجاوز لباس الفقراء، إذاً: لمن يجمع؟
يا من تبيت للخراب تبني ويا من تلد فللموت تلد
ولكن الباقي الخالد ما قدمته في دنياك وجعلته برزخاً لأخرتك، من تلك الركيعات، وتلك الدريهمات التي تصدقت بها، سواء كانت زكاة واجبة، أو صدقة تطوع، أو نفقة على أولادك، أو السائلين والمحرومين، وما عدا ذلك فستأتي به ثقلاًً يوم القيامة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلك المكثرون).
وقال النبي عليه الصلاة السلام عن الأغنياء الصالحين: (فيدخلون الجنة زحفاً وسيسبقهم الفقراء بنصف يوم)، وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47].
أي يسبقونهم بخمسمائة عام، وهؤلاء الذين عملوا صالحاً سيدخلون الجنة، ومع ذلك سيدخلون زحفاً متأخرين عن الفقراء والمساكين الذين لا مال لهم يسألون عن زكاته، ولا جاه لهم يسألون عن جاههم، ولا سلطان لهم ولا نفوذ، بخمسمائة عام.
ونحن نرى الرجل الغني صاحب السلطان والنفوذ يعيش ثمانين سنة أو أقل أو أكثر ثم يهلك، فإذا بالأموال تقسم بعده لمن لا يرحمه، وإذا بالزوجات يتزوجن غيره، وإذا بالأولاد أخذوا تلك الأموال وصرفوها فيما لا يحل، والذي قذف في القبر يحاسب على ذلك، فهو الذي جمعه لهم، وهو يعلم أنهم سيصرفونه فيما لا يجوز وفيما يجعلهم للشيطان عوناً وقوة.
وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت:64].
إن: للتوكيد.
وقوله: (لهي): اللام لام القسم، يقسم الله جل جلاله بأن الحياة الحق، والحياة الدائمة، هي حياة الآخرة، حياة من مات مؤمناً مطيعاً مسلماً، فهي الحياة الدائمة، في نعيم وجنان وحور عين: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64].
هؤلاء الكفرة العصاة المشركون بالله، لو كانوا يعلمون حقاً، ولو كانوا يعلمون ديناً، ويميزون بين الحق والباطل، لعلموا أن الدنيا ذاهبة بخيرها وشرها إن كان فيها خير، وأن الحياة الحق، والحياة الدائمة هي حياة الآخرة، هي حياة الجنان، والرحمة والرضا، فلو كانوا يعلمون ذلك لما فعلوا ما فعلوه من معاص وذنوب وآثام.
قال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65].
هؤلاء الذين سئلوا: مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [العنكبوت:61].
من: سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [العنكبوت:61] من: نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا [العنكبوت:63]
فأجابوا جميعاً: الله، هؤلاء كذلك إذا كانوا في البحر، فركبوا الفلك، وركبوا البواخر، تأتي الأمواج تتلاعب بهذه المراكب، فإذا بهم يجدون أنفسهم لا يدعون إلا الله، ولا يلتجئون إلا إلى الله، ولا يستغيثون إلا بالله.
قوله: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65].
أي: أخلصوا الدين لله فلم يدعوا مع الله شريكاً ولا ولياً، ولا صنماً ولا وثناً، وإنما دعوا الله وحده، مخلصين له دينهم وعبادتهم، والدين هنا العبادة والطاعة والدعاء.
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65].
حكوا أن روسيا عندما أرسلت الصواريخ إلى أعلى الفضاء، ووصلوا للقمر، بعثوا شاباً ملحداً منهم شيوعياً، فعندما أصبح بعيداً عن الأرض بآلاف الكيلو مترات، ورأى هذه الأفلاك مرفوعة، ورأى القمر يكاد يمسه بيده، ورأى الأرض ككرة؛ وجد نفسه يناجي الله بغير شعور!
وعندما نزل سألوه، فقال: لما رأيت ذلك قلت: من رفع هذه ومن خلقها؟ فأجاب نفسه بنفسه: الله، وإذا بهم يعاقبونه ويسجنونه ويعذبونه، ولو أنه مع إيمانه بالله آمن بمحمد رسول الله لمات شهيداً حين مات.
ونعرف ملاحدة وشيوعيين واشتراكيين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فإذا أصابهم بلاء في بدنهم، أو مالهم، أو مناصبهم، تجدهم فجأة يقولون: يا الله! يا رب! وإذا رفع البلاء إذا بهم يعودون للشرك أقبح مما كانوا، وللشيوعية وللإلحاد أكثر ما كانوا، ولذلك ما يحكيه الله عن أولئك ليسوا إلا أمثلة من هؤلاء، فالكفر ملة واحدة وشكل واحد، ولم يكن كفار مكة أو كفار العرب إلا مثلاً لكفار الدنيا بكل أشكالها وأنواعها، وإلى يوم القيامة.
قال تعالى: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65].
أي: فلما نجاهم وأنقذهم من هول البحر، وأنزلهم للبر، فإذا بهم يعودون للأصنام والأوثان.
يحكي محمد بن إسحاق بن يسار ، صاحب السيرة، بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، فر منه من فر من كفار قريش، فكان ممن فر عكرمة بن أبي جهل ، وبقيت زوجته لم تفر، بل آمنت، فسألت رسول الله العفو له إن جاء مسلماً، فأعطاها ذلك.
وخرج عكرمة ووصل إلى شواطئ الجزيرة، فوجد سفينة مسافرة إلى الحبشة فركبها، فبعد أن أصبحت السفينة في عرض البحر، أخذت تتلاعب بها الأمواج، والكل يصيح، وإذا بربان السفينة وسائقها وقائدها يقول للراكبين: لن ينفع دعاء اليوم إلا دعاء الله وحده، فادعوا الله جمعياً بأن ينقذكم!
فإذا بـعكرمة يقول: إن كان الله هو الذي سينقذنا من البحر، إذاً فهو الذي سينقذنا من البر، علي عهد الله إن أنقذني الله، وأصبحت في البر، أن أضع يدي في يد محمد وأن أومن به وبرسالته وبالكتاب الذي أنزل إليه، فأنجاه الله، ونزل إلى البر مسرعاً ودخل مكة، وفاجأ النبي عليه الصلاة السلام بالسلام عليه، وقال: جئتك مؤمناً مسلماً، يا رسول الله: مرني أمرك، واعف عما مضى، فقبل منه صلى الله عليه وسلم، وكان عكرمة ممن أسلم وحسن أسلامه وشارك في الفتوح أيام أبي بكر وعمر ، فشارك في فتوح الشام، وفتوح العراق، وفتوح فارس، وكان البطل الذي لا يجارى، وقتل على يده المئات من أعداء الله الكفار.
ورزق الله المسلمين على يده من الغنائم الملايين، ومن الأرض ما لا يعد ولا يحصى، وذلك ابتداء من خلافة أبي بكر ، إلى نهاية أيام عمر رضي الله عنهما وعن المسلمين، وعن الصحابة والفاتحين جميعاً.
قال تعالى: لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [العنكبوت:66].
لما رجعوا إلى البر وأنقذوا من هول البحر، عادوا للشرك، فكفروا بما أنزل الله من كتاب ومن نبي ومن رسالة، فتمتعوا بباطل الدنيا وبلهوها.
قد أصبحوا يجرون وراء الباطل، ووراء متع الدنيا، من أكل لأموال الناس بالباطل، ومن غنى وسرقة، وربا، ورشا، ومن كل أنواع الفساد بأشكالها، فقال الله عنهم: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [العنكبوت:66].
ينذرهم ويتهددهم، وأنهم ميتون لا محالة، وسيعلمون الحق آنذاك، وسيعلمون ما وعدوا به من عذاب، وقد استعجلوه في دنياهم قبل آخرتهم، فأرجأناهم لما سبق من وعدنا لمحمد صلى الله عليه وسلم ألا نعذب أمته في الدنيا، وأن ذلك يؤجله إلى يوم القيامة.
وهكذا يقول الله لهؤلاء: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [العنكبوت:66].
قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت:67].
قال الله لكفار مكة -وهذا خاص بهم وعام فيمن بعدهم-: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67].
أي: ألم ير هؤلاء أنا جعلنا مكة حرماً آمنا، حرمنا فيها الظلم، والسرقة، والقتل، وحرمنا فيها جميع الفواحش مما يقلق الأمن ويزيله، ويتخطف الناس من حولهم قتلاً وأسراً.. سرقة وطغياناً.
ألم ير هؤلاء -سكان مكة- كيف أن الله جعل بلده بلداً آمناً، وحرماً حرمه على أن يساء فيه!
وكان هذا وقت نزول الإسلام.
ويتخطف الناس حول الحرم فيقتلون، ويؤسرن، ويستعبدون، ويمتهنون، وتؤخذ أموالهم.
فأهل مكة آمنون في أرضهم، وجميع جزيرة العرب، بل وجميع الدنيا لا آمان فيها، ولا راحة، ولا استقرار، ولا أمان على بيت، ولا على مال، ولا على عرض، وهم مع ذلك يأبون إلا الكفر والشرك.
أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت:67].
أي: أهؤلاء بعد كل هذه النعم التي أنعمنا عليهم، يؤمنون بالشرك، ويؤمنون بالشيطان.
وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت:67].
فجحدوا نعمة الله في جعل هذا بلداً آمناً، وجعله حرماً، وهذا كقوله فيما مضى في سورة القصص: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا [القصص:57].
وكقوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97].
وكقوله تعالى: أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:4].
أمنهم من الخوف: من القتل، وأطعمهم من جوع، فكانت لهم رحلتان، في الصيف والشتاء إلى أرض الشام واليمن.
قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ [العنكبوت:68].
يقول جل جلاله: من أعظم جرماً وأكبر ذنباً، ومن أطغى نفساً ممن افترى على الله الكذب، وزعم أن الله أرسله ولم يرسله، كما زعم مسيلمة ، وكما زعمت سجاح، وكما زعم الأسود العنسي ، فقد كذبوا على الله وافتروا بأن الله أرسلهم وهم كاذبون.
فمن ادعى علماً ولم يكن كذلك، أو معرفة ولم تكن كذلك، يكون جرمه وذنبه من أعظم الذنوب.
قوله: أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ [العنكبوت:68]: وهذا يأتي في الدرجة الثانية في عظم الجرم والذنب.
فهؤلاء الذين كذبوا بالحق، وكذبوا القرآن الكريم، وكذبوا محمداً صلى الله عليه وعلى آله، وكذبوا الرسالة؛ هؤلاء هم الذين افتروا على الله الكذب، وكذبوا الحق لما جاءهم، فمن أعظم كذباً وافتراءً منهم؟
الجواب: لا أحد!
فهؤلاء جمعوا دين الكفر والشرك والتحدي لجلال الله ولمقامه.
قوله: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ [العنكبوت:68].
هذا استفهام تقريري، أي: بلى في جهنم مأوىً ومقام ومنزل للكافرين، ولهؤلاء الذين كذبوا على الله افتراء، وادعوا ما ليس لهم، وهؤلاء الذين عندما جاء الحق كذبوه ولم يؤمنوا به، وازدادوا حرصاً وعناداً في الكفر، وصداً عن دين الله.
قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
إن الجهاد يكون بالسيف، ويكون بالقلم، ويكون بالعبادة، ويكون بكسب الحلال، ويكون بطلب العلم، فطالب العلم المجد مجاهد، والعالم الناصر للعلم مجاهد، والداعية إلى الله بكل شكل مجاهد، والحامل للسيف في ساحات الوغى والحرب مجاهد، والصابر على الطاعات مجاهد، والتارك للمعاصي بأنواعها مجاهد.
وقد فسر الصحابة والتابعون قول الله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، بأن الله يُقسم أن الذين جاهدوا في الله حق جهاده وحق طاقته، بأي نوع من أنواع الجهاد: بالسيف أو بالقلم ليهديهم سبله، أي: يهديهم إلى طرق الحق.
وسبل: جمع سبيل، أي: سبل الله، وهو السبيل الحق في الفهم، والحق في العلم، والنصر في الجهاد، والدعوة إلى الله، وهذه كما قال عمر بن عبد العزيز في تفسيرها: ومن عمل بما علم علمه الله علم ما لم يعلم!
وكل من كان في طاعة الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، يدخل تحت هذه الآية، والآية تذكر أن الله سوف يهديه السبل التي جهلها، والتي لم يعلمها، ويعرفه الحق حقّاً ويعينه على اتباعه، ويعرفه بالباطل باطلاً ويعينه على اجتنابه.
قال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
الله جل جلاله مع المحسن بالعون وبالتأييد، وبالنصر، وبالمغفرة، وبالرحمة والرضا.
والنبي عليه الصلاة السلام في حديث عمر عندما سئل عن الإيمان، ثم عن الإسلام، ثم عن الإحسان قال: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).