تفسير سورة العنكبوت [18-22]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [العنكبوت:18]:

لا يزال إبراهيم يتكلم مع قومه ويقص الله علينا محاورته ودعوته لقومه، وأنه قال لهم: قد كذبت أمم من قبلكم، وكذب الكثيرون منهم، فلم تزيدوا أكثر من أن تلحقوا بهم، وتعاقبوا عقوبتهم.

ولذلك فليس من وظيفة النبي الهداية والتوفيق، وليس من وظيفة النبي أن يدخل الإسلام في قلوبكم وعقولكم.

قال تعالى: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [العنكبوت:18] فوظيفتي ووظيفة الأنبياء قبلي وبعدي أن أبلغكم دين الله، وأن أعلن دين التوحيد، وأن أدعوكم إلى عبادة الله الواحد، وأن تتركوا الأصنام والأوثان وما لا يضر ولا ينفع، وأما الهداية فليس عليَّ هداهم ولكن الله يهدي الله من يشاء، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].

قال الله تعالى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3] أي: لعلك يا محمد! مهلك نفسك على أن يؤمن بك قومك، فلم يطلب منك هذا وإنما طلب منك البلاغ كما طلب من الأنبياء قبلك.

فأمر أن يقول لقومه: إن كذبتموني وقلتم إنني كاذب ولست رسولاً من الله، فقد سبق أن كذبت الأمم قبلكم أنبياءهم، وليست وظيفتي الهداية ولكن وظيفتي أن أدعو الناس إلى الله بما أمرني به، وأن تتركوا عبادة الأوثان، وأن تتقوه وحده، فهو المحيي المميت، وهو الخالق الرازق.

قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [العنكبوت:19].

هذه الآيات تخللت محاورة إبراهيم لقومه، وقال البعض: إنها من قول إبراهيم.

قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [العنكبوت:19].

أي: أليست لهؤلاء أعين تبصر وترى؟ ألم يتجولوا ويسيحوا في الأرض وينظروا بأبصارهم كيف ابتدأ الله الخلق أول مرة من العدم؟ وكيف كرره وأعاده؟ ألم يروا إنساناً قد مات وترك ذرية ضعافاً صغاراً فتزوجوا فكبروا وإذا بهم يلدون أولاداً، وأولئك الصغار أصبحوا كباراً، فمن الذي أمات الكبير؟

ومن الذي خلق الصغير؟

وكيف تم هذا التوالي؟ وكل يوم نرى الصلاة على الجنائز، فقوم يذهبون وقوم يأتون.

فالله بدأنا من نطفة نراها، والبنت قبل أن تتزوج وقبل أن تتصل بذكر وفحل لا تلد ولو عاشت عمر نوح، فإذا تزوجت ولدت من السنة الأولى، وقد تلد في السنة الثانية إن قدر لها، فمن الذي خلق ذلك الوليد؟ ومن خلق تلك النطفة في صلب الرجل، وتلك النطفة في رحم المرأة؟ ثم يكبر هذا المولود ثم يذهب إلى ما ذهب إليه آباؤه.

وفي هذه الأرض تأتي الشمس ويأتي الصيف، وإذا بالأرض قد يبست أوراقها وذهبت ثمارها، وأصبحت الأرض بلقعاً ليس فيها شيء، وإذا بالأمطار تأتي وإذا بالربيع يعود بعد ذلك، وإذا بالأرض تهتز بالأشجار وبالأوراق وبالثمار وبالأرزاق والخيرات، فمن الذي أتى بالأول ثم ذهب به؟ ومن الذي جدد هذا؟ فنحن نرى هذه البداية في خلق الله بأعيننا، فمن لم ير ذلك فإن بصره لا يبصر، وسمعه لا يسمع، وقلبه لا يفقه، كما قال ربنا هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان:44].

هذا في الدنيا، أما إذا حاولنا أن نستدل على الآتي بالماضي فليفكر كل إنسان في نفسه: أين كنت قبل تلك السموات؟ ومن الذي أتى بي؟ وهل كان أبي يعلم أنني سأكون له؟ وهل كنت أعلم أن ولدي سيكون لي؟ فإذا كنا نرى هذا ونعيش في واقعه ونحس به فلم نستبعد البعث يوم القيامة وقد كنا مخلوقين من قبل. والبعث أهون من الإيجاد من العدم مع أن كل شيء هين على الله ولا يعجزه شيء.

وهذا كله سهل على الله، ولا يكلفه شيء، ويكفي أن يقول: كن فيكون، فقد خلق سبحانه هؤلاء الخلق المعدودين وقام بهم وبرزقهم، وبكسوتهم، وبما يحتاجون إليه مدة حياتهم، ولو كلفت بذلك دولة لعجزت عن ذلك، وهي نفسها تحتاج لما تحتاج إليه من طعام وسكن وكسوة وصحة.

أكد الله تعالى المعنى السابق ليلفت أنظار الخلق لترك الوثنية والشرك والكفر فقال سبحانه: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [العنكبوت:20].

أي: قل يا محمد لهؤلاء: سيروا في الأرض وانظروا إلى الآثار القديمة، هذه الحفريات، هذه القصور، هذه الأهرامات كيف صنعت؟ وكيف قطعت تلك الأحجار العظيمة الطويلة من مسافات بعيدة؟ وكيف قطعت على نفس الشكل؟ وكيف وضع بعضها على بعض؟ قصور بابل كيف بنيت؟ وكيف بقيت خرائبها؟ كل هذا صنعته عقول البشرية، والله هو الذي خلقها.

فلماذا الطغيان؟ ولماذا يظن إنسان هذا القرن أنه أعلم الناس وأقوى الناس وأعرف الناس؟

يجب على الإنسان أن يعتبر وأن يفكر، ولذلك اعتبر الفكر نوع من العبادات. فإذا تفكر: من خلقني؟ كيف صنعت؟ من خلق هذه السموات؟ من خلق هذه الآثار؟ تكون النتيجة إن كان سليم العقل وكان مؤمناً هو أنه سيقول بغير شعور: الله، ولن ينكر ذلك إلا من لا عقل له، لأنه لا دليل على الكفر لا من منطق عقل ولا من برهان نقل، لا من القديم ولا من الحديث.

قال تعالى: ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ [العنكبوت:20].

الذي أنشأ الخلق وابتدأه لأول مرة قادر على أن يعيده مرة ثانية، فالذي قدر على الأول يقدر على الثاني، والذي قدر على أن يوجدنا من العدم وعلى غير مثال سابق ألا يقدر على أن يوجدنا مرة ثانية؟

إن القرآن ليس كبقية الكتب التي يجب الاستسلام لها دون دليل ولا عقل ولا فكر فيما يزعمون، ومن قال ذلك فقد كذب على الله، فكتاب الله هو الإسلام، والله يخاطبنا في كتابه ونبيه عليه الصلاة والسلام في سنته بمنطق العقل، ولذلك تجد في القرآن: (أفلا يعقلون)، (أفلا يذكرون)، (أفلا يبصرون)، ويذكر آيات في خلق الأرض والسماء: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [البقرة:164] إلى آخرها، يقول النبي بعد تلاوة مثل هذه الآيات: (ويل لمن قرأها ولم يتدبرها)، يدعو بالويل على من يقرأ ذلك بغير تدبر، وبغير تفهم وتعقل.

فديننا ليس كدين الرهبان الدجاجلة الذين أضلهم الله، والله إذا أراد ضلال إنسان كان ذلك لفساد ما في نفسه إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا [الأنفال:70].

قال تعالى: ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ [العنكبوت:20] أي: النشأة الثانية يوم القيامة.

قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [العنكبوت:20].

أي: ليس شيء إلا والله قادر عليه، يفعل ما يشاء، ويقدر على ما يشاء، خلق هذه السموات والأرض، وخلق ما في الكون من عجائب وغرائب، ومن أعجب ذلك خلق الإنسان، وأعجب من الإنسان هذه الحشرة الصغيرة التي لا تكاد ترى إلا بالمكبر.. خلقت بلسان وأمعاء وسمع، ورزقها وزوجها وجعل لها جنساً، وجعل لها إحساساً، فمن يستطيع أن يصنع ذلك؟

وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد

ومع ذلك فالإنسان ينكر، وكفار العصر أكثر من كفار الماضي، فالكفار الماضون لم يكونوا ينكرون وجود الله، إنما يدعون له شركاء، أما كفرة اليوم كالشيوعية والاشتراكية والوجودية فتنكر وجود الله.

وبهذا الفكر عاشت بعض دول العالم في فساد وضياع، وحاولت أن تدخل هذا الضياع إلى جامعات المسلمين ومدارسهم، حتى مسخت بعض عقول المسلمين فأصبحوا أشد عداء للإسلام وهم يحملون اسم المسلمين، ويصنعون بالإسلام والمسلمين ما لا يفعله أعداؤه من اليهود والنصارى وغيرهم.

قال الله تعالى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ [العنكبوت:21].

فالخلق خلق الله، والكون كونه، والظالم لا يكون ظالماً إلا إذا تصرف في ملك الغير، والله لا شريك له في ملكه، ومع ذلك لا يظلم.

يقول تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا)، وقال تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].

ولكن الله عندما يعذب يعذب بحق، وعندما يرحم يرحم بحق، ومع ذلك يغفر الذنوب جميعاً إن شاء، إلا الشرك والكفر بالله، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] .

ومن عذبه وقد مات موحداً مؤمناً إنما يمحصه ويطهره من الآثام، ثم تكون النتيجة إخراجه من النار ودخوله الجنة، أما الكافر فلا يخرج أبداً، لأن الله حرم الجنة على الكافرين، ومن مات وهو يشرك بالله ولم يقل في حياته: ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين، فهو المشرك الكافر.

قوله: وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ [العنكبوت:21].

أي: إليه المصير، والمعاد، وسنقلب وتعود حياتنا، وسيكون مصيرنا إليه، ليحاسب المحسن على إحسانه فيغفر له ويدخله الجنان، ويحاسب المسيء على إساءته فيغفر له إن شاء إن لم يكن كافراً، ويعذبه بالخلود في النار إن كان كافراً.

قال تعالى: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [العنكبوت:22] .

أي: يا هؤلاء! مهما ظننتم أنكم من القوة والحول والطول والقنابل الذرية والهيدروجينية، واذكر ما شئت من آلات السحق والمحق وفناء الأرض.. فهيهات أن يعجزوا الله خالقهم، هو القادر متى شاء أن يفنيهم وأن يسحقهم، والأمم التي سبقتهم لم تكن بأضعف منهم، فأين دولة الفرس؟ وأين دولة الرومان؟ وأين من قبلهم؟ وأين الكثير من الدول التي عاصرناها؟ وأين المملكة التي كانت لا تغرب عنها الشمس؟ أصحبت أذل من شسع النعل تسعى إلى العرب والمسلمين لتعيش على فتات موائدهم.

واذكر غيرهم وغيرهم، ويوشك عن قريب أن يذهب الكل، نتيجة غضب الله عليهم، ونتيجة ارتباط مستقبلهم بمن أذلهم الله وكتب عليهم الذل واللعنة إلى الأبد، لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ [المائدة:82] ، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167]، فذاك وعيد الله ولن تقف قوة في وجهه، ومن حاول فلا يزيد على أكثر من أن يذل نفسه، ويربط مصيره بمصير هؤلاء الأذلاء، وهؤلاء القردة والخنازير وعبدة الطاغوت.

وهؤلاء ليسوا أعداءنا نحن فقط، ولكنهم أعداء الله، ولقد لعنوا في كتبهم وعلى لسان أنبيائهم، وجدد اللعن القرآن الكريم فقال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة:78]، فمن أول أنبيائهم إلى آخر أنبيائهم وهم يلعنونهم، ونزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فأمر بطردهم من ديار المسلمين، ولكن دولاً متأخرة، ودولاً جاءت بعد عهد الخلفاء الراشدين لم يطبقوا دين الله، ولا حكم الله فأبقوهم، فكان ما كان عقوبة للمسلمين؛ لبعدهم عن الله، وكفرهم به وردتهم، ورحم الله من قال: ردة ولا أبا بكر لها، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كما دخلتم في دين الله أفواجاً ستخرجون من دين الله أفواجاً).

ومن هنا ونحن نتلو قصة خروج الدابة، فستخرج في مكة قبل غيرها، عندما تكلم الناس أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82] ثم هي تجرحهم وتكلمهم وتكتب في جبين كل كافر ومؤمن، فالكافر يفضحه الله ويكشفه أنه مسلم في المظهر وكافر في المخبر، ومنطو على الكفر، وعلى إعزاز اليهودية والنصرانية، وإعزاز النفاق، والله لم يقل: العزة لغير المؤمنين، وإنما العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون، وقد ذكر الله عن هؤلاء الذين لا يعلمون: أنهم منافقون، وإسلامهم كذب، وليس لهؤلاء أن يعايشوا إلا وهم أذلاء حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وأما أن يكونوا سادة وقادة فلا يقبل ذلك، ولا يسعى فيه إلا كاذب منافق ربط مصيره باليهود وذُلّ اليهود ولعنة اليهود.