تفسير سورة العنكبوت [12-17]


الحلقة مفرغة

قال الله جل جلاله: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [العنكبوت:12].

إن الكفر أنواع كما أن الإيمان أنواع، فهناك الكافر الداعي إلى النار وإلى الكفر، ولا يكتفي بصد الناس عن الإيمان، ولكنه في وقاحة يدعو المؤمنين إلى الردة، وترك الإيمان واتباع الكفر والشرك، وعصيان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي يحكيه الله جل جلاله هنا عن أقوام من الكفار عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة والجزيرة العربية، وهذا النوع يوجد في كل عصر وفي كل أمة، وهؤلاء نموذج لهم ومثال عنهم، فلم يكتفوا بكفرهم، بل قال هؤلاء الكفار للذين آمنوا بالله وبرسوله وبكتابه: دعوا دينكم ودعوا الإيمان ودعوا الناس، واتبعوا طريقنا وانصروا كفرنا، ونحن نلتزم لكم بأن نحمل خطاياكم وجرائمكم وآثامكم، قال الله عنهم: إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [العنكبوت:12].

وصناديد قريش ما كانوا إلا مثالاً للكفار الصادين عن الله ورسله وكتبه، وكانوا قد قالوا للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا وطريقنا في الكفر ودعوا الإيمان وعودوا إلى دين الشرك والكفر ونحن نلتزم لكم بأن نجعل آثامكم في أعناقنا، فيتحملون أوزار أنفسهم وأوزار هؤلاء الذين يضلونهم، قال الله عنهم: إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [العنكبوت:12] أي: كذبوا وافتروا، بل كما قال الله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:13] أي: أن هؤلاء الذين كذبوا وافتروا: سيحملون أوزار غيرهم.

وهنا يقسم الله جل جلاله، ولام الابتداء هي الموطئة للقسم، وأكد ذلك بنون التوكيد الثقيلة، أي: إن هؤلاء الدعاة إلى الكفر، والذين زعموا للمؤمنين بأنهم سيحملون أوزارهم وآثامهم، سيحملون يوم القيامة أوزار أنفسهم وأثقالهم، وهي جمع ثَقل وثِقل، أي: ثقل الجرم وثقل الشرك والإثم وثقل الجريمة، فيحملونها عن أنفسهم؛ لكفرهم ولشركهم ولصدهم عن الله، وليحملن مع أثقالهم وأوزارهم أثقالاً أخرى زائدة على ذلك، كما قال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت:13]، أي: وسيسألون يوم البعث، ويوم العرض على الله عن هذا الكذب والافتراء: من الذي قاله لهم؟ وفي أي كتاب وجدوه من كتب السماء؟ وفي أي منطق من العقل؟ إن هم إلا كاذبون في ذلك، وسيحملون أثقال أنفسهم وأثقال الذين أضلوهم بغير علم.

وهذا المعنى زاده النبي عليه الصلاة والسلام بياناً فذكر أن قوماً يأتون يوم القيامة ومعهم حسنات كثيرة، ولكن صاحبها يأتي وقد ظلم هذا وشتم هذا وأكل مال هذا، فيعرض يوم القيامة على الله وأصحاب الحقوق يطلبون حقوقهم، وإذا كان لا حقوق هناك وليست إلا حسناته فإنه يؤخذ من حسناته وتعطى لأولئك المظلومين، فلا يزال يؤخذ من حسنات هذا الظالم الشاتم حتى لا يبقى له شيء منها، فيقول الله لملائكته: خذوا من أوزار أولئك المظلومين واجعلوها في ميزان هذا الظالم، أي: أنه تضم أثقال هؤلاء إلى أثقاله، وأوزار هؤلاء إلى أوزاره، وآثامهم إلى آثامه.

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه يوماً: (من المفلس فيكم؟ فقالوا: الذي لا مال له ولا متاع، فقال: المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات كأمثال الجبال، ويأتي وقد ظلم هذا وأكل مال هذا وشتم هذا، فيؤخذ من حسناته وتضم لحسناتهم، حتى إذا فنيت حسناته، أخذ من آثامهم فطرحت عليه، ثم يقال: خذوه فاسحبوه إلى النار).

وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من قتل أو إثم يحدث إلا كان على ابن آدم الأول كفل من وزره؛ لأنه أول من سن القتل)، أي: لأنه كان أول من ارتكب جريمة القتل، فكان وزر القتل عليه حيث قتل فيه نفساً ظلماً وعدواناً، ويبقى عليه وزر من ارتكب هذه الآثام وقتل النفس المؤمنة بغير حق، فيحمل أوزاره وأوزار الآخرين الذين ارتكبوا عمله وتأسوا به.

ويقول عليه الصلاة والسلام: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) وهكذا.

فهؤلاء دُعاة النار وهؤلاء الكفار المشركون الصادّون عن الله ودينه قالوا كما حكى الله عنهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا [العنكبوت:12].

فطلب الكفار من المؤمنين بعد إيمانهم أن يتبعوا سبيل الكفر والشرك وسبيل التهود والتنصر وقالوا لهم نحن نحمل أوزاركم وآثامكم ويكون ذلك في أعناقنا وفي رقابنا، فقال الله عنهم: إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:12-13]، أي: بل سيحملون أثقال أنفسهم وجرائمهم وآثامهم وعظائمهم وكبائرهم، ويحملون كبائر غيرهم من الذنوب والآثام الذين أضلوهم بغير علم.

وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت:13]، أي: وسيؤتى بهم يوم القيامة فيسألهم الله جل جلاله عن هذا الإفك والكذب الذي كذبوه والباطل الذي زعموه، وذهبوا يضلون الناس به بغير علم ويقولون لهم: نحن نتحمل عنكم آثامكم، وهذا ديدن كل ضال يريد أن يغري غيره بضلاله وبكفره، سواء كان حاكماً أو محكوماً، أو زعيماً أو رعية، أو عالماً أو جاهلاً، وسواء كان داعية للكفر أو للتهود أو للتنصر، فإنه عندما يدعو غيره إلى كفره ونفاقه وبعده عن الله يحاول أن يذكر له أعماله ويفتخر بها، ويلتزم بتحمل وزر أولئك.

والله يكذبهم ويقول: إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [العنكبوت:12]، أي: بل سيحملون أثقالهم وجرائمهم وجرائم الذين أضلوهم بغير علم.

وعلى هذا قامت النصرانية، فقد جعلوا مبدأهم الصلب والفداء، وذلك عندما زعموا أن عيسى الذي صلبه اليهود رباً، فقيل لهم: كيف يكون عيسى رباً وقد صلبه اليهود وقتلوه؟ فاضطربوا وقالوا تارة عنه: هو الله، وتارة: هو ابن الله، وجعلوا الله ثالث ثلاثة، قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73]، وقال: وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30].

وهكذا تعددت أقوالهم الكفرية الصلعاء، ثم زعموا أن عيسى إنما فعل ذلك ليفدي عباده ويفدي خلقه من الإثم والجريمة والخطيئة، فجعلوا شعار دينهم ومبدئه الصلب، أي: إن ربهم صلب نفسه وفعل ذلك عن طواعية، ثم قالوا: الفداء، أي: فداهم بنفسه وتحمل آثامهم وجرائمهم؛ وبهذا كانت النصرانية جزءاً من اليهودية، ولن يكون النصراني نصرانياً إلا بعد أن يكون يهودياً؛ فهم يؤمنون بما يسمونه العهد القديم وهو التوراة، ويزعمون أنها كذلك، ثم بالعهد الجديد وهو الإنجيل.

وعيسى عليه السلام لم يُرسل إلا إلى اليهود ولم يُرسل لأحد غيرهم، وقد روي عنه في الإنجيل أنه قال: إنما أرسلت إلى خراف بني إسرائيل الضالة.

وأكّد القرآن هذا الكلام وهو المهيمن عليه، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف:6] فعيسى عليه السلام يقول لليهود: لست إلا رسولاً إليكم ومرسلاً لكم ولم أُرسل لغيركم، ولذلك إذا ذُكر في الكتب السماوية وفي الكتاب المهيمن عليها بنو إسرائيل فإنما يُقصد بذلك اليهود والنصارى معاً؛ لأن عيسى عليه السلام آخر أنبياء بني إسرائيل، والنصرانية ليست إلا ديناً إسرائيلياً حُرّف وبُدّل كما حُرّفت العقيدة فيه من توحيد إلى وثنية، وإلى جعل الله الواحد ثلاثة وعبادة الله وعيسى ومريم ، فكذبوا وأفكوا وقالوا على الله بغير علم.

فهؤلاء عندما جعلوا من دينهم ومبدأ شأنهم شعار الصلب والفداء، قصدوا أنه فدى البشرية بصلبه نفسه، وبذلك فتحوا الأبواب على مصارعها للفواحش والخطايا والجرائم، وقد قالوا لبعضهم: إن عيسى قد تحمّل عنهم وزرهم وخطيئتهم لما سلّم نفسه للصلب، فكان بذلك قد افتداهم وتحمّل خطيئاتهم؛ وهذا يكذّبه القرآن بقوله: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] وهذا هو المبدأ الإسلامي المنطقي والعقلي.

وكرر الله هذا المعنى هنا بأوسع عبارة فقال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا [العنكبوت:12]، أي: اتبعوا طريق الكفر والوثنية وعبادة عيسى ومريم وقولوا بالفداء والصلب واجعلوا ذلك شعاراً، اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ [العنكبوت:12] فكذّبهم الله فقال: وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ [العنكبوت:12] و(شيء) نكرة في سياق النفي فتعم جزئيها وكليها، وصغيرها وكبيرها، ثم أكد الله هذا التكذيب فقال: إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [العنكبوت:12]، أي: كذبوا على الحق وكذبوا على أنفسهم وكذبوا على الناس.

ثم زاد الله فقال: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:13]، أي: عقيدة الصلب والفداء في زعمهم، فلم يكن صلب ولا فداء، وإنما هي خزعبلات وأباطيل وضلالات، فقد لعبت اليهودية بهم فتلقفوها وجعلوها عقيدة، عاشوا عليها وماتوا عليها منذ ألفي سنة أو قريب من ذلك، فكذّبهم الله وقال عنهم: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت:13].

أي: وسيبعثون بعد الموت يوم القيامة للحساب وللعرض على الله يوم الفصل بين الخلق، فيسألون عن هذا الكذب الذي كذبوه والذي افتروه، وكيف يكون رب قد صُلب وغلبه مخلوقه وعابده؟ هذا لا يكون إلا في عقول ذهب نورها وخيرها وكثر ضلالها وتاهت في الأرض في ضلال وعماية، لا تميز بين نور وظلمة ولا بين حق وباطل.

قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت:14].

هنا يسلي الله جل جلاله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ويعزيه ويقول له: يا محمد! ما لقيت من قومك في مكة أنت وأتباعك من شطط ومن اعتداء وتكذيب فنوح قد سبقكم إلى هذا الصبر والبلاء، فقد بقي مدة ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعو قومه إلى الله وإلى عبادته، وبعد هذا العمر الطويل وهذه القرون الممتدة ما آمن معه إلا قليل.

قال بعض المفسرين: لم يؤمن معه إلا اثنا عشر شخصاً، وبالغ من بالغ فقال: آمن معه سبعون شخصاً، وقد قال الله عنه: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40].

وأخبره بأنه لن يؤمن معه إلا من قد آمن، وعندما أخُبر من الله بذلك يئس، وعند ذلك دعا على قومه كما قال تعالى حاكياً عنه: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:26-27]، فاستجاب الله له وكان ما سيذكره الله.

وقصة نوح عليه السلام قد مضت في سورة هود مفصّلة بعض الشيء، وإنما أعيد ذكر نوح هنا للتسلية والعزاء لنبينا عليه الصلاة والسلام فيما لقي من قومه من تكذيب وصد، ومن إصرار على إخراجه من بلدته وهي عزيزة عليه، وما تركها -وهي أحب البلاد إليه- إلا مرغماً طاعة لله وثقة في وعده على أنه سيعود إليها فاتحاً مظفّراً منصوراً، وقد نزل عليه عليه الصلاة والسلام وهو مهاجر إلى ربه في الجحفة -رابغ- قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85]، أي: سيُعيدك إلى مكة عزيزاً مظفّراً منتصراً على أعدائك، وكذلك كان، وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111].

وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بُعث نوح لقومه وهو ابن خمسين ومائتي سنة، ثم عاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة) أي: أنه عاش ألفاً وأربعمائة وخمسين سنة.

وورد أن ملك الموت عندما جاءه لأخذ روحه قال: يا نوح! ويا أطول الأنبياء عمراً! يا مجاب الدعوة! -وكان قد دعا على قومه- كيف وجدت الدنيا؟

قال: كمن بنى بيتاً وجعل له بابين دخل من باب وخرج من الآخر، فكانت هذه السنون وهذه القرون عند الموت وكأنها لم تكن.

وقد مثّل النبي عليه الصلاة والسلام الدنيا كلها كمسافر آذاه حر الشمس فاستظل تحت ظل شجرة منتظراً الفيء ثم مضى، أي: إن الحياة كلها منذ الخلق الأول إلى يوم القيامة ليست عند نهايتها إلا كإنسان آذاه حر الشمس فاستظل تحت ظل شجرة حتى إذا زالت الشمس تابع طريقه، وكأن الدنيا لم تكن.

قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [العنكبوت:14].

فهؤلاء الذين عذّبوا وأتعبوا وكذّبوا نوحاً نبي الله طوال هذه القرون الطويلة أغرقهم الله بالطوفان، فقال للسماء: أمطري وقال للأرض: أخرجي، وهكذا.

وقد كُلّف نوح قبل ذلك بأن يبني سفينة ويصنعها، فصنعها وركب معه من آمن، وجاء الطوفان على الخلق كلهم رجالهم ونسائهم، صغارهم وكبارهم، إنسهم وجنّهم، طيرهم وحيوانهم، ولذلك حمل نوح معه من كل شيء زوجين من كل أنواع الدواب ومن كل أنواع الطير إلى أن عادت الحياة مرة أخرى عندما قال الله للأرض وللسماء: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي [هود:44].

وكانت النتيجة ذهاب العقاب وترك أثره عبرة للمعتبرين ما دامت الدنيا وما دام الإنسان على وجه الأرض.

قال تعالى: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [العنكبوت:14]، أي: أخذهم عذاب الله بطوفان الماء عليهم فماتوا غرقاً وهم ظالمون، وحل عليهم ظلمهم لأنفسهم، والظلم إذا أُطلق لا ينصرف إلا إلى الكفر، أي: وهم كافرون بالله وبنبي الله وبالحق الذي جاء من الله، فعوقبوا في الدنيا بالطوفان والغرق، ولعذاب الله يوم القيامة أشد وأنكى.

قال تعالى: فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [العنكبوت:15] فطاف الطوفان على الأرض فلم ينج الله منه إلا نوحاً ومن آمن معه، بل إن أحد أولاده لم يؤمن به وأبى إلا الكفر وقال سأستعصم بجبل من الماء، وقال له والده: لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود:43] وهكذا حال الموج بينه وبين ولده، فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود:43]، وهو كافر بالله.

فتجددت الحياة بعد ذلك وأنقذ الله نوحاً ومن آمن معه من الغرق، وما آمن معه إلا قليل، وترك الله ذلك آية وعبرة ودرساً للعالمين ولكل العوالم التي ستأتي بعد نوح وتسمع قصته.

وقد ذُكرت هذه القصة في جميع الكتب السماوية: التوراة والإنجيل والزبور على ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير إلى أن نزل الكتاب الخاتم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فبيّن وفصّل وأظهر ما زاده أولئك الذين انحرفوا وتركوا الدين الحق، وعندما نسخت أديانهم بكتاب الله القرآن وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم بقوا على ضلالاتهم وأوهامهم وشركهم، لا تزيدهم الأيام إلا إصراراً على الكفر وظلمة وضلالاً.

والضمير في (جعلناها) قال قوم: يعود للعقوبة، أي: تركنا هذه العقوبة التي كانت بالطوفان والغرق عبرة ودرساً للعالمين بكل أنواعهم إلى يوم القيامة.

وقال بعضهم: (وجعلناها) أي: السفينة نفسها بما حملت وأنجت من الذين ركبوها. وسواء عاد الضمير للعقوبة أو للسفينة أو للنجاة فالمعنى واحد، فقد كان الطوفان عبرة، وكانت نجاة نوح ومن آمن معه عبرة، وكل ذلك تركه الله في كتابه عبرة للمعتبرين وفكراً للمفكّرين ودرساً للدارسين؛ ليتخذوا منه العبر في حياتهم ومستقبل أيامهم، حتى إذا حدّثت الإنسان نفسه بالكفر والشقاق فيجب أن يعلم أن الذي عاقب الأولين بعضهم بالغرق وبعضهم بالخسف وبعضهم بجعل الأرض عاليها سافلها هو الله الذي كان ولا يزال، والذي لا أول له ولا آخر، وهو على ما كان لا يزال جل جلاله. وذلك درس وتهديد ووعيد للكفرة والمنافقين الذين يأبون إلا الإصرار على الكفر والشرك.

قال تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [العنكبوت:16].

إبراهيم مفعول منصوب لأرسلنا المتقدمة، ويحتمل أن يكون المعنى: واذكر يا محمد! إبراهيم، أي: اذكر قصته وطالما تُليت وكررت في القرآن الكريم عند كل مناسبة لحكمة جدت ولواقعة نزلت ولعبرة دعت إليها، وكذلك هي تسلية وتعزية له صلى الله عليه وسلم؛ لأن نوحاً تحمّل من قومه الشدائد ألف سنة إلا خمسين عاماً، وتحمل إبراهيم من ذلك ما يقاربه أو يزيد، فقد ابتلي في سبيل الدعوة إلى الله من قومه منذ اليوم الأول بأن أُخذ أخذاً وطُرح في النار للحرق وللعذاب والمحنة، ولكن يأبى الله إلا نصرة رسله وأوليائه والعاقبة للمتقين.

فأنت يا محمد! مهما كذّبك قومك وقالوا: إنك ساحر ومجنون، ومهما هجروك وأدموك وأخرجوك من بلدك فلم يحصل لك ما حصل لنوح مع قومه ولا لإبراهيم مع قومه، فكان ذلك من الله جل جلاله تقوية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم ليزداد نشاطاً وحركة ودواماً واستمراراً في الدعاء إلى الله وتبليغ الرسالة والأمر بها بلسانه وبسيفه وفي حياته كلها حاضراً ومسافراً.

وإبراهيم عليه السلام دعا قومه إلى ترك الأوثان وإلى نبذها، وإلى أن المعبود هو الله الحق، فهو الخالق وهو الرازق وهو الواحد الذي لا ثاني له وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ [العنكبوت:16]، أي: اجعلوا وقاية وشيئاً يقيكم من عذاب الله ولعنته وغضبه وعقابه، وهذه الوقاية هي عبادته وطاعته وامتثال أمر نبيهم. فقال لهم: يا قومي! إيمانكم بالله وعبادتكم له وحده خير لكم حالاً ومآلاً، وخير لكم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا ينصركم الله ويملككم رقاب الخلق حُكّاماً عليهم وناشرين للتوحيد والعدل، وفي الآخرة يجازيكم الله ويكافئكم برحمته ورضاه وبدخول الجنان.

إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [العنكبوت:16]، أي: إن كانت لكم عقول تفهم وآذان تسمع، وعيون تُبصر، وأما إن كانوا كما وصفهم الله بأنهم كالأنعام بل هم أضل فسيصرون على كفرهم وعلى شركهم وعلى عنادهم.

فبعد أن دعاهم إلى الله وبين لهم ما يجب أن يفعلوه وما يجب أن يتركوه ذكر لهم أن ذلك خير لهم لو كان عندهم علم ومعرفة.

قال تعالى: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17] .

أي: قال إبراهيم لقومه: هذا الذي تعبدونه من دون الله وتخصونه بالعبادة من دون الله ليس إلا أوثاناً، وهنا أتى بأسلوب الحصر.

والأوثان جمع وثن، والوثن: الصنم والحجر والخشب يصنعه الإنسان ثم يسجد له، وأنواع الأوثان في الأرض كثيرة، فمن الناس من عبد الملائكة، ومن الناس من عبد الجن، ومن الناس من عبد الأنبياء والصالحين كعيسى ومريم ، ومن الناس من عبد الأحجار، ومن الناس من عبد ما يسمونه الطبيعة، ومن الناس من عبد اليهود، ومن الناس من عبد ماركس ولينين وتركوا دين الله وقالوا بالشيوعية والاشتراكية كفراً بالله، وابتعاداً عن دينه، وتغييراً لإمام الهداة وإمام الأنبياء إلى أسماء قذرة وسخة عوضاً عن هذا الدين الحق والإمام الحق محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

فهذه الأوثان قال إبراهيم عنها لقومه: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [العنكبوت:17].

أي: إنما تعبدون أوثاناً وأصناماً لا تضر ولا تنفع، فهي لا تنفع نفسها ولا تضرها، فكيف تنفعكم أو تضركم؟ أتركتم الله الخالق الرازق الذي يرزق ويعطي ويمنع وعبدتم المخلوق العاجز!!

إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا [العنكبوت:17] وكيفما كان شكلها فهي أصنام لا تضر ولا تنفع سواء كانت جامدة أو متحركة، فهي لا تضر ولا تنفع نفسها فكيف بغيرها؟

وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [العنكبوت:17].

أي: تصنعون كذباً وزوراً وتأتون إلى هذه الأصنام فتسمونها آلهة، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [النجم:23].

فلا سلطان علم، ولا دليل عقل، ولا دليل نقل، وإنما هي أمراض وعلل أُصيبت به عقولكم، وتركتم الله الخالق، وتركتم الأنبياء على عصمتهم وعلى رسالتهم، وتركتم خاتم الأنبياء والرسل الذين أُرسل لكل الخلق منذ بعثته كما قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، فكان رسولاً للخلق جميعاً إلى يوم القيامة، ولا دين عالمي جاء لكل الخلق إلا الإسلام.

وأما الأديان الأخر فهي أديان محصورة في أقوام وعصور، ولو ادعى بعضهم أو جميعهم أن أديانهم عالمية، فمثلاً موسى لم يرسل إلا لبني إسرائيل، وعيسى قد ذكرنا قوله في الإنجيل والقرآن، وأما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد قال: (خصصت بخمس) فذكر منها: (كان الأنبياء قبلي يُرسلون إلى أقوامهم خاصة، وأرسلت للناس عامة).

وقال عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتّباعي) وعيسى عليه السلام كذلك، وهو لا يزال في السماء فقد رفعه الله إليه، وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ [النساء:157] وإنما تلك فرية افتراها اليهود وصدقتها النصارى؛ لفساد عقولهم ولسخافة نفوسهم.

و إنجيل برنابا يصرّح بهذا المعنى الذي قاله القرآن الكريم من أن عيسى لم يُصلب ولم يُقتل، وإنما قُتل شبيه له من حوارييه كان منافقاً باعه بدراهم معدودة إلى حاكم القدس إذ ذاك، وقد قال الله تعالى في كتابه: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، أي: قتلوا شبيهاً له وهم يعلمون أنه ليس بعيسى.

وفي إنجيل برنابا : أن هذا الذي حملوه على الصليب وألبسوه تاج الشوكي كان وهو في الطريق إلى الصلب يبكي ويصيح: لست عيسى، أنا شكوت عيسى وأغريت الروم بعيسى، وهم يلعنونه ويتفلون في وجهه، ولكن الله رفع إليه عيسى!

وقد اجتمع به نبينا عليه الصلاة والسلام عند المعراج في السماء الأولى، وسينزل في آخر الزمان بنص القرآن ونص السنة المتواترة وإجماع المسلمين، وما أنكر ذلك إلا ضال أو جاهل أن يتعلم، وليس الجهل بعذر، فسينزل عيسى ويكون من أتباع نبينا، وسيحج حجة الإسلام، ويصلي صلاة المسلمين وسيأتم بالمسلمين، وقد ترجم له من كتب في الصحابة، فترجم له الحافظ في الإصابة على أنه من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأن تعريف الصحابي ينطبق عليه، فالصحابي هو من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً وآمن به ومات على ذلك، وعيسى اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو حي، وسينزل للأرض وهو على دين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى دين الإسلام، وسيموت على ذلك، فهو إذاً صحابي كما ترجم له من كتب في تراجم الصحابة كـابن الأثير وكـابن عبد البر والحافظ ، وهذا إجماع بين المسلمين.

وقوله تعالى: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [العنكبوت:17]، أي: تخترعون وتختلقون وتصنعون الكذب إفكاً وكذباً وتزعمون أنها آلهة، وأنها معبودات من دون الله، وليس ذلك إلا في عقولكم السخيفة الضائعة، قال الله تعالى عن إبراهيم فيما قاله لقومه: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا [العنكبوت:17].

أي: هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله لا يملكون أن يطعموكم إذا جعتم، أو يسقوكم إذا عطشتم، أو يشفوكم إذا مرضتم، أو يحيوكم إذا متم، فكيف تعبدون من لا يضر ولا ينفع؟

فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت:17]، أي: من أراد الرزق فليطلبه من الله، ولا يستغني مخلوق عن الرزق وإلا لمات جوعاً وهلك عطشاً، ولو طلبوا ذلك من الأوثان لما فعلت، فهم يعبدون من لا يعطيهم ويتركون من يعطيهم، فهل هناك سخافة وضياع عقول أقبح من هذا؟

فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت:17]، أي: ابتغوا الرزق عنده، فهو جل جلاله قادر على رزق هؤلاء العباد بكل أشكالهم وأنواعهم ولا يعجزه عن ذلك شيء، وهو القادر على كل شيء.

قال تعالى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17] فالله وحده الذي يجب أن يُعبد فاعبدوه، وهو الذي يجب أن يُطلب منه الرزق ويُبتغى ويُراد فهو القادر، فالشكر له والحمد له.

إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17]، أي: إلى الله الرجوع وإليه المعاد والبعث، وعندما نحيا ونبعث مرة ثانية إلى الله فهو الذي سيحاسبنا على من فعل خيراً فخير ومن فعل شراً فشر، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].

فكيف تتركون الخالق الرازق، وتجرون خلف من لا يضر ولا ينفع، ومن لا يرزق ولا يحيي؟!