تفسير سورة الحج [29-32]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] .

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحج:29] التفث في اللغة العربية: القذارة والوسخ، أي: ليزيلوه، والمراد من الآية: زوال ما علق بالإحرام وكان يمنع زواله كحلق الشعر أو قصه، أو تقليم أظفار اليدين أو الرجلين، أو زوال شعر العانة، أو ما يدعو إلى التطيب وإلى التزين، أو يأخذ من شعره رأساً أو لحية.

ومن المعلوم أنه في الماضي عندما كان يحج الحاج يأتي راجلاً أو يأتي على الدواب، وقد أدرك هذا الكثير من معاصرينا، ولو كنا هنا لأدركنا ما أدركه غيرنا، ولقد كانوا يحجون على الدواب من مكة إلى المدينة عشرة أيام أو تزيد، وراجلين في نحو شهر.

وأما من الديار البعيدة، أما من الشرق الأقصى، أما من المغرب الأقصى فكان يستغرق ذلك عاماً أو يزيد، فعندما يبتدئ الإحرام من مواقيته خلال عشرة أيام وخاصة من أفرد إذا وصل إلى هنا قبل شهر الحجة تجده يبقى محرماً شهراً وشهرين متصلين، لا يقلم أظفاراً، ولا يقص شعراً، ولا يزيل شعر عانة، ولا يأخذ من شاربه، ولا من لحيته، ولا من رأسه، ولا يتطيب، فيتجمع هذا ويتكاثر وقال عنه الله تعالى: التفث.

قال إمام اللغة الزجاج : هذه الكلمة لا أعرفها ذكرت في معاجم اللغة إلا في القرآن الكريم، فمن القرآن أخذناها، ومن القرآن علمنا معناها.

معنى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحج:29]: أي: يزيلون ما علق بهم بعد نهاية الحج وإتمام المناسك، عندما يزيلون الإحرام ويتمون طواف الإفاضة يقلمون أظفارهم، ويحلقون عاناتهم، ويحلقون رءوسهم أو يقصرونها، ويأخذون من الشارب، ويجملون اللحية في أطرافها ومن أطرافها، ويلبسون الثياب النظيفة.

وهنا يكونون بهذا العمل قد أزالوا التفث، وأزالوا ما ارتبط بالإحرام من هذا الذي سماه التفث، وقالوا عنه: القذر والوساخة، وذاك زيادة في العبودية لله، وزيادة في أن يقف المالك والمملوك، الكبير والصغير، الغني والفقير حاسري الرءوس بألبسة أشبه ما تكون بأكفان الميت، فالكل يقف ويقول: لبيك اللهم لبيك، كلهم عبيد أمام المعبود الذي لا يعبد سواه، ولا يأله سواه، ولا يخلق غيره جل جلاله وعلا مقامه.

هذا الموقف الذي يتذكر الإنسان فيه الموت ويوم العرض على الله، هذا اليوم الذي كان أول نوع من المؤتمرات في العالم، ولم يكن يتصور قبل المواصلات الجديدة وقبل الهواتف والصلات الجديدة من مركوبات شراعية بخارية، وبرية، وجوية. ومن قبل الهواتف بالسلك واللاسلك، فلو دعا إنسان إنساناً إلى تجمع في مؤتمر من الهند إلى المغرب الأقصى، وإلى مختلف أقطار الأرض لكان ذلك يحتاج إلى السنة والسنتين، ومن هنا لم يحدث هذا قط.

وأول من أحدثه وأوجبه وجعله ركناً من أركان الإسلام هو الله جل جلاله في كتابه، ثم نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه في شرحه وسنته وبيانه، فكان من الأسرار المطوية في هذه العبادة اجتماع المسلمين من مختلف أقطار الأرض منذ 1400 عام؛ ليتبادلوا الشكوى، وليتبادلوا الآلام والآمال، وليعلم كل مسلم حال المسلمين من إخوانه في مشارق الأرض ومغاربها.

فعندما يعود هؤلاء الناس مختلفي الألوان واللغات والآراء والأصقاع والأوطان، يعودون وقد زودوا بحال إخوانهم المسلمين: إن كانوا في ضيق وضر أعانوهم إن بالمال وإن بالسلاح، وإن بالتأييد القولي.

وإن كانوا بخير فرحوا بفرحهم، وسروا بسرورهم، وقديماً جعل الله جل جلاله الأخوة بين المؤمنين فقط، وقسم العالم أرض حرب وأرض إسلام.

والله تعالى يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] فلا إخوة إلا بين المؤمنين الذين يعبدون رباً واحداً، ويدينون بالولاء، ويؤمنون بنبوءة نبي واحد، ويؤمنون بكتاب واحد هو كتاب الله، والمفروض أن تكون اللغة واحدة هي لغة القرآن، لغة النبي المرسل والمنزل عليه القرآن عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

قال تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحج:29] أي: يزيلوا ما علق بهم نتيجة الإحرام الذي طالت أيامه، وما ارتبط به من طول أظفار وطول شعر وقلة غسل وتطييب.

وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج:29] أي: يقومون بالوفاء بالعمل الكامل للنذور، وهي: جمع نذر.

وقالوا هنا في النذور: هي مناسك الحج: فضائله وأركانه وواجباته وآدابه؛ لأن الإنسان عندما يبتدئ النية بعمل واجب أو بعمل مرغوب يكون فيه متطوعاً، وبمجرد البداية فيه يصير لا بد من التمام، فالبداية موجبة للتمام، وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33].

فلا يجوز لنا -حتى ولو في النافلة- أن نكبر تكبيرة الإحرام، ونقرأ الفاتحة وسورة، ثم يبدو لنا فنترك الصلاة ونقول هي تطوع، فهذا لم يأذن به رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا في الصيام، وقال: (المتطوع أمير نفسه: إن شاء صام وإن شاء أفطر)، ولا يكون إلا إن دعته لذلك ضرورة كما قال الكثير من الأئمة، حتى إنه إن أفطر لهذه الضرورة ولو إرضاء ضيف أو إرضاء عزيز فعليه أن يعيد اليوم الذي ابتدأه؛ لأننا منعنا من أن نبطل أعمالنا عندما نبتدئها.

وقالوا: النذور يدخل فيه نذر الضحايا، ونذر الهدايا، ونذر الذبائح التي نقدمها على اسم الله وذكر الله، نأخذ منها لذلك، ونتصدق بالباقي على الفقير الذي يحسب غنياً بمظهره وحاله، يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة:273]، أو السائل الذي يسأل ويقف على الأبواب ويطلب منك.

هذه الضحايا تعتبر نذوراً، وهذا الحج بمجرد الإحرام ولو كان تطوعاً فلا بد من إتمامه، ومن قطعه فإنه يأثم، وعليه أن يعيده.

وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] البيت العتيق هو الكعبة المشرفة.

وَلْيَطَّوَّفُوا [الحج:29] أمر من الله بلام الأمر بالطواف، وأجمعوا في تفسير الطواف هنا: أنه طواف الإفاضة، والذي يسمى كذلك طواف زيارة، وهو ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، ووقته وزمنه يوم النحر عندما نقص أو نحلق، وعندما ننحر أو نذبح، نأتي ننزل للكعبة فنطوف بها سبعاً، وعند ذلك نزيل الإحرام وما ارتبط بالإحرام ونتنظف ونتطيب ونخرج مما كنا سجناء فيه ونحن حجاج.

نزيل الإحرام ولواحقه، ولا يمنع إلا النساء، لا يقربن إلا إذا انتهت أيام منىً.

أنواع الطواف

الطواف بالحج ثلاثة أنواع:

الطواف الأول: عند دخول الحاج إلى مكة من خارجها، فعليه أن يطوف بالبيت سبع مرات: ثلاث منها تكون هرولة أو قريباً من الهرولة -تكون خبباً-، وأربع تكون مشياً عادياً، وهذا هو طواف القدوم.

الطواف الثاني: طواف الإفاضة، وهو ركن بإجماع، وهو المقصود في قوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29].

الطواف الثالث: قال بوجوبه المالكية، ومن لم يفعل فعليه دم، وعليه أن يعود إليه إذا تركه ولو كان قد وصل إلى بلده، ولكن الجمهور على سنيته، ولا خبب فيه ولا هرولة، كطواف الزيارة.

وهذا الطواف الثالث يسمى طواف الوداع.

والسر في الهرولة أو الخبب في طواف القدوم هي ذكرى لدخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء بعد معاهدة الحديبية، وذلك في السنة السابعة.

فقد دخل صلى الله عليه وسلم والسيوف في أغمادها وقرابها، واختفى أهل مكة لكيلا يروا هذا المنظر من محمد صلوات الله وسلامه عليه، فقد أرادوا قتله، وأرادوا سجنه، وأرادوا منعه من الخروج، وقصدوا له الغوائل من كل جانب، فأنقذه الله منهم، وذهب إلى المدينة، فأصبح ذا أنصار وأعوان وجند، فامتنع عنهم، وما عادوا يطمعون في القضاء عليه إلا حرباً، اختفوا لكي لا يروه؛ عداوة وحقداً، وإذا بالأطفال وإذا بالغلمان والعبيد والأرقاء ذهبوا إلى سادتهم يقولون: انظروا إلى محمد ومن معه جاءوا يجرون أرجلهم فقراً وحاجة، وألبسة ممزقة، ووجوه ضعيفة هزيلة، ووجوه لشيوخ لا يكادون يستطيعون رفع الأقدام من الأرض، فخرجوا ليروا هذا المنظر، وليتشفوا فانتبه النبي عليه الصلاة والسلام لذلك أو سمعه أو قيل له، فأمر أصحابه وهو القائل عليه الصلاة والسلام: (رحم الله مؤمناً أظهر من نفسه قوة)، وهو القائل كذلك: (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، وأمر بأن يطوفوا مظهرين القوة، فأخذوا يهرولون، والله تعالى ألبسهم لباس القوة ولباس الشباب، ولباس ما يسمى الآن الرياضة والفتوة، فرأى هؤلاء هذا المنظر فكبتوا به وتألموا له، وحزنوا من أجله، وقالوا: أهؤلاء الذين قلتم لنا إنهم ضعاف هزال ويكادون يجرون أرجلهم في الأرض جراً؟! والله! إنهم كالنمر وهم يقفزون، والله! إنهم كغزلان الغاب وهم يطوفون، وكان هذا هو المقصود عند النبي عليه الصلاة والسلام؛ ليغيظ عدوه، وإغاظة العدو مهما تكن قلتها فيها أجر وثواب للمؤمن المسلم، فبقي بعد ذلك لكل قادم، ولكل زائر لمكة طائفاً كان أو معتمراً أو حاجاً: أن يكون طوافه للقدوم بهذا النوع ذكرى لليوم الأول الذي دخل فيه صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة.

وأما الطواف الثالث وهو طواف الوداع فلا يحتاج لذلك، وأهل مكة ليس عليهم طواف قدوم؛ لأنهم مقيمون في مكة فليس هناك قدوم، ومن حج من مكة كذلك ليس عليه صلاة قدوم؛ لأنه قد قدم وأقام فليس هناك حاجة إلى طواف القدوم.

قال تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ -يقومون بالوفاء بها كاملة- وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29].

قال العلماء في سبب تسمية الكعبة وبيت الله الحرام بالعتيق كلمات قد تكون جميعها صحيحة، وتصلح جميعها أن تكون تفسيراً لكلمة العتيق.

فالعتيق هو: الكريم، التليد، المقبول والمحبوب، القديم الذي مضى عليه زمن الله أعلم كم مقداره.

وقالوا: سمي العتيق؛ لأنه أول بيت بني، فهو أعتق بيت وأقدم بيت لله في الأرض، وهذا أكده القرآن، وزادته السنة بياناً، فقد قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96].

وسئل عليه الصلاة والسلام: (ما أول مسجد بني في الأرض؟ قال: بيت الله الحرام، ثم سئل: والمسجد الأقصى، قال: بني بعده بأربعين عاماً)، فهو بهذا الاعتبار عتيق والكلام صحيح قرآناً وسنة.

وقالوا: العتيق الذي كرمه الله من أن يحتله ويستذله جبار من الجبابرة، أو عدو من الأعداء يهينه أو يذله، فلم يحدث لهذه البنية الكريمة، وهذه الديار المقدسة ما احتلها عدم لا في أيام الجاهلية ولا في أيام الإسلام.

ومن هنا كان العرب وضعهم في الجاهلية والإسلام غريباً، فقد كان يوجد في أيام الجاهلية دولتان عظيمتان متسلطتان على الأرض: فارس والروم، وتقريباً أنهما قد احتلتا العالم، ولكنهما لم يحتلا جزيرة العرب، كان لهم شبه سيادة في اليمن، أما الحجاز فلا.

ومن هنا لم يصل ولم يقدر الله جباراً من الجبابرة ولا طاغية من الطغاة على أن يحتل مكة أو يذلها وأن يذل أهلها، قد كان بعض ذلك من بعضهم لبعض، وهذا كلام آخر، ومع ذلك فهؤلاء لم يضربوا الكعبة، ولكن حدث ذلك أيام بني أمية؛ أيام عبد الملك بن مروان بتنفيذ الحجاج الظالم، وقد كان يحكم مكة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه فحاربه وقاومه ليذله ويخضعه لـعبد الملك ، فامتنع كل الامتناع وأبى كل الإباء، إلى أن تفرق عنه أصحابه، وبقي فريداً، وقال لأولاده أيضاً: اذهبوا عني، دعوني للقدر ولقضاء الله، وما أرى صبيان بني أمية إلا ممثلين بجسدي، ولعلهم يصلبونني على الكعبة، فقالت له أمه: أأنت على حق أم على باطل؟

قال: بل أنا على حق، قالت: والله! إن كنت على غير حق في حربك مع هؤلاء -وأنت تعلم أنك لست على حق- فإني أخشى أن يتلاعب بك صبيان بني أمية، وأما إن كنت على حق فلا تهتم بهم، فالشاة لا تعذب بعد السلخ -أي: بعد الموت- فالشاة عندما تموت ويذهب الجزار ليسلخ جلدها عنها فإنها لا تعذب وقد ماتت، فعش عزيزاً ومت عزيزاً، فإن أنت صلبت أو مثل بك فإنك لن تعذب جسداً، وتكون قد قدمت ما استطعت، والغلبة والنصر بيد الله، وليس ذلك بيد أحد، قال تعالى: أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [البقرة:165].

فحدث ما توقع، فـالحجاج ضرب الكعبة بالمنجنيق، ولكن هذا كان ظلماً واعتداء منه، ولم يقصد به هوان الكعبة أو إذلالها وإلا لكان مرتداً، ولكان عبد الملك مرتداً، ولكان كل من صنع ذلك مرتداً، وهو قد فعل ما فعل وقال: إن ابن الزبير هو المسئول فهو الذي أحوجني لفعل هذا، وبمجرد ما انتهت المعركة عاد للبيت فجدد بناءه وجدد تنظيمه، وطاف به معتذراً، وأما إن كان محقاً أم مبطلاً فهذا كلام آخر.

قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25] فكل الأحكام في الشريعة لا تكون إلا بعد فعل الذنب إلا في مكة، فمجرد الإرادة بالظلم والاعتداء فإن الإنسان يأثم وقد يعاقب، وللشارع أن يؤدبه بما يراه مصلحة لتطهير مكة منه، ولإبعاد الظلمة منها بأي عمل من الأعمال.

وقد جاء أبرهة وحاول أن يذل الكعبة وأن يهدمها حجراً حجراً، ولكن هيهات، فقد سلط الله عليه طيراً أبابيل كما قصصنا، فجاءت هذه الطيور السوداء يحمل كل واحد منها ثلاث حجرات بحجم حبة العدسة؛ واحدة في المنقار واثنتين في الرجلين، فرميت هذه الحجارة على رأس الفيال، فدخلت من الرأس إلى الأمعاء، ومنه إلى ظهر الفيل، ومنه إلى بطن الفيل فأصبح الفيل وراكبه عصفاً مأكولاً؛ أي: كالحشيش الذي تأكله الدواب، وأصبحوا كالبعر عندما يخرج من الدواب وأصبحوا كرجيعها، أي: كالحشيش الذي يؤكل فيخرج بعراً، وهكذا فإن الله طهرها من الجبابرة في الجاهلية وفي الإسلام.

وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] قالوا: لا يمسها جبار، وفسروا العتيق بأنه عندما فاضت المياه أيام نوح على قومه، فقد حفظ الله البيت، فلم يغرق في هذا الطوفان، وقيل: إنه رفع، وقيل بقي في مكانه، ولكن المياه بقيت بعيدة عنه.

كما جعل الله طريقاً في البحر يبساً لموسى ومن معه، وتبعهم فرعون ومن معه من جنده، وأصبح البحر كالجبل عن اليمين من المياه وعلى اليسار من المياه، فدخل فرعون فالتقى الجبلان وغرق فرعون ومن معه، كان هذا الماء مفروزاً عن الكعبة فلم تغرق كما غرق الكون.

الطواف بالحج ثلاثة أنواع:

الطواف الأول: عند دخول الحاج إلى مكة من خارجها، فعليه أن يطوف بالبيت سبع مرات: ثلاث منها تكون هرولة أو قريباً من الهرولة -تكون خبباً-، وأربع تكون مشياً عادياً، وهذا هو طواف القدوم.

الطواف الثاني: طواف الإفاضة، وهو ركن بإجماع، وهو المقصود في قوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29].

الطواف الثالث: قال بوجوبه المالكية، ومن لم يفعل فعليه دم، وعليه أن يعود إليه إذا تركه ولو كان قد وصل إلى بلده، ولكن الجمهور على سنيته، ولا خبب فيه ولا هرولة، كطواف الزيارة.

وهذا الطواف الثالث يسمى طواف الوداع.

والسر في الهرولة أو الخبب في طواف القدوم هي ذكرى لدخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء بعد معاهدة الحديبية، وذلك في السنة السابعة.

فقد دخل صلى الله عليه وسلم والسيوف في أغمادها وقرابها، واختفى أهل مكة لكيلا يروا هذا المنظر من محمد صلوات الله وسلامه عليه، فقد أرادوا قتله، وأرادوا سجنه، وأرادوا منعه من الخروج، وقصدوا له الغوائل من كل جانب، فأنقذه الله منهم، وذهب إلى المدينة، فأصبح ذا أنصار وأعوان وجند، فامتنع عنهم، وما عادوا يطمعون في القضاء عليه إلا حرباً، اختفوا لكي لا يروه؛ عداوة وحقداً، وإذا بالأطفال وإذا بالغلمان والعبيد والأرقاء ذهبوا إلى سادتهم يقولون: انظروا إلى محمد ومن معه جاءوا يجرون أرجلهم فقراً وحاجة، وألبسة ممزقة، ووجوه ضعيفة هزيلة، ووجوه لشيوخ لا يكادون يستطيعون رفع الأقدام من الأرض، فخرجوا ليروا هذا المنظر، وليتشفوا فانتبه النبي عليه الصلاة والسلام لذلك أو سمعه أو قيل له، فأمر أصحابه وهو القائل عليه الصلاة والسلام: (رحم الله مؤمناً أظهر من نفسه قوة)، وهو القائل كذلك: (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، وأمر بأن يطوفوا مظهرين القوة، فأخذوا يهرولون، والله تعالى ألبسهم لباس القوة ولباس الشباب، ولباس ما يسمى الآن الرياضة والفتوة، فرأى هؤلاء هذا المنظر فكبتوا به وتألموا له، وحزنوا من أجله، وقالوا: أهؤلاء الذين قلتم لنا إنهم ضعاف هزال ويكادون يجرون أرجلهم في الأرض جراً؟! والله! إنهم كالنمر وهم يقفزون، والله! إنهم كغزلان الغاب وهم يطوفون، وكان هذا هو المقصود عند النبي عليه الصلاة والسلام؛ ليغيظ عدوه، وإغاظة العدو مهما تكن قلتها فيها أجر وثواب للمؤمن المسلم، فبقي بعد ذلك لكل قادم، ولكل زائر لمكة طائفاً كان أو معتمراً أو حاجاً: أن يكون طوافه للقدوم بهذا النوع ذكرى لليوم الأول الذي دخل فيه صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة.

وأما الطواف الثالث وهو طواف الوداع فلا يحتاج لذلك، وأهل مكة ليس عليهم طواف قدوم؛ لأنهم مقيمون في مكة فليس هناك قدوم، ومن حج من مكة كذلك ليس عليه صلاة قدوم؛ لأنه قد قدم وأقام فليس هناك حاجة إلى طواف القدوم.

قال تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ -يقومون بالوفاء بها كاملة- وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29].

قال العلماء في سبب تسمية الكعبة وبيت الله الحرام بالعتيق كلمات قد تكون جميعها صحيحة، وتصلح جميعها أن تكون تفسيراً لكلمة العتيق.

فالعتيق هو: الكريم، التليد، المقبول والمحبوب، القديم الذي مضى عليه زمن الله أعلم كم مقداره.

وقالوا: سمي العتيق؛ لأنه أول بيت بني، فهو أعتق بيت وأقدم بيت لله في الأرض، وهذا أكده القرآن، وزادته السنة بياناً، فقد قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96].

وسئل عليه الصلاة والسلام: (ما أول مسجد بني في الأرض؟ قال: بيت الله الحرام، ثم سئل: والمسجد الأقصى، قال: بني بعده بأربعين عاماً)، فهو بهذا الاعتبار عتيق والكلام صحيح قرآناً وسنة.

وقالوا: العتيق الذي كرمه الله من أن يحتله ويستذله جبار من الجبابرة، أو عدو من الأعداء يهينه أو يذله، فلم يحدث لهذه البنية الكريمة، وهذه الديار المقدسة ما احتلها عدم لا في أيام الجاهلية ولا في أيام الإسلام.

ومن هنا كان العرب وضعهم في الجاهلية والإسلام غريباً، فقد كان يوجد في أيام الجاهلية دولتان عظيمتان متسلطتان على الأرض: فارس والروم، وتقريباً أنهما قد احتلتا العالم، ولكنهما لم يحتلا جزيرة العرب، كان لهم شبه سيادة في اليمن، أما الحجاز فلا.

ومن هنا لم يصل ولم يقدر الله جباراً من الجبابرة ولا طاغية من الطغاة على أن يحتل مكة أو يذلها وأن يذل أهلها، قد كان بعض ذلك من بعضهم لبعض، وهذا كلام آخر، ومع ذلك فهؤلاء لم يضربوا الكعبة، ولكن حدث ذلك أيام بني أمية؛ أيام عبد الملك بن مروان بتنفيذ الحجاج الظالم، وقد كان يحكم مكة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه فحاربه وقاومه ليذله ويخضعه لـعبد الملك ، فامتنع كل الامتناع وأبى كل الإباء، إلى أن تفرق عنه أصحابه، وبقي فريداً، وقال لأولاده أيضاً: اذهبوا عني، دعوني للقدر ولقضاء الله، وما أرى صبيان بني أمية إلا ممثلين بجسدي، ولعلهم يصلبونني على الكعبة، فقالت له أمه: أأنت على حق أم على باطل؟

قال: بل أنا على حق، قالت: والله! إن كنت على غير حق في حربك مع هؤلاء -وأنت تعلم أنك لست على حق- فإني أخشى أن يتلاعب بك صبيان بني أمية، وأما إن كنت على حق فلا تهتم بهم، فالشاة لا تعذب بعد السلخ -أي: بعد الموت- فالشاة عندما تموت ويذهب الجزار ليسلخ جلدها عنها فإنها لا تعذب وقد ماتت، فعش عزيزاً ومت عزيزاً، فإن أنت صلبت أو مثل بك فإنك لن تعذب جسداً، وتكون قد قدمت ما استطعت، والغلبة والنصر بيد الله، وليس ذلك بيد أحد، قال تعالى: أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [البقرة:165].

فحدث ما توقع، فـالحجاج ضرب الكعبة بالمنجنيق، ولكن هذا كان ظلماً واعتداء منه، ولم يقصد به هوان الكعبة أو إذلالها وإلا لكان مرتداً، ولكان عبد الملك مرتداً، ولكان كل من صنع ذلك مرتداً، وهو قد فعل ما فعل وقال: إن ابن الزبير هو المسئول فهو الذي أحوجني لفعل هذا، وبمجرد ما انتهت المعركة عاد للبيت فجدد بناءه وجدد تنظيمه، وطاف به معتذراً، وأما إن كان محقاً أم مبطلاً فهذا كلام آخر.

قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25] فكل الأحكام في الشريعة لا تكون إلا بعد فعل الذنب إلا في مكة، فمجرد الإرادة بالظلم والاعتداء فإن الإنسان يأثم وقد يعاقب، وللشارع أن يؤدبه بما يراه مصلحة لتطهير مكة منه، ولإبعاد الظلمة منها بأي عمل من الأعمال.

وقد جاء أبرهة وحاول أن يذل الكعبة وأن يهدمها حجراً حجراً، ولكن هيهات، فقد سلط الله عليه طيراً أبابيل كما قصصنا، فجاءت هذه الطيور السوداء يحمل كل واحد منها ثلاث حجرات بحجم حبة العدسة؛ واحدة في المنقار واثنتين في الرجلين، فرميت هذه الحجارة على رأس الفيال، فدخلت من الرأس إلى الأمعاء، ومنه إلى ظهر الفيل، ومنه إلى بطن الفيل فأصبح الفيل وراكبه عصفاً مأكولاً؛ أي: كالحشيش الذي تأكله الدواب، وأصبحوا كالبعر عندما يخرج من الدواب وأصبحوا كرجيعها، أي: كالحشيش الذي يؤكل فيخرج بعراً، وهكذا فإن الله طهرها من الجبابرة في الجاهلية وفي الإسلام.

وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] قالوا: لا يمسها جبار، وفسروا العتيق بأنه عندما فاضت المياه أيام نوح على قومه، فقد حفظ الله البيت، فلم يغرق في هذا الطوفان، وقيل: إنه رفع، وقيل بقي في مكانه، ولكن المياه بقيت بعيدة عنه.

كما جعل الله طريقاً في البحر يبساً لموسى ومن معه، وتبعهم فرعون ومن معه من جنده، وأصبح البحر كالجبل عن اليمين من المياه وعلى اليسار من المياه، فدخل فرعون فالتقى الجبلان وغرق فرعون ومن معه، كان هذا الماء مفروزاً عن الكعبة فلم تغرق كما غرق الكون.

قال تعالى:

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30] (ذَلِكَ) أي: الذي حكاه الله جل جلاله وأمر به: من قصد البيت الحرام للحج، وذكر الله في الأيام المعلومات، وتقديم الذبائح والضحايا والهدايا على اسم الله وباسم الله.

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30]، أي: مع هذا.. مع الأجر والثواب فيما مضى بالذكر كذلك: وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ، وحرمات الله كل شيء حرمه الله، فمن ابتعد عن المنكرات والكبائر وما إليها، ومن ابتعد عن الجرائم وما إليها، والحرمات: كل ما حرم الله فعلى المسلم أن يجتنب ويعظم انتهاك الحرمة، وارتكاب الحرام.

وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ خير له يوم القيامة، بل خير له في الدنيا كذلك، فالله يجازيه بالجنة، ويجازيه بالرضا والرحمة، ويعطيه مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وقال بعض المفسرين: الحرمات هنا حرمات المناسك، وحرمات مكة المكرمة، وقالوا: الحرمات: هي بيت الله الحرام، والبلد الحرام، فالكعبة هي بيت الله الحرام، ومكة هي بلد الحرام، وذو الحجة شهر حرام، فهذه كلها حرمات بعضها متصل ببعض عند من يدخل مكة، فهناك حرمة البيت، وحرمة المناسك، وحرمة البلدة.

وأما في الحج فهناك حرمة المناسك كلها، بما فيها من طواف وسعي ووقوف بعرفات، إلى بقية المناسك، ومن عمم أدخل هذه وزاد عليها بقية الحرمات.

ومن هنا فإن هذه الحرمات من حاول أن يتجاوزها بكلمة بذيئة، أو بمخالفة وعصيان، فإن عقابه عسير، وهي حرمات كتاب الله، وحرمات السنة المطهرة، وحرمات نبي الله عليه الصلاة والسلام والأصحاب والسلف الصالح والوالدين والإخوة والمشايخ والمسلمين عموماً، وكل ما دعا الله لحرمته ولتقديسه وللعمل به، فكل ما دعا الله إلى تركه من أنواع الحرام يدخل في الحرمات، إما تحريم الانتهاك للحرام، أو تحريم عدم احترام لهذه المقدسات.

وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي: هذا المعظم لحرمات الله خير له وأقدس وأكسب وأربح من رضا الله، والكسب الذي يأتيه عن الله ومن الله هو رضا وطاعة ورحمة.

ثم قال تعالى: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ أحل الله تعالى أكل الأنعام، وركوب ما يركب منها، والأنعام هي: الإبل والبقر والغنم بنوعيها؛ الماعز والضأن، فأحل الله أكل لحومها جميعاً، وأحل ركوب الإبل، وأحل ألبان الجميع، وأحل اللحوم والكسب الناتج عن البيع والتجارة فيها.

والأنعام: جمع نَعم، والنَعم جمع لا مفرد له، ويفرد عندما تذكر كل نوع من الأنواع، تقول: جمال جمع جمل، أبقار جمع بقر، وهو جمع مفرده بقرة، أو غنم أيضاً جمع لا مفرد له، لكن تقول: شاة وتقول: خروف، وتقول: ماعز.

وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ، وقد تلا ربنا جل جلاله ما حرم علينا، فقال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [المائدة:3]، فهذه التي تلا الله تعالى علينا هي التي حرمها واستثناها، فلا تؤكل الأنعام إذا كانت ميتة، ولا يؤكل دمها، ولا تؤكل متردية، ولا تؤكل نطيحة، ولا تؤكل وقد أكل منها السبع إلا إذا استدركت وذبحت قبل أن تموت، وما دون ذلك من الأنعام حلال أكله وشرب حليبه، وأكل نتاجه، والتجارة فيه، وتقسيمه هدايا وأضحيات، سواء في الحج أو في أعياد الأضحى.

قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30].

أمرنا الله جل جلاله أن نجتنب -أي: أن نبتعد-، وكلمة (اجتنب) أبلغ في التعبير وأشمل من كلمة: حرّم، فبعض الجهلة يقولون: تحريم الخمر في القرآن ليس صريحاً؛ فقد قال الله: اجتنبوا، والاجتناب ليس معناه التحريم، وهذا خطأ، فالاجتناب أبلغ من التحريم.

(مِنَ الأَوْثَانِ)، و(من) هنا تعتبر للجنس، أي: كل التماثيل والأصنام، وكل الأوثان: الحجارة والجمادات والأخشاب التي عبدت دون الله اجتنبوها، واجتنابها يكون كالخمر، فلا يحل بيعها، ولا شراؤها ولا امتلاكها ولا إهداؤها ومن باب أولى لا يحل السجود إليها.

كذلك الخمر لا يحل بيعها ولا شراؤها ولا التجارة فيها، ولا هبتها، ولا توريثها ولا شيء من هذه الأشياء، في حين حرم علينا بالنص: الحرير والذهب، وليس معنى التحريم هنا الاجتناب؛ فإنه يباح لنا امتلاك الذهب، وامتلاك الحرير والتجارة فيهما، وتملكهما واهداؤها والمعاوضة والمبادلة فيهما، وإنما حرم علينا اللبس، ولو قال لنا: اجتنبوا الذهب والحرير لكان الاجتناب كاملاً كاجتناب الأوثان واجتناب الخمر، لا بيعاً ولا شراء، ولا امتلاكاً ولا عطاء ولا مبادلة.

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الرجس هو: القذر والوساخة، وهو الحرام، فكلمة الرجس جمعت جميع الأنواع القبيحة المسترذلة فيما يطلق عليه من معاني الأشياء، فالأوثان هي القذر والشرك، والأوثان معناها فاسد، فالتمسك بها يدل على ضياع العقول، والسجود لها يعد حماقة، وامتلاكها كذلك، وتزيين الدور بها كما أصبح يفعل الكثير من المسلمين؛ فإنهم يصنعون أصناماً كاملة، أحياناً لأناس، وأحياناً لحيوانات، فتلك تماثيل كذلك وأصنام، وقد حرمها الله جل جلاله.

اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ أي: اجتنبوا الأوثان، فالأوثان كلها رجس وحرام، وكلها ممنوعة، وكلها قذر ووساخة، و(من) ليست للتبعيض، بل المقصود جنس التماثيل على كل أشكالها.

وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ والزور: هو الباطل، وله مصطلح شرعي وهو شهادة الزور، وهي أن يشهد الإنسان على شيء لم تره عينه ولم تسمعه أذنه، ولكنه كذب على الله وافترى فشهد الزور، والزور هنا الباطل بكل أشكاله: قول الشرك، وسباب المؤمن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر) والزور كلمة تجمع كل الكلمات التي لا يليق بالمؤمن أن يقولها وأن يعمل بها.

والله عز وجل قرن اجتناب الزور مع اجتناب الأوثان، وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام من الزور، فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا وقول الزور وشهادة الزور) فظل صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ويعيده حتى قال بعض الصحابة: تمنينا أن لو سكت، يعني: أنه أتعب نفسه وأجهدها وهم قد سمعوا وعلموا وأطاعوا.

قال تعالى: حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [الحج:31].

أي: حال كونكم حنفاء لله عابدين مخلصين له، وقد كان قديماً في الجاهلية يقال: الحنيفي؛ لمن يحجوا ويتصدقوا ويعبدوا، ولكن عبادتهم كانت شركية، فهم يسجدون مع ذلك للأوثان، ويقولون: ما نعبدها إلا لتقربنا إلى الله زلفى.

ويقولون كما تقول النصارى: الأب والابن وروح القدس، وقد اختلطت أديانهم ومذاهبهم في ذلك كما قص الله علينا، فقالوا عن أنفسهم أنهم أبناء الله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ [المائدة:18] وكذبوا وافتروا.

وقالت النصارى عن عيسى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، والكفر يضاهي بعضه بعضاً، ويقلد بعضهم بعضاً تقليد الببغاوات وتقليد القردة، كما قال الله عن النصارى وهم يعبدون الصليب والأوثان: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ [التوبة:30]، وقد سبقهم من فعل ذلك.

ولقد ذكرت أكثر من مرة أني كنت في متحف نصراني في أرض لبنان، وإذا بالمشرف على هذه الآثار والحفريات يظهر لي صليباً، وقال: هذا الصليب كان قبل عيسى بقرون، فضحكت وقلت له -وهو نصراني-: صدق الله العظيم: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ [التوبة:30]، حتى في الصليب النصراني ليس خاصاً بهم، ولكنه تقليد وقدوة؛ تقليد شركي بلا عقل وبلا وعي وبلا فهم وبلا دليل من عقل ولا سلطان من الله، ولا برهان.

حُنَفَاءَ لِلَّهِ أي: مخلصين عابدين له وحده، لا تشركوا به شيئاً في كل هذه الأعمال من حج وصلاة وطاعات وسعي إلى آخر أنواع العبادات.

حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [الحج:31] أي: حال كونكم لا تشركون بالله لا شركاً خفياً ولا ظاهراً، فالشرك الظاهر هو عبادة الأوثان والأشخاص وعبادة الملائكة والجن وعبادة الزعماء والرؤساء والقادة، والشرك الخفي أن تصلي أو تصوم أو تتعبد في الجلوة بما لا تفعله في الخلوة، فمع الناس تفعل ما لا تفعله في خلوتك، فهذه يسمى عبادة وتسميع، فتريد أن يقال عنك: عابد زاهد صالح متصدق، فهذا اسمه شرك خفي، ولكن المؤمن الصادق لا تختلف عبادته في الخلوة عن عبادته بين الناس، فهو يعبد الله جل جلاله، فإن اختلى بنفسه فإنه لا يزيد ولا ينقص كما هو، وإن كان القدوة من شيخ أو أب أو متبوع ينبغي أن يظهر عبادته وأعماله؛ ليكون قدوة للغير، وليتخذوا عنه سلوكه وسمته في العبادة؛ ليكون التعلم قولاً وعملاً، حالاً ومقالاً.

حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ أي: غير مشركين بالله.

قال تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].

ضرب الله مثلاً وتشبيهاً بالمشرك بالله فذكر بأن مثل المشرك بالله كمن رفع إلى أعلى مكان في السماء -والعلو وكل ما علاك فهو سماء- فرفع إلى الأعالي ثم رمي، وإذا بالطيور المفترسة والجوارح تختطفه من الجو فتقطعه قطعاً وتفترسه قطعاً، وهكذا قبل أن يصل إلى الأرض، ولم يصل منه إلى الأرض إلا العظام.

وأما التشبيه الثاني: أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ أو إنسان رمي فجاءت عواصف وزعازع فأخذت تتلقفه من هنا إلى هناك إلى أن أوقعته في أعماق هوة وحفرة، وما كاد يصل إليها إلا مدهدهاً ممزقاً قطعاً.

وهكذا قد فقد نفسه في الدنيا كمن تفترسه الطير، وكمن تتلاعب به الرياح العواصف فتمزقه وهو لا يزال في الجو، ثم يرمى به إلى سحيق من الأرض، وهي: المكان العميق من الهوة في الأرض، فلا يكاد يصل إلا ممزقاً، وهذا مثال من الله يبين أن المشرك يعيش هكذا ذليلاً حقيراً متدهدهاً مرمياً منبوذاً لا عقل له، ولا إدراك فيه، ولا فهم له.

وأما الآخرة فعذاب الله أنكى وأشد.