تفسير سورة التين


الحلقة مفرغة

سورة التين هي السورة الخامسة والتسعون، وهي مكية، وقيل: مدنية، والأرجح الأول لقوله تعالى: وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:3]، إشارة إلى المكان الذي نزلت فيه السورة، وهو مكة. وآيها ثمان. عن البراء بن عازب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في سفره في إحدى الركعتين بـ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين:1]، فما سمعت أحسن صوتاً أو قراءة منه) أخرجه الجماعة. بسم الله الرحمن الرحيم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3].

أقوال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: ( والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين )

اعلم أن المفسرين لم يختلفوا في أن البلد الأمين هو مكة المشرفة، الآمن أهلها أن يحاربوا، فهذا الحرم آمن وأمين في اللغة بمعنى: آمن، كما قال الشاعر: ألم تعلمي يا أسم ويحكِ أنني حلفت يميناً لا أخون أميني! أميني: أي: آمني، فمكة هي البلد الأمين، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]. أما المقسمات بها قبل ففيها أقوال للسلف؛ لاحتمال موادها لكل البشر، وقد أقسم بأربعة أشياء وهي: التين، والزيتون، وطور سنين، وهذا البلد الأمين. فالثلاثة الأولى هي محل الخلاف، لكن البلد الأمين لم يختلف في أنها مكة، فعن مجاهد والحسن أن التين: الذي يؤكل، والزيتون: الذي يُعصر، قالوا: وخصّهما لكثرة فوائدهما وعظم منافعهما. وعن قتادة قال: التين: هو الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس. وعن كعب وابن زيد : التين: مسجد دمشق، والزيتون: بيت المقدس. وعن ابن عباس : التين: مسجد نوح الذي بُني على الجودي، والزيتون: بيت المقدس. فظهر أنهما الشجرتان المعلومتان أو جبلان أو مسجدان. وصوّب ابن جرير الأول منها، وهو: أن التين والزيتون هما الشجرتان المعروفتان، حيث قال: والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: التين هو التين الذي يؤكل، والزيتون: هو الزيتون الذي يُعصر منه الزيت؛ لأن ذلك هو المعروف عند العرب، ولا يُعرف جبل يسمى تيناً، ولا جبل يقال له: زيتون، إلا أن يقول قائل: أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون، والمراد من الكلام: القسم بمنابت التين ومنابت الزيتون، فيكون ذلك مذهباً، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك دلالة في ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوّز خلافه؛ لأن دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس منابت الزيتون. انتهى كلامه وفيه نظر؛ لأن مَن حَفظ حجة على من لم يحفظ.

كلام القاسمي في قوله تعالى: ( والتين والزيتون ... )

يقول القاسمي معلقاً على كلام ابن جرير : لا، مَن حفظ حجة على من لم يحفظ، ومعروف في التاريخ القديم أن جبل الزيتون جبل بفلسطين، يكون معروفاً ذلك عند علماء أهل الكتاب والمؤلفين. قال صاحب الذخيرة في تعداد جبال فلسطين: ويتصل بجبال إسرائيل جبل الزيتون، وقد دعي كذلك لكثرة الزيتون فيه، وهو قريب المسافة من أورشليم، وفيه صعد المسيح لكي يرتفع إلى السماء، ويسمى أيضاً: طور زيتا إلى الآن، أي: جبل الزيتون. فعلى قول ابن جرير الطبري : إن التين والزيتون هما الشجرتان. وكان طور سينين موضعاً أو مكاناً، والبلد الأمين مكان، فإذا أمكن أن نحمل التين والزيتون على أنهما منابت التين والزيتون، أو أنهما موضعان، فسيكون هناك اتفاق بين المقسمات كلها. ثم يقول القاسمي: على أن في ما قرره ابن جرير تبقى المناسبة بينهما وبين طور سينين والبلد الأمين، وحكمة جمعهما معاً في نسق واحد غير مفهوم، فالأرجح أنهما موضعان أو موضع واحد معروف، ويكون المقسم به ثلاثة مواضع مقدسة.

كلام ابن كثير قي قوله تعالى: ( والتين والزيتون ... )

قال ابن كثير : وقال بعض الأئمة: هذه محالّ ثلاثة -أي: أماكن ثلاثة- بعث الله من كل واحد منها نبياً مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار. فالأول: محلة التين والزيتون، وهو بيت المقدس الذي بعث الله فيه عيسى بن مريم عليهما السلام. والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء، وسيناء: الجبل الذي كلّم الله عليه موسى بن عمران. والثالث: مكة، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً، وهو الذي أرسل فيه محمد صلى الله عليه وسلم. وفي آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة وفيها: (جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران). وهذا اللفظ موجود في التوراة إلى اليوم، وهو بشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يستطيع أن ينكره إلا مكابر. قوله: (جاء الله من طور سيناء)، أي: الذي كلم الله عليه موسى، (وأشرق من ساعير)، أي: جبل بيت المقدس، الذي بعث الله عنده عيسى، (واستعلن من جبال فاران)، فاران: مكة في لغة ما يسمى بـ(العهد القديم)، وجبال فاران: أي: جبال مكة. ويوجد أيضاً في التوراة لفظ: (إن إسماعيل نشأ في جبال فاران) أو (..بين جبال فاران). قال ابن كثير: أي: جبال مكة التي أرسل الله منها محمداً صلى الله عليه وسلم، فذكرهم مخبراً عنهم على الترتيب المدني بحسب ترتيبهم في الزمان، ولهذا أقسم بالأشرف، ثم الأشرف منه، ثم بالأشرف منهما. انتهى كلام ابن كثير .

كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله تعالى: ( والتين والزيتون .... وهذا البلد الأمين )

لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ورضي عنه كتاب: (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح)، وهذا الكتاب من روائع شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهو كتاب جدير أن يفنى العمر في دراسته؛ لأنه كتاب قيم جداً، ومن أروع الكتب في هذا الفن، والأمريكان من اهتمامهم بهذا الكتاب ترجموه، وتوجد منه نسخة في مكتبة الكونجرس باللغة الانكليزية، مع أن منا من لم يره أصلاً -فضلاً عن أن يقرأه أو يبحث فيه- فليعلم أن هذا الكتاب من أروع الكتب، وأكثر من ألّف في بحث عقيدة النصارى إنما كان عالة على هذا الكتاب. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فصل: شهادة الكتب المتقدمة بنبوته صلى الله عليه وسلم. ثم يقول: وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية: جاء الله من طور سيناء. وبعضهم يقول -في الترجمة-: تجلّى الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران. قال كثير من العلماء -واللفظ لـأبي محمد بن قتيبة -: ليس بهذا خفاء على من تدبره ولا غموض؛ لأن مجيء الله من طور سيناء: إنزاله التوراة على موسى من طور سيناء، كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا، وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على المسيح، وكان المسيح من ساعير -أرض الخليل- بقرية تدعى: ناصرة، وباسمها يسمى من اتبعه: نصارى. وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران: إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وجبال فاران هي جبال مكة. قال: وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة، فإن ادّعوا أنها غير مكة، فليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم. قلنا: أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟! وقلنا: دلّونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران؟! والنبي الذي أنزل عليه كتاباً بعد المسيح؟! أوليس (استعلن) و(عَلِنَ) هما بمعنى واحد، وهو ما ظهر وانكشف؟! هل تعلمون ديناً ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه؟ إن استعلن هي: الظهور والإعلان والانتصار الكبير، وهذا ليس إلا من ملة الإسلام. وقال أبو هاشم بن ظفر : (ساعير) جبل بالشام، منه ظهرت نبوة المسيح عليه السلام. قلت -القائل: ابن تيمية -: وبجانب بيت لحم -القرية التي ولد فيها المسيح- قرية تسمى إلى اليوم: ساعير ولها جبال تسمى: جبال ساعير... وعلى هذا فيكون ذكر الجبال الثلاثة حقاً، جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى منه، ومنه كان نزول أول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، وحوله من الجبال جبال كثيرة. وجبل النور أو الجبل الذي فيه غار حراء شكله مميز جداً، حيث ترى المنظر في قبة الجبل كأن الجبل مُنطوٍ يستقبل شيئاً من السماء. ثم يقول ابن تيمية رحمه الله: (وذلك المكان يسمى (فاران) إلى هذا اليوم، وفيه كان ابتداء نزول القرآن، والبرية التي بين مكة وطور سيناء تسمى: برية فاران، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه بعد المسيح نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبي، فعلم أنه ليس المراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني، فذكر إنزال التوراة، ثم الإنجيل، ثم القرآن، وهذه الكتب نور الله وهداه. وقال في الأول: جاء أو ظهر، وفي الثاني: أشرق، وفي الثالث: استعلن. وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر أو ما هو أظهر من ذلك، ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس زاد به النور والهدى، وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء، ولهذا قال: واستعلن من جبال فاران. فإن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين، كما يظهر نور الشمس إذا استعلت في مشارق الأرض ومغاربها؛ ولهذا سماه الله (سراجاً منيراً)، وسمى الشمس (سراجاً وهاجا). والخلق يحتاجون إلى السراج المنير أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج؛ فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت، بل قد يتضررون به في بعض الأوقات، وأما السراج المنير فيحتاجون إليه كل وقت وفي كل مكان، ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (زُويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها)اهـ. ونحن نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرجح القول بأن قوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين:1] أن القسم هو بالمكان الذي ينبت فيه التين والزيتون، وأيضاً: وَطُورِ سِينِينَ [التين:2] مكان، وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:3] مكان أيضاً. وذلك يتضح من قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بعد الكلام السابق: (وهذه الأماكن الثلاثة أقسم الله بها في القرآن في قوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3] ... الآيات. فأقسم بالتين والزيتون وهو الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك، ومنها بعث المسيح وأنزل عليه فيها الإنجيل، وأقسم بطور سيناء، وهو الجبل الذي كلم الله فيه موسى، وناداه من واديه الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وأقسم بهذا البلد الأمين، وهو مكة، وهو البلد الذي أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه هاجر فيه، وهو الذي جعله الله حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم، وجعله آمناً خلقاً وأمراً، قدراً وشرعاً. ثم قال شيخ الإسلام في بسط هذه الآيات الثلاث: فقوله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3]؛ إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة، التي ظهر فيها نوره وهداه، وأنزل فيها كتبه الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن، كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله: جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران. ولما كان ما في التوراة خبراً عنها أخبر بها على ترتيبها الزماني، فقدم الأسبق فالأسبق). إذاً: التوراة جاءت في الترتيب الزماني الأول، حيث بدأ بها بقوله: جاء الله من طور سيناء. أي: رسالة موسى، وأشرق من ساعير. أي: رسالة عيسى، واستعلن من جبال فاران. أي: رسالة محمد عليه الصلاة والسلام. ثم قال شيخ الإسلام: (وأما القرآن فإنه أقسم بها تعظيماً لشأنها؛ وذلك تعظيم لقدرته سبحانه وتعالى وآياته وكتبه ورسله، فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة، فختمها بأعلى الدرجات. فأقسم أولاً بالتين والزيتون، ثم بطور سينين، ثم بمكة؛ لأن أشرف الكتب الثلاثة: القرآن، ثم التوراة، ثم الإنجيل). والتوراة أعظم وأهم بكثير من الإنجيل؛ لأن الإنجيل جاء مكملاً ومتمماً فقط، كما قال عيسى: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50] إلى آخر الآيات. لكن الشريعة كاملة كانت في التوراة، فانظر إلى هذه الدقة؛ لأن السياق في القرآن سياق تعظيم لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فبدأ بها حسب دلالتها، فقوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين:1] هذه رسالة عيسى، وَطُورِ سِينِينَ [التين:2] رسالة موسى عليه السلام، وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:3] القرآن الذي أوحاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال شيخ الإسلام : وكذلك الأنبياء، فأقسم بهم على وجه التدريج حسب مقامهم، فهذا كقوله تعالى: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا [الذاريات:1-4]. فأقسم بطبقات المخلوقات طبقة بعد طبقة، فأقسم بالرياح الذاريات، ثم بالسحاب الحاملات للمطر، فإنها فوق الرياح، ثم بالجاريات يسراً، وقد قيل: إنها السفن، ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ [التكوير:15-16]. انتهى كلامه رحمه الله. (فالمقسمات أمراً): هي الملائكة التي هي أعلى درجة من هذا كله.

تفسير آخر لقوله تعالى: ( والتين )

استظهر بعض المعاصرين أن قوله تعالى: وَالتِّينِ [التين:1] أي: شجرة بوذا مؤسس الديانة البوذية، والتي تحرفت كثيراً عن أصلها الحقيقي. وقال هذا المعاصر: فإن تعاليم بوذا لم تكتب في زمانه، وإنما رويت كأحاديث بالروايات الشفهية، ثم كتبت بعد ذلك حينما ارتقى أتباعه. ثم قال: والراجح في ذلك -بل المحقق- إذا صح تفسيره لهذه الآية: أنه كان -أي: بوذا- نبياً صادقاً، ويسمى: خيامونجي أو زوناما، وكان في أول أمره يأوي إلى شجرة تين عظيمة، وتحتها نزل عليه الوحي وأرسله الله رسولاً، فجاءه الشيطان ليفتنه هناك فلم ينجح معه، ولهذه الشجرة شهرة كبيرة عند البوذيين، وتسمى عندهم: التينة المقدسة، وبلغتهم: أجافالا. ثم قال: ففي هذه الآية ذكر الله تعالى أعظم أديان البشر الأربعة الموحاة منه تعالى لهدايتهم ونفعهم في دينهم ودنياهم، فالقسم فيها كالتمهيد لقوله بعده: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، فبدأ تعالى بالقسم بالبوذية؛ لأنها أقل درجة في الصحة وأشد الأديان تحريفاً عن أصلها، ثم ارتقى إلى النصرانية، ثم اليهودية، ثم الإسلامية ... إلخ.

اعلم أن المفسرين لم يختلفوا في أن البلد الأمين هو مكة المشرفة، الآمن أهلها أن يحاربوا، فهذا الحرم آمن وأمين في اللغة بمعنى: آمن، كما قال الشاعر: ألم تعلمي يا أسم ويحكِ أنني حلفت يميناً لا أخون أميني! أميني: أي: آمني، فمكة هي البلد الأمين، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]. أما المقسمات بها قبل ففيها أقوال للسلف؛ لاحتمال موادها لكل البشر، وقد أقسم بأربعة أشياء وهي: التين، والزيتون، وطور سنين، وهذا البلد الأمين. فالثلاثة الأولى هي محل الخلاف، لكن البلد الأمين لم يختلف في أنها مكة، فعن مجاهد والحسن أن التين: الذي يؤكل، والزيتون: الذي يُعصر، قالوا: وخصّهما لكثرة فوائدهما وعظم منافعهما. وعن قتادة قال: التين: هو الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس. وعن كعب وابن زيد : التين: مسجد دمشق، والزيتون: بيت المقدس. وعن ابن عباس : التين: مسجد نوح الذي بُني على الجودي، والزيتون: بيت المقدس. فظهر أنهما الشجرتان المعلومتان أو جبلان أو مسجدان. وصوّب ابن جرير الأول منها، وهو: أن التين والزيتون هما الشجرتان المعروفتان، حيث قال: والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: التين هو التين الذي يؤكل، والزيتون: هو الزيتون الذي يُعصر منه الزيت؛ لأن ذلك هو المعروف عند العرب، ولا يُعرف جبل يسمى تيناً، ولا جبل يقال له: زيتون، إلا أن يقول قائل: أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون، والمراد من الكلام: القسم بمنابت التين ومنابت الزيتون، فيكون ذلك مذهباً، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك دلالة في ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوّز خلافه؛ لأن دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس منابت الزيتون. انتهى كلامه وفيه نظر؛ لأن مَن حَفظ حجة على من لم يحفظ.

يقول القاسمي معلقاً على كلام ابن جرير : لا، مَن حفظ حجة على من لم يحفظ، ومعروف في التاريخ القديم أن جبل الزيتون جبل بفلسطين، يكون معروفاً ذلك عند علماء أهل الكتاب والمؤلفين. قال صاحب الذخيرة في تعداد جبال فلسطين: ويتصل بجبال إسرائيل جبل الزيتون، وقد دعي كذلك لكثرة الزيتون فيه، وهو قريب المسافة من أورشليم، وفيه صعد المسيح لكي يرتفع إلى السماء، ويسمى أيضاً: طور زيتا إلى الآن، أي: جبل الزيتون. فعلى قول ابن جرير الطبري : إن التين والزيتون هما الشجرتان. وكان طور سينين موضعاً أو مكاناً، والبلد الأمين مكان، فإذا أمكن أن نحمل التين والزيتون على أنهما منابت التين والزيتون، أو أنهما موضعان، فسيكون هناك اتفاق بين المقسمات كلها. ثم يقول القاسمي: على أن في ما قرره ابن جرير تبقى المناسبة بينهما وبين طور سينين والبلد الأمين، وحكمة جمعهما معاً في نسق واحد غير مفهوم، فالأرجح أنهما موضعان أو موضع واحد معروف، ويكون المقسم به ثلاثة مواضع مقدسة.