تفسير سورة المعارج


الحلقة مفرغة

سورة المعارج تسمى سورة (سأل سائل)، وهي مكية، وآيها أربع وأربعون. قال تعالى:سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [المعارج:1]. قوله تعالى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ قال مجاهد : أي: دعا داع بعذاب يقع في الآخرة، وهو قولهم: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32]، والسائل هو النضر بن الحارث بن كلدة فيما رواه النسائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ودعاؤه بقوله -كما قصه الله تعالى- : (( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ))، فلم يوفق إلى أن يقول: فاهدنا إليه. لكنه علقه على تعجل العذاب: (( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )). وقد قيل: إن الموعود بوقوعه عذاب الدنيا. أي: هذا النضر بن الحارث الذي يدعو بالعذاب سيقع به العذاب؛ لكن على التفسير الأول سوف يقع في الآخرة، وعلى الثاني سيقع في الدنيا، وبالفعل قتل النضر بن الحارث يوم بدر، ففي هذه الآية إخبار عن مغيب وقع مصداقهُ.

قال تعالى: لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ [المعارج:2]. قوله تعالى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [المعارج:1]، (واقع) صفة للعذاب، وقوله تعالى: (للكافرين) صفة ثانية للعذاب، يعني: هذا العذاب الذي هو واقع هو للكافرين. أو أن (للكافرين)، متعلق بـ(واقع) أي: فسوف يقع للكافرين، واللام للتعليل، أي: لاستحقاقهم هذا العذاب بسبب كفرهم. أو أن هذه اللام بمعنى (على)، أي: فهذا العذاب واقع على الكافرين. (( لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ )) أي: لا يرده رادُّ من جهته لتعلق إرادته به من الله، وهذا كقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ [الحج:47]. وقوله تعالى: مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ قال الرازي : المعارج جمع معرج وهو المقعد، ومنه قوله تعالى: (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ [الزخرف:33]، وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى: (( ذِي الْمَعَارِجِ )) أقوالاً ووجوهاً: أحدها: قال ابن عباس -في رواية-: من الله ذِي الْمَعَارِجِ أي: ذي السماوات. وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها. القول الثاني: قال قتادة : معنى قوله تعالى: (( ذِي الْمَعَارِجِ )) أي: ذي الفواضل والنعم، وذلك لأن أياديه وجوده وإنعامه مراتب. يعني أن هذه النعم والفواضل التي يمن الله بها على الخلق هي مراتب ومنازل، وتصل إلى الناس على مراتب مختلفة. أما القول الثالث في تفسير (( ذِي الْمَعَارِجِ )): فهو أن المعارج هي الدرجات التي يعطيها الله أولياءه في الجنة.

قال الله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألف َ سَنَةٍ [المعارج:4]. قال ابن جرير : تصعد الملائكة والروح -وهو جبريل عليه السلام- إليه فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ، يعني: أن صعودهم كان مقدار يومه خمسين ألف سنةً لغيرهم من الخلق. يعني: لو أن الذي صعد هذه المسافة من غير الملائكة لقطعها في خمسين ألف سنة، وذلك أنها تصعد من منتهى أسفل الأرض إلى منتهى أمره من فوق السماوات السبع. وقيل: بل معناه: تعرج الملائكة والروح إليه يوم يفرغ من القضاء بين خلقه، فذلك اليوم الذي فرغ فيه من القضاء بينهم قدرهُ خمسون ألف سنة. وقد قيل: إن (في يوم) متعلق بـ(واقع)، أي: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، أي: هذا العذاب يقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ويكون المراد به يوم القيامة. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: فهذا يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة. وهذا التعبير إما حقيقي أو مجاز عن الاستطالة. قال الشهاب: وهكذا زمان كل شدة. يعني: أن زمان الشدة يطول، كما قال الشاعر: تمتع بأيام السرور فإنها قصارُ وأيام الغموم طوال فوقت الغم والهم والنكد يكون طويلاً بعكس وقت السرور، وقال الشاعر: وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف إعجازاً وناء بكلكل ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبح وما الإصباح منك بأمثل ونقل الرازي عن أبو مسلم أن هذا اليوم هو يوم الدنيا كلها من أول ما خلق الله إلى آخر الفناء، فبين تعالى أنه لا بد في يوم الدنيا من عروج الملائكة ونزولهم، وهذا اليوم مقدر بخمسين ألف سنة، ثم لا يلزم على هذا أن يصير وقت القيامة معلوماً؛ لأننا لا ندري كم مضى وكم بقي. وهذا القول بعيد، وهذه الآية كقول الله تبارك وتعالى: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ألف َ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5]، ولا منافاة في التقدير؛ لأن المعني به الاستطالة لشدته على الكفار، أو لكثرة ما فيه من الحالات والمحاسبات. والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فالتفسير بأن المقصود بخمسين ألف سنة أنه مجاز، لا داعي له؛ لأنه لا يتعذر حمله على الحقيقة، فالله سبحانه وتعالى يقول: خمسين ألف سنة. هذا الزمن هو فترة عروج الملائكة والروح إليه. أما الآية الأخرى يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ألف َ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5] فهذا في تقدير آخر، أي باعتبار أن موضوعه أمر آخر، وهو عروج الأمر المدبر إليه، وهذا في عروج الملائكة إليه.

يقول تعالى: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج:5-14]. يقول تعالى: فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ، يعني: على ما يقولون، ولا يضق صدرك فقد قرب الانتقام منهم. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ أي: يرون العذاب الدنيوي أو الأخروي (بعيدا) أي: بعيداً وقوعه؛ لعدم إيمانهم بوعيده تبارك وتعالى. وَنَرَاهُ قَرِيبًا أي: قريب الحضور. يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ يعني: كالشيء المذاب، أو عكر الزيت الذي يكون في الطبقة السفلى منه إذا كان في إناء، فهذا العكر الذي يخالط الزيت هو المراد بالمهل هنا. (ويوم) ظرف يعني: قريباً. (( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ )) يعني: كالصوف. وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يعني: لا يسأل قريبٌ قريباً عن فعله لشغله بفعل نفسه، فكل إنسان مشغول ومهتم بأمر نفسه، حتى الحبيب الذي هو في غاية الود والمحبة لمن يحب فإنه يقول: نفسي نفسي. يُبَصَّرُونَهُمْ يعني: يعرفون أقرباءهم، ومع ذلك يفر بعضهم من بعض؛ إذ قد يقول قائل: ربما يكون المقصود من قوله تعالى: وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا أن بعضهم يحجب عن بعض، فلذلك ينشغل بحاله ولا يسأل عن أحوال حميمه وقريبه، فكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يدفع هذا التوهم ببيان شدة هذا الموقف، فقال: ((يبصرونهم)) أي أنهم سوف يعرفون أقرباءهم، ومع ذلك يفر بعضهم من بعض. وفيه تنبيه على أن المانع من هذا السؤال هو الاندهاش مما نزل لا احتجاب بعضهم عن بعض، فهم يرون بعضهم بعضاً، بل يعرف بعضهم بعضاً، فهذا أبوك، وهذا أخوك، وهذا صديقك الحميم، فيبصرونهم، وسوف يرونهم ويعرفون أقرباءهم، ومع ذلك يفر بعضهم من بعض ولا يسأل حميم حميماً. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ أي: الذين هم محل شفقته، أي: يود الكافر أن يقع أولاده في العذاب فداءً عنه؛ رغم الشفقة المعروفة عند الأب على أولاده. وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ أي: التي هي أحب إليه ((وأخيه)) الذي يستعين به في النوائب، ((وفصيلته)) أي: عشيرته ((التي تؤويه)) أي: تضمه إليها عند الشدائد. وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ يعني: يود أن يبذل ذلك ويضحي بكل هؤلاء في سبيل أن ينجيه هذا الافتداء، أو ينجيه هذا المذكور، أو ينجيه كل من في الأرض. و(ثم) هنا للاستبعاد، أي: لاستبعاد أن ينجو حتى لو افتدى بمن في الأرض جميعاً. فإذاً الفعل هنا (ثم ينجيه) معطوف على (يفتدي) أي: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بكذا وكذا ثم ينجيه، أي: ثم مقابل هذه الفدية ينجو من العذاب.

قال تعالى: كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج:15-18]. ((كلا)) يعني: لا يكون ذلك، فهو يتمنى أن لو يتمكن من ذلك ليفتدي بهؤلاء الأقربين أو يفتدي بكل من على وجه الأرض لعل ذلك ينجيه؛ ولكن: (كلا) لا يكون ذلك. إِنَّهَا لَظَى أي: النار الموعود بها هذا المجرم (لظى) أي: لهب خالص. نَزَّاعَةً لِلشَّوَى أي: الأطراف كاليد والرجل. أو أن الشوى جمع شواء، والشواء: هي جلدة الرأس التي يكون عليها الشعر. (تدعو) إلى دخولها (من أدبر) عن الحق (وتولى) عن الطاعة. (وجمع) المال (فأوعى)، أي: جعله في وعاء كان كنزه، فمنع حق الله منه فلم يزك ولم ينفق فيما أوجب الله عليه إنفاقه فيه، ومنه الحديث: (لا توعي فيوعي الله عليك).

يقول الله تبارك وتعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج:19-21]. (هلوعا) قليل الصبر كثير الحرص. ولفظة الإنسان في القرآن الكريم تشير إلى هذا الكائن البشري من حيث هو عار عن الهداية الإلهية، فالإنسان بدون الهداية الإلهية والتوفيق الرباني يطلق عليه (إنسان)، فلذلك ترتبط به صفات الرذيلة، كقوله تعالى: وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، وقوله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:2]، وقوله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1]، وكالحال هنا إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا [المعارج:19-20]، وهكذا. فقوله: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا أي: قليل الصبر شديد الحرص، كما بينه في قوله: إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ أي: إذا مسه الضر والبلاء (جزوعا) أي: كثير الجزع من قلة صبره. ((وإذا مسه الخير)) يعني: كثر ماله وناله الغنى، (منوعاً) أي: منوعاً لما في يده نخيلاً له لشدة حرصه. وهذه الآية مما استعمل فيها الخير بمعنى المال، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، وكما في قوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180] يعني: إن ترك مالاً فهذه منها.

يقول تعالى: إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:22-28]. إِلَّا الْمُصَلِّينَ استثنى من الطباع والأخلاق السابقة المصلين، فقال: إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:22-23] أي: مقيمون لا يضيعون منها شيئاً. وهذه الآية هي الموضع الوحيد الذي استعمل فيه اسم الفاعل للقيام بالصلاة، في حين أننا نجد في عامة آيات القرآن ذكر إقامة الصلاة، كقوله تعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [المائدة:55]، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103]، وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء:162]. فغالباً ما تأتي الصلاة بفعل الإقامة، يعني: أداء حقوقها، وأنها ليست مجرد أداء هذه الحركات، إلا أنه جاز هنا أن يؤتى باشتقاق (اسم الفاعل) على أساس أنه قرن بها صفات تفيد نفس معنى إقامة الصلاة، حيث قال تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ أي: مقيمون لا يضيعون منها شيئاً. وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25] السائل هو الذي يسأل الناس ولا يجد مشكلة في أن يسأل، فإن كان مستحقاً فعلاً فهو المقصود بقوله: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ أي أن هذا حق له، وليس منة منك عليه، وإنما هو حقه الذي شرعه الله له في مال الله الذي آتاك. وهذ الحق أولاً للسائل، فربما سأل السائل صدقة أو معونة أو نحو ذلك، وهو مستحق لذلك، ومن شدة حاجاته يسأل. النوع الثاني: المحروم، والعطف يقتضي المغايرة، أي: أن المحروم غير السائل، فمن هو المحروم؟ المحروم هو المتعفف الذي أدبرت عنه الدنيا فلا يسأل الناس تعففاً. وقيل: المحروم الذي لا ينمو له مال. وقيل: المحروم هو المصاب ثمره. أي كان عنده مال ثمار أو زروع ثم أصابته جائحة، أخذاً من قول أصحاب الجنة في سورة نون: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [القلم:27]أي: أصبنا في ثمرنا بجائحة. واللفظ أعم من ذلك كله، فيشمل كل ما يحتمل دخوله في معنى المحروم. وقد روى ابن جرير عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن الحق المعلوم: أهو الزكاة؟ فقال: إن عليك حقوقاً سوى ذلك. ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هو سوى الصدقة، يصل بها رحما، أو يقري بها ضيفاً، أو يحمل بها كلاً، أو يعين بها محروماً. وعن الشعبي أن في المال حقاً سوى الزكاة، وهذه مسألة تفاصيلها في كتب الفقه. يقول الله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج:26] يعني: يوم الجزاء. ثم أشار الله تبارك وتعالى إلى أن العبرة في الإيمان باليوم الآخر أن يشفق الإنسان منه، ويثمر هذا التصديق ثمرة عملية وهي الخوف والوجل من عذاب الله، وهذه إشارة إلى أن الإنسان لا ينبغي أن يهتم بأن يعتقد عقيدة خاوية من العاطفة أو الوجدان أو المشاعر، وإنما الاعتقاد المثمر هو الذي ينعكس في سلوك الإنسان، فلذلك بعدما قال: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ قال: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ . قال ابن جرير : أي: وجلون أن يعذبهم في الآخرة، فهم من خشية ذلك لا يضيعون له فرضاً ولا يتعدون له حداً. إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ أي: أن ينال من عصاه وخالف أمره.

قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ [المعارج:29-31]. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ أي: لغلبة ملكة الصبر؛ لأن هؤلاء المذكورين مستثنون من صفة الجزع عند البلاء والشح والبخل والحرص الشديد المذكورة في قوله: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:19-21-] فمما يعجز غير المصلين عن الصبر عليه أمر العفَّة ، فغير المصلي لا يصبر؛ لأنه لا يصلي صلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر، فأتى في صفة المصلين وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ أي: لغلبة ملكة الصبر وامتلاك ناصيته. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ [المعارج:30-31]، قال ابن جرير : أي: التمس لفرجه منكحاًسوى زوجته أو ملك يمينه، ((فألئك هم العادون)) أي: الذين تعدوا ما أحل الله لهم إلى ما حرمه عليهم. فهذه إشارة إلى أثر الصلاة في العفة عما حرم الله تبارك وتعالى، ونفس هذا المعنى أشار إليه قول الله تبارك وتعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم:59]، فكل من يضيع الصلاة لا بد أن يقع أسيراً للشهوات. وقال تبارك وتعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، ولذلك لا يقع المصلي المقيم للصلاة أسيراً للفحشاء والمنكر، فكما أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، كذلك الفحشاء والمنكر تنهى عن الصلاة، وتصد الناس عنها. ومما يدل على ارتباط المحافظة على الصلاة بالتعفف عن المحرمات قول الله تبارك وتعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، فلم يقل الله تبارك وتعالى : احفظوا الصلاة والصلاة الوسطى، وإنما جاءت على صيغة المفاعلة (حافظوا)، فهذه المحافظة تقتضي التفاعل من الطرفين، إشارة إلى أن من حافظ على الصلاة حفظته الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (احفظ الله يحفظك)، فهذا هو المطلوب، وهو أن المحافظ على الصلاة يرد له مثل ذلك بأن تحفظه الصلاة عما حرم الله تبارك وتعالى، ولذلك نجد أهل الصلاة أقل الناس شراً، وهم بشر وليسوا معصومين، لكن المصلي يكون انقياده للشهوات أقل بكثير من مضيع الصلاة الذي يقع أسيراً للشهوات. ولذلك لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم رجل يصلي ويصوم ويفعل كذا وكذا لكنه يسرق قال: (أما إنَّ صلاته ستنهاه)، ففي الصلاة تأثير عجيب جداً في الالتفات عما حرم الله تبارك وتعالى، فإن المصلي يوفق إلى أن ينهض من جديد ويستأنف السير والسلوك إلى الله تبارك وتعالى.

قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ [المعارج:32-33]. (( وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ )) قال ابن جرير : أي: لأمانات الله التي ائتمنهم عليها من فرائضه وأمانات عباده التي اؤتمنوا عليها، وعهودهم التي أخذها عليهم بطاعته فيما أمرهم به ونهاهم، وعهود عباده التي أعطاهم على ما أخذه لهم على نفسه، راعون؛ يرقبون ذلك ويحفظونه فلا يضيعونه، فهذا تعميم للأمانة. فقوله: (والذين هم لأماناتهم) أي: جميع أنواع الأمانات، وسيدخل فيها أمانات الله التي ائتمنهم عليها، ومن ذلك الفرائض، والعهود التي أخذها عليهم بأن يطيعوه فيمتثلوا ما به أمر وينتهوا عما عنه نهى وزجر، فلا يضيعوها. كذلك هم لأماناتهم وعهدهم مع الخلق كأمانات العباد التي يؤتمنون عليها، فإذا أعطاك أحدٌ أمانة أو ائتمنك على سر أو نحو ذلك، فينبغي أن تحفظه وترعاه، وكذلك عهود العباد التي بذلها لهم على ما عقده لهم على نفسه (راعون)، يرقبون ذلك ويحفظونه فلا يضيعونه. وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ أي: لا يكتمون ما استشهدوا عليه، ولكنهم يقومون بأدائها حيث يلزمون بذلك غير مغيرة ولا مبدلة.

قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:34-35]. وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أي: لا يضيعون لها ميقاتاً ولا حداً، قيل: الحفظ عن الضياع. ولم يقل: يحفظون الصلاة. إنما قال: (يحافظون) فهذه الصيغة التي مصدرها (المفاعلة) تقتضي أن هناك تفاعلاً بين المصلي والصلاة، فأنت تحفظ الصلاة والصلاة تُردَّ لك بأن تحفظك، كما في قول الله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123]، فالقتال يقتضي حصول الأمر من الطرفين بخلاف القتل. فالمقصود أنهم يتمون صلاتهم بأركانها وهيئاتها. ونلاحظ أن الصلاة ذكرت مرتين مع أن الصفات متغايرة وفي غاية الدقة، لكن بدأ بالصلاة وختم بها، كما فعل عز وجل في سورة المؤمنون حيث قال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، ثم ذكر الصفات الآخرى إلى أن ختم بقوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون:9]. ولذا قال القاضي: هذا التكرار بالنسبة للصلاة ووصفهم بها أولاً وآخراً لاعتبارين: للدلالة على فضلها، وإنافتها على غيرها، فهي أعلى من غيرها من العبادات، فلا شك أن الصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين. أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ أي: مكرمون بثواب الله تبارك وتعالى لاتصافهم بمكارم الأخلاق.