تفسير سورة الطلاق [8-12]


الحلقة مفرغة

يقول الله سبحانه وتعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا [الطلاق:8-11]. قوله تعالى: (وكأين من قرية عتت) أي: عصت. (عن أمر ربها) يعني: أعرضت عن أمر ربها على وجه العتو والعناد، والمراد بالقرية هنا أهلها. (ورسله) يعني: وعتت عن أمر رسله كذلك. (فحاسبناها حساباً شديداً) يعني: على ما قدمت، فلم نغادر منه شيئاً. (وعذبناها عذابا نكراً) أي: منكراً. (فذاقت وبال أمرها) أي: عاقبة ما اكتسبت وجزاءه، فالوبال هنا بمعنى العاقبة. (وكان عاقبة أمرها خسراً) قال ابن جرير : أي: غبناً؛ لأنهم باعوا نعيم الآخرة بشيء من الدنيا قليل، وآثروا اتباع أهوائهم على اتباع أمر الله تبارك وتعالى. والصيغة هنا جاءت بلفظ الماضي (فَذَاقَتْ) مع أن هذا سيكون في الآخرة، فهي كقوله تبارك وتعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ [الأعراف:44] ونحو ذلك مما سيقع في المستقبل، ولكن عبر عنه بالماضي لتحقيق الوقوع؛ ولأن وعد الله ووعيده كأنه واقع بالفعل، وما هو مقدر لك من قبل فكأنه قد وقع بالفعل. (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) يعني: عذاب النار المعد يوم القيامة. قوله تعالى: (( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا )) كقوله تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا [الحج:45]، وكقوله تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [الكهف:59] وهذا كله بيان لأصحاب الرئاسة ورجال السياسة أن هلاك الدنيا بفساد الدين، وأن أمن القرى وطمأنينة العالم بالحفاظ على الدين. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: ومن هنا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عامة الناس للحفاظ على دينهم وسلامة دنياهم، فجعل الشارع مهمته للأمة كلها كل بحسبه باليد أو باللسان أو بالقلب، وهذا الأخير هو أضعف الإيمان، ومع أنه أضعف الإيمان لكن وجوده أمر مهم حتى يبقى إحساس القلب بالمنكر إلى أن يقدر هو أو يقدر غيره على تغييره، ولذلك فليس وراء ذلك شيء من الإيمان، ومن ثم يكون النهي عن المنكر بالقلب فرض عين على كل مسلم؛ لأنه لا يعجز أحد عن أن ينكر بقلبه، وأن يشهد الله على أن هذا منكر لا يرضيه، بخلاف اليد واللسان فلا يقدر عليها كل إنسان في كل ظرف. ومنطوق هذه الآية: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا) أن هذا جزاء الذين أعرضوا عن سبيل الله تبارك وتعالى، وقد بين الله مفهوم هذه الآية صراحة بقوله: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]. (فَاتَّقُوا اللَّهَ) أي خافوه واحذروا بطشه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. (يا أولي الألباب) أي:العقول. (الذين آمنوا) أي: صدقوا الله ورسله، فهذا نعت للمنادى أو عطف بيان له. قوله: (قد أنزل الله إليكم ذكراً) يحتمل أن هذا الذكر هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعله نفس الذكر مبالغة؛ لذلك أبدل منه، فتعرب (رسولاً) بدلاً من (ذكراً)، ويحتمل أن يكون المراد بالذكر هو القرآن الكريم، ثم قال: (( رَسُولًا )) يعني: وأرسل رسولاً يتلو عليكم آيات الله، وهذا بتقدير (أرسل). ويحتمل أن يراد بالذكر هنا الشرف، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44] أي: شرف وعلو لك ولقومك. رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ يعني: لمن تبعها وتدبرها أنها حق من عند الله تبارك وتعالى. لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أي: من الضلال إلى الهدى. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا يعني: رزقا طيباً، وفيه إكرام له وتعظيم، والمعنى: قد طيب الله له هذا الرزق، وهو رزق عجيب وعظيم؛ لذلك أتى به منكراً.

يقول تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]. أي: الله المعبود المستحق للعبادة هو من هذا خلقه، لا ما يشرك معه. قال الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: قوله تعالى: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن) جاء في بيان السماوات أنها سبع طباق، وأنها سبع سماوات بعضها فوق بعض قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا [الملك:3] كذلك بين الحديث أن ما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام. وجاء لفظ السماء مفرداً وجمعاً، فالمفرد كما في قوله: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5] وقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [البقرة:22]، أما الأرض فلم يأت لفظها إلا مفرداً، ولم يأت تفصيلها كتفصيل السماء بأنها سبع طباق. يعني أن الملاحظ في القرآن الكريم أن لفظ السماء قد أتى بصيغة الجمع، وفصل أنها سبع سماوات طباقاً بعضها فوق بعض، أما الأرض فلم يأت فيها ذلك، ومن ثم اختلف في المثلية، في قوله تعالى هنا: (وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)، ما المقصود بهذه المثلية؟ جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها مثلية تامة من كل الوجوه، بمعنى: أنها مثلية من ناحية العدد، والطباق، والخلق، (( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ )) يعني: أن الأرض مثل السماوات في كونها سبعاً، فهي سبع أرضين، وهي طبقات بعضها فوق بعض، فهي مثلهن خلقة، يعني: خلقت كما خلقت السماوات. وقيل: (ومن الأرض مثلهن) أي: عدداً وأقاليم تفصلها البحار، وكأنه إشارة إلى القارات السبع، فإنها يفصلها البحار، فهي من حيث العدد سبعة أقاليم تفصلها البحار. وقيل: المقصود بكون الأرض سبعاً مثل السماوات أن نفس الكرة الأرضية مكونة من طبقات كطبقات البصلة، فالبصلة تتكون من طبقات متراكبة بعضها فوق بعض، فكذلك الأرض مكونة من سبع طبقات. وحاول بعض العلماء توجيهها بصورة أخرى، وهي أن هذه المثلية هي مثلية في الخلق، كما سنبين ذلك في كلام القاسمي إن شاء الله، لكن توجد أدلة تدل في السنة على وصف الأرض بكونها سبع أرضين. قال الشيخ عطية سالم : إن من أوجه البيان إذا لم يوجد في الكتاب ووجد في السنة شيء يبين ما أجمل في الكتاب، فإنه ينبغي تبيينه بها؛ لأن السنة وحي أيضاًً، وقد جاء في السنة أن الأرض سبع أرضين، كما في حديث: (من اغتصب من الأرض قيد شبر طوقه من سبع أرضين) متفق عليه، وفي صحيح مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين). وفي حديث موسى لما قال: (يا رب! علمني شيئاً أدعوك به، فقال: قل: لا إله إلا الله، فقال: يا رب كل الناس يقولون ذلك. قال: يا موسى! لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة؛ لمالت بهن لا إله إلا الله) رواه النسائي . فهذه الأحاديث الصحيحة أثبتت أن الأرضين سبع، ولم يأت تفصيل للكيفية ولا للهيئة. يعني أن السنة دلت على وصف الأرض بكونها سبعاً، لكن لم يأت في الوحي الشريف ما يفصل الكيفية أو الهيئة. يقول: فثبت عندنا العدد ولم يثبت غيره، فنثبته ونكل غيره لعلم الله تعالى. أي: فنثبت هذا العدد كما هو، أما المقصود بسبع أرضين فنكل العلم في ذلك إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن الوحي لم يفصل الكيفية. قال: ومما يؤيد ثبوت العدد على سبيل الإجمال، أن مثلية الأرض للسماء لم تذكر إلا عند ذكر السماء مجملة مع ذكر العدد، وهذا هو الموضع الوحيد الذي وصفت فيه الأرض بأنها خلقت مثل السماوات، وقد ذكرت السماء مجملة، وكذلك ذكرت الأرض مجملة، ولم يذكر عند تفصيلها الطباق مما يدل على أن المراد من المثلية العدد، فالله قال: (( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ )) ولم يقل: سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا [الملك:3]، فما خصص كلمة (سماوات) لكن ذكر العدد، وهذا يدل على أن المقصود بالمثلية العدد. وقيل: إن هذا لا يتنافى مع إفراد اللفظة؛ لأن جمعه شاذ، يعني أنه لم يقل: ومن الأرضين، لأنه جمع شاذ، قال ابن مالك في الخلاصة: وأرضون شذ والسنون وقد أشار تعالى إلى أن هناك من حالات الأرض والسماء ما لا يعلمه الخلق، كما قال عز وجل: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ [الكهف:51] فما لم يبين لنا ويفصل فيعتبر تفصيله من التكلف، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]. فالبشر لا يزالون عاجزين عن معرفة كيفية خلق أنفسهم، إلا تفصيلات جزئية، والمهم من السياق والغرض الأساسي منه: تنبيه الخلق على عظم قدرة الله تعالى. يعني أن المقصود من الآية تنبيه الخلق إلى عظم قدرة الله سبحانه وتعالى لقوله: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا هذا هو المقصود، وهذا يحصل بالتدبر في هذه الآيات التي تدل على قدرة الله تبارك وتعالى، مع أننا نكل علم التفاصيل التي لم تتبين لنا إلى الله عز وجل وحده. يقول القاسمي في هذا الموضع: قال الزمخشري : قيل: ما في الأرض آية يفهم منها أن الأرضين سبع إلا هذه الآية، وهذه الآية ليست صريحة بصورة قاطعة.

ذكر ما نقله القاسمي في معنى: (ومن الأرض مثلهن)

نقل القاسمي عن بعض علماء الفلك قوله: أما كون الأرضين سبعاً كالسماوات فهو أمر نجهله ولا نفهمه، إلا إذا أريد به أن للأرض سبع طبقات، قال: والحق يقال: إن كون الأرضين سبعاً هو -كما يظهر لنا- وهم من أوهام القدماء! مما يؤلم أن القاسمي في الأجزاء الأخيرة من تفسيره ينسب كثيراً من الآراء التي فيها نظر إلى مجهول، ولا يبين من القائل، وكثير منها يكون مأخوذاً من كلام الشيخ محمد عبده أو أحد أهل مدرسته، كما نقل ما ذكرنا هنا. ولا يشترط أن نفهم كل شيء؛ لأن هناك أموراً مغيبة عنا، وهناك أموراً يستأثر الله سبحانه وتعالى بعلمها، فلا نلجأ إلى أن نتكلف علمها، وهذا عمر رضي الله تعالى عنه لما قرأ سورة عبس وقف عند قوله تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس:31] فقال: الفاكهة عرفناها، فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه وقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر! مع أن كلمة (الأب) يسهل الرجوع إلى معناها في لغة العرب، وهو يفهم من السياق، قال سبحانه: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس:31-32] أي: الفاكهة متاع لكم، والأب متاع لأنعامكم، فالمقصود أنه مما تأكله الأنعام، أما تتبع ما وراء ذلك فسماه عمر رضي الله عنه تكلفاً. وإذا كنا نفهم التفاصيل فذلك لا يبيح لنا أن نقطع بترجيح معين في مثل هذه المواضع. أما قول هذا الذي نقل عنه القاسمي : والحق يقال: إن كون الأرضين سبعاً، هو كما يظهر لنا وهم من أوهام القدماء. فهذا كلام سخيف، ولا ينبغي أن يذكر، كيف يقول: هذا وهم من أوهام القدماء، مع أنه ليس لديه دليل قاطع على أن المقصود المثلية في العدد أم المثلية في الخلق، فهذه الآية لا يستطاع القطع فيها بمعنى معين، فكيف نقطع بنفي العدد؟! لكن نكل علم ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا الأمر يكون مجهولاً كسائر الأمور المغيبة التي نجهلها، وجهلنا بها لا يبيح لنا تأويلها تأويلاً فاسداً على غير علم؛ فكلام هذا الذي يسميه بعض علماء الفلك لا ينبغي أن يذكر في تفسير كلام الله تبارك وتعالى! ثم يقول: ولذلك لم يرد في القرآن الكريم لفظ الأرض مجموعاً. ونقول: لكنه ورد في السنة، فهذا الكلام نشم منه رائحة مدرسة محمد عبده ، ففيها إهمال السنة إلا ما تواتر منها بشروط اخترعتها هذه المدرسة العقلية المنحرفة. فنقول: قد ورد في السنة قوله: (طوقه من سبع أرضين). ثم يقول: ولم يرد فيه مطلقاً أن الأرضين سبع، مع أنه ذكر أن السماوات سبع مراراً عديدة، وفي كل مرة يذكر معها الأرض بالإفراد، وإنما ورد قوله تعالى: (( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ )) وهي الآية الوحيدة التي فهموا منها أن الأرضين سبع، وهي كما لا يخفى لا تفيد ذلك مطلقاً. كذا قال، مع أنها قد تفيد ذلك، فالأمر محتمل؛ لأن الله قال: (وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)، والعلماء المنصفون -كما أشرنا في بداية الكلام- قالوا: الأمر يحتمل عدة احتمالات: فيحتمل أنها طبقات بعضها فوق بعض كطبقات البصل، ويحتمل أن هذه المثلية في العدد، وهي أقاليم مفصولة عن بعضها بالبحار، ويحتمل أنها مثلهن في الخلقة فقط، أي مخلوقة من نفس المادة، أو في أصل كونها مخلوقة لله تبارك وتعالى. إذاً: ليس لدينا ما نقطع به في المقصود، فقوله: وهي كما لا يخفى لا تفيد ذلك مطلقاً. ليس كما ادعى. من المؤلم أن القاسمي رحمه الله تعالى ينقل مثل هذا النقل الطويل عن مجهول، لماذا لا يصرح باسمه؟! فهذا فيه مؤاخذة على القاسمي رحمه الله تعالى، وكنا نحب أن نعرف من هذا الذي يتكلم؟ وما قدره من العلم؟ وما مدرسته التي ينتمي إليها؟ وهذا من حق القارئ؛ فلو أن رجلاً له موقف سيئ من السنة فنحن نحذر منه ونحذر من تآليفه، فينبغي للمؤلف أن ينسب الكلام إلى قارئه، وهذا من بركة العلم. ثم قال هذا القائل المجهول: ولنا في تفسيرها وجهان. -وهذان الوجهان اللذان ذكرهما مقبولان، وكلاهما محتمل لا على سبيل القطع. قال: إما أن تكون (من) في قوله تعالى: (( وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ )) زائدة، وإما أن تكون غير زائدة، فـ(من) لو قلنا إنها مزيدة للتوكيد فتقدير الآية هكذا: الله الذي خلق سبع سموات والأرض خلقها مثلهن. وعلى تفسيرنا هذا تكون هذه الآية دالة على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه. أي أنها إحدى السيارات، وهو أمر ما كان معروفاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان يخطر ببال أحد من العرب، وهذا من دلائل صدق القرآن، فيحتمل أن الأرض مثل السيارات الأخرى في المادة، وكيفية خلقها، وكونها تسير حول الشمس، وتستمد النور والحرارة منها .. إلى آخره. وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى. هذا كلامه، وليس عندنا دليل على أن الكواكب الأخرى مسكونة بحيوانات، وتكلف الكلام في مثل هذا هو من التنطع الذي لا يجوز، وليس لنا أن نتكلم في الغيب بلا علم. قال: وكونها كروية الشكل، فالسيارات أو السماوات متماثلة من جميع الوجوه. يلاحظ في تفسيره أنه يعتبر السماوات السبع هي الكواكب السيارة! ومن قال: إن السماوات السبع هي الكواكب السيارة فقد أخطأ، فإن كل ما نراه حولنا من الكواكب قال الله سبحانه وتعالى فيها: وزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [الصافات:5-6] فالكواكب هذه كلها في السماء الدنيا، فكيف يقول: إن السماوات السبع هي هذه الكواكب؟! إذا كانت سماء الدنيا مزينة بالكواكب فهذا يدل على أن هذه الكواكب ليست هي السماوات السبع، ولا يجوز إخضاع القرآن الحكيم الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى لتأويلات مبنية على نظريات علماء الفلك الذين تتغير علومهم من وقت إلى آخر، وتنهار نظريات وتنشأ نظريات أخرى، فلا ينبغي ربط كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بأمور متغيرة ونظريات متبدلة. يقول: وكلها مخلوقة من مادة واحدة وعلى طريقة واحدة، يقول الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء:30] يعني كانت شيئاً واحداً، (ففتقناهما) أي: فصلنا بعضهما عن بعض، فالأرض خلقها الله تعالى مثل السماوات تماماً. هذا هو الوجه الأول المبني على أن (من) زائدة. الوجه الثاني: أن (من) غير زائدة، فتقدير الآية هكذا: الله الذي خلق سبع سماوات، وخلق من الأرض أرضاً مثلهن، كقولك: اتخذت لي سبعة أصدقاء، ولي فلان صديق مثلهم، أي مثلهم في الصداقة، والمعنى: وبعض الأرض مثلهن في مادتها وعناصرها، وعليه فليس في القرآن الكريم أدنى دليل على أن الأرضين سبع كما يزعمون. انتهى كلام هذا الذي نقل عنه القاسمي رحمه الله تعالى. وذكر ابن الأثير في المثل السائر في النوع السادس في اختلاف سير الألفاظ واتفاقها وتفاوتها في الحسن فيه ما مثاله: وفي صدد ذلك ما ورد استعماله من الألفاظ مفرداً ولم يرد مجموعاً، كلفظة (الأرض) فإنها لم ترد في القرآن إلا مفردة، فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة معها في كل موضع من القرآن الكريم، ولما أريد أن يؤتى بها مجموعة في (( وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ )) لم يقل والأرضين مثلهن، وإنما قال: (ومن الأرض مثلهن) بالنصب عطفاً على (سبع) وبالرفع على الابتداء، وخبره يكون (من الأرض).

معنى قوله تعالى: (يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله)

قوله: (( يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ )) أي يجري أمر الله وحكمه بينهن وملكه ينفذ فيهن. (( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا )) فهذه علة لـ(خلق)، أو علة لـ(يتنزل)، أو لمضمر يعمهما أي: فعل ما فعل لتعلموا أن الله على كل شيء قدير إلى آخره؛ فإن كلاً منهما يدل على كمال قدرته وعلمه. قال ابن جرير : أي: فخافوا أيها المخالفون أمر ربكم عقوبته فإنه لا يمنعه من عقوبتكم مانع، وهو على ذلك قادر، ومحيط بأعمالكم، فلا يخفى عليه منها خاف، وهو محصيها عليكم ليجازيكم بها يوم تجزى كل نفس ما كسبت. والله أعلم.