خطب ومحاضرات
تفسير سورة الصف [5-14]
الحلقة مفرغة
يقول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف:5]. ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى)) يعني: واذكر لمن يؤذيك من المنافقين ما صنعت بالذين آذوا موسى عليه السلام. وهنا نذكر بعض الفوائد في التفسير تعيننا على فهم هذه الآيات، منها: قال الله حكاية عن موسى: ((وإذا قال موسى لقومه)) بينما قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الصف:6]، ولم يقل عيسى: يا قوم! والعلة في ذلك أن عيسى بن مريم عليه السلام ليس له في بني إسرائيل نسب من جهة أبيه؛ لأنه لا أب له، وأما موسى فأبوه وأمه من بني إسرائيل. (لم تؤذونني) أي: لم توصلون إلي الأذى بالمخالفة والعصيان لما آمركم به؟ و(قد) هنا على سبيل التحقيق، (تعلمون) أي: وأنتم تعلمون علم اليقين صدقي بما جئتكم به من الرسالة؛ لما شاهدتم من الآيات البينات، ومقتضى علمكم بذلك تعظيمي وطاعتي؛ فمن عرف الله وعظمته عظم رسوله، لأن تعظيم رسوله من تعظيمه. قال ابن كثير : وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر، يعني: لست بدعاً من الرسل، ولست أول رسول يؤذى، بل سبقك موسى عليه السلام، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رحمة الله على موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، وفيه نهي للمؤمنين أن يوصلوا له صلوات الله وسلامه عليه أي أذى كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69]. وهنا أنبه على شيء مما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام وهو كثرة الجدال في بعض الأمور فأحياناً بعض الناس يروق لهم فتح بعض الموضوعات وقتلها بحثاً، ويكثر الجدال والسؤال فيها، ونحن لا نقول فيها بخلاف الحق، ولكن يكفي فيها التنبيه، والإنسان لا يخوض أكثر من هذا، فمثلاً مسألة مصير أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام وأنهما في النار، هذه المسألة دليلها واضح، وهما كلمتان وينتهي الموضوع، وأما كثرة الكلام فيها فقد كرهه بعض العلماء؛ لما فيه من إيذاء رسول الله عليه الصلاة والسلام. ولا نقول فيها كما يقول الصوفية : إنهما قد أُحييا له فآمنا به ثم ماتا، فإن هذا من خرافات الصوفية، ولكننا نقول كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله رجل، أين أبي؟ قال: (إن أبي وأباك في النار) وقوله: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي) فالإنسان يكفيه هذا، ولا يخوض ولا يكثر الكلام؛ حتى لا يؤذي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
بعض صور إيذاء اليهود لعنهم الله للأنبياء والمؤمنين
خسة اليهود وغدرهم
نوع الأذية اليهودية لموسى المشار إليها في سورة الصف
معنى قوله تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم)
قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا موسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا)) هذا مظهر من مظاهر أذية اليهود -لعنهم الله- للأنبياء، حتى وصل الأمر إلى حد القتل، فقتلوا بعض الأنبياء، وآذوا موسى عليه السلام الذي يتشدقون بأنه نبيهم، وأنهم يعظمونه ويحبونه إلى آخره، وقد لقي موسى عليه السلام منهم الأمرين. فالشر كامن في بني إسرايل كمون اللؤم في الذئب، وقد قيل: من التعذيب تهذيب الذيب، فإذا وجدت ذئباً مثلاً فلا تحاول أن تهذبه أو تعدل من أخلاقه، لأنه لا يتعدل، ولا يقبل التعديل أبداً، وهذا مما نستفيده من قصص القرآن الكريم في شأن اليهود لعنهم الله، فالعنصر الجيني والعنصر الوراثي وأخلاقهم واحدة في كل حين، وفيهم نفس اللؤم، ونفس الغدر، ونقض العهود، وكراهية الخير للناس، والحسد؛ فكل هذه الأشياء صفات راسخة فيهم غير قابلة للتغيير، فلا أمل في إصلاحهم، واليهود ليسوا كأي عدو، فيا سوء من ابتلي بعداوة اليهود؛ فإنه قد ابتلي بشيء عظيم جداً. فالمهم أن هذه إحدى صور الإيذاء كما هي واضحة في الآية: ((لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ))، وكذلك ما يفعله اليهود اليوم من أذية المسلمين ويتفننون في ذلك، فقد قامت بعض مصانعهم بكتابة لفظ الجلالة على الأحذية والنعال قبحهم الله، وما أكثر ما يفعلونه استفزازاً مما تتزلزل له الجبال، وترتجف له القلوب، وتندك له الأرض والجبال، ففي بعض المناطق دخل بعض جنودهم المجرمين في أماكن الخلاء، واستنجوا بصفحات من القرآن الكريم، فهذه طباعهم: أذية الله، وأذية الرسل، وحتى موسى ما سلم منهم، وهم يتشدقون بأن موسى هو نبيهم المعظم، وكذلك كثير من أنبيائهم ما سلموا منهم، فافتروا كذباً عليهم، ولا أمل في تغيرهم؛ بدليل أن صفاتهم هي نفسها في كل الأيام لم تتغير. وقد عاتب الله الذين عاصروا منهم النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة على أشياء فعلها أجدادهم لكنه نسبها إليهم كما قال تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا [البقرة:72]، لأنها أصيلة في طباعهم، وقد يمكن أن تكون الجينات أو الخريطة الوراثية لليهود مختصة ببعض الصفات الإجرامية، وبالذات التخصص في أذية الله، وأذية رسوله، وأذية المؤمنين. وبسبب نزول قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى)) معروف، وهو ما جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن موسى عليه السلام كان حيياً ستيراً، لا يرى من جلده شيء، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يتستر موسى هذا التستر إلا من عيب في جلده: إما برص، وإما أدرة، وإما آفة، فأراد الله عز وجل أن يبرئه مما قالوا، فخلا يوماً وحده، فخلع ثيابه على حجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه -أي: جرى الحجر بالثوب- فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يضربه ويقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله عز وجل، وبرأه الله مما يقولون). فإيذاؤهم له هنا إيذاء شخصي، فإن أذية بني إسرائيل للأنبياء متنوعة وكثيرة وعديدة، فمن ضمن هذه الأذية أذيتهم له في شخصه، وذلك بأن اتهموه أن فيه عيباً جسدياً في الخلقة، وسبب النزول هذا صحيح في آية الأحزاب، لكنه لا يصح هنا في آية الصف: ((يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ))؛ لأن قول موسى عليه السلام: ((وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)) يشير إلى أن الإيذاء في جانب الرسالة لا في جانبه الشخصي؛ بدليل قوله تعالى بعدها مباشرة: ((فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)). يعني: فلما زاغو بما آذوا به موسى، فيكون إيذاء قومه له هنا إيذاء زيغ وضلال، وقد آذوه كثيراً في ذلك كما بينه الله تبارك وتعالى في قوله عنهم: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55]، وكذلك قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:93]. وطباع اليهود -كما قلنا مراراً- غير قابلة للعلاج؛ لأنها مترسخة فيهم إلا من يشاء الله سبحانه وتعالى هدايته منهم؛ ولذلك تجد الذين يسلمون من اليهود قليلين جداً كالكبريت الأحمر، في حين نجد النصارى يدخلون الإسلام بالآلاف، وكذلك غيرهم من أهل الملل الأخرى، أما اليهود فهذا شيء نادر؛ وذلك لشدة قسوة قلوبهم. وقصص اليهود وحكاياتهم لا تنتهي من كثرتها، فتجدهم يتحايلون على بعض الأشياء في شريعتهم، فالنساء اليهوديات في كثير من البلاد خصوصاً في منطقة بروكلين في أمريكا وهذه المنطقة اليهود فيها أقوى من اليهود في فلسطين المحتلة، فتجد أن النساء كلهن يلبسن باروكة من نوع واحد، وذلك لأنهن يحلقن رءوسهن بناء على شيء معين في شريعتهم -والله أعلم- يلزم النساء بالحلق، فيتحيلن عليه بأن يعملن شعرهن بهذه الطريقة، ثم يلبسن فوقه باروكة، وهو أيضاً نوع من التبرج، وقصصهم في ذلك تطول جداً.
فاليهود فيهم اللؤم والغدر والخسة والنذالة ونقض العهود، والناس يرون أخلاقهم عياناً الآن، ولا يبعد أن الغربيين جمعوهم في فلسطين كي يتخلصوا من شرهم، ومع ذلك لم يتخلصوا منهم، وقد خطب إبراهام لنكولن رئيس أمريكا السابق خطبة شديدة حذر فيها من اليهود، وقال: إن أمريكا في يوم من الأيام سوف يستعبدها اليهود إن تركتموهم ولم تلتفتوا إليهم. وهذا هتلر أُثر عنه أنه قال: قتلت نصف اليهود، وتركت النصف الثاني؛ لتعرف البشرية لماذا قتلت النصف الأول. لقد ابتلينا بعدو من نوع خاص، وهو من أصعب الأعداء؛ للؤمه وغدره وخسته، وما يحصل الآن مع الفلسطينيين يكشف هذه الخسة وهذه النذالة. يقول الله لهم بعد ما رفع فوقهم الطور: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا [البقرة:93] وانظر إلى الرد: قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:93]. فأخذ الميثاق عليهم، ورفع الطور فوقهم، وقوله لهم: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) هذا كله يساوي قول موسى عليه السلام: (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)؛ لأن (قد) هنا للتحقيق كقوله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144]، ومع ذلك يؤذونه بقولهم: (سمعنا وعصينا). وقد كانوا يخاطبون نبيهم باسمه: يا موسى! كذا وكذا، وقالوا له أيضاً: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، فقد آذوا سيدنا موسى عليه السلام إيذاء عجيباًً، وآذوه عندما أشربوا في قلوبهم حب العجل وعبادته بكفرهم، قال الله عنهم: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا موسى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153]، وهذه مواساة للرسول صلى الله عليه وسلم، أي: لست أنت أول من يؤذى، فهذا نبيهم قد أوذي منهم. إذاً: الإيذاء المنصوص عليه هنا في سورة الصف: ((يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ))، هو في خصوص الرسالة، ولا مانع من أنهم آذوه بأنواع من الإيذاء في شخصه، كما في آية الأحزاب، وعاقبهم على إيذائه بما أرسل به إليهم لغيظ قلوبهم.
يقول الإمام المفسر أبو السعود في تفسير هذه الآية: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)): هذا كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال، و(إذ) منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين، أي: واذكر هؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى لبني إسرائيل: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [المائدة:21]، فلم يمتثلوا أمره، وعصوه أشد عصيان حيث قالوا: يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المائدة:22] إلى قوله: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، وأصروا على ذلك، وآذوه عليه الصلاة والسلام كل الأذية، هذا هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم، ويرتضيه الذوق السليم. وأما ما قيل بصدد بيان أسباب الأذية من أنهم كانوا يؤذونه بأنواع الأذى: من انتقاصه، وعيبه في نفسه، وعصيانه فيما تعود عليهم منافعه، وعبادتهم البقر، وطلبهم رؤية الله جهرة، فمما لا تعلق له بالمقام. فقوله: ((لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)) هو الذي حدا ببعض المفسرين -كما ترون- إلى القول بأن الأذية هنا أذية موسى بخصوص الرسالة، فخلاصة الكلام أن المقام يعين نوع الأذية ويخصصها، والقرينة إحدى مخصصات العام، إلا أن أخذها عامة أعظم في في المواساة وأولى؛ وقوفاً مع عموم اللفظ الكريم، وسواء قلنا بالعموم في أنواع الأذية، أو الإيذاء في الرسالة خاصة فكل ذلك يفيد مواساة النبي عليه الصلاة والسلام بما وقع لموسى عليه السلام من اليهود.
قوله: (فَلَمَّا زَاغُوا) يعني: مالوا عن الحق مع علمهم به؛ وذلك لفرط الهوى، وحب الدنيا. ((أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)) أي: عن طريق الهدى، وحجبهم عن نور الكمال؛ لفرط انحرافهم نحو الغي والضلال. ونلاحظ هنا أن محل الزيغ ومحل الهداية إنما هو القلب؛ لذلك قال تعالى: ((أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ))، فإن القلب إذا زاغ زاغ البدن، فالقلب ملك البدن، لذلك فأصل الزيغ يكون فيه. والهداية أيضاً تكون للقلب بدليل قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، ولذلك جاء في دعاء المؤمنين: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8]. فجمع بين الأمرين: الزيغ والهداية (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) يعني: أمالها عن الحق؛ جزاء لما ارتكبوه كما قال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10]، وقوله أيضا:ً وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الأنعام:25]، وقال تعالى: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ [الأعراف:101]. ويشهد لهذا التفسير قياس العكس، وبيان ذلك: أن الله تعالى قال في حق هؤلاء اليهود: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، وقياس العكس: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17].
يقول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصف:6] ذكرنا قبل أن الله تعالى حكى عن عيسى قوله: (وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل)، في حين حكى عن موسى قوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ)، وذلك أن عيسى عليه السلام ليس له في بني إسرائيل نسب من جهة أبيه، وإن كان هو من بني إسرائيل من جهة أمه؛ لأن أمه من نسل هارون كما في قوله تعالى: (يَا أُخْتَ هَارُونَ)، بخلاف موسى عليه السلام، فإن له نسباً فيهم. قوله: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) أي: التي أنزلت على موسى، وذلك مما يدعو إلى تصديقه عليه السلام.
البشارة ببعثة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب الماضية
الفرق بين محمد وأحمد من حيث اللغة
التوراة تبشر بالنبي الأمي
هرقل يقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
إسلام سلمان والجارود بن أبي العلاء ناجم عن البشارات
أم المؤمنين صفية تذكر عن أبيها وعمها معرفة الرسول المبشر به
إسلام عبد الله بن سلام بسبب معرفة صفات النبي المذكورة في كتبهم
إسلام النجاشي بسبب البشارات
تبشير اليهود بمحمد هو سبب مبادرة الأنصار إلى الإسلام
ذكر بشارة من الإنجيل
البشارة بالفارقليط
البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم في إنجيل برنابا
إسلام المايورقي بسبب البشارات
متخصص في الآداب اليونانية يفسر الفارقليط بأحمد
بشارات من كتب المجوس
قوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) صلى الله عليه وسلم، وهناك قراءة أخرى وهي: ( من بعديَ اسمه ) . (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أي: بالدلالات التي آتاه الله إياها حججاً على نبوته (قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي: سحر بيِّن. يقول ابن كثير : فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، فقد أقام في ملأ بني إسرائيل مذكراً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة. إن كلمة الإنجيل معناها البشارة، يعني: أنه الذي يبشر بمحمد عليه الصلاة والسلام، فالبشارة التي نطق بها عيسى والتي بشر بها حتى وهو في المهد هي المقاصد الرئيسية لرسالة المسيح، فقد بشر بالنبي الآتي للعالمين وهو محمد عليه الصلاة والسلام ، فكلمة الإنجيل لها ارتباط بالبشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والإشارة في قوله: ((قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)) إلى ما جاء به، وتسميته سحراً مبالغة، يريد عليه السلام أن ديني هو التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر، فقوله: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ)، هذا فيما تقدم وقوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) عليه الصلاة والسلام هذا فيما سيأتي. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: ذكر موسى ولم يذكر معه البشرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عيسى فذكرها معه، مما يدل بمفهومه على أنه لم يبشر به إلا عيسى عليه السلام، وهذه الطريقة في الاستنباط مبنية على الاحتجاج بمفهوم اللقب، ومفهوم اللقب لا عمل عليه عند الأصوليين، وقد بشر به صلى الله عليه وسلم جميع الأنبياء، ومنهم موسى وإبراهيم عليهما السلام، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم) يعني قوله: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129] وهو محمد عليه الصلاة والسلام. فجميع الأنبياء -بمن فيهم موسى- بشروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومما يشير إلى أن موسى أيضاً قد بشر به قول المسيح في هذه الآية: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ)، وما بين يديه هي التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام، وكذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ [الأعراف:157]. وقوله في سورة الفتح: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [الفتح:29] فهذا وصف الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة في التوراة، وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ [الفتح:29] وهذا يدل أيضاً على أنهم وصفوا في الإنجيل. وجاء النص في حق جميع الأنبياء في آية آل عمران: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه. وجاء أيضاً مصداق ذلك في قصة النجاشي لما سمع من جعفر عليه السلام سورة مريم فقال: أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الذي بشر به عيسى عليه السلام، وقال أيضاً: والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي التي رأ) أي: حينما رأت أم النبي عليه الصلاة والسلام نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام. وهنا خُص عيسى بالنص على البشرى به عليه الصلاة والسلام، لأن عيسى آخر أنبياء بني إسرائيل فهو ناقل تلك البشرى لقومه عمن قبله، وقال أيضاً: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [آل عمران:50]، ومن قبله ناقل عمن قبله، وهكذا حتى صرح بها عيسى عليه السلام وأداها إلى قومه؛ لأن أهم نبي من الأنبياء يشهد لمحمد بالرسالة، ويبشر به هو الذي ليس بينه وبينه نبي، فلابد أن يذكر لهم ذلك قبل أن يغادر الدنيا؛ ففيما مضى كان كل نبي يبلغ البشارة لمن بعده، وكان بين عيسى وموسى أنبياء كثيرون من بني إسرائيل، فكل نبي يحملها إلى من بعده، إلى أن أتى المسيح عليه السلام فصار ذلك في حقه أوكد، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى الناس بعيسى؛ ليس بيني وبينه نبي). فعيسى خاتم أنبياء بني إسرائيل، ونبينا خاتم الأنبياء على الإطلاق عليه الصلاة والسلام. وقوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) جاء في الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر أسمائه: (أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه، وأنا العاقب). وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه أحمد، وذكر باسمه محمد في أكثر من موضع من القرآن الكريم كما في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وسورة آل عمران، وذكر بصفات عديدة كقول الله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]. وهذا الموضوع -أعني: البشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من الموضوعات التي تستحق أن تفرد، وقد أفرد كثيرون في شتى العصور هذا الموضوع بالدراسة المستفيضة، وجرياً منا على سنن الاختصار سنحاول أن نجمل الإشارة إلى بعض هذه البحوث.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة التوبة [107-110] | 2819 استماع |
تفسير سورة المدثر [31-56] | 2621 استماع |
تفسير سورة البقرة [243-252] | 2584 استماع |
تفسير سورة البلد | 2567 استماع |
تفسير سورة الطور [34-49] | 2564 استماع |
تفسير سورة التوبة [7-28] | 2562 استماع |
تفسير سورة الفتح [3-6] | 2504 استماع |
تفسير سورة المائدة [109-118] | 2439 استماع |
تفسير سورة الجمعة [6-11] | 2412 استماع |
تفسير سورة آل عمران [42-51] | 2404 استماع |