في سورة الإسراء ركائز القوة والارتقاء
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
في سورة الإسراء ركائز القوة والارتقاء
ابتدأت سورة الإسراء بالتسبيح والتمجيد لله العظيم، الذي أسرى بحبيبه وعبده ومصطفاه في جزء من الليل، من المسجد الحرام (مكة) إلى المسجد الأقصى (فلسطين) الذي بارك حوله وجعله آية يراها خاتم الأنبياء والمرسلين ومن بعده أمته؛ ولتكون هذه الأرض المباركة نبضاً بين ضلوع وحنايا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وشرياناً من شرايينها تقيس به مسافات مساراتها الجادة بين حفظها أو ضياعها لربها ودينها كما تحفظ أو تضيع محاريبها ومقدساتها قدر المسافة التي تفصل بين المسجدين؛ كما لفظة الليل في سياق الآية واختيارها دون النهار لفضل مقام الليل حيث ينامه من لا يساوي جهد وعزائم من اتخذوا من الليل معراجاً لأرواحهم التي تسري في أجواء المناجاة لربها الحبيب الودود تتنقل بين قراءة وتسبيح واستغفار وألوانٍ من التضرعات والتأوهات.
وتمام العبودية لله حاضرة في سياق الآية، فمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يكون نبياً ورسولاً هو عبد الله المؤتمن على تبليغ الرسالة وأداء الأمانة، ولا تكتمل مهمته حتى يضطلع بهذا الدين ليكون ظاهراً على كل الأديان وتعلو كلمة الله في كل الأرض وعلى كل الأرض؛ وهو يوم أسري به إلى المسجد الأقصى ليأتم بإخوانه من الأنبياء والمرسلين بدأت رسالته العالمية؛ وكما جعل موسى عليه السلام هدًى لبني إسرائيل وآتاه الكتاب، فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم آتاه الله الكتاب وهو القرآن وهو هدى لبني إسرائيل وقومه وأقوام جميع الأنبياء والمرسلين (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ)، وقال سبحانه: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ﴾.
ثم شرَعت الآيات تحكي وجها من وجوه الصراع الطويل بين أمناء الله على خلقه وعلى المسجدين وبين من يسوءون وجوههم حين تحنو هذه الوجوه لغير خالقها وتتعثر عزائمهم وترخى هممهم.
إن بين مجرات هذه السورة من رسم مسار القوة والضعف لهذه الأمة ما يجعل القارئ المتدبر يسبح بحمد الله المجيد ويستغفره على التقصير والضعف ويتضرع إليه ليمده بالقوة والفهم والعزم والرشد؛ إذ كل شيء في هذا القرآن - الذي يهدي للتي هي أقوم - التفصيل الجلي البين الذي يبصره من يبتغي الفضل من الله ويتعلم عدد السنين والحساب موقناً سنن الله في الخلق والدول فلا يدع بالشر دعاءه بالخير ولا يتعجل قطف الثمر قبل نضوجها ولا يكون عجولاً في طلب وقضاء الضرورات في الدين والدنيا؛ بل يكون حسيباً يقرأ كتابه بالمراقبة والمحاسبة قبل أن يقرأه يوم العرض على الله منشوراً؛ ليس له إلا أن يأخذ بالوصايا والتوجيهات الإلهية التي استعرضتها الآيات وختمتها ﴿ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ﴾.
هذه التوجيهات هي الركائز والدعائم التي يرتكز عليها من اصطفاه الله ليرث أمانة التبليغ ونشر كلمة التوحيد من أقصى الأرض إلى أقصاها ويتخذ من اسم المسجد الأقصى شعارا يحفزه لذلك؛ فلفظة الأقصى توحي بالبعد كماً وكيفاً ومكاناً وزماناً، مضموناً وشكلاً.
هذه التوجيهات ابتدأت بما ابتدأ به كافة الأنبياء والرسل مع أقوامهم وهي الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك، قال تعالى: ﴿ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ﴾ كما اختتمت كذلك بالتأكيد على نبذ الشرك: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ﴾.
فكأن من يأخذ بهذه الوصايا والتوجيهات لكنه يتعثر في خلوص العبادة لله تعالى ينزلق بين منحدرات أحجار الشركيات فيموت يوم يموت ليلقى الله ملوماً مدحوراً تصلاه جهنم.
وحين نستطرد هذه الوصايا والتوجيهات بإيجاز نجدها على الوجه التالي:
1- النهي والتحذير من الإشراك بالله ووصف المشرك بالقاعد الذي أقعده مرض الشرك ليكون بين الناس مذموماً مخذولاً؛ فإذا كان هذا حاله منبوذاً غير منصور ضعيف الإيمان واليقين فكيف لمثل هذا أن ينتصر لقضايا دينه وأمته؟!
2- الأمر بالإحسان إلى الوالدين والتأكيد على العبودية الخالصة دون التأثر في التوحيد لله تعالى ولو كان من أقرب الناس إليه وهما الوالدان، كما أن الإحسان إلى الوالدين مما يساعد على الارتقاء في سلم التوحيد والعبودية الخالصة لله تعالى ويوصل بصاحبه إلى درجة الأوابين الصالحين.
3- الإنفاق على الفقراء والمساكين وابن السبيل والمحتاجين والتوازن في الإنفاق دون تقتير أو تبذير لأن العبث في الإنفاق انحراف ومنزلق خطير وتشبه بالشياطين العابثين، كما يورث صاحبه الندم والحسرة واللوم الطويل المؤلم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ وقال سبحانه: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾.
4- النهي والتحذير من وسائل التخلص من النسل خشية الفقر إذ هذه من المعتقدات الفاسدة التي تدل على إساءة الظن بالله وعدم الثقة به وسوء أدب وتقدير للرزاق جل في علاه الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر وهو الخبير البصير؛ قال سبحانه: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴾.
5- النهي عن القتل خارج حدود وضوابط الشرع ومن قتل له جعل الله القصاص حقاً له وسلطاناً يأخذه عن طريق القضاء ويحتسب ذلك؛ فإذا لم يقدر على ضبط النفس وأبى إلا الثأر والافتئات على القضاء فليس مؤهلا ليكون حامي الحدود وحافظا للشرع وقد فشل في أول ومبتدأ الطريق؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾.
6- النهي عن التلاعب والعبث في مال اليتيم الضعيف الذي لا يوجد من يحميه ويحفظ ماله إلا أن يكون التصرف في ماله بما يصلحه؛ إن هذا التوجيه أقرب إلى فرض الكفاية على الأمة لترعى اليتامى بينهم فلا تضيع حقوقهم؛ ويوم تحفظ الأمة لليتامى حقوقهم فهي في طريقها لتمتلك القدرة على حفظ دينها ومقدساتها؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾.
7- الأمر بالوفاء بالعهود والعقود والمواثيق والاتفاقات الملزمة تجاه ربها ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ وتجاه بعضها وحتى تجاه أعداءها؛ قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾.
8- الأمر بالوفاء بالكيل والوزن إذ في الوفاء بالكيل والوزن الخير الكثير والأمن والاستقرار للأمة لأنها ميثاق شرف وأمانة ونزاهة وورع؛ وإن الأمة يوم تتلاعب بالمكاييل والأوزان الحسية والأخلاقية تفقد ثقتها بنفسها وتفسد حياتها وتشيع الكراهية والأحقاد وينمو الشر ويطفح الفساد؛ فهل إذا وصلت الأمة إلى هذا المستوى تقدر على حفظ دينها ومكانتها ومقدساتها ؛ قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾.
9- التحذير والنهي عن أخذ العلوم والأخبار والمعارف من غير مصادرها الموثوقة؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ فسمعك وبصرك وفؤادك لا تجعله يتلقف ما تراه وتسمعه ويستقر بعد ذلك في فؤادك دون التحري من صحة ما رأيت أو سمعت أو اعتقدت؛ وما أخطر ما نتعرض له هذه الأيام من الكم الهائل المخيف من الأخبار والعلوم والمعارف والتي تؤثر فينا وتوجهنا للمسارات الخاطئة ونحن نظن أننا على حق.
نسأل الله تمام الهداية وأن يجنبنا الزلل والغواية والانحراف.
10- النهي والتحذير من التعالي على الناس وتحقيرهم وانتقاصهم والتكبر عليهم والوصول في الغرور حد الظن أن يخرق الأرض والتطاول حد السماء ولعل هذه إشارة إلى الغرور العلمي المعاصر الذي تتباهى فيه المؤسسات العلمية في التجاوز حد اختراق الأرض والبحث في أحوال الموتى ومآلهم والتطاول حد تجاوز طبقات السماء وما إلى ذلك؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ﴾، وهي صورة تبدو مقززة وبشعة عبرت عنها الآية التي تليها مع أنها أشارت إلى النواهي السابقة في حال لم ينته عنها صاحبها، قال تعالى: ﴿ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ﴾.
ثم اختتمت الآيات بقول الحق سبحانه: ﴿ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ﴾.
هذه السلسلة من الآيات بهذه الوصايا والتوجيهات هي الحكمة التي لن يتحصلها إلا من نجح للعمل بهذه التوجيهات وهي الحصانة من الوقوع في شرَك "الشرك بالله تعالى"، كما أنها من خلال السياق في السورة مكونات القيادة القوية القادرة بقدرة الله المجيد في هذه الأمة باسترداد المسجد الأقصى وحفظ مقدسات المسلمين من الضياع.
والله المستعان.