تفسير سورة الممتحنة [12-13]


الحلقة مفرغة

يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة:12]. قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ قال ابن كثير : يعني: لا يسرقن أموال الناس الأجانب، فأما إذا كان الزوج معسراً في نفقتها فلها أن تأكل من ماله بالمعروف ما جرت به عادة أمثالها، وإن كان من غير علمه؛ عملاً بحديث هند بنت عتبة أنها قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، فهل علي جناح إن أخذت من ماله بغير عمله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك بالمعروف). وهذا الحديث متفق عليه. وقد قيد الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال: وهذا إنما هو فيما لا يخزنه عنها في حجاب، ولا يضبط عليه بقفل، فإنه إذا هتكته الزوجة، وأخذت منه كانت سارقة تعصي به، وتقطع يدها. إذاً: يحل للمرأة إذا كان زوجها شحيحاً يمسك عليها في النفقة، ولا يعطيها ما يكفيها هي وأولادها، وله مال آخر في درج مفتوح، أن تأخذ ما يكفيها بالمعروف، ولا تزيد على حاجة ما جرت به عادة أمثالها، لكن إذا كان له مال ووضعه في خزانة، وأقفل عليه، أو وضعه في حرز، فإنها إذا أخذت منه في هذه الحالة فهي سارقة؛ لأنها أخذته من الحرز.

حكم إجهاض الجنين

قوله: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ قال الزمخشري : يريد وأد البنات. قال ابن كثير : هذا يشمل قتله بعد وجوده كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعم قتله وهو جنين كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء، فإنها تطرح نفسها لئلا تحبل، إما لغرض فاسد أو ما أشبهه. وهذه المسألة يحصل فيها تساهل؛ لأن الأمور قد اختلطت، وتأثر المسلمون كثيراً بمناهج الكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يخشون يوم الحساب، خاصة في قضية الإجهاض، فهنا ابن كثير يقول: إن قوله تعالى: (( وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ )) عام يشمل قتل الطفل بعد وجوده، وهذه الحالة وجدت في أهل الجاهلية، فقد كانوا يقتلون الأولاد خشية الفقر والإملاق، ويشمل قتله وهو جنين، وذلك يكون بعد مضي مائة وعشرين يوماً رحمياً، ويبدأ حساب ذلك من التلقيح. فلو مرت مائة وعشرون يوماً ويوم، ونفخت فيه الروح، فهذا إنسان محترم، وحياته محترمة لا يجوز التعدي عليها، وبعض الناس -لسبب أو لآخر- يتأولون تأويلات غريبة، وذلك كأن يأتي مثلاً بعض الأطباء ممن لا فقه عندهم فيقول: هذا جنين مشوه، ويكون قد نفخت فيه الروح وقد كان في الشهر السادس أو السابع مثلاً، فيقتلونه ويجهضونه رحمة به زعموا، فهذه جريمة قتل؛ لأنه ما دام أنه قد نفخت فيه الروح فقد انتقل من الحياة النباتية إلى الحياة الحيوانية بنفخ الروح، فهذا إنسان له حرمة، والإسلام يأمرنا مع الضعيف أن نرحمه لا أن نقتله، فمثلاً لو كان هناك شخص عنده عاهة من عمى، أو أي عاهة أخرى، فهل تقتله من أجل أن تخفف عنه؟! كذلك نفس الشيء إذا حصل تشوه ولم يكتشف، أو لم يقطع بدون تشويه إلا بعد مضي مدة تزيد على مائة وعشرين يوماً فلا يجوز الإجهاض قولاً واحداً، حتى ولو كان مشوهاً؛ لأن المشوه قد يمكن علاجه. فالطب الآن -بفضل الله سبحانه وتعالى- قد تطور وتقدم، وهناك حالات كثيرة يتم علاجها، أو التخفيف من آثارها، حتى ولو افترضنا أن الطفل سيخلق -والله تعالى أعلم- متخلفاً عقلياً مثلاً فلا يجوز قتله، فهل كل من عنده تخلف عقلي يقتل؟! وما الفارق بينهما: فهذا حي داخل الرحم، وهذا حي في الخارج؟ لا فرق بينهما في الإسلام، فهذا الجنين له حرمة لا يجوز الاعتداء عليها، وقاتله مجرم آثم قاتل للنفس التي حرم الله عز وجل، فلينتبه إلى هذا. أما ما قبل مائة وعشرين، أو قبل الأربعين، فهذه قضية أخرى تخرجنا عن موضوعنا. قوله: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ قال ابن عباس: أي: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم. أي أن المرأة تلتقط لقيطاً وتقول للرجل: هذا ابني منك، أو تفحش وتنجب ولداً، فتنسبه لفراش زوجها، فهذا أيضاً مما ينهى عنه. فللمفسرين في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: لا يُلحقن بأزواجهن غير أولادهم. القول الثاني: إنه السحر. القول الثالث: المشي بالنميمة، والسعي بالفساد. ولعل هذه البيعة التي أُخذت على النساء كانت تؤخذ على الرجال كما في بعض الروايات. وقال ابن عباس: (( وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ )) أي: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم. وأوضحه الزمخشري بقوله: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدي منك. كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً؛ لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وموضع الولادة بين الرجلين. وهذا الأمر في هذه الآية مخالف للزنا. وقال الشهاب في شرح البخاري: لا تأتوا ببهتان من قبل أنفسكم، واليد والرجل كناية عن الذات؛ لأن معظم الأفعال بهما، ولذا قيل للمعاقب بجناية قولية: هذا ما كسبت يداك، مع أنه ما فعله بيديه، ولكنه قاله بلسانه، فيعبر عن أفعال الإنسان باليدين؛ باعتبار أن معظم الأفعال تمارس باليدين، أو بالرجلين أحياناً. أو معناه: (( وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ )) أي: لا تنشئوا البهتان والافتراء من ضمائركم وقلوبكم؛ لأنه من القلب الذي مقره بين الأيدي والأرجل، والأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهم، والثاني كناية عن إنشاء البهتان من دخيلة قلوبهم مبنياً على الغش الباطني. وقال الخطابي : معناه لا تبهتوا الناس كفاحاً ومواجهة، كما يقال للآمر بحضرتك: إنه بين يديك، ورُدَّ: بأنهم وإن كنوا عن الحاضر بكونه بين يديه فلا يقال: بين أرجله، وهو وارد لو ذكرت الأرجل وحدها، أما مع الأيدي تبعاً فلا، فالمخطئ مخطئ، وهو كناية عن خرق جلباب الحياء والمراد النهي عن القذف ويدخل فيه الكذب والغيبة. قوله: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ يعني: من أمر الله تأمرهن به، وقد شاع عند بعضهم ممن يريد أن يحارب ويحذر من التقليد الأعمى، واتباع أقوال الرجال وتقديمها على الكتاب والسنة، شاع عندهم الاستدلال بقوله تعالى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يطاع إلا في المعروف فكيف بغيره؟! والمفروض التحرز في التعبير وأن يكون فيه شيء من الدقة؛ حتى لا يفهم الكلام خطأً. فهنا قيد عدم المعصية بكونها في معروف، أي: ما دمت تأمرهن بالمعروف فلا يعصينك، فهذا القيد إنما هو للبيان، والمعنى: ولا يعصينك في معروف، وكل ما تأمر به معروف؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بالمعروف، ولا يمكن أن يأمر بمعصية، أو منكر معاذ الله وحاشاه عليه الصلاة والسلام، فالقيد هنا للبيان، ولا مفهوم له، فهو مثل قوله: قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الأنبياء:112] فهذا ليس له مفهوم، ولو قال: (قال رب احكم) لكفى؛ لأن الله لا يحكم إلا بالحق، ومثله أيضاً قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:112] فهذا لا مفهوم له، فلا يمكن أن يقتل نبي ويكون قتله بحق، فهذا هو أشقى الناس كما قال عليه الصلاة والسلام: (أشقى الناس من قتل نبياً أو قتله نبي). إذاً: فهذا القيد للبيان، وليس له مفهوم، فكل ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم معروف، وفيه حياة للمؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، فكل ما يأمرنا به النبي عليه الصلاة والسلام هو حياة لنا، وقال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80] وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه).

معنى المعروف في قوله: (ولا يعصينك في معروف)

أما كلام المفسرين في المقصود بالمعروف في هذه الآية: ففي صحيح مسلم عن أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: (كان منه النياحة، فكان يأمرنا ألا ننوح)، وجاء في بعض الروايات في كلام ولا ينحن النياحة، ومنها: لا يدعين ويلاً، ولا يخدشن وجهاً، ولا ينشرن شعراً، ولا يسرقن ثوباً. فهذه من أفعال الجاهلية، فلا يجوز لامرأة مسلمة أن تأتي بشيء من هذه الأفعال. (لا يدعين ويلاً) أي: لا يصرخن، وهذا غالباً مما يحصل من المرأة، لأنها عبارة عن كتلة من العاطفة، فإذا لم تحجزها التقوى ورزانة الإيمان الصادق فإنها تخرج عن طورها وتجزع، خاصة عند المصيبة الكبرى التي هي مصيبة الموت، فنجد بعض النساء قد يتلفظن بألفاظ شنيعة ويأتين بأفعال تتنافى مع الإيمان، فكان مما بايعهن عليه الرسول عليه الصلاة والسلام أيضاً أن لا يدعين ويلاً، أي: لا تقل يا ويلتاه! (ولا يخدشن وجهاً ولا ينشرن شعراً) نشر الشعر أن تفرق شعرها كأمارة على الجزع من قضاء الله سبحانه وتعالى، وفي معنى نقض الشعر ما يفعل بعض الرجال من إطلاق وإعفاء اللحية عند المصيبة، فترى الرجل يحلق لحيته دائماً، فإذا حصل مصاب عنده من موت قريب له أو حبيب فإنه يعبر عن جزعه بأن يعفي لحيته ولكن لفترة مؤقتة، فنقول: هذا حرام؛ لأنه في معنى النهي عن نشر الشعر، وإن كان يجب عليه أن يعفي لحيته في كل أحواله، لكن الأمر هنا فيه موافقة لهذا الفعل الجاهلي، وهو نشر الشعر عند المصيبة، فالمرأة تنشر شعرها تعبيراً عن الجزع، وهذا يترك لحيته تعبيراً عن الجزع، لذلك فهو في معناه. قوله: (ولا يشققن ثوباً): هذه أيضاً من أفعال الجاهلية. وقيل: (( لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ )) يعني: كل ما يأمر به النبي عليه الصلاة والسلام من شرائع الإسلام وآدابه. فالمعروف اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة الله، والإحسان إلى الناس، وكل ما أمر به الشرع ونهى عنه. وقوله: (( إِذَا جَاءَكَ )): جملة شرطية، و(إذا) أداة شرط غير عاملة مثل: لو، ولولا، و(جاء) فعل الشرط.

كيفية مبايعة الرجال والنساء

وقد ذكر القاسمي رحمه الله تعالى بعض التنبيهات فقال: روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية، فمن أقر بهذه الشروط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك كلاماً، ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك). قال ابن حجر : أي: لا مصافحة باليد كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة، يعني: أن عادة الرجال عموماً عند المبايعة؛ سواء كانت هذه المبايعة مع الأمير، أو في البيع والشراء، أو عند توثيق العقود للناس، أن يضع أحدهم يده في يد الآخر، فهذه أمارة على التوثيق وشدة الاتفاق الذي يحصل بين الناس، كما يحصل من بعض المأذونين أثناء العقد من جعل الولي والزوج يصافح أحدهما الآخر، ويقول لكل واحد منهما: انظر إليه، فهذا لا بأس به، ولا ينبغي أن نتحرج منه؛ لأنه نوع من التوثيق، وأما وضع المنديل فلا أعلم له أصلاً، ولا أعرف السر في وضعه. يقول أحد الإخوان هنا: السر في وضع المنديل أنهم كانوا يضعون المهر قل أو كثر في يدهم فيما بينهم، على أنه المهر المسمى بينهم. وعلى أي الأحوال فلا حرج في ذلك على الإطلاق، بل الأمر بالعكس، فإن هذا مما يزيد التوثيق مع أمارات التأكيد كالنظر إليه، فإذا قلت لك: زوجتك ابنتي، فإنك لا تدري إلى أين تنظر، فربما تنظر إلى الناحية الثانية، أو تكون خجلاً، أو تنظر في الأرض، فيأمر المأذون أن تنظر إلى عينيه، وتضع يدك في يده؛ لأن هذا نوع من توثيق العقود بينهم، وحتى البيعة -وهي من هذه الحالات- تكون بالمصافحة، ولذلك احتاجوا إلى ذكر أن بيعة الرسول عليه السلام للنساء لم تكن بالمصافحة؛ لأن الأصل أن البيعة تكون بالمصافحة. يقول ابن حجر : أي لا مصافحة باليد كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة، ثم قال: وروى النسائي والطبري : (أن أميمة بنت رقيقة أخبرته أنها دخلت في نسوة تبايع فقلن: يا رسول الله! ابسط يدك نصافحك، فقال: إني لا أصافح النساء، ولكن سآخذ عليكن، فأخذ علينا حتى بلغ : وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12] فقال: فيما أطقتن واستطعتن، فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا) . وفي رواية الطبري : (ما قولي لمائة امرأة إلا كقولي لامرأة واحدة). وقد جاء في أخبار أخرى: (أنهن كن يأخذن بيده عند المبايعة من فوق ثوب) وهذا لم يصح. وجاء كذلك في المغازي لـابن إسحاق عن أبان بن صالح : (أنه كان يغمس يده في إناء فيغمسن أيديهن فيه)، وهذا أيضاً ضعيف لم يصح، والمعول على رواية البخاري الأولى؛ لصحتها.

الأدلة على منع مصافحة النساء

وهنا نمر على أدلة هذه المسالة باختصار شديد، وهي مسألة: مصافحة النساء الأجانب، فقد قلنا من قبل: إن المرأة الأجنبية هي كل من عدا المحارم من النساء، والمحارم: أصحاب القرابة الرحمية المحرمية، وهم الذين لا يحل نكاحهم لشدة القرابة، فيكون الرجل منهم محرماً لقريبته في أي سفر كالزوج أو الأب، وكما قلنا من قبل: إن حقيقة المحرم من النساء هي التي يجوز النظر إليها والخلوة بها، والسفر بها، فهي كل من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمته، سواء المحرمات بالنسب، أو المحرمات بالمصاهرة على التفصيل المعروف. وبعض الناس يسأل ويقول: هل يجوز أن أصافح شقيقة زوجتي؟ فهو يتصور أنه ما دام يحرم عليه الجمع بينهما فهي محرم له يجوز مصافحتها!! والضابط في ذلك: أن كل النساء اللاتي هن محرمات عليك تحريماً مؤقتاً لسن محارماً لك، فزوجة الجار مثلاً محرمة عليك، لكنه تحريم مؤقت، بحيث إذا مات عنها أو طلقها يمكن أن تتزوجها، فالأصل في الفروج التحريم، والأصل أن كل النساء حرام عليك. فيختلط الأمر على بعض الناس أحياناً، ويظن أنه يجوز له أن يصافح أخت زوجته؛ لأنه لا يقدر أن يجمع بينهما. ولا يقال للمرأة إنها محْرم إلا أن يحرم الزواج منها على التأبيد كالأم والأخت والبنت وأم الزوجة والعمات والخالات. أما بالنسبة لأدلة ذلك فمنها: حديث معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يطعن أحدكم في رأسه بمخيط من حديد خير له من أن يمس جلد امرأة لا تحل له) يعني: لا يحل له نكاحها، وهذا مجرد مس، ويصدق وصف المس بما كان لغير شهوة، فكيف بما فوقه؟ الدليل الثاني على تحريم مصافحة الأجنبية: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخُطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه). متفق عليه. يعني: أن من الناس من يكون زناه حقيقياً، ومنهم من يكون زناه مجازياً وذلك بالنظر الحرام، أو الاستماع إلى الزنا وما يتعلق بتحصيله، أو بالمس باليد، وقوله: (واليد تزني وزناها البطش) لا يلزم أن يكون معنى البطش الضرب، فالمس يدخل فيه، وذلك بأن يمس امرأة أجنبية. وكذلك هذه الأحاديث التي أشرنا إليها من امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن مصافحة النساء حال المبايعة، تقول عائشة : (فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك، كلاماً، ولا والله! ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما بايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك)، فإذا كان هذا في حق المعصوم عليه السلام فكيف في حق غيره؟ ونساء الأمة في حق الرسول عليه الصلاة والسلام محارم، فكيف بمن يخالف في ذلك؟ وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا يملكها) أي: إلا امرأة يملك نكاحها. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يصافح النساء في البيعة). وفي حديث أميمة بنت رقيقة -وأبوها عبد الله بن بجاد، وأمها رقيقة بنت خويلد أخت أم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها، قالت: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة نبايعه على الإسلام، فقلن: يا رسول الله! نبايعك على ألا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما استطعتن وأطقتن، فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، هلم بنا نبايعك يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة)، وفي بعض الروايات: (لا أمس أيدي النساء). وقال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فإذا امتنع عن المصافحة في حال المبايعة التي تقتضي المصافحة فهذا يدل على تحريم ذلك على الأمة بطريق الأولى؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام مشرع لهذه الأمة، ولا شك أن أخف أنواع اللمس هو المصافحة، ومع ذلك امتنع منها النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يقتضيها، وهو وقت المبايعة، فهذا يسقط كلام بعض الناس القائلين: إن هذا حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم! كيف وهو صاحب العصمة الواجبة، فإذا كان يحل له ذلك فلماذا يحرم على غيره!! وقد سدت الشريعة ذرائع الافتتان، وحرمت هذا المس؛ لأنه قد يكون ذريعة إلى ما حرم الله سبحانه وتعالى؛ لقلة تقوى الله في هذا الزمان، وضياع الأمانة، وعدم التورع والريبة. يقول صاحب مراقي السعود: سد الذرائع إلى المحرم حتم كفتحها إلى المنحتم وبعض الناس يعترضون على ذلك ويقولون: بأن هذه مثل أختك، وهذا مع الصغيرة، وأما مع الكبيرة يقولون: هذه مثل أمك، فيصافح النساء بحجة أن قلبه طاهر، ونيته سليمة. فالجواب عن ذلك: أن الشريعة تمنع الفعل المؤدي إلى الفساد بغض النظر عن نية صاحبه، فهي تنظر إلى مآلات الأفعال، فإذا كان المآل فاسداً كان الفعل المؤدي إليه ممنوعاً، سداً لذريعة الفساد وإن لم يقصد الفاعل الفساد بفعله. فإذا خفي القصد والنية فالراجح عدم اعتبار القول؛ لأن النية أمر غير منضبط، فقولهم عند مصافحة النساء: هذا قلبه سليم! فنقول: وكيف نعرف أن قلبه سليم أو غير سليم؟ فقد يكون قلب أحدهم سليماً، والثاني قلبه مريضاً، وفي هذه الحالة مادام أن هذا الأمر غير منضبط فلابد أن نعتبر المنضبط؛ لأن الشريعة جاءت لكل الناس وليست لطائفة مخصوصة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالباً فإنه يحرمها مطلقاً، وكذلك إن كانت قد تفضي وقد لا تفضي، لكن الطبع يقضي بإفضائها، فيرجح جانب إفضائها إلى التلذذ بذلك، فيحرم على الإنسان، فهذا الكلام المتعلق بهذه المسألة باختصار. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: روى مسلم عن أم عطية رضي الله عنها قالت: لما نزلت هذه الآية: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12] قالت: كان منه النياحة. أي: مما أخذ عليهن العهد به. ولفظ البخاري عنها قالت: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ علي: (( أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ))، ونهانا عن النياحة). وأخرج الطبري بسنده إلى امرأة من المبايعات قالت: (كان مما أخذ علينا ألا نعصيه في شيء من المعروف، ولا نخدش وجهاً، ولا ننشر شعراً، ولا نشق جيباً، ولا ندعو ويلاً). وعن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم: (أخذ عليهن يومئذ ألا ينحن، ولا يحدثن الرجال إلا رجلاً منكن محرماً، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا نبي الله! إن لنا أضيافاً، وإنا نغيب عن نسائنا، فقال: ليس أولئك عنيت). وهذا ليس متصلاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام. وقال ألكيا الهراسي: يؤخذ من قوله تعالى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12] أنه لا طاعة لأحد في غير المعروف، قال: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا بمعروف، وإنما شرطه في الطاعة لئلا يترخص أحد في طاعة السلاطين. وقد ورد ذلك صريحاً في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق). وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال في هذه الآية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيُّه وخيرته من خلقه، ثم لم يستحل له أمر إلا بشرط، فكيف ينبغي لأحد أن يطاع في غير معروف وقد اشترط هذا على نبيه؟! وأعتقد أن الأخبار التي ذكرناها من قبل أضبط، وهي أن هذا القيد للبيان.

قوله: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ قال الزمخشري : يريد وأد البنات. قال ابن كثير : هذا يشمل قتله بعد وجوده كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعم قتله وهو جنين كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء، فإنها تطرح نفسها لئلا تحبل، إما لغرض فاسد أو ما أشبهه. وهذه المسألة يحصل فيها تساهل؛ لأن الأمور قد اختلطت، وتأثر المسلمون كثيراً بمناهج الكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يخشون يوم الحساب، خاصة في قضية الإجهاض، فهنا ابن كثير يقول: إن قوله تعالى: (( وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ )) عام يشمل قتل الطفل بعد وجوده، وهذه الحالة وجدت في أهل الجاهلية، فقد كانوا يقتلون الأولاد خشية الفقر والإملاق، ويشمل قتله وهو جنين، وذلك يكون بعد مضي مائة وعشرين يوماً رحمياً، ويبدأ حساب ذلك من التلقيح. فلو مرت مائة وعشرون يوماً ويوم، ونفخت فيه الروح، فهذا إنسان محترم، وحياته محترمة لا يجوز التعدي عليها، وبعض الناس -لسبب أو لآخر- يتأولون تأويلات غريبة، وذلك كأن يأتي مثلاً بعض الأطباء ممن لا فقه عندهم فيقول: هذا جنين مشوه، ويكون قد نفخت فيه الروح وقد كان في الشهر السادس أو السابع مثلاً، فيقتلونه ويجهضونه رحمة به زعموا، فهذه جريمة قتل؛ لأنه ما دام أنه قد نفخت فيه الروح فقد انتقل من الحياة النباتية إلى الحياة الحيوانية بنفخ الروح، فهذا إنسان له حرمة، والإسلام يأمرنا مع الضعيف أن نرحمه لا أن نقتله، فمثلاً لو كان هناك شخص عنده عاهة من عمى، أو أي عاهة أخرى، فهل تقتله من أجل أن تخفف عنه؟! كذلك نفس الشيء إذا حصل تشوه ولم يكتشف، أو لم يقطع بدون تشويه إلا بعد مضي مدة تزيد على مائة وعشرين يوماً فلا يجوز الإجهاض قولاً واحداً، حتى ولو كان مشوهاً؛ لأن المشوه قد يمكن علاجه. فالطب الآن -بفضل الله سبحانه وتعالى- قد تطور وتقدم، وهناك حالات كثيرة يتم علاجها، أو التخفيف من آثارها، حتى ولو افترضنا أن الطفل سيخلق -والله تعالى أعلم- متخلفاً عقلياً مثلاً فلا يجوز قتله، فهل كل من عنده تخلف عقلي يقتل؟! وما الفارق بينهما: فهذا حي داخل الرحم، وهذا حي في الخارج؟ لا فرق بينهما في الإسلام، فهذا الجنين له حرمة لا يجوز الاعتداء عليها، وقاتله مجرم آثم قاتل للنفس التي حرم الله عز وجل، فلينتبه إلى هذا. أما ما قبل مائة وعشرين، أو قبل الأربعين، فهذه قضية أخرى تخرجنا عن موضوعنا. قوله: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ قال ابن عباس: أي: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم. أي أن المرأة تلتقط لقيطاً وتقول للرجل: هذا ابني منك، أو تفحش وتنجب ولداً، فتنسبه لفراش زوجها، فهذا أيضاً مما ينهى عنه. فللمفسرين في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: لا يُلحقن بأزواجهن غير أولادهم. القول الثاني: إنه السحر. القول الثالث: المشي بالنميمة، والسعي بالفساد. ولعل هذه البيعة التي أُخذت على النساء كانت تؤخذ على الرجال كما في بعض الروايات. وقال ابن عباس: (( وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ )) أي: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم. وأوضحه الزمخشري بقوله: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدي منك. كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً؛ لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وموضع الولادة بين الرجلين. وهذا الأمر في هذه الآية مخالف للزنا. وقال الشهاب في شرح البخاري: لا تأتوا ببهتان من قبل أنفسكم، واليد والرجل كناية عن الذات؛ لأن معظم الأفعال بهما، ولذا قيل للمعاقب بجناية قولية: هذا ما كسبت يداك، مع أنه ما فعله بيديه، ولكنه قاله بلسانه، فيعبر عن أفعال الإنسان باليدين؛ باعتبار أن معظم الأفعال تمارس باليدين، أو بالرجلين أحياناً. أو معناه: (( وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ )) أي: لا تنشئوا البهتان والافتراء من ضمائركم وقلوبكم؛ لأنه من القلب الذي مقره بين الأيدي والأرجل، والأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهم، والثاني كناية عن إنشاء البهتان من دخيلة قلوبهم مبنياً على الغش الباطني. وقال الخطابي : معناه لا تبهتوا الناس كفاحاً ومواجهة، كما يقال للآمر بحضرتك: إنه بين يديك، ورُدَّ: بأنهم وإن كنوا عن الحاضر بكونه بين يديه فلا يقال: بين أرجله، وهو وارد لو ذكرت الأرجل وحدها، أما مع الأيدي تبعاً فلا، فالمخطئ مخطئ، وهو كناية عن خرق جلباب الحياء والمراد النهي عن القذف ويدخل فيه الكذب والغيبة. قوله: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ يعني: من أمر الله تأمرهن به، وقد شاع عند بعضهم ممن يريد أن يحارب ويحذر من التقليد الأعمى، واتباع أقوال الرجال وتقديمها على الكتاب والسنة، شاع عندهم الاستدلال بقوله تعالى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يطاع إلا في المعروف فكيف بغيره؟! والمفروض التحرز في التعبير وأن يكون فيه شيء من الدقة؛ حتى لا يفهم الكلام خطأً. فهنا قيد عدم المعصية بكونها في معروف، أي: ما دمت تأمرهن بالمعروف فلا يعصينك، فهذا القيد إنما هو للبيان، والمعنى: ولا يعصينك في معروف، وكل ما تأمر به معروف؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بالمعروف، ولا يمكن أن يأمر بمعصية، أو منكر معاذ الله وحاشاه عليه الصلاة والسلام، فالقيد هنا للبيان، ولا مفهوم له، فهو مثل قوله: قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الأنبياء:112] فهذا ليس له مفهوم، ولو قال: (قال رب احكم) لكفى؛ لأن الله لا يحكم إلا بالحق، ومثله أيضاً قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:112] فهذا لا مفهوم له، فلا يمكن أن يقتل نبي ويكون قتله بحق، فهذا هو أشقى الناس كما قال عليه الصلاة والسلام: (أشقى الناس من قتل نبياً أو قتله نبي). إذاً: فهذا القيد للبيان، وليس له مفهوم، فكل ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم معروف، وفيه حياة للمؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، فكل ما يأمرنا به النبي عليه الصلاة والسلام هو حياة لنا، وقال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80] وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه).