خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/337"> الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/337?sub=60519"> سلسلة تفسير القرآن الكريم.
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
تفسير سورة الممتحنة [1-7]
الحلقة مفرغة
نشرع بإذن الله تعالى في تفسير السورة الستين من القرآن الكريم، وهي سورة الممتحنة بفتح الحاء، وقد تكسر؛ فعلى الفتح هي صفة للمرأة التي نزلت فيها هذه السورة، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط . قال الله تعالى: فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [الممتحنة:10]، فهذه المرأة التي نزلت فيها السورة ممتحَنة تصديقاً لهذه الآية، وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف ، وقد ولدت له إبراهيم بن عبد الرحمن . وأما بالكسر فهي بمعنى المختبِرة، فهي صفة للسورة نفسها، أي: السورة المختبِرة، كما سميت سورة براءة: المبعثرة والفاضحة؛ لأنها كشفت عن عيوب المنافقين. قال المهايمي : سميت بها لدلالة آية الامتحان على أنه لا يكتفى في باب الصحة بظواهر الأدلة كالهجرة، بل لابد من اختبار البواطن، فدلائل الاعتقادات أولى بذلك، وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وفي اصطلاح القراء أنها تسمى سورة الامتحان، وسورة المودة. وهي سورة مدنية كلها بإجماعهم، وآيها ثلاث عشرة آية.
بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:1]. قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ )) أي: أنصاراً، فهذا نهي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن موالاة مشركي مكة المحاربين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقتئذ، لما فيها من الفتنة بالدين وأهله كما يأتي.
لفظ (العدو) معناه وإطلاقه
سبب تقديم قوله تعالى: (عدوي) على (عدوكم)
بيان أنه ليس كل عداوة تقتضي المقاطعة وعدم الموالاة
تفسير قوله تعالى: (تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم)
وقوله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ )) لفظ العدو مفرد، ويطلق على الفرد وعلى الجماعة، فمن إطلاقه على الفرد قول الله سبحانه وتعالى: فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117]، ومن إطلاقه على الجمع قوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50]. والمراد بلفظ (العدو) في قوله: (( لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ )) الجمع؛ لأن في سياق الآية قرائن تؤكد أن المراد الجمع، مثل كلمة (أولياء)، فهي جمع، وقوله أيضاً: (( تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ )) وقوله أيضاً: (( تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ )) وقوله أيضاً: (( إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً )) إلى آخره، فهذا كله مما يرجح أن المراد بلفظة (العدو) الجمع.
يلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى قدم ذكر عداوته على عداوة المؤمنين: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ )) فذكْرُ المقابلة هنا بين: عدوي وعدوكم فيه إبراز صورة الحال وتقبيح الفعل؛ لأن العداوة تتنافى مع الموالاة، وتتنافى أيضاً مع المسارة للعدو بالمودة. قال الفخر الرازي في سر تقديم (عدوي) على (عدوكم): سر التقديم أن عداوة العبد لله بدون علة، فالذي يعادي الله سبحانه وتعالى ليس له علة تعلِّل هذه العداوة، أما عداوة العبد للعبد فإنما تكون لعلة. يقول: وما كان بدون علة -يعني: كعداوة الكفار لله- فإنه يقدم على العداوة التي تكون لِعلة، وهي عداوة الناس بعضهم لبعض. ويقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن التقديم لغرض شرعي وبلاغي، وهو أن عداوة العبد لله هي الأصل، يعني: أن من عادى الله فإنه بعد ذلك يعادي أولياء الله، وعداوة العبد لله أشد قبحاً من عداوته لعبد مثله؛ فلذا قدمت، وقبحها في أنهم عبدوا غير خالقهم، وشكروا غير رازقهم، وكذبوا رسل ربهم، وآذوهم، فلا يتصور أن يعادي عبدٌ الله سبحانه وتعالى وهو مفتقر في وجوده إلى الله، فهو الذي خلقه، ورزقه، ووهبه الحياة، وأسبغ عليه النعم ظاهرة وباطنة، فلم يأته من الله سبحانه وتعالى إلا كل خير، فمقابلة هذا الإحسان الذي لا إحسان مثله بالعداوة لا شك أنه أقبح ما يكون، ولذلك روي في بعض الأحاديث الإلهية: (إني والجن والإنس في نبأ عظيم: أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر غيري)، وفيه أيضاً: (خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي!) وهذا الحديث وإن لم يصح فإن معناه صحيح. كما أن تقديم عداوة الله سبحانه وتعالى على عداوة الخلق يؤكد بأنها هي السبب في العداوة بين المؤمنين والكافرين، فإن العداوة التي تقع بين المؤمنين والكافرين إنما هي ناشئة عن عداوة الكفار لله تبارك وتعالى، فتراهم يسبون الله، ويشركون به، ويكذبون أولياءه، فلما كانوا أعداء لله وجب على المؤمنين أن يتخذوهم أيضاً أعداء. والدليل على تقديم عداوة الله على عداوة المؤمنين، وأنها هي الأصل: أن الكفار لو آمنوا بالله وانتفت عداوتهم لله لأصبحوا إخواناً للمؤمنين كما قال الله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11] فبمجرد التوبة، والدخول في الإسلام، والانقياد لشرع الله؛ يصبحون إخواناً للمؤمنين، وتنتفي العداوة بينهما، فقد جعل هذا الأمر مغياً لغاية في قوله تعالى: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:89]، ومثله أيضاً قول الله تعالى في قوم إبراهيم: وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4] فإذا آمنوا بالله صاروا بالتبع إخواناً لهم، وانتفت هذه العداوة، فإذا هاجر المشركون وآمن الكافرون انتفت العداوة، وحلت محلها الموالاة، فسبب النهي عن موالاة الأعداء هو الكفر.
إذا وجدت عداوة لا لسبب الكفر فلا ينهى عن تلك الموالاة، فقد توجد عداوة لكن لسبب آخر غير سبب الكفر، فلا تعامل نفس المعاملة التي في معاداة سببها الكفر، فمن الممكن أن تحصل عداوة بين اثنين من المسلمين بسبب محاقة أو مخاصمة أو اختلاف، فمثل هذا لا يوجب نفس النوع من العداوة، ولا يترتب عليه ما يترتب على المعاداة التي يكون سببها الكفر. فمثال ذلك قول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14] فهنا وصف الأولاد والأزواج بأنهم قد يكونون أعداء، وهذه العداوة تختلف تماماً عن العداوة التي سببها الكفر، لأن عداوة الشخص المحبوب كائنة في أن يفتنك لترضيه، مثل أن تحرض الزوجة زوجها على أن يأتي بالمال ولو من الحرام، وأن تشغل محبة الولد الأب عن العبادة مثلاً كما قال تعالى: لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون:9]، فإذا حرضت الزوجة أو الأولاد الرجل على معصية الله، أو على الكسب الحرام، أو على أي مخالفة شرعية، فهذه هي العداوة المقصودة هنا في هذه الآية. وهذه الآية التي فيها العداوة لسبب غير الكفر: (( إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ )) قال الله سبحانه وتعالى بعدها مباشرة: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14] فانظر كيف أتبعها الله سبحانه وتعالى بالتحريض على العفو والغفران والمسامحة، فلما تخلف السبب الأساسي في النهي عن موالاة الكفار الذي هو الكفر، جاء الحث على العفو والصفح والغفران؛ لأن هذه العداوة لسبب آخر بينه قول الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] فكان مقتضاها الحذر من أن يفتنوه أو يؤزوه على المخالفات الشرعية، لا أن يتخذ الرجل زوجته وأولاده أعداء، فإن مقتضى الزوجية حسن العشرة وليس المعاداة؛ لأن السبب هنا ليس هو الكفر. وقد نص صراحة على عدم النهي المذكور في خصوص من لم يعادهم في الدين فقال تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة:8]. وإعراب (أولياء) من قوله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ )): مفعول ثانٍ، والمفعول الأول هو: (عدوي)، ومعنى أولياء: أنصار كما ذكرنا سابقاً. فهذا نهي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن موالاة مشركي مكة المحاربين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وقتئذ؛ لما فيها من الفتنة بالدين وأهله.
قوله: (( تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ )). قيل: بصميم المحبة، والمعنى: تلقون إليهم المودة، وقال بعض العلماء: المقصود بالمودة المودة الظاهرة؛ لأن هذه السورة نزل جزء منها في شأن حاطب بن أبي بلتعة لما دل قريشاً على أخبار النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه قد أعد جيشاً ليغزوهم كما سنبين إن شاء الله تعالى بالتفصيل. وقد اعتذر حاطب للنبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفعل، وذكر أنه محب لله ورسوله، وموال لله ورسوله، وأنه مبغض للكافرين، وإنما عذره كذا وكذا مما تأوله، فمن ثم قيد بعض المفسرين المودة هنا بأنها المودة الظاهرة، وليست المودة القلبية؛ لأن قلب حاطب كان سليماً؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة بعدما اعتذر إليه حاطب : (أما صاحبكم فقد صدق) يعني: أنه تأول ولم يكن فعله عن كفر، أو عن حب للكفار والعياذ بالله. والباء في قوله: (( بِالْمَوَدَّةِ )) زائدة كما في قوله تعالى: َومَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ [الحج:25] أي: ومن يرد فيه إلحاداً بظلم. أو أن الباء ثابتة، ويكون الضمير متعلقاً بقوله: تلقون، تقول: ألقيت إليه بكذا، والمراد: تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن الباء هنا سببية، أي: تلقون إليهم بسبب المودة التي بينكم وبينهم. والواو في قوله: (( وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ )) هي واو الحال؛ أي: والحال أنهم قد كفروا بما جاءكم من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكتابه الذي هو نهاية الهدى وغاية السعادة. ثم أشار إلى أن هؤلاء الذين توالونهم، أو تودونهم، أو تلقون إليهم بالمودة، لم يكتفوا بالكفر بما جاءكم من الحق، بل آذوا المؤمنين، فأضافوا إلى الكفر أذية المؤمنين، وهذا الأمر يقتضي قطع العلائق معهم بأي نوع من المودة. فانظر إلى الجريمة الثانية بعد الكفر بالله والكفر بالقرآن، (( يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ )) فقد آذوا الرسول، وآذوا المؤمنين، فهذا الأمر يستوجب قطع العلائق معهم رأساً، والمعنى يخرجون الرسول وإياكم من أرضكم ودياركم.
قوله: (( أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ )). أي: ما يخرجونكم إلا لأنكم آمنتم بالله ربكم، فلم تظلموهم، ولم تبخسوهم حقاً، ولم تؤذوهم في شيء، وإنما الأمر كما قال تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8] فالجريمة إذاً هي الإيمان بالله عز وجل، والمعنى: يخرجونكم لإيمانكم بالله الجامع للكمالات المقتضية انقياد الناقص له، لاسيما باعتبار اتصافه بكونه رباكم بالكمالات، فهي في الحقيقة عداوة مع الله عز وجل، فقوله: (( أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ )) أي: ربكم الذي أحسن إليكم، وغذاكم بنعمه، وأفاض عليكم من خيراته، فهم ما نقموا منكم إلا أن تؤمنوا بالله ربكم. قال ابن كثير : هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم، فهذه الأسباب الثلاثة المذكورة في الآية كلها مما يهيج المؤمنين ويوقظ في قلوبهم عداوة الكفار، وعدم موالاتهم، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ )) هذه واحدة، (( يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ )) وهذه الثانية، وثالثاً: (( أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ )) بسبب إيمانكم؛ لأنهم أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده؛ ولهذا قال تعالى: (( أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ )) أي: لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين كقوله تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]، وكقوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:40]. ثم يقول تبارك وتعالى: (( إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي )) أي: بالجهاد في طريقي الذي شرعته لكم، وديني الذي أمرتكم به، والتماس رضائي عنكم الذي لا ثواب فوقه، والشرط متعلق بقوله: (( لا تَتَّخِذُوا )) أي: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. فقوله هنا: (( إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي )) هذا شرط، وجوابه متقدم، أي أن الكلام فيه تقديم وتأخير، فيكون تفسير الآية هكذا: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء. وهناك قول آخر: وهو أن في الكلام حذفاً، أي: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تلقوا إليهم بالمودة. وقوله تعالى: (( تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ )) الباء في قوله: (بالمودة) كالباء في لفظة (بالمودة) السابقة في قوله: (( تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ))، فـ(تسرّون) بدل من قوله تبارك وتعالى: (( تُلْقُونَ ))؛ لأن الأفعال تبدل من الأفعال، وذلك مثل قوله تعالى في سورة الفرقان: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68-69] وقول الشاعر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا (( تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ )) أي: من المودة معهم وغيرها، (( وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ )) والهاء تعود إلى المصدر نفسه وهو الإسرار، فمع أن المذكور هو الفعل لكن يفهم منه المصدر، (( وَمَنْ يَفْعَلْهُ )) أي: الإسرار والإلقاء إليهم بالمودة، أو الإسرار إليهم واتخاذهم أولياء. (( فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ )) أي: جار عن السبيل السوي الذي جعله الله سبحانه وتعالى هدى ونجاة. وقد أشرنا أن هذا السياق كله نزل في شأن حاطب بن أبي بلتعة ، فقد وقع منه هذا الأمر، وهو إخبار الكفار بسر الرسول عليه الصلاة والسلام لعلة سوف نبينها، مع أن حاطباً رضي الله عنه من أهل بدر، وله فضل عظيم جداً، لكن كل هذا السياق كما نلاحظ يؤخذ منه معاتبة حاطب رضي الله تعالى عنه. فقوله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) خطاب للمؤمنين، لكن سبب نزولها في حاطب . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:1] فالمعاتبة من الله سبحانه وتعالى لـحاطب رضي الله عنه، وهي في حد ذاتها تدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق إيمانه؛ لأن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيبه، وأما الشخص الذي تيئس منه فإنك تطرحه ولا تبالي بما فعل؛ لأن شأنه لا يهمك، أما الشخص الذي بينك وبينه مودة فهذا الذي يستحق أن تعاتبه، ولذلك يقول الشاعر: أعاتب ذا المودة من صديق إذا ما رابني فيه اجتناب إذا ذهب العتاب فليس ود ويبقى الود ما بقي العتاب يعني: يبقى الود إذا كان هناك أمل في هذا الشخص ومحبة، فيستحق أن تعاتبه، أما إذا ارتفع العتاب فهذا يعني ارتفاع المحبة أصلاً.
ثم يقول تبارك وتعالى مبيناً حال الكافرين مع المؤمنين: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2]. قوله: (( إِنْ يَثْقَفُوكُمْ )) أي: إن يدركوكم ويظفروا بكم، وتقول: رمح ثقيف أي: صنع بحذق ومهارة ودقة، واستعمل هنا للإدراك. فـ(( إِنْ يَثْقَفُوكُمْ )) أي: إن يدركوكم (( يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً ))؛ لأنهم لا يصلون إلى المؤمنين بسبب الهجرة، فالمؤمنون لا يقيمون معهم في مكة، لكن إن ظفر المشركون بهم، يكونون لكم أعداء، أي: حرباً، فواجبكم أن تقابلوا هذه العداوة بعداوة مثلها، ولا ينفعكم إلقاء المودة إليهم، ولا يجدي معهم أن تلقوا إليهم المودة. (( وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ )) أي: يبسطوا إليكم أيديهم بالقتل أو الضرب، وألسنتهم بالشتم بالسوء. (( وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ )) بما جاءكم من الحق وترجعون عن دينكم إلى دينهم. وقد بين الله سبحانه وتعالى السبب في أنهم يودون لو تكفرون، وهو أنهم يحسدون المؤمنين على نعمة الإيمان، ونحن نعرف أن اليهود كانوا يعرفون أن الرسول عليه الصلاة والسلام حق من عند الله، وكانوا يعلمون أنه نبي مرسل من الله سبحانه وتعالى، لكن ما الذي منعهم من الإيمان؟ إنه الحسد. فالحسد يعمي قلوبهم عن أن يدركوا أن هذا الأمر سيئول بهم إلى نار جهنم؛ لأنه مادام أنه رسول حقاً من عند الله، وأنه أتى بما ينسخ شريعتهم ودينهم، فمن خالفه فلا شك أن مأواه جهنم، ولكن لتمكن صفة الحسد في قلوبهم عموا وأصروا على كفرهم واستكبارهم. ويقول الله تبارك وتعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109] ويقول الله تبارك وتعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88] إلى قوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]. وهذا معروف حتى على مستوى أقل من قضايا الكفر والإيمان، فتجد الشخص المنحرف أو الفاسد يحب جداً أن يفسد الناس مثله، وأن يصيروا كلهم منحرفين؛ لأن هذا يحدث له نوعاً من الألفة، وأنه لم يكن ضائعاً بمفرده، لذلك فإنه يفرح بتضييع من حوله؛ لأن هذا يؤنسه في هذه الوحدة، فكذلك هؤلاء: (( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ )) حسداً من عند أنفسهم.
قال تعالى: لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الممتحنة:3]. (( لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ )) يعني: قراباتكم، وليست على ظاهرها، فالأرحام هنا ليس المقصود بها الأرحام نفسها، لكن المقصود ذوو الأرحام، يعني: لن تنفعكم ذوو أرحامكم، أي: قراباتكم، (( وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )). وجاء هذا السياق لأن السورة نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، وحاطب إنما أراد أن تكون له يد -أي: جميل- عند أهل مكة المشركين؛ لأنه لم يكن له في مكة من يحمي عشيرته من أذى المشركين، فأراد أن يسدي إليهم جميلاً حتى يكفوا الأذى عن أهله وعشيرته، فالله سبحانه وتعالى يبين أنه يوم القيامة لن تنفعكم هذه القرابات، أي: القرابات التي ارتكب حاطب هذه الكبيرة بسببها: (( لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ )) بإثابة المؤمنين، ومعاقبة العاصين. وقوله: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) فيه عدة قراءات، منها: (يوم القيامة يُفصَل بينكم)، وقرئ: (يوم القيامة يُفصَّل بينكم)، وفي قراءة: (يوم القيامة يُفصِّل بينكم)، وقرئت: (يوم القيامة نُفصِّل بينكم) على العظمة، وقرئت أيضاً: (يوم القيامة نَفصِّل بينكم). وقال القاشاني : أي لا نفع لمن اخترتم موالاة العدو الحقيقي لأجله؛ لأن القيامة مفرِّقة، (( يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ )) فهؤلاء الذين اختاروا موالاة العدو الحقير لأجلهم، وهو حاطب والى العدو الحقير لأجل قرابته الذين في مكة، فهؤلاء القرابة الذين تهلكون أنفسكم بسببهم لن ينفعوكم يوم القيامة، ولن يغنوا عنكم شيئاً؛ لأنه يوم القيامة يفصل بينكم: أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار؛ لأن القيامة مفرقة، وهذا معنى قوله تعالى: (( يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ )) أي: يفصل الله بينكم وبين أرحامكم وأولادكم كما قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:34-36]. وهذا تأويل جيد. أما فيما يتعلق بالقراءة في قوله تعالى: (( يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) فيجوز في قوله تعالى: (( يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) وجهان: الأول: أن يتعلق بما قبله أي: لن تنفعكم أرحامكم يوم القيامة، فيوقف عليه هنا، ويبتدأ بقوله: (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ). والوجه الثاني: أن يتعلق (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) بما بعده، أي: يفصل بينكم يوم القيامة، فيوقف على أولادكم، ويبتدأ بيوم القيامة. وقوله: (( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )) يعني: فيجازيكم عليه.