تفسير سورة الحشر [6-8]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحشر:6]. الضمير في قوله تعالى هنا: (( مِنْهُمْ )) يعود إلى بني النضير، والفيء: هو المال الذي يؤخذ من الكفار بدون قتال، سواء فروا وتركوه، أو أُجلوا عنه. وقد قال بعض العلماء: إن كلمة الفيء معناها الرجوع، من فاء بمعنى رجع، والمعنى: أن هذا المال إنما خلقه الله سبحانه وتعالى ليعبد به، وليستعمل في طاعته وفيما أحله، لا فيما حرمه، فبما أن هذا المال رجع إلى المسلمين الموحدين المجاهدين، فقد رجع إذن إلى أهله الذين يستحقونه، ويستدل على ذلك بقرآن منسوخ وهو: (إنما أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة). إلى آخره. قوله: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ أي: لما كان إخراج اليهود مردُّه إلى الله تعالى بما قذف في قلوبهم من الرعب، وبما سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشاركه فيه غيره، ففي حادثة بني النضير لم يقاتل المسلمين قتالاً حقيقاً، وربما كانت هناك مبادئ قتال، إلا أنه لم يحصل قتال، فكان اليهود في غاية اليقين بأنهم مانعتهم حصونهم من الله، وكان المسلمون أنفسهم لا يؤمِّلون على الإطلاق أن يهزموا اليهود؛ لشدة منعتهم، وكثرة عدتهم وقوتهم، فهزمهم الله سبحانه وتعالى بأن قذف في قلوبهم الرعب، وبأن سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا المال بالذات لا يقسم إلا وفق ما يشاءه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يشاركه فيه غيره. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في سورة الأنفال: اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير لا من الغنائم، وساق حديث أنس بن أوس المتفق عليه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة مطالبة علي والعباس ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قال لهما: إن الله كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا لشيء ولم يعطه أحداً غيره، فقال عز وجل: (( وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ )) أي: لم تتعبوا أنتم فيه، فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحشر:6]، والنبي صلى الله عليه وسلم والله! ما احتجبها دونكم، ولا استأثر بها عليكم، مع أن الله أباحها له، وفوض الأمر إليه، فقد أعطاكموها وبثها فيكم، ووزعها في المهاجرين حتى بقي منها هذا المال، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته، ثم يأخذ ما بقي فيجعله في الفقراء. فكانت هذه خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن جاء بعدها ما هو أعم من ذلك في قوله تعالى: (( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى )) وهذا عام في جميع القرى، إلا أن الفيء الذي حصل من بني النضير خصوصاً كان خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية مع عمومها مصدراً ومصرفاً فقد اشتملت على أحكام ومباحث عديدة. فقوله عز وجل هنا: (( وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ )) أي: ما أعاد عليه من أموال بني النضير، (( فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ )) أي: فما أجريتم على تحصليه خيلاً ولا ركاباً، ولا تعبتم في القتال عليه، والإيجاف مأخوذ من الوجيف، والوجيف: هو سرعة السير. فقوله: (( فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ )) أي: ما أجريتم على تحصيله خيلاً ولا ركاباً، ولا تعبتم في القتال عليه، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم، ولم تحتاجوا إلى أن تركبوا الخيل وتسرعوا بها، ولا إلى أن تبذلوا جهداً في ذلك، والإيجاف: من الوجيف، وهو سرعة السير، والركاب: ما يركب من الإبل، وقد غلب فيه كما غلب الراكب على مركوبه، (( وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ))، أي: من أهل الفساد والإفساد؛ ليقوم الناس بالقسط، (( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )). يقول الزمخشري: المعنى: أن ما خوّل الله رسوله من أموال بني النضير شيء لم يحصلوه من القتال والغلبة، ولكن سلطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم، فالأمر فيه مفوَّض إليه صلى الله عليه وسلم يضعه حيث شاء، أي: أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها، وأخذت عنوة وقهراً، فلما طلبوا القسمة نزلت: (( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ )) إلى آخره، وهذا الحكم عام في جميع القرى، لكن المعني به هنا حادثة بني النضير، فهو خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ويقول القرطبي في تفسير قوله تعالى: (( وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ )) يعني: ما رده الله على رسوله، وهي أموال بني النضير، (( فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ))، يعني: فما أوضعتم عليه، والإيجاف: هو الإيضاع في السير، أي: الإسراع في السير، يقال: وجف الفرس إذا أسرع، وأوجفته أنا أي: حركته وأتعبته، ومنه قول تميم بن مقبل : مذاويد بالبيض الحديد صقالها عن الركب أحياناً إذا الركب أوجفوا يعني: أسرع، والركاب: الإبل، واحدها راحلة. يقول: لم تقطعوا إليها شقة، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإنما كانت من المدينة على ميلين، قاله الفراء ، فمشوا إليها مشياً ولم يركبوا خيلاً ولا إبلاً، إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ركب جملاً، وقيل: حماراً مخطوماً بليف، فافتتحها صلحاً وأجلاهم، وأخذ أموالهم، فسأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم لهم فنزلت: (( وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ))... إلى آخر الآية، فجعل أموال بني النضير للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث شاء، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين.

قال الله تبارك وتعالى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7]. قوله: (( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى )) أي: من أموال محاربيها، فهذا بيان للأول، فالآية الأولى فيها: (( وَمَا )) بالواو، والآية الثانية لما كانت بياناً للأولى لم يأت فيها الواو، فتأملوا ذلك. قوله: (( فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً ))، (( كَيْ )) أي: أن فيء بني النضير حقه أن يكون لمن ذكر، (( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ )) أي: يتداولونه وحدهم دون من هم أحق به، وهي دولة جاهلية؛ إذ كان من عوائدهم استئثار الرؤساء والأغنياء بالغنائم دون الفقراء، (( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ )) أي: ما آتاكم الرسول من قسمة غنيمة أو فيء فخذوه، (( وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ )) أي: عن أخذه منها (( فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )) أي: لمن خالفه إلى ما نهاه عنه. يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى: (( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً ))، وفي قراءة أخرى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةٌ) بالرفع، أي: كي لا تقع دولة، على أن (كان) تامة. يقول القرطبي رحمه الله تعالى: وقال أبو عمرو بن العلاء : الدولة: الظَّفَر في الحرب وغيره، وهي المصدر، وبالضم: اسم الشيء الذي يُتَداول من الأموال، وقال أبو عبيدة : الدُّولة اسم الشيء الذي يتداول، والدَّولة الفعل، والمعنى: فعَلنا ذلك في هذا الفيء كي لا تقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء؛ لأن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع، ثم ينتقي منها أيضاً بعد المرباع ما يشاء، وفيها يقول شاعرهم وهو عبد الله الضبي يخاصم بسطام بن قيس ويقول له: لك المرباع منها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول فالنشيطة: هي ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصل إلى مجتمع الحي، أي: قبل أن يرجع إلى البلد، والفضول: هو ما فَضُل من القسمة مما لا تصح قسمته على عدد الغزاة، كالبعير والفرس ونحوهما. فالمقصود من قوله: (( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً )) على هذا كي لا يُعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية، فجعل الله هذا لرسوله صلى الله عليه وسلم يقسمه في المواضع التي أمر بها، وليس فيه خمس، فإذا جاء الخمس وقع بين المسلمين جميعاً. وقد عقد الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى رحمة واسعة هنا بحثاً؛ لأن هذا الجزء من الآية له ذكريات، فقد كان في عهد عبد الناصر كل من يريد أن يتزلف إليه بمدح الاشتراكية والنظام الاشتراكي فإنهم يستشهدون بهذا الجزء من الآية: (( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ))، فكانوا يتلقطون أشياء من الإسلام ويجعلون منها عباءة يتغطى بها الاشتراكيون، فالشاهد من الكلام: أن هذه المبادئ هي مبادئ الإسلام، وبعض الناس كانوا يقولون: إن أبا ذر هو أول شيوعي في الإسلام!! فهذا ديدن بعض الناس فإنهم يحاولون أن يلفقوا هذه المذاهب بالإسلام كنوع من الانهزامية، أو ربما أكره بعضهم على ذلك في وقت من الأوقات حتى ألف كتاب (اشتراكية الإسلام)، والشاعر الآخر يقول لهم: الاشتراكيون أنت إمامهم لولا دعاوى القوم والغلواء فلا نطيل في ذلك فقد عقد الشيخ عطية بحثاً طويلاً في الرد على هؤلاء الناس، ورد فيه على من كانوا يستدلون بهذا الجزء من الآية على إباحة العدوان على أموال الناس بالغصب والمصادرة ونحو ذلك، وهذا من شؤم عهد عبد الناصر، فكانت هناك محاربة للملكية الخاصة، وهناك ما سموه بالإصلاح الزراعي، وغير ذلك من ظلمه وعدوانه على ملكية الناس، فقد عقد بحثاً طويلاً في بيان أن الملكية الفردية محترمة في الإسلام، وما دام أن الإنسان يجلب هذا المال من الحلال، ويؤدي زكاته، فلا يجوز أن ينتزع منه قهراً وغصباً. وأشار أيضاً إلى أن الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى ناقش هذه المسألة أيضاً في تفسير قوله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف:32] رداً على هؤلاء الاشتراكيين، وكذلك قوله تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [النحل:71]. يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله: دلت هذه الآية الكريمة المذكورة هنا وهي قوله تعالى: (( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ))، وقوله تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [النحل:71] ونحو ذلك من الآيات على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية. وأقول: إن كلامنا الآن في هذا الموضوع لم تعد له فعالية كبيرة؛ لأن الزمن والأيام قد فضحت الشيوعية، وبينت إفلاسها، وأنها من أشد المذاهب عداوة للتراحم الإنساني، فهي توزع الفقر بالتساوي، وأما الرأسمالية فتترك بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء، وإن كانت أيضاً لها عوراتها وجرائمها، وفيها استعباد للناس، والإسلام بلا شك هو المنهج الوسط، والمنهج العدل. يقول: فتفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية، فلا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ولا تحويلها إلى وجه من الوجوه، يقول تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43]، وبذلك يتحقق أن ما تذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله، ولجميع النبوات، والرسائل السماوية إلى ابتزاز ثروات الناس، ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم، أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال، مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس؛ لينعموا بها، ويتصرفوا فيها كيف شاءوا، حتى نشأ ستار كثيف من أنواع الكذب والغرور والخداع، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم، فالطغمة القليلة الحاكمة، ومن ينضم إليهم هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد، وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير، مظلومون في كل شيء حتى ما كسبوه بأيديهم، يُعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير، وقد علم الله جل وعلا في سابق علمه أنه سيأتي أناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير وهذا غني، وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأوعد من لم ينته عن ذلك، فقال تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135]، وهذا وعيد شديد تجده لمن فعل ذلك. ثم يقول الشيخ عطية سالم : والحق أن الأرزاق قسمة الخلاق، فهو أرأف بالعباد من أنفسهم، وليس في خزائنه من نقص ولكنها الحكمة لمصلحة عباده، وفي الحديث القدسي المروي: (إن من عبادي لمَن يصلح له الفقر، ولو أغنيته لفسد حاله، وإن من عبادي لمَن يصلح له الغنى، ولو أفقرته لفسد حاله)، ولم يخرِّج الشيخ هذا الحديث. فهو سبحانه يعطي بقدَر، ولا يمسك عن قَتَر، لكن مراعاة لما يصلح العباد، فالإنسان لا يدري ما الذي يصلحه. وقوله تعالى: (( نَحْنُ قَسَمْنَا )) هذا الضمير للتعظيم والتفخيم، (( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ )) أي: فلا مجال لتدخل المخلوق، ولا مكان لغير الله تعالى في ذلك، والقسمة إذا كانت من الله تعالى فلا تقوى قوة في الأرض على إبطالها، ثم إن واقع الحياة يؤيد ذلك، بل يتوقف عليه، كما قال تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف:32]، وهؤلاء المعتدون على أموال الناس يعترفون بذلك، ويقرّون نظام الطبقات عمال وغير عمال إلى آخر. يقول الشيخ: ولا دليل لهم في سورة الحشر وهي قوله تعالى: (( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ))، ولا حق لهم فيما فعلوا في أموال الناس بهذا المبدأ الباطل، والله تعالى أعلم. يقول الله تبارك وتعالى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7]. قال السيوطي في (الإكليل): استُدل بالآية على أن الفيء ما أخذ من الكفار بلا قتال وإيجاف خيل وركاب، ومنه ما جلوا عنه خوفاً، أي: أن الكفار إذا رأوا جيوش المسلمين ففروا وتركوا المال فهذا أيضاً يدخل في الفيء، والغنيمة ما أخذ منهم بقتال، كما قال تعالى: (( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ))، خلافاً لمن زعم أنهما بمعنى واحد، أو فرق بينهما بغير ذلك الفرق. وكأن الذي زعم أنهما بمعنى واحد رأى أن مجمل هذه الآية بينته آية الأنفال، حتى زعم قتادة أن هذه منسوخة بتلك، فقال فيما رواه عنه ابن جرير : كان الفيء في هؤلاء ثم نس

قال الله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الحشر:8]. يقول القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: (( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ )) أي: الفيء والغنائم للفقراء المهاجرين. وقيل: (( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ))، ولكن يكون للفقراء المهاجرين. وقيل: هو بيان لقوله تعالى: (( وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ )) فلما ذكروا بأصنافهم قيل: المال لهؤلاء؛ لأنهم فقراء ومهاجرون وقد أخرجوا من ديارهم فهم أحق الناس به. وقيل: (( وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ )) للفقراء المهاجرين؛ لكيلا يكون المال دولة للأغنياء من بني الدنيا. قول آخر: أن الآية التي قبلها تنتهي بقوله تعالى: (( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ))[الحشر:7-8] يعني: من أجل الفقراء المهاجرين أو بسبب الفقراء المهاجرين، أي: هو شديد العقاب لمن أخرجهم من ديارهم، ولمن آذاهم، والمهاجرون هنا: هم من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حباً فيه، ونصرة له. قال قتادة : هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والأهلين والأوطان حباً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، حتى إن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه؛ ليقيم به صلبه من الجوع، وهذه طريقة من طرق تلافي الإحساس بالجوع، لأن الضغط بالحجر على المعدة يقلل حجمها فبالتالي لا يشعر الإنسان بالجوع، وهذه الطريقة موجودة حتى الآن بأجهزة حديثة لمحاولة علاج الذين يبتلون بالسمنة، فسبحان الله! هؤلاء يبحثون عن ربط هذه الأشياء على بطونهم من شدة الترف والسمنة، والمهاجرون الأولون كانوا يعصبونها لشدة الجوع والجهد الذي كانوا يلقونه رضي الله تعالى عنهم، فكان الرجل منهم يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها، قال عبد الرحمن بن أبزى وسعيد بن جبير : كان ناس من المهاجرين لأحدهم العبد والزوجة والدار والناقة يحج عليها ويغزو، فنسبهم الله إلى الفقر، وجعل لهم سهماً من الزكاة. ومعنى قوله تعالى: (( أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ )) أي: أخرجهم كفار مكة، وذلك أنهم أحوجوهم إلى الخروج، وكانوا مائة رجل. (( يَبْتَغُونَ فَضْلًا وَرِضْوَانًا )) أي: من الله تعالى: (( وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ )) أي: في الجهاد في سبيل الله: أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8] أي: في فعلهم ذلك. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بالجابية -وهي بلدة في دمشق- فقال: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب ، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض -أي: المواريث- فليأت زيد بن ثابت ، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله تعالى جعلني له خازناً وقاسماً، ألا وإني بادٍ -أي: بادئ- بأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمعطيهن، ثم المهاجرين الأولين أنا وأصحابي أخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا.