قال تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4]. قيل: إن الأيام التي خلق الله سبحانه وتعالى فيها السماوات والأرض هي من الأيام الإلهية، يعني: أنها من الأيام المقصودة بقوله تبارك وتعالى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47] وهي أيام الآخرة. وقال بعض العلماء: اليوم هو من طلوع الشمس إلى غروبها، فإن لم يكن شمس فلا يوم. وذكر الله عز وجل الأيام لتفخيم خلق السماوات والأرض، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق كل هذا الوجود بكلمة (كن) فيكون في الحال، بلا أي تراخ زمني على الإطلاق، بل بمجرد أن يأمره الله سبحانه وتعالى أن يكون فإنه يكون. وقيل: إن هذه الأيام من أيام الدنيا، قال مجاهد وغيره: أولها الأحد وآخرها الجمعة، وذكر هذه المدة، ولو أراد خلقها في لحظة لفعل؛ إذ هو القادر على أن يقول لها: (كوني) فتكون، ولكنه أراد أن يعلم العباد الرفق والتثبت في الأمور. يعني أن الله سبحانه وتعالى ذكر هذه المدة التي هي ستة أيام خاصة، سواء قلنا: ستة أيام من أيام الآخرة كما في قوله سبحانه: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]، أو كانت ستة أيام من أيام الأسبوع مع قدرته على أن يخلقها بكلمة (كن) في الحال بلا أي تراخ، لكنه شاء أن يخلقها في ستة أيام. أي: لكي يتمهل الإنسان ويتثبت. وحكمة أخرى: أنه خلقها في ستة أيام؛ لأن كل شيء عنده له أجل، وكل شيء له موعد ومما يبين هذا ترك معاجلة العصاة بالعقاب. فبعض الناس قد يستغرب ويقول: هؤلاء الذين يعصون الله سبحانه وتعالى من الكفار أو من الفاسقين، لماذا لا يعاجلهم الله بالعقوبة؟ والجواب: أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يهلك هذا الوجود في طرفة عين، وأن يوجد من هم أفضل منهم كالملائكة، لكن هذا يتنافى مع حكمة الابتلاء، إذ معنى ذلك أن ننتقل إلى دار الجزاء فوراً، والدنيا ليست هي دار جزاء، وإنما هي دار الابتلاء، فالحكمة من ذلك أن يدرك العباد أن لكل شيء أجله، حتى هؤلاء العصاة أو هؤلاء المحادون لله ورسوله لهم أجل في النهاية، فسوف يأتيهم عذاب الله سبحانه وتعالى، أو يأتيهم الموت، أو يأتيهم ما يشاء الله سبحانه وتعالى. وقد قال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38]، أي: من تعب ولا نصب، وهذا رد لقول اليهود لعنهم الله الذين ادعوا أن الله عز وجل لما خلق السماوات والأرض في ستة أيام تعب والعياذ بالله! فاستراح في اليوم السابع في زعمهم. ومن تأمل الآية وما بعدها، وهو قوله: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [ق:39]يجد أن فيها إشارة إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام أُمر أن يصبر على الكفار، وأن يوقن أن أجلهم آتٍ في الوقت الذي حدده الله سبحانه وتعالى، وفي الأجل الذي يشاؤه الله. فكونه أتبع قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] بقوله: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [ق:39]، فيه إشارة لهذا الأجل، خاصة أن هذه الآية جاءت بعد قوله: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ [ق:36] وحينما أتاهم العذاب، هَلْ مِنْ مَحِيصٍ [ق:36]، أي: ما كان لهم محيص ولا مهرب، يعني: إذا أتى أجل الله فإنه لا يؤخر أبداً، كما قال تعالى: إنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [نوح:4]، فأثبت أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم قال: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [ق:39] يعني: لا تجزع، فإذا كنا خلقنا السماوات والأرض في ستة أيام لحكمة أن تعلموا أن لكل شيء أجلاً، فكذلك هؤلاء الكافرون من قريش أو من غيرهم الذين كانوا يحاربون النبي عليه الصلاة والسلام ويؤذونه ويعذبون أصحابه ويصدون عن سبيل الله، الواجب أن تصبر على ما يقولون؛ لأن لكل شيء أجلاً، بدليل: أن الله مع قدرته على خلق السماوات والأرض في لحظة واحدة خلقها في ستة أيام حتى تعلموا أن لكل شيء أجلاً، ومن هذه الأشياء التي يكون لها أجل: تأجيل العصاة والكفار وأعداء الدين. قوله: ((ثم استوى على العرش)) قال ابن جرير : أي: هو الذي أنشأ السماوات السبع والأرضين، فدبرهن وما فيهن، ثم استوى على عرشه فارتفع عليه وعلا. وأما كيف استوى؟ فلا يقال لله سبحانه وتعالى: كيف! فهذه من آيات الصفات التي نطبق فيها ما قاله السلف رحمهم الله تعالى: أمروها كما جاءت بلا كيف، يعني: نحن نثبت صفة الاستواء، والاستواء هو العلو، أما كيف استوى فلا يمكن أن يعرف أحد كيف استوى الله على العرش، فالله سبحانه وتعالى لا يقال له: كيف؛ لأنك لا تكيف الشيء إلا إذا أحطت به. فمثلاً: إذا قلت: طائرة، دبابة، قلم، ولد، بنت، سحاب، فإن من يسمع منها كلمة يكيفها في عقله؛ لأنه رآها من قبل، لكن لو أن طفلاً حديث السن لم يعرف هذه المفردات وقلتها أمامه فهل سيفهمها؟ الجواب: لا؛ لأنه لم يرها، ولم يربط بين الاسم والمسمى، فالله سبحانه وتعالى -ولله المثل الأعلى- لم يره أحد حتى يكيفه، كما قال سبحانه: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]. فلذلك لا يقال في صفاته عز وجل وذاته: كيف؛ فلا يعلم كيف الله إلا الله، كما قال جل وعلا: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، وقال سبحانه: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103]، ولذلك يقول تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:74]، ويقول عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، يعني: أننا نثبت له السمع والبصر، لكن هل سمعه كسمعنا؟! الجواب: لا، فسمعنا بآلة، لكن السمع في حق الله سبحانه وتعالى لا تعرف له كيفية. فقوله تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))، تفسيره قراءته وتلاوته كما جاء بلا كيف.
الفرق التي ضلت في صفات الله عز وجل
وهنا يضل فريقان: الفريق الأول: المشبهة الذين يشبهون الله سبحانه وتعالى بخلقه، فيقولون: استوى كما تستوي المخلوقات على الكرسي. والعياذ بالله! وهذا ضلال مبين. والفريق الآخر: المعطلة الذين يعطلون الصفات، فيؤولونها أو يحرفونها، كما ذهب بعضهم إلى تأويل (استوى) بمعنى: استولى، وقال: إن قوله تعالى:
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، يعني: استولى على العرش. فنقول: إذا كان المعنى: استولى على العرش، فهل نازعه أحد فغلبه الله سبحانه وتعالى واستولى على العرش؟ معاذ الله! وعلى قولهم يصح أن يقال أيضاً: استوى على الجبال وعلى الكواكب وعلى الأرض بمعنى: أنه استولى عليها، أي: ملك وقهر، فلماذا خص العرش بالذكر؟! ويستدلون ببيت شاعر نصراني هو
الأخطل : قد استوى
بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق فيقال لهم: كيف تصرفون ظاهر القرآن الكريم ببيت شعر لنصراني لا يعرف الله؟! وهذا البحث مهم جداً، ويعتبر من أمور العقيدة التي هي في غاية الأهمية، فقضية فوقية الله سبحانه وتعالى وعلوه على خلقه هي المسألة التي قال بعض العلماء فيها: قام عليها ألف دليل من القرآن والسنة وأقوال الصحابة رضي الله تعالى عنهم والأئمة من بعدهم. بل حتى الحيوانات والعجماوات، وأهل الجاهلية، فأهل الجاهلية عندهم أشعار تثبت الاستواء على العرش، فهذا الموضوع من الأمور المهمة جداً، ولا بد من أن يصحح كل عقيدته بأن يدرس هذه المسألة دراسة محققة. وأشهر رسالة ألفت في ذلك هي رسالة: الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإسلام
ابن تيمية ، وكان في زمان لابد لأي سلفي أن يقرأ الفتوى الحموية، أما الآن فلا يكون الرجل سلفياً عند بعض الناس إلا إذا أقام الدنيا وأقعدها حول مسائل معدودة، وللأسف هذا هو فهم الكثير من الشباب الآن للسلفية، فيقيمون الدنيا في مسألة الضم بعد الركوع، وهل يشير بأصبعه في التشهد أم لا يشير؟ ونحو ذلك وكذلك مسألة هل تنزل على الركبة، أم تنزل على الكفين؟ ونحن نقول: مثل هذه المسائل تحقق بالأدلة، لكن بحيث لا تستحوذ على قدر من الاهتمام بحيث تكاد تظهر على أنها جواز المرور إلى السلفية، فقد ترى هؤلاء الشباب يخوضون في هذه المسائل وربما تباغضوا وتنافروا بسبب الخلاف فيها، مع أنهم يهملون كثيراً من أصول العقيدة، كهذه القضية. فأنصح الإخوة بدراسة الفتوى الحموية الكبرى، وأيضاً كتاب: مختصر العلو للحافظ
الذهبي الذي اختصره العلامة
الألباني رحمه الله تعالى.
ربط صفة الاستواء والمعية بالعلم
قوله تعالى:
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا [الحديد:4] يدل على أن صفة الاستواء تربط بصفة العلم؛ حتى يندفع ما قد يتطرق إلى أذهان بعض الناس من أن الآيات تدل على معية الله سبحانه وتعالى بذاته لخلقه، خاصة المعية العامة فقوله تعالى:
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا [سبأ:2] يعني: أنه مستوٍ على العرش استواءً يليق بجلاله، ولا يشبه بذلك شيئاً من المخلوقات ومع استوائه على العرش إلا أنه قريب من خلقه فهو معهم بالعلم والسمع والبصر. قوله: (وهو معكم أينما كنتم) ليس معناه أن الله معنا، بمعنى أنه يحل داخل مخلوقاته والعياذ بالله؟ فحاشا وكلا! ومعاذ الله! فالله سبحانه وتعالى -بإجماع السلف- بائن من خلقه لا يكون داخل المخلوقات، ولذلك أتبع ذكر الاستواء على العرش بقوله: ((يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ)) يعني: ما يدخل في الأرض من خلقه، والذي يلج داخل الأرض هو الأموات، والبذور، والحيوانات، ((وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا))، كالزروع، ((وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ))، كالأمطار والثلوج والبرد والأقدار والأحكام الإلهية، ((وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)) أي: من الملائكة والأعمال وغيرها. وقد نبهنا مراراً إلى أن التعبير بالفضاء غير صحيح، فليس هناك فضاء، بل هو مليء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
ما في السماء موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك يسجد لله سبحانه وتعالى ويسبحه). ولكن نستعمل هذا التعبير تجوزاً، أعني: ما يسمى بالفضاء. ومن الحقائق العلمية المعروفة الآن أنه لا يوجد خط مستقيم في الفضاء، ولذلك تجد القرآن يستعمل في ذلك عبارة العروج؛ لأنه لا يوجد خط مستقيم، والدارسون في الهندسة يعرفون ذلك جيداً، فدائماً يعبر عن المشي في الفضاء أو السريان فيه بالعروج كما قال هنا: ((وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)) أي: من الملائكة والأعمال وغيرها.
معنى معية الله لخلقه وأقسامها
لا تعارض بين صفتي: الاستواء والمعية
يقول الله تبارك وتعالى: (( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ))، هذا يدل على أنه مستو على عرشه، عالٍ على جميع خلقه، وقوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))، يوهم خلاف ذلك. والجواب عن هذا: أنه تعالى مستو على العرش كما قال بلا كيف ولا تشبيه، استواءً لائقاً بكماله وجلاله، فهو مع جميعهم بالإحاطة الكاملة والعلم التام، ونفوذ القدرة؛ سبحانه وتعالى علواً كبيراً، فلا منافاة بين علوه على عرشه ومعيته لجميع الخلائق. ألا ترى -ولله المثل الأعلى- أن أحدنا لو جعل في يده حبة من خردل فحين يمسك حبة الخردل ويقبض عليها بيده، هل يكون الذي يحمل الحبة داخلاً فيها؟ لا يكون في داخلها، وليس داخلاً في شيء من أجزاء تلك الحبة، مع أنه محيط بجميع أجزائها، وأنه مع جميع أجزائها! وكذلك السماوات والأرض ومن فيهن، إن هي في إلا كحبة خردل في يد أحدنا، وله المثل الأعلى سبحانه وتعالى ، فهو أقرب إلى الواحد منا من عنق راحلته، بل من حبل وريده مع أنه مستو على عرشه لا يخفى عليه شيء من عمل خلقه جل وعلا.
كلام ابن القيم على صفة المعية
كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على صفة المعية
يقول شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله تعالى: لفظ المعية في سورة الحديد والمجادلة في آيتيهما ثبت تفسيره عن السلف بالعلم، قالوا: هو معهم بعلمه، وقد ذكر الإمام
ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولم يخالفهم أحد يعتد بقوله. وهو مأثور عن
ابن عباس و
الضحاك و
مقاتل بن حيان و
سفيان الثوري و
أحمد بن حنبل وغيرهم. قال
ابن أبي حاتم ، عن
ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: هو على العرش وعلمه معهم. وهكذا عمن ذكر معه وقد بسط الإمام
أحمد الكلام على المعية في الرد على الجهمية. يعني: فالسلف ما تكلموا في موضوع الصفات بالطريقة التي وجدت فيما بعد، لكن السبب والمسئول عن ذلك أهل البدع؛ لأنهم هم الذين أنشئوا الكلام ببدعهم، فاضطر العلماء للكتابة وللرد كما فعل الإمام
أحمد ، وكما فعل شيخ الإسلام
ابن تيمية وغيرهما من أئمة السلف، فإذا كنا نحن في واقع مثل واقع السلف فالأصل ألا نتكلم، لكن إذا كنا محاطين بالشبهات من كل جانب بمذهب الأشاعرة وتأويلاتهم، فنحن نضطر لأن نتعلم ما يدفع عنا شبهات أهل البدع. يقول: ولفظ المعية في كتاب الله جاء عاماً كما في هاتين الآيتين، وجاء خاصاً كما في قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، وقوله:
إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، وقوله:
لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، فلو كان المراد بذاته مع كل شيء؛ لكان التعميم يناقض التخصيص. يعني: أن آيات المعية العامة تتعارض مع الآيات التي تفيد المعية الخاصة، وقد بين أن هذا التعارض إنما يكون إذا قيل إنها معية بالذات، وقد بين ذلك فقال: فإنه قد علم أن قوله: (لا تحزن إن الله معنا)، أراد به تخصيصه و
أبا بكر دون عدوهم من الكفار. يعني: هل يفهم أحد من قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الغار: لا تحزن إن الله معنا، أن الله مع الرسول عليه السلام و
أبي بكر و
أبي جهل وكفار قريش ممن كانوا خارج الغار؟ لا. لأن هذه معية خاصة بالنبي عليه السلام و
أبي بكر رضي الله تعالى عنه. يقول: كذلك قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] ، لا شك أن هذه معية خصهم بها دون الظالمين والكفار. كما أن لفظ المعية لم يرد في لغة العرب ولا في شيء من القرآن ويراد به اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى. يعني أن بعض الناس يقول: إن المعية معناها أن الله موجود في كل مكان، وللأسف الشديد أنهم يقولون ذلك عن غفلة وجهل، وهذا انحراف في العقيدة، فإن الله سبحانه وتعالى بائن من خلقه، بل نحن ننكر على النصارى زعمهم أن الله سبحانه وتعالى حل في بدن المسيح أو أن الله حل في
مريم ، فكيف نقول إن الله يحل في كل الأماكن أو أن الله موجود في كل مكان؟ هذا من الجهل بالله سبحانه وتعالى، ونسبة ما لا يليق به إليه، لأن ذلك يقتضي أنه يوجد في أماكن النجاسات وفي غيرها من الأماكن التي لا تليق به، فالله سبحانه وتعالى بإجماع السلف بائن من خلقه، لا يحل في شيء من خلقه تبارك وتعالى. والمعية في لغة العرب وفي لغة القرآن لا يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى، فحينما يقول الله سبحانه وتعالى مثلاً:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29]، هل المعية تفيد اختلاط ذات النبي عليه السلام بذوات الصحابة؟ لا. بل كل واحد له ذاته! وقال تعالى:
فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:146]، وقال:
اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وقال:
وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ [الأنفال:75]، ومثل هذا كثير؛ فامتنع أن يكون قوله: (وهو معكم)، يدل على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق. وأيضاً: فإنه افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم بهم، فكون الله تعالى مع العباد لا يتنافى مع علوه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، ويخص بعضهم بالإعانة والنصر والتأييد.
كلام ابن قدامة على صفة المعية ورده على المؤولة
قال الإمام
موفق الدين ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى في كتابه ذم التأويل: فإن قيل: قد تأولتم آيات وأخباراً. وهذه شبهات يتواصى بها أهل البدع جيلاً بعد جيل، يقولون: أنتم تحاربون التأويل وأنتم تؤولون؛ كما قال: فإن قيل: قد تأولتم آيات وأخباراً، فقلتم في قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم)، أي: معكم بالعلم، ونحو هذا من الآيات والأخبار، فيلزمكم ما لزمنا. أي أن أهل البدع يقولون: أنتم تحرمون علينا التأويل وتحلونه لأنفسكم، أولتم هذه الآية؛ فيلزمكم ما يلزمنا؛ فكما أولتم فنحن أيضاً نؤول، وبدلاً من أن نقول: الرحمن على العرش استوى، نقول: الرحمن على العرش استولى، واليد هي القدرة؟ قال
ابن قدامة : قلنا: نحن لم نتأول شيئاً، وحمل هذه اللفظات على هذه المعاني ليس بتأويل؛ لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره، وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ، بدليل أنه المتبادر إلى الأفهام منها، وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه حقيقة كان أو مجازاً، ولذلك كان ظاهر الأسماء العرفية المجاز دون الحقيقة كاسم الراوية والظعينة، وغيرهما من الأسماء العرفية؛ فإن ظاهر هذا المجاز دون الحقيقة، وصرفها إلى الحقيقة يكون تأويلاً يحتاج إلى دليل. وكذلك الألفاظ التي لها عرف شرعي وحقيقة لغوية كالوضوء والطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج، ظاهرها هو العرف الشرعي دون الحقيقة اللغوية، فالعرف في الصلاة ليس الدعاء، إنما الصلاة أفعال مخصوصة بشروط مخصوصة، كذلك الزكاة ليس معناها الطهارة أو التنمية، وإنما هي بمعنى: إخراج قدر مخصوص من المال بشروط مخصوصة.. آخره، كذلك الصيام، فالعرف الشرعي إذاً يقدم على الحقيقة اللغوية. إذا تقرر هذا: فإن المتبادر إلى الفهم من قولك: إن الله معك، يعني بالحفظ والكلاءة، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى فيما أخبر عن نبيه:
إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وقال لموسى:
لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، ولو أراد أنه بذاته مع كل أحد لم يكن لهم بذلك اختصاص؛ لوجوده في حق غيرهم كوجوده في حقهم، ولم يكن ذلك موجباً لنفي الحزن عن
أبي بكر ولا علة له؛ فعلم أن ظاهر هذه الألفاظ هو ما حملت عليه، فلم يكن تأويلاً. ثم لو كان تأويلاً فما نحن تأولناه، وإنما السلف رحمة الله عليهم الذين ثبت صوابهم ووجب اتباعهم هم الذين تأولوه. ا هـ. وهنا أمر مهم جداً، وقد نبهت عليه مراراً، وهو أنه لابد أن تكون واثقاً من هذه العقيدة؛ لأنها عقيدة مسندة، ونحن دائماً نشجع الإخوة على أن يدرسوا العقيدة من الكتب المسندة، أي: الكتب التي جاءت بالأسانيد، فذكرت فيها الأحاديث النبوية من
البخاري و
مسلم و
الترمذي وغيرها، حتى إذا أتى مشغب يقول لك: أنت سني أو وهابي، ويزعم أن
ابن تيمية هو الذي اخترع هذا المذهب السلفي في العقيدة، قلت له: لو افترضنا أن
ابن تيمية لم يخلق و
ابن عبد الوهاب لم يخلق، هل كانت ستضيع العقيدة السلفية؟ لا. إن
ابن تيمية و
محمد بن عبد الوهاب وغيرهما من الأئمة، هم عبارة عن مجددين، أعادوا لنا السنة، ونفضوا عنها الانحرافات والبدع والأكاذيب، وأحدهم لا ينشئ من عنده مذهباً! فحينما نرفع عقيرتنا بهذه العقيدة الحقة، عقيدة السلف، فهذا كلام مسند، ولذلك ينبغي أن يرتبط الشباب دائماً بكتب العقيدة المسندة ككتاب الإمام
اللالكائي أصول الاعتقاد، وكتب السنة، وكلمة السنة معناها العقيدة والتوحيد، وهناك الكثير جداً من الكتب التي تحمل هذا الاسم مثل: السنة لـ
ابن أبي عاصم وغيره؛ بمعنى العقيدة. فـ
شيخ الإسلام لم يكن له فضل الإنشاء، وما أحدث ولا ابتدع؛ ولذلك تحدى مخالفيه وأعطاهم مهلة، فقال: ائتوني بكلمة واحدة تخالف ما أقوله، وكان حينها في المحنة بسبب الفتوى الحموية الكبرى، فتحدى جميع الأشاعرة، وقال: ائتوني بكلمة واحدة مما في عقيدتي تخالف ما كان عليه السلف، وأمهلهم مدة، ولكن ما استجاب أحد للتحدي. أقول: إن أعظم مديح مدحت به العقيدة السلفية هو ما أتى في صورة الذم من بعض الفقهاء المعاصرين المشهورين، وهو الشيخ
محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى وعفا عنه؛ لأنه كان مخالفاً للعقيدة السلفية، بل انتصر لعقيدة المعتزلة في موضوع خلق القرآن ضد الإمام
أحمد ، عفا الله عنه وسامحه، لكن نقول: رام نفعاً فضر من غير قصـد ومن البر ما يكون عقوقا ففي كتابه عن تاريخ المذاهب الإسلامية، لما تكلم في تاريخ المذاهب السياسية والعقائدية، قال تحت عنوان السلفيين: (جاء هؤلاء السلفيون وأرادوا أن يعودوا بالعقيدة وفي فهم العقيدة إلى الكتاب والسنة ويتركوا كلام الفلاسفة وعلم الكلام، ويهجروا الأدلة العقلية، ويقتصروا في فهم العقيدة على الكتاب والسنة)، أقول: هذه أعظم عبارة قرأتها فيها مدح للعقيدة السلفية على يد من كان خصماً لها، سامحه الله وعفا عنه. الشاهد: أن هذا الكلام هو أقصى ما يأخذونه علينا، بل هذا أقصى ما نأخذه عليهم: أنهم يضعون بجانب القرآن والسنة بفهم السلف كلام أخراق المعتزلة والفلاسفة وأهل الكلام. ثم يقول
ابن قدامة : لو كان تأويلاً فما نحن تأولناه، وإنما السلف رحمة الله عليهم الذين ثبت صوابهم ووجب اتباعهم هم الذين تأولوه، فإن
ابن عباس و
الضحاك و
مالكاً و
سفيان وكثيراً من العلماء قالوا في قوله: (وهو معكم)، أي: علمه. ثم قد ثبت في كتاب الله، والمتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع السلف: أن الله تعالى في السماء على عرشه، وجاءت هذه اللفظة مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها. وقولنا: إن الله في السماء، بمعنى: فوق السماء، وقوله:
فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ [التوبة:2] أي: على ظهر الأرض، لا أن نسيح داخل الأرض ونخترقها، وقوله:
لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71]، أي: على ظهرها، وليس في داخل جذوع النخل، فـ(في) بمعنى: على وفوق، والسماء هنا المراد بها العلو. يقول: جاءت هذه اللفظة -لفظة المعية- مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها، وهو قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]، فبدأت بالعلم وانتهت بالعلم مع المعية، إشارة إلى أن هذا العلم بالمعية. ثم سياقها لتخويفهم بعلم الله تعالى بحالهم، وأنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة، ويجازيهم عليه، وهذه القرائن كلها دالة على إرادة العلم. فقد اتفقت فيها هذه القرائن ودلالة الأخبار على معناها، وما قاله السلف وتأويلهم، فكيف يلحق بها ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف؟ فهذا لا يخفى على عاقل إن شاء الله تعالى، وإن خفي فقد كشفناه وبيناه بحمد الله تعالى. ومع هذا لو سكت إنسان عن تفسيرها وتأويلها لم يخرج ولم يلزمه شيء، فإنه لا يلزم أحداً الكلام في التأويل إن شاء الله تعالى. ثم يقول الله تعالى: ((وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ))، يعني: سيجازيكم عليه.