القرآن والحياة [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه، وأسدل علينا ستره، وأعاننا على ذكره، ووفقنا لشكره، له الحمد سبحانه وتعالى ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، وله الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبينا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أرسله إلى الناس كافة أجمعين, وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً.

وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا جميعاً لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن القوة في الدين مسألة مهمة نحتاج إلى بيانها والتذكير بها والتواصي على العمل بموجبها؛ لأن واقعنا اليوم يدعونا إلى ذلك بأعظم وأكثر الدعوات إلحاحاً وقوة، فينبغي لنا -أولاً- أن نفهم المراد بالقوة في الدين، وأن نعرج على صور ومجالات هذه القوة في ميادينها المختلفة، ثم نأخذ الوسائل المعينة على ذلك والموصلة إليه بعون الله سبحانه وتعالى.

فدين الإسلام هو الدين العظيم، الدين الخاتم الذي أنزله الله على الرسول الكريم العظيم صلى الله عليه وسلم، فختم به الرسالات، وأتم به النعمة، ورضيه للبشرية ديناً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلابد من أن ندرك عظمته، وأن نعرف قيمته، وأن نستشعر أهميته، وأن نوقن بفائدته وبثمرته وبحاجتنا إليه في دنيانا وبنفعه وخيره في أخرانا، ليكون من بعد هو قطب رحى حياتنا، ومحور خفقات قلوبنا ومشاعر نفوسنا وكلمات ألسنتنا وخواطر عقولنا وحركات جوارحنا، وليكون هذا الدين هو الذي يظهر في واقعنا في كل حركة وسكنة في مواقفنا مع إخواننا وأحبابنا، ومع خصومنا وأعدائنا، وليكون الدين -كما أراد الله سبحانه وتعالى- هو جوهر هذه الحياة، وهو المؤهل للنجاة فيما وراء هذه الحياة.

ليس الدين أمراً سهلاً أو تافهاً والعياذ بالله! فأين مكانه من اهتمامنا؟! وأين وضعه في سلم أولوياتنا؟! وأين هو من همنا وغمنا؟! وأين هو من فكرنا وشغلنا؟! وأين هو من وقتنا وجهدنا؟! وأين هو من بذلنا ومالنا؟! وأين هو من أرواحنا ونفوسنا؟!

أما إن الدنيا ومشاغلها والأهواء وجواذبها قد نازعت الدين فأخرته حتى جعلته وراءنا ظهرياً، فنحن اليوم لا نهتم أو نغتم به ولا نفكر أو ننشغل في أموره وأحواله، ذلك أمر أحسب أن الحق فيه واضح جلي، وأن المصارحة لكل أحد فيما بينه وبين نفسه تكشف حقيقة تحتاج إلى مراجعة وتقويم لننطلق إلى تصوير هذه القوة في الخطاب القرآني لسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم أشرف الناس نفساً وأثبتهم قلباً وأقواهم يقيناً وأعظمهم إيماناً، الذي خاطبه الله جل وعلا فقال: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5] فليس الأمر بالهين، وليس مسألة عارضة ولا مهمة خفيفة.

قال ابن عطية في تفسيره عند هذه الآية: قال حذاق العلماء: ثقل المعاني من الأمر بالطاعات والتكاليف الشرعية من الجهاد ونحوه، ومزاولة الأعمال الصالحة دائماً.

ثم نقل عن الحسن البصري قوله: الهذ خفيف، ولكن العمل ثقيل. أي أن تهذ بلسانك، وأن تدعي بقولك، وأن تتشدق بكلماتك، وأن تغر الناس بمظهرك، كل ذلك سهل، وللأسف أن كثيراً من أبناء أمتنا اليوم يحسنون القول ولا يجيدون العمل، فالعمل ثقيل.

ونقل البغوي عن الفراء في قوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5] قال: هو ثقيل ليس بالخفيف والسفساف؛ لأنه كلام ربنا.

أليس الدين هو كلام الله؟! فهل هناك ما هو أعظم وأثقل وأجل من كلام رب الأرباب وملك الملوك سبحانه وتعالى؟! لو جاءتنا رسالة من أمير أو مسئول لفرحنا بها، ولعظمنا أمرها، ولرفعنا من شأنها، ولكن كلام ربنا وآياته المنزلة وأحكامه المشرعة لا تنزل من القلوب منزلها، ولا تنال من التشريف والتعظيم حقها!

ونقل ابن الجوزي عن الزجاج أنه قال: قول ثقيل أي: له وزن في صحته وبيان نفعه، كقولك: قول رصين. أي: ثقيل له مضمون وله نفع وفائدة وله مغزى وله قيمة.

فقوله سبحانه: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5]، أي: أن العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه.

وكذلك أراد الله جل وعلا في شأن نبينا صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين الأمرين: الثقل المعنوي الذي سنجليه ونوضحه، وكذلك الثقل الحسي، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي علته الرحضاء، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إن كان لينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد وإن جبينه ليتفصد عرقاً ) وقد روى زيد بن ثابت: (أنه نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذه، قال: فكادت فخذه أن ترض فخذي)، وكان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي وهو على ناقته بركت به الناقة من ثقل الوحي، وكان يرى ثقل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم، وعندما نزل جبريل لأول مرة بالوحي هل كان نزوله خفيفاً هيناً؟! وهل كان سهلاً؟! إنه نزل عليه وهو في خلوة وحده، ثم راعه بمفاجأته، ثم قال له: (اقرأ) فلما قال: ما أنا بقارئ قال عليه الصلاة والسلام: (فأخذني فغطني -أي: ضمني- حتى بلغ مني الجهد -أي: التعب والشدة- ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، ثم الثالثة كذلك) لأن أمر الدين عظيم، ولأن رسالته ثقيلة، ولأن أمانته عظيمة، فلا يمكن أن تتلقاه وأنت تريد ركوناً إلى دنياك، واستمتاعاً بشهواتك، ورضوخاً إلى أهوائك، واستسلاماً لضعفك، واستمساكاً بحياتك.

انظر إلى الصورة القرآنية الأخرى والعظمى في قوله عز وجل: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] فأي أمانة أعظم من هذه الأمانة التي تخلت عن حملها السماوات السبع والأرضون السبع والملائكة المسبحة بحمد الله، والجبال الراسخة وحملها الإنسان؟! إنها أمانة التكليف بالأوامر والنواهي، والأخذ بدين الله، والقيام بأمره، وترتب على ذلك الشرط ثواب على الإحسان، وعقاب على الإساءة، ورفعة عند الرحمن لمن قام بذلك وأدى واجبه، أو دنو وسفل وسخط وغضب من الجبار لمن خالف وأخلف، نسأل الله عز وجل السلامة.

وابن كثير بعد أن سرد أقوالاً من أقوال السلف في شأن هذه الأمانة قال: أقوالهم متفقة وراجعة إلى أنها التكليف بقبول الأوامر والنواهي بشرطها.

وقال السعدي مؤكداً هذا المعنى: الأمانة التي ائتمن الله عليها المكلفين هي امتثال الأوامر واجتناب المحارم في حال السر والخفية كما في العلانية.

ثم بين ما يتعلق بالآية التي بعدها فقال: فانقسم الناس بحسب قيامهم بها -أي: بهذه الأمانة- إلى ثلاثة أقسام: منافقون أظهروا أنهم قاموا بها ظاهراً لا باطناً، ومشركون تركوها ظاهراً وباطناً، ومؤمنون قائمون بها ظاهراً وباطناً، ومن هنا جاءت الآية التي بعدها: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:73]؛ لأن الذين قبلوا الأمانة واجتهدوا فيها قد يقصرون، وقد يخطئون، وهذه من طبيعة البشر، فمنَّ الله عليهم بتوبته لما صدقوا في أداء أمانته وأخلصوا دينهم ونيتهم في القيام بواجبهم لربهم سبحانه وتعالى.

ثم انظر إلى ما يقص علينا القرآن وما يبسطه لنا من شأن الأمم السابقة، وكيف كانت أوامر الله لهم، وكيف كان خطابه للرسل والأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم، كقوله سبحانه: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12] فليس في دين الله هزل ولا لعب، ولا يليق بمسلم تتنزل عليه آيات القرآن التي بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون لاهياً عابثاً غارقاً في شهواته ليس لديه أمانة يحملها ولا مهمة يؤديها ولا رسالة يبلغها ولا دعوة ينشرها ولا إيمان ينافح عنه ولا يقين يستمسك به، فذلك أمر مهم (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) أي: بجد واجتهاد. وذلك بالاجتهاد في حفظ ألفاظه وفهم معانيه والعمل بأوامره ونواهيه، فهذا هو تمام أخذ الكتاب بقوة.

وانظر إلى هذه الكلمات: حفظ ألفاظه، وفهم معانيه، والعمل بأوامره. ذلك هو الواجب، وتلك هي الأمانة.

قال ابن عطية : العلم به والحفظ له والعمل به والالتزام بلوازمه.

فأين نحن من ذلك؟! هل أخذنا الدين بقوة؟! هل حملنا الكتاب بقوة؟! هل أوجدنا في أنفسنا تهيؤاً نفسياً لتحظى آيات الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأوامر الدين وشرائعه ومهماته وقضاياه بالأولوية في حياتنا والتأثير الأبلغ في نفوسنا وقلوبنا والانشغال الأكبر في عقولنا وأفكارنا؟!

ثم انظر كذلك إلى الخطاب الذي كرره الله جل وعلا في غير ما آية في قصة بني إسرائيل، وهم الذين جعلهم الله لنا عبرة نرى مواطن الخلل التي كانوا عليها لنجتنبها، ونرى بعض ما وفق الله عز وجل له المخلصين والصالحين منهم لنكون على أثرهم وعلى أثر الكمال الأعظم الذي جاء به بعد ذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم.

ألم يخاطب الله جل وعلا بني إسرائيل بقوله: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة:63]؟! وقد خاطب قبل ذلك موسى عليه السلام بقوله: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ [الأعراف:144] أي: بقوة.

وقوله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) قال ابن عباس : بجد واجتهاد. وقيل: كثرة درس. وقال ابن زيد : معناه: بتحقيق وتصديق. وقال ابن عطية : بعزم ونشاط وجد. وقال البغوي : بجد واجتهاد ومواظبة. وزاد السعدي : وصبر على أوامر الله.

إنه أمر العمل، وقبله أمر الفهم والعلم، ومعه أمر الاستقامة والمواظبة، ويحدو ذلك كله الصبر والمصابرة والمجاهدة، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:1-7].

فلنصبر في حمل دين الله، ولنثبت في المواقف الممحصة، أما أن نختار الذي هو أدنى ونرضى بالركون إلى الأرض والخلود إلى الدنيا فهذا لا ينبغي، قال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38] فما الذي ترضاه لنفسك؟ وأين أنت من نبيك صلى الله عليه وسلم وأشراف أمتك من علمائها وقوادها وأخيارها ودعاتها وصلحائها؟ فهل نريد أن نكون مع العابثين المغنين الراقصين؟! وهل نريد أن نكون مع اللاعبين المحترفين والمحترقين؟! وهل نريد أن نكون مع السادرين الغافلين النائمين؟!

إن أمتنا تذبح كل يوم ألف مرة، وأعراضها تنتهك في كل قطر، وأحوالها تدعو إلى أن تتحرك القلوب وأن تحيا النفوس وأن تستيقظ العقول وأن تتحرك الهمم وأن ترتفع وتشحذ العزائم، فأين أنت من ذلك؟

تأمل أخي المسلم حالنا لو أننا أخذنا ديننا بقوة، ولو أننا حملنا أمانتنا بعزم، ولو أننا تأسينا برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ألا نعرف ما كان يقوله، بل ما كان يفعله، بل ما تجلى في مواقف سيرته يوم خرج مهاجراً طريداً من مكة، ويوم كسرت رباعيته وسال الدم على وجهه الشريف وهو يقول: (اللهم! اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ويوم ربط حجرين على بطنه من شدة الجوع في يوم الأحزاب؟!

أما رأينا كيف مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشدائد المعنوية والحسية؟ أما رأينا قوة يقينه وعظمة إيمانه وشدة ثباته وزهده في دنياه وتعلقه بأخراه؟! أما رأينا كيف حمل الصحابة من بعده الأمانة، وكيف استشعروا ثقل المسئولية؟! أما سمعنا في سيرة أبي بكر رضي الله عنه قوله: (كيف ينتقص هذا الدين وأنا حي؟! والله لو منعوني عقال بعير كان يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم ولو كنت وحدي)؟

أما عرفنا ما كان يقول عمر رضي الله عنه في آخر لحظات حياته: (ليتني أموت كفافاً لا لي ولا علي)؟! فما الذي صنعت يا عمر ؟! ألم تكن تهتم وتغتم إذا عثرت بغلة في العراق خشية أن يسألك الله عنها؟! فمن هو المسئول أمام الله عز وجل عن المئات التي تقتل اليوم في العراق؟! ألسنا مسئولين بكثرة أو بقلة؟ ألسنا معنيين بالأمر مباشرة؟! ومع ذلك عمر رضي الله عنه يقول: (ليتني أموت كفافاً لا لي ولا علي).

أما سمعنا من التابعين من يقول: (ليتني كنت شجرة تعضد)؟ لأنهم عرفوا ثقل الأمانة وعظمة المسئولية، أما عرفنا ابن تيمية -رحمه الله- وهو الذي فعل ما فعل يوم يقول: ما أنا شيء، ولا مني شيء، ولا بي شيء، وما زلت أجدد إيماني وإسلامي كل يوم!

هؤلاء هم الذين قاموا بشرف حمل الرسالة والأمانة، ثم استقلوا أعمالهم ولم يروا أنهم أدوا واجبهم, واليوم تخلى كثير منا عن الأمانة وترك أداء الواجب ثم كلامنا يملأ الدنيا صراخاً وادعاءً وكذباً وزوراً وبهتاناً، نسأل الله عز وجل السلامة.

خذ هذا المثل القرآني الذي هو بحد ذاته كافٍ في الموعظة والعبرة، ولا يحتاج إلى مزيد تعليق، ساقه الله لنا من قصص الأمم السابقة قبلنا، ومن حال بني إسرائيل على وجه الخصوص، قال عز وجل: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف:168-170] فالقصة كاملة، والصورة واضحة، والتفاوت هو الذي يقع في حال أمتنا اليوم، كما في قوله سبحانه: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ [الأعراف:168]، والناس مراتب في الأخذ بدين الله والاستمساك به والحرص على الفرائض والاستكثار من النوافل والتقصير في جانب آخر. قال سبحانه: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ [الأعراف:168] أي: الفتن والامتحانات، وقال سبحانه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] فمنهم من سقط ووقع، ومنهم من امتنع وارتفع، ثم جاءت الصورة: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى [الأعراف:169].

قال ابن كثير : من جاء بعدهم لم يكن فيهم صلاح يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى [الأعراف:169]، استبدلوا كتاب الله وشرع الله ودين الله، وأخذوا الدنيا، واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وتخلوا عن دينهم وعن أمانتهم وعن كتاب ربهم وعن تكليف ربهم وأوامره ونواهيه، وركنوا إلى دنياهم، وفضلوا هذا على ذاك، وأخذوا واختاروا الذي هو أدنى.

ثم ماذا بعد ذلك؟ بين الحق سبحانه وتعالى الأماني والحيل الشيطانية والأوهام النفسية التي يعللون بها أنفسهم: وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا [الأعراف:169] ورحمة الله واسعة، لكن انظر إلى حقيقة العمل: وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ [الأعراف:169]، تدور الدائرة مرة أخرى، ويقدمون غير الدين، ويفضلون الدنيا، ويسيرون مع الأهواء ويتركون دينهم وراءهم ظهرياً، ولذا قال سبحانه: وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ [الأعراف:169] ذلك حالهم، قال سعيد بن جبير : يعملون الذنب ثم يستغفرون الله، وإن عرض لهم ذلك الذنب أخذوه.

وقال مجاهد : لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه حلالاً كان أو حراماً، ويتمنون المغفرة.

فخاطبهم الله بقوله: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الأعراف:169] فأين الميثاق؟ وأين الأمانة؟ وأين القوة؟ وأين الثقل الذي أنزل عليهم؟ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الأعراف:169] وأن يثبتوا عليه وأن ينطقوا به وأن يكونوا معه وأن يجعلوا علائقهم مبتوتة أو موصولة استناداً إليه؟

لكنهم كما قال عز وجل: وَدَرَسُوا مَا فِيهِ [الأعراف:169] ولم يفعلوا ذلك عن جهل، بل هم عالمون بكتاب الله، عارفون بأحكامه، دارسون لتشريعاته، وهل اليوم العلم في أمة الإسلام منعدم؟ وهل المعرفة بكتاب الله معدومة وتفاسيره بالمئات مطبوعة ومسموعة ومنشورة؟ فهل هناك جهل؟ وهل أحد لا يعرف أن مواجهة الأعداء واجبة وأن نصرة الأولياء لازمة؟ وأن الأمر في الأخذ بدين الله أمانة في عنق كل فرد؟ هل مثل هذا غائب؟!

ثم ذكر الوصف للناجين المستثنيين من ذلك كله فقال: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ [الأعراف:170] وهي القراءة التي نقرأها، وهذا التشديد كما تقول العلماء: زيادة المبنى دليل على زيادة المعنى. فهم لا يُمسِكُون بالكتاب بل يُمَسِّكُون، أي -كما قال ابن كثير: اعتصموا به واقتدوا بأوامره وتركوا زواجره.

ذلك هو الاستمساك القوي في كل حال وفي كل آن، على نفس الإنسان قبل أن يكون على غيره، وتلك هي النجاة وحدها، وبدونها لا نجاة.

نسأل الله عز وجل أن يجعل الدين في قلوبنا أعظم شيء، وأوكد هم، وأكبر شغل، وأن يجعلنا مسخرين لنصرة دينه عاملين به، ونسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ إيماننا وديننا.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

أما بعد:

فيا أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، وإن القوة في الدين أمرها عظيم، وحسبنا في مقامنا هذا أن نصل إلى فائدة واحدة وهدف واحد، هو أن نقرر هذا المعنى، وهو أن الدين عظيم وأن أمانته جسيمة وأن رسالته ثقيلة، وأنه لا يمكن لنا أن ننال شرف حمل الأمانة ونشر الرسالة ونحن نائمون ملء عيوننا آكلون ملء بطوننا غارقون في شهواتنا لاهون بدنيانا منشغلون بأزواجنا وأبنائنا، بل لا بد من أن ننتدب إلى حقيقة القوة في أخذ ديننا، وليس ذلك فيه ترك لدنياك، ولا توقف عن عملك، ولا قطع لكسبك ورزقك، فما ذلك في دين الله عز وجل، ولكنه الهم الذي يستولي على القلب، والفكر الذي يشغل العقل، والعمل الذي يستنفذ الوقت والجهد، والطاقات التي تسخر كلها بنية صادقة خالصة لنشر دين الله, ولو بكلمة تقولها، ولو بموقف تقفه.

فما هي هذه القوة التي نريدها؟ إنها قوة اليقين والإيمان، قوة الطاعة والامتثال، قوة الغيرة والدعوة.

نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.

اللهم! إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى.

اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.

اللهم! أنطق ألسنتنا بذكرك، واملا قلوبنا بحبك، واستعمل جوارحنا في طاعتك، وسخرنا لنصرة دينك، واجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين، واجعل -اللهم- أيدينا منفقة في سبيلك، وأقدمنا سائرة إلى طاعتك، وجباهنا خاضعة لعظمتك.

اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.

اللهم! إنا نسألك أن توفقنا للصالحات، وأن تصرف عنا الشرور والسيئات، وأن تغفر لنا ما مضى وما هو آتٍ، برحمتك يا رب الأرض والسماوات.

اللهم! اجعل بلدنا آمناًً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، واصرف -اللهم- عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة.

اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع -اللهم- بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين.

اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.

اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك.

اللهم! إنهم قد انتهكوا الحرمات، واغتصبوا الأراضي، وأذلوا عبادك المؤمنين، ودنسوا مقدسات المسلمين، اللهم! فأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين.

اقذف -اللهم- الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين.

اللهم! استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وفرق كلمتهم، ولا ترفع اللهم لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، ولا تبلغهم غاية.

اللهم! ردهم على أعقابهم خاسرين، وسود -اللهم- وجوههم، وأذل أعناقهم، اللهم! أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، واشف فيهم -اللهم- صدر قوم مؤمنين، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.

اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في أرض العراق وفي فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين.

اللهم! زد إيمانهم، وعظم يقينهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين.

اللهم! إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جائعون فأطعمهم، خائفون فأمنهم، مشردون فسكنهم.

اللهم! أعنهم على أمور دينهم ودنياهم، وردنا وإياهم إلى دينك رداً جميلاً، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.

عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، أخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

اللهم! صلِّ وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.