فسر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه المبارك (طريق الهجرتين)، هذه الأسماء الأربعة تحقيقاً، وبين كيفية التعبد عن طريق هذه الأسماء الأربعة، وتكلم بكلام كلام قيم جداً، وهو طويل في الحقيقة، لكن نجتزئ منه ما تيسر. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى مبيناً كيف نعبد الله بالتأمل في اسمه (الأول) قال: فعبوديته باسمه (الأول) تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف أو الالتفات إليها، فإذا حققت في قلبك معنى الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى هو الأول الذي لا شيء قبله كما فسرها النبي عليه الصلاة والسلام: (أنت الأول فليس قبلك شيء ) فمعنى ذلك أنه الخالق وهو المسبب لكل شيء. والأسباب مخلوقة، فإذا حققت الاسم الأول فيقتضي ذلك أن تتجرد من التعلق بالأسباب، وليس معنى هذا أننا لا نأخذ بالأسباب؛ بل نأخذ بالأسباب ولكن لا نتوكل على الأسباب، وإنما التوكل يكون على الله سبحانه وتعالى الذي هو المسبب الحقيقي؛ لأن الإعراض عن الأسباب قدح في الشرع، والتعلق بالأسباب قدح في التوحيد؛ لأن الشرع أمر بالأخذ بالأسباب، والتعلق بالأسباب دون الله سبحانه وتعالى قدح في التوحيد. يقول: فعبوديته باسمه الأول تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف أو الالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته. فإن الله الأول قبل كل شيء، فهو الذي سبَّب كل شيء، وخلق كل شيء، فتعلق بالمسبب وهو الله سبحانه وتعالى. قال: وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد، إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجوده، وأي وسيلة كانت هناك؟ وإنما هو عدم محض، وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فمنه سبحانه وتعالى الإعداد ومنه الإمداد، وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله وجوده لم تكن بوسائل أخرى، فمن نزل اسمه الأول على هذا المعنى أوجب له فقراً خاصاً وعبوديةً خاصة. وعبوديته باسمه الآخر تقتضي أيضاً عدم ركونه ووثوقه بالأسباب، فإنها تنعدم لا محالة، وتنقضي في الآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها. يعني: كل ما عدا الله له آخر؛ لكن الله سبحانه وتعالى هو وحده الآخر الذي لا شيء بعده، فما عدا الله سبحانه وتعالى من الأسباب تنقضي وتفنى بالآخرية لا محالة، ويبقى الدائم الباقي بعدها. قال: فالتعلق بها -أي: بالأسباب- تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بالآخر سبحانه تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلق به حقيق ألا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به، كذا نظر العارف إليه بسبق الأولية حيث كان قبل الأسباب كلها، وكذلك نظره إليه ببقاء الآخرية حيث يبقى بعد الأسباب كلها، فكان الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه. فتأمل عبودية هذين الاسمين، وما يوجبانه من صحة الاضطرار إلى الله وحده ودوام الفقر إليه دون كل شيء سواه، وأن الأمر ابتدأ منه وإليه يرجع، فهو أول كل شيء وآخره، وكما أنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إلا بأن يكون هو وحده غايته ونهاية مقصوده. فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت إليه عبوديتها وإرادتها ومحبتها، فليس وراء الله شيء يقصد ويعبد ويتأله، كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأ. فكما كان واحداً في إيجادك فاجعله واحداً في تألهك إليه؛ لتصح عبوديتك، وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه، فاجعله نهاية حبك وإرادتك وتألهك إليه؛ لتصح لك عبوديته باسمه الأول والآخر. وأكثر الخلق تعبدوا له باسمه الأول. يعني: أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، ويقرون باسم الأول الذي بدأ كل شيء: بدأ الخلق، وبدأ الرزق، وبدأ أفعال الربوبية والتنمية والرعاية والإحسان إلى الخلق. وإنما الشأن في التعبد له باسمه الآخر -يعني: بأن تعبده وحده لا شريك له- فهذه عبودية الرسل وأتباعهم، فهو رب العالمين وإله المرسلين سبحانه وبحمده. وأما عبوديته باسمه الظاهر فكما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء).
مدار أسماء الله عز وجل: (الأول والآخر والظاهر والباطن)
ثم يقول الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى مبيناً أن هذه الأسماء الأربعة: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، مدارها على الإحاطة الزمانية والإحاطة المكانية، يقول: فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، وهي إحاطتان: زمانية ومكانية، فأحاطت أوليته وآخريته بالقبل والبعد، فكل سابق انتهى إلى أوليته، وكل آخر انتهى إلى آخريته، فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر، فهو الأول، يعني أنه قبل كل شيء، وهو الآخر بمعنى أنه بعد كل شيء بالإحاطة الزمانية. وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه، وأي شيء عالٍ فالله سبحانه وتعالى أعلى منه، حتى الجنة التي هي أعلى المخلوقات فإن عرش الله سبحانه وتعالى فوق سقف الجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (
إذا سألتم الله سبحانه وتعالى فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوق سقفه عرش الرحمن). وهذا يدل على أن الجنة كروية؛ لأنه ذكر فيها الوسط والأعلى، وهذا معناه أنها كروية، والله تعالى أعلم. يقول
ابن القيم : فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه، وما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده، فالأول قدمه، والآخر دوامه وبقاؤه، والظاهر علوه وعظمته، والباطن قربه ودنوه، فسبق كل شيء بأوليته، وبقي بعد كل شيء بآخريته، وعلا كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه، فلا تواري منه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا يحجب عنه ظاهر باطناً، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية. فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد: فهو الأول في آخريته، والآخر في أوليته، والظاهر في بطونه، والباطن في ظهوره، لم يزل أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.
مراتب التعبد بأسماء الله عز وجل: (الأول والآخر والظاهر والباطن)
يقول: وللتعبد بهذه الأسماء رتبتان: الأولى: أن تشهد الأولية منه تعالى في كل شيء، والآخرية بعد كل شيء، والعلو والفوقية فوق كل شيء، والقرب والدنو دون كل شيء. فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه. يعني: أي شيء أمامك يحجب عنك ما وراءه، فلا تعرف ما وراء الجدار، ولو وقف شخص أمامك فإنك لا ترى ما خلفه.. وهكذا، وكذلك السحابة لا ترى ما وراءها من شمس، فهذا شأن المخلوق. قال: فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه، فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب، والرب جل جلاله ليس دونه شيء أقرب إلى الخلق منه. المرتبة الثانية من التعبد: أن يعامل كل اسم بمقتضاه. فالمرتبة الأولى مرتبة علمية، أن تشهد ذلك بقلبك وتعلمه وتوقن به. والمرتبة الثانية: عملية، أن تعامل كل اسم بمقتضاه. قال: فيعامل سبقه تعالى بأوليته لكل شيء، وسبقه بفضله وإحسانه الأسباب كلها، بما يقتضيه ذلك من إفراده وعدم الالتفات إلى غيره والوثوق بسواه والتوكل على غيره. فما دام أنك مؤمن بأن الله سبحانه وتعالى أول وآخر وظاهر وباطن، وما دمت تؤمن بأنه الأول، بمعنى: أنه سبق كل شيء، وكل ما عداه مخلوق؛ فالله هو الذي أوجدك بأوليته، فتعامل ذلك بما يقتضيه من إفراده بأن توحده، وألا تلتفت إلى غيره؛ لأن كل ما عداه من إله باطل، والأسباب كلها إنما هي مخلوقة، فينبغي أن تلتفت بقلبك وتتوكل على الله سبحانه وتعالى، فتفرده ولا تلتفت إلى غيره، ولا تثق بسواه، ولا تتوكل على غيره. قال: فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً، حتى سماك باسم الإسلام؟! فأعظم نعمة في الوجود كله هي نعمة الإسلام، فهل شفع لك أحد المخلوقين حتى الأنبياء والمرسلين في الأزل عند الله عز وجل بأن يجعلك أنت مسلماً ويجعل فلاناً كافراً؟! قال عز وجل:
هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1] فهل سبق شيء منك وأنت لم تكن شيئاً مذكوراً؟! فهذا محض فضل راجع إلى أوليته وإحسانه سبحانه وتعالى إليك في الأزل بدون سبب. قال: فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً حتى سماك باسم الإسلام، ووسمك بسمة الإيمان، وجعلك من أهل قبضة اليمين، وأقطعك في ذلك الغيب عمالات المؤمنين، فعصمك عن العبادة للعبيد، وأعتقك من التزام الرق لمن له شكل ونديد، ثم وجه وجهة قلبك إليه سبحانه دون ما سواه، فاضرع إلى الذي عصمك من السجود للصنم، وقضى لك بقدم الصدق في القدم، أن يتم عليك نعمة هو ابتداها، وكانت أوليتها منه بلا سبب منك، واسم بهمتك عن ملاحظة الاختيار، ولا تركنن إلى الرسوم والآثار، ولا تقنع بالخسيس الدون، وعليك بالمطالب العالية والمراتب السامية التي لا تنال إلا بطاعة الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى قضى ألا ينال ما عنده إلا بطاعته، ومن كان لله كما يريد كان الله له فوق ما يريد، فمن أقبل إليه تلقاه من بعيد، ومن تصرف بحوله وقوته ألان له الحديد، ومن ترك لأجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد مراده الديني أراد ما يريد. ثم اسم بسرك إلى المطلب الأعلى، واقصر حبك وتقربك على من سبق فضله وإحسانه إليك كل سبب منك، بل هو الذي جاد عليك بالأسباب، كما قال تعالى:
ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التوبة:118] ، فسبقت توبته توبتهم، فلولا التوفيق لما تابوا، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق إرادة الخير في الخلق، وهذا هو التوفيق. قال: بل هو الذي جاد عليك بالأسباب، وهيأ لك وصرف عنك موانعها، وأوصلك بها إلى غايتك المحمودة، فتوكل عليه وحده، وعامله وحده، وآثر رضاه وحده، واجعل حبه ومرضاته هو كعبة قلبك التي لا تزال طائفاً بها، مستلماً لأركانها، واقفاً بملتزمها. فيا فوزك ويا سعادتك إن اطلع سبحانه على ذلك من قلبك ماذا يفيض عليك من ملابس نعمه، وخلع أفضاله، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وبحمدك. وأصلح له غيبك فإنه عنده شهادة، وزك له باطنك فإنه عنده ظاهر. ثم قال رحمه الله: فانظر كيف كانت هذه الأسماء الأربعة جماع المعرفة بالله، وجماع العبودية له، فهنا وقفت شهادة العبد مع فضل خالقه ومنته، فلا يرى لغيره شيئاً إلا به وبحوله وقوته، وغاب بفضل مولاه الحق عن جميع ما منه هو مما كان يستند إليه أو يتحلى به، أو يتخذه عدة، أو يراه ليوم فاقته، أو يعتمد عليه في مهمة من مهماته، يعني: من التفت إلى هذه الأشياء- فكل ذلك من قصور نظره، وانعكاسه عن الحقائق والأصول إلى الأسباب والفروع، كما هو شأن الطبيعة والهوى، وموجب الظلم والجهل، والإنسان ظلوم جهول. فمن جلى الله سبحانه وتعالى صدأ بصيرته، وكمَّل فطرته، وأوقفه على مبادئ الأمور وغاياتها ومناطها ومصادرها ومواردها، أصبح كالمفلس حقاً من علومه وأعماله وأحواله وأذواقه، يقول: أستغفر الله من علمي ومن عملي، أي: من انتسابي إليهما وغيبتي بهما عن فضل من ذكرني بهما. فالعمل الصالح الذي عملته في الحقيقة هو فضل من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لولا توفيقه لما فعلته. فالأسباب التي أخذت بها، وأوصلتك إلى النتيجة، كان يمكن أن. لا يهيئها لك الله سبحانه وتعالى، وإذا هيأها لك ربما قضى موانع تمنع مفعولها، فكل هذا إنما هو من فضل الله سبحانه وتعالى. قال: فيقول المؤمن: أستغفر الله من علمي ومن عملي، يعني: من أن أنتسب إليهما، وغيبتي بهما عن فضل من ذكرني بهما، وابتدأني بإعطائهما من غير تقدم سبب مني يوجب ذلك، فهو لا يشهد غير فضل مولاه وسبق منته ودوامه، فيثيبه مولاه على هذه الشهادة العالية بحقيقة الفقر الأوسط بين الفقرين الأدنى والأعلى ثوابين: أحدهما: الخلاص من رؤية الأعمال، حيث كان يراها ويتمدح بها ويستكثرها، فيستغرق بمطالعة الفضل غائباً عنها ذاهلاً عنها فانياً عن رؤيتها. الثاني: أن يقطعه عن شهود الأحوال، أي: عن شهود نفسه متكثرة بها -أي: بهذه الأعمال- فإن الحال محله الصدر، والصدر بيت القلب والنفس، فإذا نزل العطاء في الصدر للقلب ثبتت النفس لتأخذ نصيبها من العطاء، فتتمدح به وتدل به وتزهو وتستطيل. فإذا وصل إلى القلب نور صفة المنة، وشهد معنى اسمه المنان، وتجلى سبحانه على قلب عبده بهذا الاسم مع اسمه الأول ذهل القلب والنفس به،واشتغل بتحقيق اسم الأول واسم المنان عن أن ينسب إلى نفسه شيئاً، أو أن يرى لنفسه فضلاً، أو أن يتعلق بسبب من الأسباب. قال: وصار العبد فقيراً إلى مولاه بمطالعة سبق فضله الأول، فصار مقطوعاً عن شهود أمر أو حال ينسبه إلى نفسه. يعني: ينسب هذا كله إلى الله سبحانه وتعالى.
أثر العلم باسمي الله عز وجل (الأول والآخر)
معاني اسم الله عز وجل: (الأول)
بالنسبة لاسم الله عز وجل الأول فمعناه اللغوي: الأول نقيض الآخر، والأول والآخر من الأسماء التي تأتي مقترنة بعضها ببعض، مثل المقدم والمؤخر.. المعز والمذل.. الظاهر والباطن. فالأول يأتي مع الآخر، وبعض الناس أحياناً يخطئون في قراءة اسم الله عز وجل (الآخر)، فيقول: عبد الآخَر، فهل هناك إله مع الله؟! فننتبه لهذا، فإن الصواب: عبد الآخِر، إن جاز إطلاق هذا الاسم بهذه الصورة. فالأول نقيض الآخر، وأصله (أوأل) على وزن (أفعل) قلبت الهمزة واواً ثم أدغم الواو في الواو، يدل على ذلك قولهم: هذا أول منك، والجمع الأوائل والأوالي أيضاً على القلب. قال
ذو الرمة : وما فخر من ليست لـه أولية تعد إذا عد القديم ولا ذكر يعني: مفاخر آبائه. وقال
الراغب : الأول: هو الذي يترتب عليه غيره، ويستعمل على أوجه: أحدها: المتقدم بالزمان، كقولك: عبد الملك أولاً ثم منصور، يعني: هذا جاء قبل ذاك. الثاني: المتقدم بالرياسة في الشيء وكون غيره محتذياً به، نحو الأمير أولاً ثم الوزير. الثالث: المتقدم بالوضع والنسبة، كقولك للخارج من العراق: القادسية أولاً ثم فيد، وتقول للخارج من مكة: فيد أولاً ثم القادسية. الرابع: المتقدم بالنظام الصناعي، نحو أن يقال: الأساس أولاً، ثم البناء، فيصنع الأساس أولاً ثم بعد ذلك يكون البناء. وورد هذا الاسم الشريف في القرآن الكريم مرة واحدة في هذه الآية:
هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3]. ومعنى هذا الاسم في حق الله تبارك وتعالى يقول
الفراء : قوله عز وجل: (( هُوَ الأَوَّلُ ))، يريد قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، يعني: الباقي بعد فناء كل شيء. وقال
ابن جرير : هو الأول قبل كل شيء بغير حد، فالله سبحانه وتعالى أوليته أزلية، يعني: لا بداية لها، فالأول هو قبل كل شيء بغير حد، فليس هناك زمن لبدايته عز وجل، والآخر بعد كل شيء بغير نهاية، وإنما قيل ذلك لأنه كان ولا شيء موجود سواه، وهو كائن بعد فناء الأشياء كلها، كما قال جل ثناؤه:
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]. وقال
الزجاج: الأول هو موضوع التقدم والسبق، ومعنى وصفنا الله تعالى بأنه أول: هو متقدم للحوادث بأوقات لا نهاية لها، فالأشياء كلها وجدت بعده وقد سبقها كلها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (
أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء). وقال
الخطابي : الأول هو السابق للأشياء كلها، الكائن الذي لم يزل قبل وجود الخلق، فاستحق الأولية إذ كان موجوداً ولا شيء قبله ولا بعده. وقال
الحليمي : الأول هو الذي لا قبل له، والآخر هو الذي لا بعد له، وهذا لأن قبل وبعد نهايتان، فقبل نهاية الموجود من قبل ابتدائه، وبعد غايته من قبل انتهائه، فإذا لم يكن له ابتداء ولا انتهاء لم يكن للموجود قبل ولا بعد، فكان هو الأول والآخر. وقال
البيهقي : الأول هو الذي لا ابتداء لوجوده. وقال
ابن القيم رحمه الله تعالى: هو أول هو آخر هو ظاهر هو باطن هي أربع بوزان ما قبله شيء كذا ما بعده شيء تعالى الله ذو السلطان ما فوقه شيء كذا ما دونه شيء وذا تفسير ذي البرهان فانظر إلى تفسيره بتدبر وتبصر وتعقل لمعان وانظر إلى ما فيه من أنواع معـ رفة لخالقنا العظيم الشان
تفسير الرسول لاسم الله (الأول)
حكم تسمية الله عز وجل بالقديم
قال: وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى القديم، وليس هو من أسماء الله الحسنى. والتزام تسميته بالأول هو الموافق للكتاب والسنة واللغة، فالصحيح أننا لا نعبر عن الله عز وجل باسم القديم، وإنما نعبر عن الله عز وجل باسمه الأول، وهذا هو الموافق للكتاب والسنة واللغة، قال: فإن القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو المتقدم على غيره. فيقال: هذا قديم للعتيق، وهذا حديث للجديد، ولم يستعملوا هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم. يعني: أن كلمة قديم لا تعبر عن الذي لم يسبقه عدم، وإنما الاسم الذي يعبر عما لم يسبقه عدم هو الأول، أما القديم فيعبر عن المتقدم على غيره. قال: كما قال تعالى:
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39] ، والعرجون القديم هو الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الجديد قيل للأول: قديم، وقال تبارك وتعالى:
وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف:11] أي: متقدم في الزمان. وقد أنكر كثير من السلف والخلف منهم
ابن حزم تسمية الرب تبارك وتعالى بالقديم، والصواب أن يستعاض عن هذا الاسم بالتسمية الواردة وهي الأول، واتباع ما جاءت به النصوص أولى من اتباع ألفاظ أهل الكلام. أضف إلى ذلك أن التقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، ولا يفيد التقدم على الحوادث كلها إلا اسم الأول، أما من أطلقه من أهل السنة فلعله أطلقه من باب الإخبار عنه تبارك وتعالى، فباب الإخبار عن الله عز وجل أوسع مما يدخل في باب الأسماء الحسنى والصفات، كالشيء والموجود والقائم بنفسه.. ونحوها. كما ذكر ذلك
ابن القيم رحمه الله تعالى، هذا فيما يتعلق بتسمية الله عز وجل بالأول.
بيان بطلان التسلسل في الفاعلين
معنى اسم الله الآخر
ونختم الكلام على اسم الآخر، فنقول: الآخر: خلاف الأول، تقول: جاء آخراً، أي: أخيراً، وتقديره: فاعل، والأنثى آخرة، والجمع أواخر، أما الآخَر بالفتح، فهو أحد الشيئين. وورد هذا الاسم الكريم أيضاً في القرآن الكريم مرة واحدة في نفس الآية: (هو الأول والآخر). وأما معناه في حق الله تبارك وتعالى، فيقول
الزجاج : الآخر: هو المتأخر عن الأشياء كلها ويبقى بعدها. يعني: تفنى كل الأشياء ويبقى الله سبحانه وتعالى بعدها. وقال
الخطابي : الآخر: هو الباقي بعد فناء الخلق، وليس معنى الآخر: ما له الانتهاء، كما ليس معنى الأول: ما له الابتداء، فهو الأول والآخر وليس لكونه أول ولا آخر. وقال
البيهقي : الآخر: الذي لا انتهاء لوجوده.
معاني اسمي الله عز وجل (الظاهر والباطن)
قال تعالى:
وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3]. الظهر لغة: خلاف البطن، والظاهر: خلاف الباطن، يقال: ظهر يظهر ظهوراً فهو ظاهر وظهير. والظهير: المعين، ومنه قول الله تبارك وتعالى:
وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4] . وبعير ظهير بيُّن الظهارة، إذا كان شديداً قوياً، ومن استعمال الظهير بمعنى المعين قول الله تبارك وتعالى:
وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [الفرقان:55]. وقد سبق أن تكلمنا في تفسير سورة الفرقان، وقلنا: إن معناها وكان الكافر معيناً للشيطان وحزبه من الكفرة على عداوة الله ورسله ليقاتل به -أي: الكافر- في سبيل الشيطان أولياء الله الذين يقاتلون في سبيل الله تبارك وتعالى. وتقول: ظهرت البيت، أي: علوته، وظهرت على الرجل، أي: غلبته، وأظهرت بفلان، أي: أعليت به، والظهر من الأرض ما غلظ وارتفع، والبطن ما لان منها وسهل ورق واطمأن، وظهر الشيء ظهوراً: تبين، وأظهرت الشيء: بينته. وورد هذا الاسم الكريم في القرآن الكريم مرة واحدة في هذه الآية في سورة الحديد:
هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3]. أما معنى هذا الاسم الشريف في حق الله تبارك وتعالى فقال
الفراء : الظاهر على كل شيء علماً، وكذلك الباطن على كل شيء علماً. وقال
ابن جرير : يقول تعالى: وهو الظاهر على كل شيء دونه، وهو العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلى منه تبارك وتعالى. إذاً: هذا أحد معاني الاسم الكريم الظاهر حينما يطلق في حق الله تبارك وتعالى، فالظاهر معناه: أنه ظاهر على كل شيء علماً، يعلم كل شيء تبارك وتعالى، وكذلك الباطن على كل شيء علماً، أو الظاهر على كل شيء دونه، وهو العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلى منه، وهذا مثل اسمه تبارك وتعالى الأعلى، فهو سبحانه الأعلى على كل شيء، فله الفوقية المطلقة بكل معانيها. وهناك معنى آخر: أن الظاهر هو الذي ظهر للعقول بحججه وبراهين وجوده وأدلة وحدانيته عز وجل، هذا إذا أخذته من الظهور. وإن أخذته من قول العرب: ظهر فلان فوق السطح إذا علا، ومنه قول الشاعر: وتلك شكاة ظاهر عنك عارها فالظاهر أيضاً أنه يثبت لله سبحانه وتعالى صفة الظهور بمعنى العلو، فالله عز وجل يثبت له العلو المطلق من جميع الوجوه، سواء كان علو الذات، أو علو القدر، أو علو الصفات، أو علو القهر. وقال
الزجاج : الباطن: اسم الفاعل من بطن، وهو باطن إذا كان غير ظاهر، والظاهر: خلاف الباطن، فالله سبحانه وتعالى ظاهر باطن، هو باطن لأنه غير مشاهد كما تشاهد الأشياء المخلوقة. فهو ظاهر بالدلائل الدالة عليه، وبأفعاله المؤدية إلى العلم به ومعرفته، فهو ظاهر مدرك بالعقول والدلائل، وباطن غير مشاهد كسائر الأشياء المشاهدة في الدنيا، عز وجل عن ذلك وتعالى علواً كبيراً. ويجوز في اللغة أن يكون الباطن العالم بما بطن، أي: بما خفي، كقولك: بطن بفلان، أي: خص به، فعرف باطن أمره، وهؤلاء بطانة فلان، أي: خاصته، فالبطانة هي التي تكون قريبة جداً من الإنسان، فبطانة الإنسان من الرفقاء أو الأصدقاء هو القريب منه بحيث يعرف ما خفي من أسراره. فالباطن هو العالم بما بطن، يعني: بما خفي. والظاهر هو القوي، كقولك: ظهر فلان بأمره فهو ظاهر عليه، يعني: قوي عليه، وتقول: جمل ظهير أي: قوي كبير. وقال
الأصمعي : يقال: ظاهر فلان فلاناً على فلان، إذا مالأه عليه. وقال
الخطابي : هو الظاهر بحججه الباهرة، وبراهينه النيرة، وبشواهد أعلامه الدالة على ثبوت ربوبيته وصحة وحدانيته، ويكون الظاهر فوق كل شيء بقدرته. فيكون الظهور بمعنى العلو، ويكون أيضاً بمعنى الغلبة. وأما اسمه جل وعلا الباطن، فكما أشرنا آنفاً أن البطن خلاف الظهر، وهو مذكر وتأنيثه لغة، وبطانة الثوب: خلاف ظهارته، والبطنان: جمع البطن وهو الغامض من الأرض، وبطنان الجنة: وسطها، وبطنت الوادي: دخلته، وبطنت هذا الأمر: عرفت باطنه، وبطنت بفلان: صرت من خواصه، وبطانة الرجل: وليجته، وأبطنت الرجل: إذا جعلته من خواصك. واسم الباطن ورد مرة واحدة في هذه الآية الكريمة في سورة الحديد. أما معنى هذا الاسم الشريف من أسماء الله بجانب ما ذكرناه آنفاً، فيقول
ابن جرير : هو الباطن لجميع الأشياء، فلا شيء أقرب إلى شيء منه، يعني: أن الله سبحانه وتعالى قريب إلى كل شيء، يقول الله سبحانه وتعالى:
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]. وقال
الزجاج : الباطن هو: العالم ببطانة الشيء، يقال: بطنت فلاناً وخبرته، إذا عرفته ظاهراً وباطناً، فعلى هذا المعنى يكون الله تعالى عالماً ببواطن الأمور وظواهرها، فهو ذو الظاهر وذو الباطن، يعني: يعلم ما ظهر وما خفي. وقال
الخطابي : الباطن هو: المحتجب عن أبصار الخلق، وهو الذي لا يستولي عليه توهم الكيفية، فمن أصداء اسم الله سبحانه وتعالى الباطن أن تعرف أنه محتجب عن أبصار الخلق، فبالتالي لا يمكن أبداً أن يتوهم أو يتخيل كيف هو. وقد يكون معنى الظهور والبطون: احتجابه عن أبصار الناظرين وتجليه لبصائر المتفكرين. كما ذكر نفس الكلام لكن بعبارة أخرى: أنه سبحانه وتعالى باطن؛ لأنه محتجب عن أبصار الخلق، فهم لا يرونه، فلذلك هو باطن، وهو ظاهر؛ لأنه ظاهر بالأدلة على وجوده ووحدانيته وقدرته وعلمه وحكمته، فهو ظاهر لبصائر وعقول المتفكرين، وهو باطن عن عيون المبصرين، فلا يراه عز وجل أحد في هذه الدنيا. فيكون المعنى: هو العالم بما ظهر من الأمور والمطلع على ما بطن من الغيوب. وقال
الحليمي : الباطن: الذي لا يحس، وإنما يدرك بآثاره وأفعاله عز وجل.
آثار الإيمان باسمي الله عز وجل: (الظاهر والباطن)
أما آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم (الباطن) فهي معرفة أن الله سبحانه وتعالى أعظم الغيب:
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] ، فأعظم الغيب الذي يغيب عن أبصارنا هو الله سبحانه وتعالى. فالغيب هو ما ليس بمحسوس، وإنما يدرك بالحواس دلائل وحدانيته ودلائل قدرته ودلائل وجوده عز وجل، لا كما يلهج به بعض الملاحدة في هذا الزمان من قولهم: حدثونا عن العلم ودعوكم من الغيبيات! بل بعضهم يكون أصرح في إلحاده وزندقته فيعبر عن الغيبيات بقوله: خزعبلات! وهذا يقتضي الكفر، فأعظم غيب على الإطلاق هو الله سبحانه وتعالى؛ لأننا لا نشاهده، ولأنه هو الباطن في هذا المعنى، فالله سبحانه وتعالى أعظم الغيب، محتجب عن الخلق، لا يراه أحد في الدنيا، ولا تدركه الأبصار في الآخرة. وهناك فرق بين أن نقول:
لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] ، وبين إنكار المعتزلة وأشباههم رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة. لأن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، فمثلاً: -ولله المثل الأعلى- أنت إذا نظرت إلى البحر فليس معنى ذلك أنك أدركت البحر، بمعنى: أحطت به علماً، وهو مخلوق! بل أنت لا ترى إلا ما في السطح الظاهر أمامك فقط، فالله سبحانه وتعالى أعظم وأجل وأكبر، قال عز وجل:
وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110] ، ورؤية الله لا تعني الإحاطة به عز وجل ولا تعني إدراكه، وإنما هي رؤية بدون أن يدرك كنهه تبارك وتعالى. فالله تبارك وتعالى أعظم الغيب محتجب عن الخلق، لا يراه أحد في الدنيا ولا تدركه الأبصار في الآخرة، ولا نحيط بشيء من علمه إلا بما شاء لنا أن نعلمه عنه، مما وصف به نفسه في كتابه، أو ما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. وهو سبحانه مع كونه الباطن المحتجب عن أبصارنا، فهو مع ذلك ظاهر لخلقه، بأفعاله وآياته المتلوة والعيانية، كما يقول الشاعر معبراً عن هذا المعنى: تأمل سطور الكائنات فإنهـا من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا