شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [9]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فبعون الله وتوفيقه نواصل درسنا في الفتاوى، ولا زلنا في الحديث عن موضوع حقيقة العبودية، وفي هذا الدرس سنذكر بعض الصور التي تنافي توحيد الإلهية والربوبية.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [اعلم رحمك الله! أن الشرك بالله أعظم ذنب عصي الله به، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم: (سئل أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، والند: المثل. قال تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، وقال تعالى: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر:8]، فمن جعل لله نداً من خلقه فيما يستحقه عز وجل من الإلهية والربوبية فقد كفر بإجماع الأمة.

فإن الله سبحانه هو المستحق للعبادة لذاته؛ لأنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب، وترغب إليه وتفزع إليه عند الشدائد، وما سواه فهو مفتقر مقهور بالعبودية، فكيف يصلح أن يكون إلهاً، قال الله تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ [الزخرف:15]، وقال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، وقال الله تعالى: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172]، وقال تعالى: وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:51]، وقال تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:11].

فالله سبحانه هو المستحق أن يعبد لذاته، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، فذكر (الحمد) بالألف واللام التي تقتضى الاستغراق لجميع المحامد، فدل على أن الحمد كله لله، ثم حصره في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فهذا تفصيل لقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، فهذا يدل على أنه لا معبود إلا الله، وأنه لا يستحق أن يعبد أحد سواه، فقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته من المحبة والخوف والرجاء والأمر والنهى. وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إشارة إلى ما اقتضته الربوبية من التوكل والتفويض والتسليم؛ لأن الرب سبحانه وتعالى هو المالك وفيه أيضاً معنى الربوبية والإصلاح، والمالك الذي يتصرف في ملكه كما يشاء ].

قوله عز وجل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] شملت تحقيق أنواع التوحيد جميعاً، لا سيما وأنها سبقت بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، والحمد للمحمود الذي يستحق الحمد لكماله وجلاله عز وجل، والحمد متضمن لمعاني الكمال ومعاني الألوهية والربوبية؛ لأنه لا يستحق الحمد إلا الكامل في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي ربوبيته وإلهيته، خاصة أيضاً إذا أضيف لها رب العالمين، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، الحمد هو للمحمود سبحانه، ثم قوله: (لله) تشمل الألوهية بالضرورة وتشمل الربوبية بالاستلزام، (رب العالمين) تدخل فيها الربوبية بالضرورة والإلهية بالاستلزام أو بالتضمن.

ثم بعد ذلك أعقبها بقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وبين الشيخ أن هذه الآية قد جمعت جميع الدين؛ لأن إِيَّاكَ نَعْبُدُ تعني: جميع العبودية لله عز وجل، وتحقيق توحيد الإلهية، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ جمعت الأمرين، أي: توحيد الإلهية والربوبية؛ لأن الاستعانة لا تكون إلا بالمعين، والإعانة فعل الله عز وجل، وهو الذي يملك الإعانة مطلقاً، ولا يملك غيره أن يعين العباد من كل وجه، فهو سبحانه له التصرف في الخلق، وبيده مقاليد السماوات والأرض.

فإذاً: هو المعين في ربوبيته وإلهيته، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فجمعت جميع أنواع التوحيد.

معاينة القلب لحقيقة الربوبية والإلهية عند تحقيق معنى الربوبية والألوهية

قال رحمه الله تعالى: [ فإذا ظهر للعبد من سر الربوبية أن الملك والتدبير كله بيد الله تعالى، قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1]، فلا يرى نفعاً ولا ضراً ولا حركة ولا سكوناً ولا قبضاً ولا بسطاً ولا خفضاً ولا رفعاً إلا والله سبحانه وتعالى فاعله وخالقه وقابضه وباسطه ورافعه وخافضه، فهذا الشهود هو سر الكلمات الكونيات، وهو علم صفة الربوبية، والأول هو علم صفة الإلهية، وهو كشف سر الكلمات التكليفيات ].

هذه العبارة الدقيقة فيها استعمال المصطلحات ذات التصور، وكثيراً ما يستعمل شيخ الإسلام رحمه الله هذه المصطلحات خاصة عندما يتحدث عن الأعمال القلبية أو عن بعض الأمور المتعلقة بالإلهية والربوبية، ويبدو لي والله أعلم أنه أراد أن يقرب أهل زمانه الذين ابتلوا بالتصوف أو أكثرهم إلى معاني التوحيد الحقيقية من خلال مصطلحاتهم، فاستعمل رحمه الله هذه المصطلحات استعمالاً صحيحاً، ووجهها توجيهاً صحيحاً بالآيات والنصوص، فكلمة: (الشهود) لم تكن من الكلمات التي يستعملها خلص السلف، وإنما استعملها بعض السلف الذين عندهم نزعة تعبد، لكنهم لم يكونوا من الأئمة الكبار، لكن لما عمت بها البلوى في عهد شيخ الإسلام أراد أن يجر المتصوفة وعامة الناس الذين ينزعون إلى التصوف، والذين انطبعت في أذهانهم هذه المصطلحات إلى فهم المصطلحات الشرعية الحقيقية من خلال استعمال هذه الكلمات، فقوله: (فهذا الشهود) قصده: معاينة الحقيقة معاينة قلبية؛ لأن القلب إذا اكتملت فيه معاني الربوبية فكأنه يشهد الحقيقة ببصيرته، أو هو فعلاً يشهد حقيقة الربوبية ثم الإلهية ببصيرته، فهو قصد بالشهود تحقيق التوكل والتسليم، بحيث إن الإنسان يكون توكله وتسليمه وإذعانه لله عز وجل، وكأنه يشهد هذه الحقيقة على مبدأ الإحسان الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذا لا يكون إلا لتحقيق معنى الإلهية والربوبية في وقت واحد.

وكذلك قوله: (هو سر الكلمات الكونيات)، فالكلمات الكونيات هي التي يكون بها تدبير الكون من الله عز وجل، فيدبر الكون سبحانه بكلماته، وكلماته تكون فيها الربوبية، كما أن من كلماته ما يكون به الوحي والأمر والتشويق.

والكلمات تشمل الكلمات الكونية والكلمات الشرعية، والكلمات الكونية قد تكون بالوحي وقد تكون بما يدبر الله به الكون ومثل: (كن)، فهي من كلام الله عز وجل، لكن ليست من نوع الوحي، فكل ذلك كلمات الله الكونيات التي يكون بها تحقيق التوكل والتسليم؛ لأنها تعني الإذعان بالربوبية لله عز وجل.

وكذا قوله: (وهو كشف سر الكلمات التكليفيات)، فالكلمات التكليفيات هي كلمات الله التي فيها الأمر والنهي والخبر، وهي كلماته بالوحي إلى رسله ومن خلال الكتب المنزلة، فهذا هو النوع الثاني: وهو توحيد الإلهية الذي يتمثل بكشف سر الكلمات التكليفيات التي يكلف الله بها عباده.

إذاً: فتوحيد الربوبية متعلق بالتدبير بالله عز وجل وبكلمات الله الكونية، وتوحيد الألوهية متعلق بالأمر الشرعي والخبر وكلماته التي هي الوحي.

قال رحمه الله تعالى: [فالتحقيق بالأمر والنهي والمحبة والخوف والرجاء يكون عن كشف علم الإلهية، والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم].

قوله: (والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم) شرح لمعنى كلمة: (الشهود) الذي هو سر الكلمات الكونيات، أعني: توحيد الربوبية.

قال رحمه الله تعالى: [والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم يكون بعد كشف علم الربوبية، وهو علم التدبير الساري في الأكوان، كما قال عز وجل: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، فإذا تحقق العبد لهذا المشهد ووفقه لذلك، بحيث لا يحجبه هذا المشهد عن المشهد الأول فهو الفقيه في عبوديته، فإن هذين المشهدين عليهما مدار الدين، فإن جميع مشاهد الرحمة واللطف والكرم والجمال داخل في مشهد الربوبية.

ولهذا قيل: إن هذه الآية جمعت جميع أسرار القرآن: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]؛ لأن أولها اقتضى عبادته بالأمر والنهي، والمحبة والخوف والرجاء كما ذكرنا، وآخرها اقتضى عبوديته بالتفويض والتسليم وترك الاختيار، وجميع العبوديات داخلة في ذلك].

خلاصة مذهب الصوفية في الألوهية والربوبية وحقيقة ضلالهم وسببه

قال رحمه الله تعالى: [ومن غاب عن هذا المشهد وعن المشهد الأول، ورأى قيام الله عز وجل على جميع الأشياء، وهو القيام على كل نفس بما كسبت، وتصرفه فيها وحكمه عليها ].

قوله: (ومن غاب عن هذا المشهد) أي: الربوبية، ثم قال: (وعن المشهد الأول) يقصد الإلهية.

والشيخ يشير بذلك إلى ضلال المتصوفة وجهلهم، وهو رحمه الله تعالى كثيراً ما يبحث لهم عن معاذير؛ لأنه يرى أنهم وقعوا في الضلالة عن جهل.

وخلاصة مذهب هؤلاء أنهم يزعمون أن غاية مطلوبهم الانهماك في توحيد الربوبية، ولذلك استهانوا بتوحيد الإلهية، واستهانوا بالأمر والنهي، حتى زعم كثير منهم أنهم استغنوا بالمشهد الأول عن المشهد الثاني، بمعنى: أنهم حينما وصلوا إلى مرحلة معينة زعموا أنها انكشفت لهم أسرار الكون وانصهروا في القدر والربوبية، ولم يعودوا بحاجة إلى امتثال الأمر والنهي، فتركوا العمل بالشرع، وزعموا أن العمل بالشرع إنما يحتاجه أولئك الذين لم تصل قلوبهم إلى حد هذا المستوى من العبادة والسنة، أو من الانصهار في الربوبية، والعبادات والأوامر والنواهي والتكليفات الشرعية إنما هي للعوام الذين لم يصلوا في العبادة إلى حد انكشاف الأسرار الكونية لهم، أو الانصهار في الربوبية والقدر، وهذا مذهب فلسفي قديم في الديانات الفلسفية، كالديانات الهندية.. وغيرها، فغاية الواحد أن يصل إلى الانصهار في الربوبية، وأن تتحد مشاعره -بزعمه- بل حتى حركاته الإرادية واللاإرادية بالحركات الكونية، ويكون جزءاً من ذرات الكون، وكأنه صار بذلك إلى مستوى ربما يزعم فيه أنه ارتقى عن مستوى الأنبياء، بل أحياناً يزعم فيه أنه اتحد بالخالق تعالى الله عما يزعمون؛ لأن هذا المذهب وصل بهم إلى الاتحاد والحلول ووحدة الوجود، ومن هنا احتقروا دين الأنبياء واحتقروا الشرائع، واحتقروا الأخذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هنا زعم رءوسهم وفلاسفتهم أنهم استغنوا عن الشرع، وأن غاية من يصل إلى هذا المستوى هو أن يكون حقق مشهد الربوبية والانصهار في القدر، فلذلك قالوا: بالجبر، ولذلك قالوا: بالاستغناء عن الشرع، ولذلك احتقروا دين الأنبياء، ولذلك تركوا الأوامر والنواهي واستباحوا لأنفسهم ترك فرائض الله، والإعراض عن دين الله عز وجل، فالشيخ يقول: (ومن غاب عن هذا المشهد)، يعني: الربوبية، (وعن المشهد الأول)، يعني: الإلهية. ثم أكمل الكلام واتضح بعد ذلك.

قال رحمه الله: [ ومن غاب عن هذا المشهد وعن المشهد الأول، ورأى قيام الله عز وجل على جميع الأشياء، وهو القيام على كل نفس بما كسبت، وتصرفه فيها وحكمه عليها، فرأى الأشياء كلها منه صادرة عن نفاذ حكمه، وإرادته القدرية، فغاب بما لاحظ عن التمييز والفرق، وعطل الأمر والنهى والنبوات، ومرق من الإسلام مروق السهم من الرمية ].

قوله: (فغاب بما لاحظ) هذا أيضاً من تعبيرات الصوفية، لكنه رد عليهم بعبارات يفهموها، ومعنى العبارة: فغاب بما لاحظ عن التمييز والفرق بين الربوبية والإلهية، وبين ما هو مطلوب من العبد وما ليس بمطلوب، وبين ما أمر الله به وما لم يأمر به، وأهم ذلك التفريق بين حقيقة الربوبية وحقيقة الإلهية، ولذلك لما لم يلاحظ التمييز والفرق تعطل الأمر والنهي؛ لأنه بزعمه أنه بالتحنث أو بالإقرار بالربوبية والمبالغة فيها لم يعد يحتاج إلى اعتبار الأمر والنهي والنبوات.

ثم قال: (ومرق من الإسلام مروق السهم من الرمية) يقصد بذلك غلاة المتصوفة الفلاسفة، وغلاة المتصوفة فلاسفة، كما أن غلاة الفلاسفة متصوفة، فالتلازم بينهم هو الغالب أمثال: الحلاج والكندي وابن الفارض والفارابي وابن رشد الأول، لكن ابن رشد لم يصل إلى هذه الدرجة إنما مال إليها ثم تركها، وكذلك ابن سبعين والسهروردي المقتول وابن عربي الطائي ومن سلك سبيلهم.

وكل هؤلاء قد ادعى هذه الدرجة، لكنهم يتفاوتون في التعبير عنها، ويتفاوتون في النزعة الفلسفية التي وصلوا بها -بزعمهم- إلى هذه المرحلة، ثم بعد ذلك منهم من استغنى عن العمل بالأمر والنهي، وأنهم ليسوا بحاجة لما جاء عن الأنبياء، ولذلك ادعى كثير منهم لنفسه أو لغيره -كل هؤلاء الذين ذكرتهم- أنه فاق مستوى الأنبياء كما صرح ابن عربي .. وغيره.

اعتذار شيخ الإسلام لهفوات بعض رموز الصوفية

قال رحمه الله تعالى: [ وإن كان ذلك المشهد ]، يعني: مشهد الربوبية.

ثم قال رحمه الله: [ قد أدهشه وغيب عقله؛ لقوة سلطانه الوارد، وضعف قوة البصيرة أن يجمع بين المشهدين، فهذا معذور منقوص إلا من جمع بين المشهدين: الأمر الشرعي، ومشهد الأمر الكوني الإرادي، وقد زلت في هذا المشهد أقدام كثير من السالكين، لقلة معرفتهم بما بعث الله به المرسلين ].

قوله: (فهذا معذور منقوص) كثيراً ما يقولها رحمه الله في طوائف من هؤلاء، وأحياناً يشير بها إلى أشخاص معينين، أمثال التستري والبسطامي وابن أبي الحواري.. وأمثالهم، والجنيد وإن كان ليس له صفحات كبيرة، لكنه قد مال إلى هذا الاتجاه، بينما التستري والبسطامي وابن أبي الحواري ومن سلك سبيلهم أصحاب هفوات كبيرة، وهؤلاء هم الذين يعبر عنهم الشيخ أحياناً بأن فيهم معذوراً منقوصاً، والشيخ رحمه الله يفسر ما يحدث منهم من ترهات؛ لأنهم يدعون هذا الدعاوى، يدعون أنهم يستغنون بالربوبية عن الإلهية، لكن من حيث العمل فإنهم يعملون بالشرع، ولا أدري هل هذه حقيقة فقهية؟ الله أعلم بحالها، لكن الشاهد هنا أو الذي يهمنا هو عندما نتأمل فيما أسند إليهم من أقوال وأفعال نجد فيها كفراً تتعلق بهذا المفهوم الذي ذكره الشيخ، وهو أنهم يسعون إلى شهود الربوبية ويبالغون فيها، ويستهينون معها بكثير من الشرائع، كالجماعات والجمعات، واستهانوا بالجهاد، واستهانوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخذلوا عن طلب العلم وعن طلب الحديث، وجاءت منهم كلمات تدل على أنهم قد يتلقون من مصادر غير المصادر الشرعية، وعن أهل الكتاب وعن غيرهم، أو عن مجاهيل أو عن أنفسهم، أو أنه بالتأمل ترد إليهم خواطر يصفونها بما لا يوصف به إلا الوحي.

فالشيخ رحمه الله يقول في مثل هؤلاء: بأنهم معذورون! ولا أدري ما وجه اعتذار الشيخ لهم؟! وإن كان قد فسره أحياناً فقال: بأنه تعتريهم حالات معينة وهو ما نصفها الآن بالهستيريا، من شدة الانقطاع والتعبد، ومن شدة الجوع والسهر، فيكون الواحد منهم عنده شيء من الاضطراب والهسترة، فيتكلم بما لا يعلم، بل قد يتكلم أحياناً بالكفريات، مع أن كلهم قد تكلموا بالكفريات، كأن يقول أحدهم: إنه لا يبالي بالنار! أو يقول لليهود: لا عليكم سأحجبكم من النار! أو أمنعكم من النار! أو أعطيكم إياها! أو يقول: النار ما هي إلا أن أنصب عليها خيمة فتنطفئ، ومثل هذه الكلمات الكفرية.

فـشيخ الإسلام يعتذر لهؤلاء، وهذا معنى قوله: فهذا معذور لجهله فيما يبدو، أو لأنه غلبت عليه العبادة حتى قال هذا أو تكلم الشيطان على لسانه، ثم قال: إنه منقوص، يعني: إن في كلامه ضلالة، النقص هنا نقص الضلالة.

وأعتذر عن استكمال الفائدة، وهذا مما ينبغي أن يعنى به الباحثون؛ لأنه زلات أقدام، وهؤلاء العباد المتأخرون في القرن الثالث وما بعده الذي نزع عنده هذه النزعات يكون عندهم -أحياناً- نوع من الخروج عن مقتضى الشريعة بكلمات صعبة، وأيضاً أحياناً قد تصدر منهم أعمال وتصرفات هي أقرب إلى الكفر والإلحاد، فهل يعقل أنه بمجرد اختلال العقل يجعل هذا الشخص يتكلم بكفر مقنن معروف مشهود عند اليونان والصابئة والفرس والمجوس، كفرياتهم التي قالوا بها هي مظاهر موجودة في الأمم الضالة، فكيف وصلت إليهم، ثم تكلموا بها في حالات يزعمون أنهم لا يسيطرون على عقولهم، وأنه قد ضاعت عنهم عقولهم، ولذلك عذروا أمام القضاء وأمام بعض الولاة؛ لأن ظاهر الأمر في ذلك الوقت أن هؤلاء لا يتكلمون إلا في حالات تعتريهم فيها الهسترة.

أقول: قد يكون هذا، وقد يتكلم الشيطان على ألسنتهم، لكن هل يعقل أن يأتي بأصول مقننة راقية على مستوى فيه التفكير والتعبيرات الفلسفية والمذهبية المعروفة عند الأمم؟ هذا أمر قد لا يتأتى إلا لمن أشرب في قلبه -والله أعلم- هذه الأمور ثم أعلنها.

أيضاً هذه من المسائل التي تحتاج إلى بحث، وأظن أني أكثر من مرة أعرض هذا الموضوع، وأرى أنه من الواجب التثبت والبحث فيه؛ لأن موضوع العباد من الموضوعات الخطيرة التي يرتكز عليها أهل البدع إلى يومنا هذا، بل أعظم شبهة عند أصحاب الطرق الصوفية وأصحاب المذاهب الفلسفية والإلحادية أن هؤلاء سلف لهم، وأن هؤلاء رضي عنهم السلف، هذه تحتاج إلى تحقيق.

لكن يبقى أيضاً أمر آخر أنبه عليه لمن يريد أن يبحث، ألا وهو أن كثيراً من المبتدعين قد يكون من المكذوب عليهم، وهذا مما أشار إليه شيخ الإسلام أكثر من مرة، يعني: عندما يجد أن المسألة ليس فيها مجال للدفاع، يقول: ونشك أن هذا مما ينسب إلى فلان، أو لعله لا يثبت عنه، فهذه أمور عن أمة سلفت، والمفروض أننا لا نفتش عن مصائر هؤلاء العباد وأمرهم إلى الله عز وجل، لكن لما كانت مناهجهم وزلاتهم هذه ركائز ومرتكزات لأهل البدع والأهواء إلى يومنا هذا يتكئون عليها كان لابد من بحثها وتحقيقها، بصرف النظر عمن قالوا بها، وبغض النظر هل يجرّمون أو لا يجرّمون؟ هذا أمر آخر قد يصل إليه الباحث بيقين وقد لا يصل، إنما ينبغي أن يصل إلى تنقية منهج السلف ومناهج الحق عن هذه الأساليب والترهات والمصطلحات.

وأعود فأقول: استعمال شيخ الإسلام لهذه المصطلحات لعله أراد أن يقرب أتباع هؤلاء والمعجبين بهم إلى الحق من خلال استعمال مصطلحاتهم، ولعله أيضاً ليكون ذلك مدخلاً لتطهير نفوس من يقدسونهم أو يقدرونهم لعلهم يقبلون الحق من خلال هذا العرض، والله أعلم بالحال.

قال رحمه الله تعالى: [ وقد زلت في هذا المشهد أقدام كثير من السالكين، لقلة معرفتهم بما بعث الله به المرسلين؛ وذلك لأنهم عبدوا الله على مرادهم منه ].

قوله: (مرادهم منه)، أي: العبودية.

قال رحمه الله تعالى: [ ففنوا بمرادهم عن مراد الحق عز وجل منهم؛ لأن الحق يغني بمراده ومحبوبه ].

إن مراد الحق هو عبادة الله عز وجل، يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، لكن نجد أنهم قد غفلوا عن هذا المراد، وغفلتهم أدت إلى وقوعهم في الكفر والشرك، وليس ذلك فقط زلة علمية وزلة اعتقادية كما يظن بعض الناس، بل هي زلة عملية كبيرة، وذلك حينما ظنوا أن مرادهم هو المطلوب، وهو تحقيق العبودية والإذعان لله عز وجل، وقوة التوكل عليه، وقوة الاعتماد عليه، والتفضيل والتسليم والانصهار في القدر والربوبية، وظنوا أن هذه هي الغاية، ونسوا الغاية الكبرى التي هم مطالبون بها، والمترتبة على الغاية الأولى، أعني: عبادته عز وجل، ففنوا بمرادهم أو اهتموا بمرادهم عن مراد الله عز وجل، أي: بمراده الذي هو تحقيق الربوبية عن مراد الله الذي هو تحقيق العبادة.

قال رحمه الله تعالى: [ولو عبدوا الله على مراده منهم لم ينلهم شيء من ذلك؛ لأن العبد إذا شهد عبوديته ولم يكن مستيقظاً لأمر سيده لا يغيب بعبادته عن معبوده، ولا بمعبوده عن عبادته، بل تكون له عينان ينظر بأحدهما إلى المعبود كأنه يراه، كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، والأخرى ينظر بها إلى أمر سيده، ليوقعه على الأمر الشرعي الذي يحبه مولاه ويرضاه].

أنواع الشرك الذي يكفر به صاحبه

قال رحمه الله تعالى: [فإذا تقرر هذا فالشرك إن كان شركاً يكفر به صاحبه وهو نوعان:

شرك في الإلهية، وشرك في الربوبية

فأما الشرك في الإلهية فهو أن يجعل لله نداً، أي: مثلاً في عبادته أو محبته أو خوفه أو رجائه أو إنابته، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، وهذا هو الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب؛ لأنهم أشركوا في الإلهية، قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165].. الآية، وقالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، وقالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، وقال تعالى: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق:24] إلى قوله: الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ [ق:26].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـحصين : (كم تعبد؟ قال: ستة في الأرض، وواحداً في السماء، قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء، قال: ألا تسلم فأعلمك كلمات؟ فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قل: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي).

وأما الربوبية فكانوا مقرين بها، قال الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، وقال: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون:84-85] إلى قوله: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون:89]، وما اعتقد أحد منهم قط أن الأصنام هي التي تنزل الغيث، وترزق العالم وتدبره، وإنما كان شركهم كما ذكرنا، اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، وهذا المعنى يدل على أن من أحب شيئاً من دون الله كما يحب الله تعالى فقد أشرك، وهذا كقوله: قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97-98]، وكذا من خاف أحداً كما يخاف الله، أو رجاه كما يرجو الله.. وما أشبه ذلك.

وأما النوع الثاني: فالشرك في الربوبية، فإن الرب سبحانه هو المالك المدبر، المعطي المانع، الضار النافع، الخافض الرافع، المعز المذل، فمن شهد أن المعطي أو المانع، أو الضار أو النافع، أو المعز أو المذل غيره، فقد أشرك بربوبيته ].

الشركان متلازمان في أفعال العباد؛ لأن الذي يشرك في الإلهية لابد أن يقع منه شرك في الربوبية، فإذا عبدوا غير الله طلبوا من غير الله واستمدوا العون من غير الله، فهم توهموا أنه قد يكون للمعبود من دون الله منع أو إعطاء.. وهكذا، ولذا فإذا حدث الشرك في الإلهية فالغالب أنه يجر إلى الشرك في الربوبية، وكذلك العكس، فهما متلازمان، والفروق بين الأمرين إنما هي فروق علمية، وأما من الناحية العملية فيندر أن من يشرك بالربوبية يسلم من شرك الإلهية، وكذلك العكس، بل لا يمكن أن يكون شرك في الإلهية إلا ويستتبعه شرك في الربوبية.

لكن الفارق بينهما: أن موضوع الربوبية متعلق بالتدبير وأفعال الله عز وجل، أي: أن كل ما يتعلق بأفعال الله وتدبيره يسمى ربوبية، ومن ذلك أن أسماءه وصفاته.. وغير ذلك مما يتعلق بالأفعال والتدبير هي أقرب إلى الربوبية، ومع ذلك قد يكون فيها جوانب الربوبية، وأما الإلهية فهو كل ما يتعلق بتوجه القلب والجوارح إلى الله عز وجل، وهذا بالنسبة للمسلم، وأما الشرك فيتوجه إلى الأصنام.

إذاً: فالتوجه في التعبد هو توحيد الإلهية، أي: توجه العباد إلى الغني هو توحيد الإلهية، فإن ألهوا الله عز وجل فقد حققوا التوحيد، وإن توجهوا إلى غير الله وعبدوا غير الله فقد طلبوا من غير الله، ويكون ذلك شرك في الإلهية.

كيفية التخلص من الشرك في الربوبية

قال رحمه الله تعالى: [ولكن إذا أراد التخلص من هذا الشرك، فلينظر إلى المعطي الأول مثلاً، فيشكره على ما أولاه من النعم، وينظر إلى من أسدى إليه المعروف فيكافئه عليه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له، حتى تروا أنكم قد كافأتموه)؛ لأن النعم كلها لله تعالى كما قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53]، وقال تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ [الإسراء:20]، فالله سبحانه هو المعطي على الحقيقة، فإنه هو الذي خلق الأرزاق وقدرها وساقها إلى من يشاء من عباده، فالمعطي هو الذي أعطاه وحرك قلبه لعطاء غيره، فهو الأول والآخر.

ومما يقوي هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لـابن عباس رضي الله عنهما: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، قال الترمذي : هذا حديث صحيح.

فهذا يدل على أنه لا ينفع في الحقيقة إلا الله، ولا يضر غيره، وكذا جميع ما ذكرنا في مقتضى الربوبية.

فمن سلك هذا المسلك العظيم استراح من عبودية الخلق ونظره إليهم، وأراح الناس من لومه وذمه إياهم، وتجرد التوحيد في قلبه، فقوي إيمانه، وانشرح صدره، وتنور قلبه، ومن توكل على الله فهو حسبه، ولهذا قال الفضيل بن عياض رحمه الله: من عرف الناس استراح. يريد والله أعلم: أنهم لا ينفعون ولا يضرون].

كيفية التخلص من الشرك الخفي

قال رحمه الله تعالى: [وأما الشرك الخفي: فهو الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه، مثل: أن يحب مع الله غيره

فإن كانت محبته لله مثل حب النبيين والصالحين، والأعمال الصالحة فليست من هذا الباب؛ لأن هذه تدل على حقيقة المحبة؛ لأن حقيقة المحبة أن يحب المحبوب وما أحبه، ويكره ما يكرهه، ومن صحت محبته امتنعت مخالفته؛ لأن المخالفة إنما تقع لنقص المتابعة، ويدل على نقص المحبة قول الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].. الآية، فليس الكلام في هذا، إنما الكلام في محبة تتعلق بالنفوس لغير الله تعالى، فهذا لا شك أنه نقص في توحيد المحبة لله، وهو دليل على نقص محبة الله تعالى، إذ لو كملت محبته لم يحب سواه.

ولا يرد علينا الباب الأول؛ لأن ذلك داخل في محبته، وهذا ميزان لم يجر عليك، كلما قويت محبة العبد لمولاه، صغرت عنده المحبوبات وقلّت، وكلما ضعفت كثرت محبوباته وانتشرت.

وكذا الخوف والرجاء.. وما أشبه ذلك، فإن كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئاً سواه، قال الله تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب:39]، وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق، وعلى قدر نقص الخوف وزيادته يكون الخوف كما ذكرنا في المحبة، وكذا الرجاء.. وغيره، فهذا هو الشرك الخفي الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه إلا من عصمه الله تعالى، وقد روي: (أن الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل).

وطريق التخلص من هذه الآفات كلها: الإخلاص لله عز وجل، قال الله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، ولا يحصل الإخلاص إلا بعد الزهد، ولا زهد إلا بالتقوى، والتقوى متابعة الأمر والنهى ].

هذه في الحقيقة نصيحة ذهبية جليلة وعظيمة، وقد أوجزها الشيخ في أربع كلمات، وحبذا لو تأملناها وتأملنا أيضاً لوازمها، قال رحمه الله: (ولا يحصل الإخلاص إلا بالزهد) هذه حقيقة نسيها كثير من الناس خاصة في عصرنا الذي تكاثرت فيه على الناس أسباب الدنيا وبهرجها، حتى أعمت أبصارهم وبصائرهم عن الزهد، وإن المتأمل يجد أن حقيقة الزهد في العباد نادر وعزيز جداً، ومن هنا نفسر أسباب وكثرة شكاوى الناس من قسوة القلوب، وعدم التأثر بآيات الله عز وجل المقروءة والمنظورة والمسموعة، كما نفسر ما يحدث لكثير من الناس من سرعة التفلت، وسرعة التغير في أحوال الناس فيما بينهم، وقبل ذلك مع ربهم عز وجل.

والذي نخصه هو ما يحدث كثيراً بين الناس من الشحناء، وسرعة المنازعة بين أهل الخير، وسرعة الخلاف والفرقة، وما يحدث من تباعد بين الناس في مذاهبهم وفي مقاصدهم وفي غاياتهم وفي اتجاهاتهم؛ لأن الناس كثير منهم يتوخى الإخلاص، لكن ما فعل السبب وهو الزهد، والزهد الذي يعين على الورع يحتاج إلى مجاهدة عظيمة في هذه الدنيا، يعني: كثير من الناس قد يتحرى الزهد، ويجاهد للحصول عليه، لكن عندما يأتي الدنيا وبهرجها، وضغوط المجتمع على الإنسان -أعني: على سمعه وبصره- يشده ذلك إلى عدم الزهد وعدم الورع، ثم إن الزهد يوجب على كل واحد منا أن يفتش عن نفسه إذا كان فعلاً ينشد الزهد والورع، وليعرف أنه لا يحصل على الزهد والورع إلا بالتقوى والمراقبة لله عز وجل، وألا يعمل شيئاً حتى يعلم أنه مما يرضي الله عز وجل، وليتحرى كل التحري من كل ما يغضب الله عز وجل، وليتحرى من المشتبهات التي كثرت على الناس، ويظهر لي أن المشتبهات الآن على المسلمين أكثر من أي زمن مضى في كل الأمور، وليس فقط في الأكل والشرب، بل حتى في الأفكار والمفاهيم والمعاملات، حتى فيما يتعلق بتعامل المسلمين مع غيرهم، وكتعاملهم مع الأشياء والمناهج والأصول والأفكار والأكل والشرب ووسائل الدنيا ووسائل الحياة وغيرها، هذا وقد أصبحت المشتبهات أكثر بكثير من الأمور المحررة بالبينة، وهذه بحد ذاتها فتنة عظيمة، ولأن أعظم أسبابها: انفتاح المسلمين على غيرهم، واختلاط الدنيا بعضها ببعض فهيمنت مناهج ووسائل الكفار على وسائل المسلمين، وجعلت المشتبه هو الأكثر، فلذلك الزهد عزيز، والزهد صعب، لكن من يتق الله يجعل له مخرجاً.

ثم قال: (والتقوى متابعة الأمر النهي)، أي: أن التقوى لابد أن تكون تابعة للأمر والنهي.

إذاً: فهذه في الحقيقة وصايا وقواعد تهدف من توخاها وفهمها بأصولها الشرعية وبأدلتها، وعمل مخلصاً جاهداً إلى أن يتوصل إلى الإخلاص لله عز وجل.

قال رحمه الله تعالى: [ فإذا ظهر للعبد من سر الربوبية أن الملك والتدبير كله بيد الله تعالى، قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1]، فلا يرى نفعاً ولا ضراً ولا حركة ولا سكوناً ولا قبضاً ولا بسطاً ولا خفضاً ولا رفعاً إلا والله سبحانه وتعالى فاعله وخالقه وقابضه وباسطه ورافعه وخافضه، فهذا الشهود هو سر الكلمات الكونيات، وهو علم صفة الربوبية، والأول هو علم صفة الإلهية، وهو كشف سر الكلمات التكليفيات ].

هذه العبارة الدقيقة فيها استعمال المصطلحات ذات التصور، وكثيراً ما يستعمل شيخ الإسلام رحمه الله هذه المصطلحات خاصة عندما يتحدث عن الأعمال القلبية أو عن بعض الأمور المتعلقة بالإلهية والربوبية، ويبدو لي والله أعلم أنه أراد أن يقرب أهل زمانه الذين ابتلوا بالتصوف أو أكثرهم إلى معاني التوحيد الحقيقية من خلال مصطلحاتهم، فاستعمل رحمه الله هذه المصطلحات استعمالاً صحيحاً، ووجهها توجيهاً صحيحاً بالآيات والنصوص، فكلمة: (الشهود) لم تكن من الكلمات التي يستعملها خلص السلف، وإنما استعملها بعض السلف الذين عندهم نزعة تعبد، لكنهم لم يكونوا من الأئمة الكبار، لكن لما عمت بها البلوى في عهد شيخ الإسلام أراد أن يجر المتصوفة وعامة الناس الذين ينزعون إلى التصوف، والذين انطبعت في أذهانهم هذه المصطلحات إلى فهم المصطلحات الشرعية الحقيقية من خلال استعمال هذه الكلمات، فقوله: (فهذا الشهود) قصده: معاينة الحقيقة معاينة قلبية؛ لأن القلب إذا اكتملت فيه معاني الربوبية فكأنه يشهد الحقيقة ببصيرته، أو هو فعلاً يشهد حقيقة الربوبية ثم الإلهية ببصيرته، فهو قصد بالشهود تحقيق التوكل والتسليم، بحيث إن الإنسان يكون توكله وتسليمه وإذعانه لله عز وجل، وكأنه يشهد هذه الحقيقة على مبدأ الإحسان الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذا لا يكون إلا لتحقيق معنى الإلهية والربوبية في وقت واحد.

وكذلك قوله: (هو سر الكلمات الكونيات)، فالكلمات الكونيات هي التي يكون بها تدبير الكون من الله عز وجل، فيدبر الكون سبحانه بكلماته، وكلماته تكون فيها الربوبية، كما أن من كلماته ما يكون به الوحي والأمر والتشويق.

والكلمات تشمل الكلمات الكونية والكلمات الشرعية، والكلمات الكونية قد تكون بالوحي وقد تكون بما يدبر الله به الكون ومثل: (كن)، فهي من كلام الله عز وجل، لكن ليست من نوع الوحي، فكل ذلك كلمات الله الكونيات التي يكون بها تحقيق التوكل والتسليم؛ لأنها تعني الإذعان بالربوبية لله عز وجل.

وكذا قوله: (وهو كشف سر الكلمات التكليفيات)، فالكلمات التكليفيات هي كلمات الله التي فيها الأمر والنهي والخبر، وهي كلماته بالوحي إلى رسله ومن خلال الكتب المنزلة، فهذا هو النوع الثاني: وهو توحيد الإلهية الذي يتمثل بكشف سر الكلمات التكليفيات التي يكلف الله بها عباده.

إذاً: فتوحيد الربوبية متعلق بالتدبير بالله عز وجل وبكلمات الله الكونية، وتوحيد الألوهية متعلق بالأمر الشرعي والخبر وكلماته التي هي الوحي.

قال رحمه الله تعالى: [فالتحقيق بالأمر والنهي والمحبة والخوف والرجاء يكون عن كشف علم الإلهية، والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم].

قوله: (والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم) شرح لمعنى كلمة: (الشهود) الذي هو سر الكلمات الكونيات، أعني: توحيد الربوبية.

قال رحمه الله تعالى: [والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم يكون بعد كشف علم الربوبية، وهو علم التدبير الساري في الأكوان، كما قال عز وجل: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، فإذا تحقق العبد لهذا المشهد ووفقه لذلك، بحيث لا يحجبه هذا المشهد عن المشهد الأول فهو الفقيه في عبوديته، فإن هذين المشهدين عليهما مدار الدين، فإن جميع مشاهد الرحمة واللطف والكرم والجمال داخل في مشهد الربوبية.

ولهذا قيل: إن هذه الآية جمعت جميع أسرار القرآن: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]؛ لأن أولها اقتضى عبادته بالأمر والنهي، والمحبة والخوف والرجاء كما ذكرنا، وآخرها اقتضى عبوديته بالتفويض والتسليم وترك الاختيار، وجميع العبوديات داخلة في ذلك].

قال رحمه الله تعالى: [ومن غاب عن هذا المشهد وعن المشهد الأول، ورأى قيام الله عز وجل على جميع الأشياء، وهو القيام على كل نفس بما كسبت، وتصرفه فيها وحكمه عليها ].

قوله: (ومن غاب عن هذا المشهد) أي: الربوبية، ثم قال: (وعن المشهد الأول) يقصد الإلهية.

والشيخ يشير بذلك إلى ضلال المتصوفة وجهلهم، وهو رحمه الله تعالى كثيراً ما يبحث لهم عن معاذير؛ لأنه يرى أنهم وقعوا في الضلالة عن جهل.

وخلاصة مذهب هؤلاء أنهم يزعمون أن غاية مطلوبهم الانهماك في توحيد الربوبية، ولذلك استهانوا بتوحيد الإلهية، واستهانوا بالأمر والنهي، حتى زعم كثير منهم أنهم استغنوا بالمشهد الأول عن المشهد الثاني، بمعنى: أنهم حينما وصلوا إلى مرحلة معينة زعموا أنها انكشفت لهم أسرار الكون وانصهروا في القدر والربوبية، ولم يعودوا بحاجة إلى امتثال الأمر والنهي، فتركوا العمل بالشرع، وزعموا أن العمل بالشرع إنما يحتاجه أولئك الذين لم تصل قلوبهم إلى حد هذا المستوى من العبادة والسنة، أو من الانصهار في الربوبية، والعبادات والأوامر والنواهي والتكليفات الشرعية إنما هي للعوام الذين لم يصلوا في العبادة إلى حد انكشاف الأسرار الكونية لهم، أو الانصهار في الربوبية والقدر، وهذا مذهب فلسفي قديم في الديانات الفلسفية، كالديانات الهندية.. وغيرها، فغاية الواحد أن يصل إلى الانصهار في الربوبية، وأن تتحد مشاعره -بزعمه- بل حتى حركاته الإرادية واللاإرادية بالحركات الكونية، ويكون جزءاً من ذرات الكون، وكأنه صار بذلك إلى مستوى ربما يزعم فيه أنه ارتقى عن مستوى الأنبياء، بل أحياناً يزعم فيه أنه اتحد بالخالق تعالى الله عما يزعمون؛ لأن هذا المذهب وصل بهم إلى الاتحاد والحلول ووحدة الوجود، ومن هنا احتقروا دين الأنبياء واحتقروا الشرائع، واحتقروا الأخذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هنا زعم رءوسهم وفلاسفتهم أنهم استغنوا عن الشرع، وأن غاية من يصل إلى هذا المستوى هو أن يكون حقق مشهد الربوبية والانصهار في القدر، فلذلك قالوا: بالجبر، ولذلك قالوا: بالاستغناء عن الشرع، ولذلك احتقروا دين الأنبياء، ولذلك تركوا الأوامر والنواهي واستباحوا لأنفسهم ترك فرائض الله، والإعراض عن دين الله عز وجل، فالشيخ يقول: (ومن غاب عن هذا المشهد)، يعني: الربوبية، (وعن المشهد الأول)، يعني: الإلهية. ثم أكمل الكلام واتضح بعد ذلك.

قال رحمه الله: [ ومن غاب عن هذا المشهد وعن المشهد الأول، ورأى قيام الله عز وجل على جميع الأشياء، وهو القيام على كل نفس بما كسبت، وتصرفه فيها وحكمه عليها، فرأى الأشياء كلها منه صادرة عن نفاذ حكمه، وإرادته القدرية، فغاب بما لاحظ عن التمييز والفرق، وعطل الأمر والنهى والنبوات، ومرق من الإسلام مروق السهم من الرمية ].

قوله: (فغاب بما لاحظ) هذا أيضاً من تعبيرات الصوفية، لكنه رد عليهم بعبارات يفهموها، ومعنى العبارة: فغاب بما لاحظ عن التمييز والفرق بين الربوبية والإلهية، وبين ما هو مطلوب من العبد وما ليس بمطلوب، وبين ما أمر الله به وما لم يأمر به، وأهم ذلك التفريق بين حقيقة الربوبية وحقيقة الإلهية، ولذلك لما لم يلاحظ التمييز والفرق تعطل الأمر والنهي؛ لأنه بزعمه أنه بالتحنث أو بالإقرار بالربوبية والمبالغة فيها لم يعد يحتاج إلى اعتبار الأمر والنهي والنبوات.

ثم قال: (ومرق من الإسلام مروق السهم من الرمية) يقصد بذلك غلاة المتصوفة الفلاسفة، وغلاة المتصوفة فلاسفة، كما أن غلاة الفلاسفة متصوفة، فالتلازم بينهم هو الغالب أمثال: الحلاج والكندي وابن الفارض والفارابي وابن رشد الأول، لكن ابن رشد لم يصل إلى هذه الدرجة إنما مال إليها ثم تركها، وكذلك ابن سبعين والسهروردي المقتول وابن عربي الطائي ومن سلك سبيلهم.

وكل هؤلاء قد ادعى هذه الدرجة، لكنهم يتفاوتون في التعبير عنها، ويتفاوتون في النزعة الفلسفية التي وصلوا بها -بزعمهم- إلى هذه المرحلة، ثم بعد ذلك منهم من استغنى عن العمل بالأمر والنهي، وأنهم ليسوا بحاجة لما جاء عن الأنبياء، ولذلك ادعى كثير منهم لنفسه أو لغيره -كل هؤلاء الذين ذكرتهم- أنه فاق مستوى الأنبياء كما صرح ابن عربي .. وغيره.