شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [11]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فبعون الله وتوفيقه نستأنف دروسنا في مجموع الفتاوى المجلد الأول، وسيكون موضوع هذا الدرس متعلق بنوع من أنواع العبودية، ألا وهو الاستعانة وعلاقتها بالاستغاثة، وهل بين الاستعانة والاستغاثة فرق أم لا؟

وبيان ما ينافي التوحيد أو ما ينافي كمال التوحيد في صورتي الاستغاثة والاستعانة بغير الله عز وجل.

ومنشأ جواب شيخ الإسلام عن سؤال طويل تضمَّن بعض الإشكالات والجواب عليها، والعجيب أن السؤال يبدو أنه من عالم أو طالب علم متمكن كما سترون، ولذلك كان أحياناً يعرض السؤال عرض الفاهم، وأحياناً عرض المستفهم، وأحياناً يتضمَّن السؤال بعض الجواب.

قال رحمه الله تعالى: [سئل الشيخ رحمه الله عمن قال: يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث الله تعالى فيه، على معنى أنه وسيلة من وسائل الله تعالى في طلب الغوث، وكذلك يستغاث بسائر الأنبياء والصالحين في كل ما يستغاث الله تعالى فيه].

هذه الفقرة قد تضمَّنت شبهة فيها غموض أثرت في مفهوم كثير من الناس قديماً وحديثاً بعد القرون الثلاثة الفاضلة، بينما قبل القرون الثلاثة لم يكن هذا من الإشكالات، حتى إن بعض العلماء التبس عليه الأمر، فأجاب بما يخل بالتوحيد، وهذه المسألة هي الاستعانة والاستغاثة بالمخلوق عموماً، وبالنبي صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص، فهل هي وسيلة مباحة أو غير مباحة؟ أو اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم وسيطاً في دعاء الرب عز وجل، ويسمونه: الوسيلة.

لذا فأقول: إن هذه المسألة عند التحقيق -بصرف النظر عن جزئياتها وفروعها- نجد أنها من الشركيات الصريحة في أصلها، لكن قد يختلف الناس في المفاهيم، وقد يجهل بعض الناس أنها شركية، وربما يبدع هذا النوع، أعني: اتخاذ الواسطة بين الله عز وجل وبين المخلوق، أياً كانت هذه الواسطة من المخلوقات، فإن ذلك شرك.

والصورة المباحة منه لا تسمى في الحقيقة واسطة بالمخلوق، وأعني بالصورة: كون الإنسان يتخذ أعماله الصالحة وسيلة عند الله عز وجل، فهذا في الحقيقة هو محض العبادة الحقة، والأعمال الصالحة وسيلة عند الله عز وجل؛ وهي بذاتها مطلوبة من الله، وهي بذاتها موجهة إلى الله عز وجل.

ودعوى بعض الناس: أن الدعاء صار واسطة أو وسيلة هو في الحقيقة عبث بالألفاظ، أو أنها أعمال صالحة قصد بها وجه الله، فالأعمال الصالحة التي يعملها الإنسان لوجه الله عز وجل هي من الوسيلة؛ لأنها في حد ذاتها عبادة، لكن لم يتخذ المخلوق فيها واسطة بينه وبين الله، وإنما عبد الله بنفسه، أعني: عبده بدعائه، عبده بالعمل الصالح المخلص، عبده بالنية الصالحة، فهذه هي العبادة في الحقيقة.

وتسميتها الوسيلة فيها نوع من العبث

كذلك ما أبيح من طلب دعاء الرجل الصالح، وهو أكثر إشكالاً، وهو الذي اتخذه كثير من المبتدعة ذريعة للشرك، إذ إن طلب الدعاء من الرجل الصالح من الوسيلة المباحة، ولم يكن في هذه الصورة عند التحقيق اتخاذ العبد ذلك الإنسان الصالح واسطة بينه وبين الله.

فالعبد الصالح ليس هو بذاته واسطة، وإنما هذا الإنسان طلب من رجل صالح آخر أن يدعو له، فكانت الصورة الحقيقية أن ذلك الرجل الداعي طلب من الله مباشرة، وعلى هذا فيكون طالب الدعاء توجه بقلبه إلى الله ليستجيب دعاء ذلك الرجل الآخر.

وهذه لولا أنها توقيفية لكانت على القياس العام لا تصح؛ لكن نظراً لأنها جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقرها، وعمل بها وعمل بها الصحابة، لكانت من المتشابهات على الأقل، لكن لما أقرت شرعاً عرفنا وجه إقرارها، وهو: أن الإنسان الذي طلب من الرجل الصالح لم يطلبه بذاته، وإنما طلب دعاءه، فصارت الوسيلة هي أن ذلك الداعي دعا الله مباشرة، والطالب للدعاء طلب من الله أن يستجيب دعاء ذلك الداعي، أو رجا من الله وتعلق قلبه بالله في أن يستجيب دعاء ذلك الرجل الصالح، فهذه صورة تختلف عن بقية الصور المشتبهة التي ستأتي من خلال هذا السؤال.

لذا فينبغي تحرير هذه المسألة والرجوع فيها إلى كتب أهل العلم، خاصة (التوسل والوسيلة) لشيخ الإسلام ابن تيمية ، فقد حرر هذه المسألة تحريراً قوياً، وحشد لها الأدلة من القرآن والسنة وأقوال السلف وأعمالهم وتقريراتهم، فكان تفسيرها أشبه بالإجماع الذي لا ينبغي أن يحاد عنه.

قال رحمه الله تعالى: [ وأما من توسل إلى الله تعالى بنبيه في تفريج كربة فقد استغاث به، سواء كان ذلك بلفظ الاستغاثة أو التوسل أو غيرهما مما هو في معناهما، وقول القائل: أتوسل إليك يا إلهي برسولك! أو أستغيث برسولك عندك أن تغفر لي استغاثةٌ بالرسول حقيقة في لغة العرب وجميع الأمم ].

هذا الجزء من السؤال يقصد به السائل: أن هناك أناساً يزعمون أنه لا فرق بين الاستغاثة والاستعانة، أو الاستغاثة والتوسل، وأنها كلها بمعنى واحد.

مع أن الشيخ سيقرر أن هناك فرقاً بين مطلق عموم التوسل وبين الاستغاثة والاستعانة، وأن هذه الألفاظ بينها وجه اشتراك واختلاف، وأنه يجوز في بعض صورها بعض الأشياء المشروعة، فجعلها بمعنى واحد، ولا يجوز في الصور الأخرى، والاستدلال بالصور المشروع منها على الصور التي لا تشرع فيه نظر كما سيفصل الشيخ فيما بعد.

وهذا السؤال فيه غموض، ولكنه سيتبين إن شاء الله بعد قليل من خلال كلام الشيخ.

قال رحمه الله: [ قال: ولم يزل الناس يفهمون معنى الاستغاثة بالشخص قديماً وحديثاً، وأنه يصح إسنادها للمخلوقين، وأنه يستغاث بهم على سبيل التوسل، وأنها مطلقة على كل من سأل تفريج الكربة بواسطة التوسل به، وأن ذلك صحيح في أمر الأنبياء والصالحين.

قال: وفيما رواه الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن بعض الصحابة رضي الله عنهم قال: استغيثوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله)، إن النبي صلى الله عليه وسلم لو نفى عن نفسه أنه يستغاث به.. ونحو ذلك، يشير به إلى التوحيد، وإفراد الباري بالقدرة لم يكن لنا نحن أن ننفي ذلك، ونجوِّز أن نطلق أن النبي صلى الله عليه وسلم والصالح يستغاث به، يعني: في كل ما يستغاث فيه بالله تعالى، ولا يحتاج أن يقول على سبيل أنه وسيلة وواسطة، وأن القائل لا يستغاث به منتقصاً له، وأنه كافر بذلك، لكنه يعذر إذا كان جاهلاً، فإذا عرف معنى الاستغاثة ثم أصر على قوله بعد ذلك صار كافراً ].

على أية حال قبل أن نستكمل بقية السؤال أظن أنه يلزم أن نقف في تقسيم السؤال، أو بيان مفرداته؛ لأن الأمور قد تداخلت.

فالسؤال الأول قد تضمَّن مسألة محددة وهي قوله: (عمن قال: يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث الله تعالى فيه)، هذا هو الجزء الأول من السؤال.

ثم استمر في هذا الجزء إلى أن قال: وهذا نوع ثان من السؤال، فهو رحمه الله ذكر في السؤال الأول الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث الله تعالى فيه، ثم ذكر شبهة القوم: أنه لا فرق بين الاستغاثة به والتوسل، وتتبين هذه الصورة -صورة السؤال الأول- في قصة الأعمى، بل حتى في قصة طلب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو توسله بـالعباس ، فهم زعموا أن التوسل بـالعباس توسل بذاته، سواء طلب منه دعاؤه، أو استغيث به، أو توسل به إلى الله عز وجل، وأن الصورة واحدة، لكن هو رحمه الله سيبين أن الصورة ليست واحدة، فهذا هو السؤال الأول.

السؤال الثاني يبدأ بقوله: (قال: ولم يزل الناس يفهمون معنى الاستغاثة بالشخص). فهذه شبهة في الحقيقة قد تضمَّنت سؤالاً، وقد استمر السائل في تقريرها حتى انتهى منها.

ثم شرع في شبهة ثالثة تضمَّنت سؤالاً أيضاً، وهي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لو نفى عن نفسه أن يستغاث به.. ونحو ذلك، يشير به إلى التوحيد، وإفراد الباري بالقدرة). فكأنه يرى أن ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم أشبه بالتواضع، أو بأن ينفي عن نفسه أمراً لا يجوز له، لكن ليس ذلك على سبيل المنع من الغير، وهذا فحوى الشبهة الثالثة، وتضمَّنت سؤالاً.

ثم ذكر الشبهة الرابعة وقد تضمَّنت سؤالاً فقال: (ونجوز أن نطلق أن النبي صلى الله عليه وسلم والصالح يستغاث به). كذا زعموا.

ثم بعد ذلك بدأ بأمر خامس فقال: (ولا يحتاج أن يقول على سبيل أنه وسيلة وواسطة). فهذه شبهة خامسة.

والشبهة السادسة وتتضمَّن سؤالاً أيضاً، وقد بدأت بقوله: (وأن القائل لا يستغاث به متنقصاً له).

ثم ختم هذه الشبهة بقوله: (وأنه كافر بذلك).

إذاً: فالمسألة لم تعد مجرد لبس وتلبيس، بل إنهم حكموا بكفر من قرر الحق، فزعموا أن من لم يجز الاستغاثة بالمخلوق والتوسل به فهو كافر، لكنهم قالوا: (قد يعذر بالجهل).

ثم قال: (والتوسل به استغاثة به كما تقدم).

ثم ذكر سؤالاً تضمن شبهة فقال: (فهل يعرف أنه قال أحد من علماء المسلمين: إنه يجوز أن يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم والصالح). فهذا سؤال نتيجة لما سبق في المسائل السابقة.

ثم بعد ذلك قال: (وهل التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو الصالح أو غيرهما إلى الله تعالى في كل شيء استغاثة بذلك المتوسل به؟)

ثم قال: (فهل يعرف أن أحداً من العلماء قال: إنه يجوز التوسل إلى الله بكل نبي وصالح؟) وهذا السؤال العاشر.

والسؤال الحادي عشر وهو أيضاً شبهة، حيث إن فتوى الشيخ عز الدين بن عبد السلام شبهة، فأفتى الشيخ عز الدين بن عبد السلام بأنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم!

الآن نشرع في القراءة ثم نقرر كل مسألة على حدة.

قال رحمه الله تعالى: [ والتوسل به استغاثة به كما تقدم، فهل يعرف أنه قال أحد من علماء المسلمين: إنه يجوز أن يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم والصالح في كل ما يستغاث به الله تعالى؟ وهل يجوز إطلاق ذلك كما قال القائل؟ وهل التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو الصالح .. أو غيرهما إلى الله تعالى في كل شيء استغاثة بذلك المتوسل به؟ كما نقله هذا القائل عن جميع اللغات، وسواء كان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو الصالح استغاثة به أو لم يكن، فهل يعرف أن أحداً من العلماء قال: إنه يجوز التوسل إلى الله تعالى بكل نبي وصالح؟ فقد أفتى الشيخ عز الدين بن عبد السلام في فتاويه المشهورة: أنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث فيه، فهل قال أحد خلاف ما أفتى به الشيخ المذكور؟ ].

هذه الصورة الحادية عشر.

قال رحمه الله تعالى: [ وبتقدير أن يكون في المسألة خلاف، فمن قال: لا يتوسل بسائر الأنبياء والصالحين كما أفتى الشيخ عز الدين، هل يكفر كما كفره هذا القائل؟ ويكون ما أفتى به الشيخ كفراً، بل نفس التوسل به لو قال قائل: لا يتوسل به ولا يستغاث به إلا في حياته وحضوره لا في موته ومغيبه، هل يكون ذلك كفراً؟ أو يكون تنقصاً؟ ].

هذه الصورة الثالثة عشر من صور الإشكال.

قال رحمه الله تعالى: [ ولو قال: ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى لا يستغاث فيه إلا بالله، أي: لا يطلب إلا من الله تعالى، هل يكون كفراً، أو يكون حقاً؟ وإذا نفى الرسول صلى الله عليه وسلم ].

وهذه الصورة الرابعة عشر.

قال رحمه الله تعالى: [ وإذا نفى الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه أمراً من الأمور لكونه من خصائص الربوبية، هل يحرم عليه أن ينفيه عنه أم يجب، أم يجوز نفيه، أفتونا رحمكم الله بجواب شاف كاف موفقين مثابين إن شاء الله تعالى؟!].

بدأ شيخ الإسلام رحمه الله في الجواب عن هذا السؤال، فجمع هذه القضايا أو الصور الأربع عشرة في أصول فند بعضها مع بعض، كما نجد أن بعض المسائل -ثلاث أو أربع مسائل- جوابها واحد، وبعض المسائل قد فصل في جوابها على أكثر من وجه، لأن السؤال في الحقيقة فيه خلط، وقد اجتمع الخلط فيه من وجهين:

الوجه الأول: من جهة السائل، فقد كان يظهر أنه من أهل الحق، فيذكر مداخلاته على السؤال، وهذا مما جعل السؤال متشتتاً.

الوجه الثاني: أنه قد جمع شبهات المبتدعة وهي متفرقة ومتفاوتة، وليس بينها نظام ينظمها؛ ولذلك جاء السؤال من أشتات مسائل متفرقة ومن مداخلات السائل؛ لأن السائل نفسه يظهر أن عنده شيئاً من الفقه في الدين، بدليل أنه كان يوجه أحياناً الأسئلة ويجب عليها ضمناً.

فالشيخ رحمه الله وضع قواعد تنظم جميع الأمور السابقة بصرف النظر عن مفرداتها، كما أنه قد أجاب على بعض رءوس المسائل، وأدخل البعض الآخر في هذه الرءوس.

قال رحمه الله تعالى: [ الجواب: الحمد لله رب العالمين. لم يقل أحد من علماء المسلمين: إنه يستغاث بشيء من المخلوقات في كل ما يستغاث فيه بالله تعالى، لا بنبي ولا بملك ولا بصالح.. ولا غير ذلك ].

هذا في الحقيقة جواب مجمل محكم، وقاعدة عامة لا يجوز الاستثناء منها إلا بدليل، وسيذكر الاستثناء منها على سبيل التجوز، فيسمى توسلاً، وهو ما حدث من توسل الأعمى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك توسل الصحابة بدعاء العباس والأسود بن يزيد رضي الله عنهما، وهو توسل بدعائهم جزماً؛ لأن القصة حدثت على هذا الوجه.

فالشيخ قعد هذه القاعدة، ولا يستثنى منها إلا صوراً تسمى توسلاً تجوزاً، أو بشرط مفهومها المعلوم بالضرورة؛ لأنها واقعة حدثت وفسرت بنوع معين من التوسل.

قال رحمه الله تعالى: [ بل هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاقه.

ولم يقل أحد: إن التوسل بنبي هو استغاثة به، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور كقول أحدهم: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان ].

جواب الشيخ تضمن عدة مسائل:

المسألة الأولى: قوله: (لم يقل أحد من علماء المسلمين)، فهذه القاعدة العامة الأولى.

القاعدة الثانية: قوله: (بل هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام). أي: أنه لا يستغاث بأحد من المخلوقين فيما لا يستغاث به إلا الله، فجعل ذلك من المعلوم بالضرورة، وليس الأمر فقط اتفق عليه العلماء، وبهذا يكون قد نفى أن يقول أحد من علماء المسلمين المعتبرين بهذا القول.

الفرق بين التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام والاستغاثة به

قال رحمه الله تعالى: [ ولم يقل أحد: إن التوسل بنبي هو استغاثة به، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور كقول أحدهم: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، أو بالكعبة.. أو غير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، فإن المستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم طالب منه وسائل له، والمتوسل به لا يدعى ولا يطلب منه ولا يسأل، وإنما يطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به ].

قوله: (وإنما يطلب به)، أي: يطلب من الله عز وجل أن يستجيب دعاءه في ذلك المطلوب، وهذا وجه مشروع، وعلى هذا فإنه لم يرد دليل من الشرع، أو أن أحداً من أهل العلم أجاز الاستغاثة بالمخلوق، لا بنبي ولا بصالح ولا غيره، وأن هذا النوع -أي: الاستغاثة بالمخلوق- داخل في عموم الشركيات، وأنه داخل دخولاً أولياً في نوع من أنواع شرك المشركين الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه بقولهم في شبهتهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، فكلمة: (ما نعبدهم) عامة يدرج تحتها التوسل والدعاء والتعظيم والتقديس، كما يندرج تحتها ادعاء أن هؤلاء لهم تصريف فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ وكل ذلك لأن العبادة معناها واسع، وأول العبادة هو الدعاء الذي هو محل الإشكال، ولذلك العرب الأوائل الذين تنزل عليهم القرآن فقهوا معنى هذه الآية، ولم يضيع معناها إلا بعد القرون الثلاثة الفاضلة، وذلك حينما كثرت العجمة وقل فقه الناس بالعربية، وحتى العرب ضعف فقههم العربي، وإلا فالآية صريحة في اتخاذ الوسائط والوسائل وما عليه المبتدعون في قوله عز وجل عن طائفة من المشركين بأنهم قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، فجعلوا الغاية التقرب إلى الله، لكنهم أشركوا باتخاذهم هذه الوسائط، والآية صريحة، فهي تضم كل نوع من أنواع اتخاذ الوسائط أياً كان هذا التبرير.

معنى الاستغاثة والاستعانة والنصرة والفرق بينهما وما يجوز طلبه من المخلوق

قال رحمه الله تعالى: [ والاستغاثة: طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار: طلب النصر، والاستعانة طلب العون، والمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى: وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ [الأنفال:72]، وكما قال : فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القصص:15] ].

هذه الفروق تعتبر وجهاً رابعاً من الجواب، والاستغاثة ليست بمعنى الاستعانة من كل وجه، وعليه فهذه الفروق تبين أن بين الحالتين فروقاً في المعنى والحكم.

قال رحمه الله: [ وكما قال تعالى : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].

وأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يطلب إلا من الله، ولهذا كان المسلمون لا يستغيثون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويستسقون به ويتوسلون به، كما في صحيح البخاري: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بـالعباس وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا؛ فيسقون).

وفي سنن أبي داود : (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله، فقال: شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه)، فأقره على قوله: (نستشفع بك على الله) وأنكر عليه قوله: نستشفع بالله عليك ].

وهذه صورة خامسة من صور هذا الموضع، ولها حكمها بالتفصيل.

الفرق بين الشفاعة في الآخرة والشفاعة في الدنيا وحكم الشفاعة عند الوعيدية

وهذا السادس من صور الفروق.

قال رحمه الله تعالى: [ وقد اتفق المسلمون على أن نبينا شفيع يوم القيامة، وأن الخلق يطلبون منه الشفاعة، لكن عند أهل السنة أنه يشفع في أهل الكبائر، وأما عند الوعيدية فإنما يشفع في زيادة الثواب ].

الشفاعة أولاً توقيفية.

والأمر الآخر: أنها يوم القيامة بشروطها المعروفة، وقد ذكرها الله عز وجل فهي قاطعة، وذلك حينما لا يكون هناك أعمال، ولا تسحب أحكام الشفاعة في الآخرة على أحكام الشفاعة في الدنيا، أو العكس، فلا تسحب أحكام الشفاعة في الدنيا على أحكام الشفاعة في الآخرة؛ لأنها توقيفية، والشفاعة إنما تكون بعد أن تنتهي الأعمال، وأنها أيضاً لها شروط في الشافع والمشفوع له.

وأما المقصود بالوعيدية فهم المعتزلة والخوارج؛ وسموا بالوعيدية لأنهم جعلوا الوعيد هو الأصل ولم يستثنوا فيه، ولم يعولوا على الوعد، مع أن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم قد استثنيا، والوعيد أمر راجع إلى اختيار الله عز وجل وتقديره ورحمته بعباده، فإن شاء أنفذ وعيده، وإن شاء لم ينفذه، فإن أنفذه فذلك بعدله سبحانه، وإن لم ينفذه فذلك برحمته سبحانه.

فهم قد حكموا على الله عز وجل كما يحكمون على الخلق، فقالوا: بأنه لا يجوز له أن يفعل ذلك، بل حكموا على الله بأسوأ مما يحكمون على الخلق؛ لأن هؤلاء المعتزلة والخوارج لو قال لهم إنسان: إن فلاناً من الناس سلطاناً أو أميراً أو والياً أو والداً هدد واحداً من رعيته ثم عفا عنه. لقالوا: هذا والله كرم وكمال، لكن لما عرفوا وسمعوا أن الله عز وجل يعفو عمن يشاء من عباده ضاقوا بذلك، وحكموا بالوعيد، وقالوا: أبداً، بل يجب على الله أن ينفذ وعيده، فسمى المعتزلة والخوارج هذا الأمر: إنفاذ الوعيد، فلذا سموا: الوعيدية، وقالوا: لا يجوز لله عز وجل -تعالى الله عن ذلك، وهذا سوء أدب مع الله عز وجل، ولولا أنهم حكوه ما حكيناه، لكن الله عز وجل قد حكى أقوال أهل الكفر للتنفير منها، ونحن نحكي أقوال أهل البدع للتنفير منها- ولا ينبغي له أن يغفر أو يعذب، فيخرج من النار بعد العذاب.. إلخ، وقالوا: بوجوب إنفاذ الوعيد على الله سبحانه، وكأنهم أوجبوا على الله ما لم يوجبه على نفسه.

الرد على من قال: إن التوسل إلى الله بنبي يعتبر استغاثة حقيقية بذلك النبي المتوسل به

هذا الجزء السابع من الجواب.

قال رحمه الله تعالى: [ وقول القائل: (إن من توسل إلى الله بنبي فقال: أتوسل إليك برسولك، فقد استغاث برسوله حقيقة في لغة العرب وجميع الأمم) قد كذب عليهم، فما يعرف هذا في لغة أحد من بني آدم، بل الجميع يعلمون أن المستغاث مسئول به مدعو، ويفرقون بين المسئول والمسئول به، سواء استغاث بالخالق أو بالمخلوق، فإنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على النصر فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل مخلوق يستغاث به في مثل ذلك.

ولو قال قائل لمن يستغيث به: أسألك بفلان أو بحق فلان، لم يقل أحد: إنه استغاث بما توسل به، بل إنما استغاث بمن دعاه وسأله ].

يمكن أن يكون هذا الوجه الثامن من الجواب؛ لأنه قد فرعه على الأول، لكن له استقلالية في المعنى.

قال رحمه الله تعالى: [ ولهذا قال المصنفون في شرح أسماء الله الحسنى: إن المغيث بمعنى المجيب، لكن الإغاثة أخص بالأفعال، والإجابة أخص بالأقوال ].

حكم التوسل بغير نبينا صلى الله عليه وسلم

هذا الوجه التاسع من الجواب.

قال رحمه الله تعالى: [ والتوسل إلى الله بغير نبينا صلى الله عليه وسلم -سواء سمي استغاثة أو لم يسم- لا نعلم أحداً من السلف فعله، ولا روى فيه أثراً، ولا نعلم فيه إلا ما أفتى به الشيخ من المنع ].

يقصد بالشيخ: العز بن عبد السلام ، فقد حصر الاستغاثة والاستعانة بالنبي صلى الله عليه وسلم، لكن هل يقصد بشرطها عند السلف أم لا ؟ الله أعلم، ما تحققت من هذا بعد.

وهل يقصد الصور المشروعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ وذلك حينما كان الصحابة يستغيثون به، يعني: بدعائه صلى الله عليه وسلم، أو يقصد معنى أوسع وهو الظاهر؛ لأن العز بن عبد السلام قد عتب عليه بعض السلف بسبب توسعه في هذا الجانب، لكنه ما أجاز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم؛ لوجود الشبهة في حقه عليه الصلاة والسلام بالنسبة لمن لم يفهموا حديث استشفاع الأعمى واستشفاع العباس ، واستشفاع الصحابة بـالعباس وبـالأسود .. وغيرهم.

قال رحمه الله تعالى: [ولا نعلم فيه إلا ما أفتى به الشيخ من المنع].

حكم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

شرع الشيخ رحمه الله في الوجه العاشر فقال رحمه الله: [وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ففيه حديث في السنن رواه النسائي والترمذي.. وغيرهما: (أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أصبت في بصري فادع الله لي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: توضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، يا محمد! إني أتشفع بك في رد بصري، اللهم شفع نبيك فيَّ، وقال: فإن كانت لك حاجة فمثل ذلك، فرد الله بصره)، فلأجل هذا الحديث استثنى الشيخ التوسل به ].

مع أن هذا الحديث تفسره الروايات الأخرى لكنه مجمل، ولذلك من خصائص منهج السلف رحمهم الله -وهذا ما ينبغي أن نستمسك به، ونعود طلاب العلم على الاستمساك به-: أنهم في الأمور الغيبية والتوقيفية وأمور العقيدة لا يجوز أخذ نص واحد بدون أن يفسر، فالنص الواحد قد يفسره فهم الصحابة له، وهذا أمر يغفل عنه كثير من الناس، وقد يفسره سياق آخر للحديث؛ لأن الأحاديث أحياناً تساق بإجمال وأحياناً تساق بتفصيل، كما ورد في قصة استشفاع الصحابة بـالعباس ، فإنه ورد في الحديث الصحيح أنهم قصدوا بذلك أن يدعو العباس ويؤمنوا وراءه.

وكما في قصة الأعمى، فإنه ورد في بعض رواياتها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له، فكان استشفاعه بمعنى أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه طلب منه قبل ذلك أن يتهيأ بأن يكون قلبه مقبلاً على الله عز وجل، وذلك حتى يكون على حال ترضي الله عز وجل، بأن يتوضأ ويصلي ركعتين لاجئاً فيها إلى الله عز وجل بأن يقبل دعاء نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فتأمل كيف فعل عليه الصلاة والسلام؟ فقد وجهه إلى العبادة المخلصة، ولم يوجهه إلى ذاته عليه الصلاة والسلام أو وكله عليه.

إذاً: فهذه هي الصورة الصحيحة، ولذلك تميز منهج السلف بمثل هذا التوجيه دائماً، وتميزوا بأن يأخذوا بالنصوص بعمومها، وأن يرجعوها إلى القواعد العامة القاطعة الضرورية، وأن يرجعوها إلى فهم الصحابة أيضاً، وإلا لو فهم الصحابة ذلك الفهم الذي فهمه أهل البدع من أن المقصود بالتوسل بذاته صلى الله عليه وسلم فيما لا يقدر عليه إلا الله لفعلوه، وهم بحاجة إليه، لكنهم ما فعلوه، إلا أن يطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، وطلب الدعاء منه عليه الصلاة والسلام كان على صور:

منها: ما يكون بصورة التوسل الظاهر به.

ومنها: ما يكون بمجرد طلب الدعاء.

ومنها: ما يكون على نحو غيبي، فقد يطلبون في بعض أمورهم أن يقبل الله عز وجل دعاء نبيه فيهم، وهذا أمر مشروع ولا يزال مشروعاً، لكن هذه الصورة ليست من باب التوسل بمعناه عند أهل البدع.

ثم قسم السلف التوسل إلى ثلاثة أقسام:

توسل شركي.

وتوسل بدعي.

وتوسل مشروع.

وبناءً على هذه النصوص، فأهل البدع لا يفرقون في ذلك، بل كل أنواع التوسل عندهم مشروعة، فلم يفرقوا بين الممنوع وبين الجائز، ولا بين البدعي وبين الجائز.

أقوال الناس في معنى التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

قال رحمه الله تعالى: [ وللناس في معنى هذا قولان:

أحدهما: أن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال: (كنا إذا أجدبنا نتوسل بنبينا إليك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا)، فقد ذكر عمر رضي الله عنه: أنهم كانوا يتوسلون به في حياته في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به هو استسقاؤهم به، بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى الله، وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته ولا في مغيبه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعاً لهم داعياً لهم، ولهذا قال في حديث الأعمى: (اللهم فشفعه فيَّ). فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له، فسأل الله أن يشفعه فيه ].

لذلك كثير من أهل البدع أُتوا من قبل العجمة كما ذكر أئمة السلف، ومعنى: العجمة: أنهم لم يفقهوا معاني العربية، فلذلك لم يفرقوا بين معنى قوله: (شفعه فيَّ) وبين المعنى البدعي الذي ظنوه.

وقوله: (شفعه فيَّ) معناها: اقبل دعاءه في حقي، أو في طلبي، ولا تأتي بمعنى: (شفع) إلا إذا كانت بمعنى: أن يوجد جهد من النبي صلى الله عليه وسلم يبذله، وهذا الجهد هو دعاؤه، ولو كان توسلاً بذات النبي صلى الله عليه وسلم ما قال: (شفعه)؛ لأنه لو اعتبر الذات هي النافعة ما اعتبر هذا تشفيعاً، ولا اعتبر هذا توجهاً إلى الذات أو توجهاً إلى الشخص.

قال رحمه الله تعالى: [ والثاني: أن التوسل يكون في حياته وبعد موته، وفي مغيبه وحضرته، ولم يقل أحد: إن من قال بالقول الأول فقد كفر، ولا وجه لتكفيره، فإن هذه مسألة خفية ليست أدلتها جلية ظاهرة، والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين ضرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة والمجمع عليها.. ونحو ذلك ].

هذا الوجه الحادي عشر من جواب الشبهات في السابق، وما سبق فهو تفصيل للوجه العاشر.

قال رحمه الله تعالى: [ واختلاف الناس فيما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، كاختلافهم هل تشرع الصلاة عليه عند الذبح؟ وليس هو من مسائل السب عند أحد من المسلمين.

وأما من قال: (إن من نفى التوسل الذي سماه استغاثة بغيره كفر)، وتكفير من قال بقول الشيخ عز الدين ].

هذا الوجه الثاني عشر.

قال رحمه الله تعالى: [ وتكفير من قال بقول الشيخ عز الدين وأمثاله، فأظهر من أن يحتاج إلى جواب، بل المكفر بمثل هذه الأمور يستحق من غليظ العقوبة والتعزير ما يستحقه أمثاله من المفترين على الدين، لا سيما مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: كافر، فقد باء بها أحدهما) ].

هذا الوجه الثالث عشر.

قال رحمه الله تعالى: [ وأما من قال: (ما لا يقدر عليه إلا الله لا يستغاث فيه إلا به)، فقد قال الحق، بل لو قال كما قال أبو يزيد : استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وكما قال الشيخ أبو عبد الله القرشي : استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون لكان قد أحسن، فإن مطلق هذا الكلام يفهم الاستغاثة المطلقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس رضي الله عنهما: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) ].

كلام أبي يزيد وهو البسطامي كلام جيد، وتقعيد عظيم، وهذا مما يجعل الباحث يتوقف في نسبة بعض الأشياء التي تعد من خوارم العقيدة التي نسبت إلى أبي يزيد ؛ لأنه في الحقيقة يصعب ويبعد أن يكون هذا الكلام الجيد، والذي هو من درر الكلام أن يصدر عن إنسان تنسب له تلك المقالات أو تلك الشطحات التي ذكرها عنه مؤرخة التصوف؛ ولذلك كما قلت -كلما تأتي لي هذه المناسبة أكرر ذلك؛ لأن الإخوان الحاضرين أحسبهم من خيرة طلاب العلم، ومن ذوي المقدرة على البحث-: بأنه لابد من ضرورة تحرير مثل هذه المسائل التي تنسب إلى أبي يزيد البسطامي وابن أبي الحواري والجنيد والتستري وأمثالهم من شطحات أحياناً كفرية.

في حين أنه تنسب إليهم مثل هذه الدرر التي تدل على صفاء التوحيد، وتدل على قوة يقين في قضايا العقيدة، وهي في الحقيقة من درر الكلام التي فيها رد مباشر على الذين ينتسبون إلى أبي يزيد البسطامي الآن، ويزعمون أنه أصل بدعهم.

ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -في الحقيقة- تحرز وتوقف فيما قاله الناس عن هؤلاء من شطحات، وكذلك قول القرشي : استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون هي بمعنى قول أبي يزيد البسطامي .

إذاً: فهذا التصور صاف في التوحيد، ولا يتأتى معه ما ذكر عن هؤلاء من خوارم، فأرجو من أحد الإخوان أن يبحث هذه المسائل، ولو على الأقل في شخص واحد ليكون أنموذجاً، كـأبي يزيد أو ابن أبي الحواري أو التستري أو الجنيد ، وإن كان الجنيد أمره أوضح؛ لأنه لم يقع في أمور صعبة جداً، لكنه أيضاً له بعض الخوارم القليلة، فلو توزع بعض طلاب العلم هذه المسائل وحققوا فيها؛ لأنها سهلة، تحتاج فقط إلى النظر في أسانيد ما نسب إليهم من أقوال، ولعله إن شاء الله يتبين -كما يميل إلى ذلك شيخ الإسلام - أن ما ذكر عنهم مكذوب عليهم، أو أنه بسبب حالات ترجع إلى اختلال ليس لهم فيه يد.

هذا الوجه الرابع عشر من الردود.

قال رحمه الله: [ وإذا نفى الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه أمراً كان هو الصادق المصدوق في ذلك، كما هو الصادق المصدوق في كل ما يخبر به من نفي وإثبات، وعلينا أن نصدقه في كل ما أخبر به من نفي وإثبات، ومن رد خبره تعظيماً له أشبه النصارى الذين كذبوا المسيح في إخباره عن نفسه بالعبودية تعظيماً له، ويجوز لنا أن ننفي ما نفاه، وليس لأحد أن يقابل نفيه بنقيض ذلك ألبتة، والله أعلم ].

يقصد الشيخ بذلك الرد على من تأولوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بألا يعظم ولا يقدس، فتأولوا بأن ذلك نوع من التواضع منه، وأنه خصوصية له منه، وليس لنا أن نأخذ بذلك، فهو يقول: هذا رد لقول النبي صلى الله عليه وسلم، وهو فعلاً رد صريح حينما قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم)، فما قصد بذلك مجرد التواضع، بل قصد بذلك الحق؛ لأن التعظيم والتقديس لا يكون إلا لله عز وجل، وأما تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى: حبه، ووصفه بخصائصه التي ميزه الله بها، وتوقيره والأخذ عنه، فهذا لا شك أنه من التعظيم الذي يجب على كل مسلم، لكن لا يعني ذلك تجاوز حدود ما لا يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن تجاوز ذلك لا يكون تعظيماً، وإنما يكون إهانة، ولذلك عُدَّ قول النصارى في المسيح إهانة للمسيح عليه السلام، وعُدَّ من الكفر والشرك بالله عز وجل.

قال رحمه الله تعالى: [ ولم يقل أحد: إن التوسل بنبي هو استغاثة به، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور كقول أحدهم: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، أو بالكعبة.. أو غير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، فإن المستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم طالب منه وسائل له، والمتوسل به لا يدعى ولا يطلب منه ولا يسأل، وإنما يطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به ].

قوله: (وإنما يطلب به)، أي: يطلب من الله عز وجل أن يستجيب دعاءه في ذلك المطلوب، وهذا وجه مشروع، وعلى هذا فإنه لم يرد دليل من الشرع، أو أن أحداً من أهل العلم أجاز الاستغاثة بالمخلوق، لا بنبي ولا بصالح ولا غيره، وأن هذا النوع -أي: الاستغاثة بالمخلوق- داخل في عموم الشركيات، وأنه داخل دخولاً أولياً في نوع من أنواع شرك المشركين الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه بقولهم في شبهتهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، فكلمة: (ما نعبدهم) عامة يدرج تحتها التوسل والدعاء والتعظيم والتقديس، كما يندرج تحتها ادعاء أن هؤلاء لهم تصريف فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ وكل ذلك لأن العبادة معناها واسع، وأول العبادة هو الدعاء الذي هو محل الإشكال، ولذلك العرب الأوائل الذين تنزل عليهم القرآن فقهوا معنى هذه الآية، ولم يضيع معناها إلا بعد القرون الثلاثة الفاضلة، وذلك حينما كثرت العجمة وقل فقه الناس بالعربية، وحتى العرب ضعف فقههم العربي، وإلا فالآية صريحة في اتخاذ الوسائط والوسائل وما عليه المبتدعون في قوله عز وجل عن طائفة من المشركين بأنهم قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، فجعلوا الغاية التقرب إلى الله، لكنهم أشركوا باتخاذهم هذه الوسائط، والآية صريحة، فهي تضم كل نوع من أنواع اتخاذ الوسائط أياً كان هذا التبرير.