شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [15]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فيقول: ابن تيمية رحمه الله تعالى: [ وكل داع شافع دعا الله سبحانه وتعالى وشفع فلا يكون دعاؤه وشفاعته إلا بقضاء الله وقدره ومشيئته، وهو الذي يجيب الدعاء ويقبل الشفاعة، وهو الذي خلق السبب والمسبب، والدعاء من جملة الأسباب التي قدرها الله سبحانه وتعالى، وإذا كان كذلك: فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، بل العبد يجب أن يكون توكله ودعاؤه وسؤاله ورغبته إلى الله سبحانه وتعالى، والله يقدر له من الأسباب من دعاء الخلق .. وغيرهم ما شاء ].

في الحقيقة هذه قاعدة عظيمة قد تضمنت عدة فروع، منها: الأسباب والاعتماد عليها أو عدم الاعتماد عليها، والشيخ هنا قد ذكر الشق الأول من القاعدة، فقال رحمه الله: فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد. وهذا كلام مجمل في الحقيقة يحتاج إلى بيان؛ لأن الالتفات للأسباب يطلق على معنيين: فعل الأسباب مع وجود التوكل والاعتماد على الله عز وجل، وهذا مشروع، لكن الشيخ لا يقصد هذا المعنى، وإنما يقصد بقوله ذاك: الاعتماد على الأسباب من دون الله عز وجل، وجعلها هي النافعة والضارة والمؤثرة من دون الله، دون أن يكون لله عز وجل في ذلك تقدير ولا خلق، وهذا كما يفعله كثير من أهل الشرك، بل الآن أكثر الكفار يظنون أن الأسباب هي الفاعلة، ولا يعولون على تقدير الله عز وجل، بل لا يعرفون هذا أصلاً في عقائدهم، ويظنون أن الأسباب هي التي أوجدت، ولذلك نجدهم -مثلاً- في تعبيراتهم الأدبية خاصة ينسبون الخلق إلى غير الله عز وجل، فيقولون: إن الطبيعة خلقت كذا، والإنسان خلاق، وكذا خلق، وهذه التعبيرات انتقلت إلى بعض المثقفين المسلمين مع الأسف؛ بسبب التقليد الأعمى وبعدم إدراك العقيدة ينسبون الخلق إلى غير الله عز وجل كما ذكرنا؛ لأنهم يرون الأسباب هي المؤثرة، فالتفتوا إليها ولم يعولوا على الاعتماد على الله عز وجل، وهذه سمة عامة في جميع الكفار في هذا العصر.

إذاً: الالتفات إلى الأسباب على نوعين: الأول: فعل الأسباب كما شرع الله عز وجل مع الاعتماد على الله، وهذا مشروع، الثاني: الاعتماد على الأسباب من دون الله، وهذا شرك مع الله عز وجل، وهذه هي القاعدة الأولى.

وأما القاعدة الثانية فقال رحمه الله: (ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل). يقصد بهذا نظريات بعض المتكلمين وخاصة غلاة الأشاعرة، فهم يزعمون أن الأسباب ما هي إلا قرائن على الأفعال على الناس فقط، وليست أسباباً حقيقية، حتى إن منهم من زعم أن السحاب ليس سبباً مباشراً للمطر، وأن المطر ليس سبباً في الإنبات، وزعموا أن هذه مجرد قرائن، فإذا رأينا السحاب فقد يكون هناك مطر، لكن ليس بسبب السحاب.

وهذه مغالطة، ولذلك قال الشيخ: (نقص في العقل). أي: لاشك أن الله عز وجل هو الخالق، وأن الأسباب من خلقه، لكن الله عز وجل جعل للكون نظاماً، وجعل من نظام خلقه أن الأسباب بالفعل مؤثرة بمسبباتها، وكل ذلك يرجع إلى تقدير الله وخلقه.

وعليه فالأسباب ومسبباتها من خلق الله عز وجل، لكن عندما بالغ هؤلاء في إثبات الأمور إلى الله عز وجل ألغوا الأسباب، حتى جعلوها مجرد قرائن على وجود الأشياء، فقالوا: إن الله عز وجل جعل الأسباب مجرد قرائن وليس لها تأثير أبداً، وهذا لاشك أنه نقص في العقل.

والقاعدة الثالثة قوله: (والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع) وهذا رأي كثير من غلاة المتصوفة وغلاة العباد والنساك الذين زعموا أن التعلق بالأسباب نقص في الإيمان، وهذا خطأ؛ لأن التعلق بالأسباب على وجه شرعي مع الاعتماد والتوكل على الله عز وجل -بشرط ألا يعتقد الإنسان أو الفاعل أن السبب هو المؤثر من دون الله- أمر مطلوب شرعاً، وفعل الأسباب من مقتضيات الدين ومن ضروراته؛ لأن الله عز وجل أمر بفعل الأسباب في كل شيء، بل أركان الدين وواجباته لا تقوم إلا بفعل الأسباب، وعلى هذا فهؤلاء الذين أعرضوا عن الأسباب بالكلية، وزعموا أنه يسع المسلم أن يقعد عن العمل ويأتيه رزقه، ويقعد عن الجهاد ويأتيه النصر، ويقعد عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويأتيه الأمن، كل هذا باطل، فالمسلم لابد أن يفعل الأسباب في نفسه وفي نصر دينه، وفي معاشه وفي دينه ودنياه، ولذلك هؤلاء الذين سلكوا هذا المسلك ظهرت منهم هذه المذاهب المخذلة التي كانت من أعظم أسباب خذلان المسلمين وقعودهم عن الأخذ بأسباب الحياة في العصور المتأخرة، وذلك عندما هيمن التصوف في العالم الإسلامي في القرون المتأخرة، وهيمن الذل والهوان والقعود عن فعل الأسباب، ووجد الركون والخمول بسبب هذه العقيدة الفاسدة، وهي عقيدة ترك الأسباب.

إذاً: ترك الأسباب بالكلية قدح في الشرع؛ لأنه إعراض عن أمر الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومن هذا الباب: الرقية الشرعية، فهي تعتبر من الأسباب التي أذن الله بها.

قال كثير من السلف: الاعتماد على الأسباب بالكلية شرك، وترك الأسباب بالكلية كفر وضلال وزيغ. وهذا صحيح.

قال رحمه الله تعالى: [ والدعاء مشروع أن يدعو الأعلى للأدنى والأدنى للأعلى، فطلب الشفاعة والدعاء من الأنبياء كما كان المسلمون يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، ويطلبون منه الدعاء، بل وكذلك بعده استسقى عمر والمسلمون بـالعباس عمه رضي الله عنه، والناس يطلبون الشفاعة يوم القيامة من الأنبياء، ومحمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء، وله شفاعات يختص بها، ومع هذا فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة)، وقد (قال لـعمر : لما أراد أن يعتمر وودعه: يا أخي! لا تنسني من دعائك) ].

هذا الحديث ضعيف، لكن مع ذلك معنى الحديث له شواهد كثيرة من نصوص الشرع ومن أعمال النبي صلى الله عليه وسلم ومن أعمال السلف، وطلب الدعاء من الغير دون اعتداء ودون توكل أو اتكال على هذا الدعاء أمر مشروع لا حرج فيه، لكن قد يحرم حيناً، وقد يكره حيناً، وقد يجوز حيناً، وقد يستحب أحياناً، فإذا وجدت المبررات لطلب الدعاء من الغير، كأن يكون عند الإنسان مرض، أو نزل به ضر، أو كان في مكان فاضل، أو في زمان فاضل، فهذا من الأمور التي يشرع فيها، بل وربما يستحب في حالات نادرة، لكن يبقى الأصل فيه المشروعية، لكن إن فعل الإنسان هذا الأمر على سبيل الدوام، كما يفعل بعض جهلة المتصوفة عندما يلقى أي مسلم يطلب منه أن يدعو له، حتى يكاد يتكل على دعاء الناس، ويكون همه كلما التقى بإنسان يقول له: ادع الله لي، حتى صار دائماً يتطلع إلى نتيجة دعاء الناس، ويضعف توكله على الله، فهذا قد يحرم أحياناً، بل قد يكون بدعة إذا داوم عليه الإنسان وصار من سماته.

ولذا عندما ننظر إلى حال السلف نجد أنهم كانوا يفعلون ذلك، لكن في حالات نادرة لها مبرراتها وموجباتها، والإنسان ينبغي أن يكون دائم التوكل والاعتماد على الله عز وجل، ولا يكون بينه وبين الله وسائط، ولا يطلب من الغير العون، والباب بينه وبين ربه مفتوح دائماً، والله عز وجل يسخط على عبده إذا لم يدعه، وعلى هذا لا ينبغي أن يكون هذا الأمر على سبيل المداومة، وإنما لا بد أن يكون باعتدال وفي حدود الضرورة أو الحاجة، فيبقى مشروعاً بما ورد من الأدلة الشرعية، لأنه يخضع لقاعدة أخرى، وسيأتي أيضاً التمييز بين هذا النوع والأنواع الأخرى من الشفاعات، هذا داخل في معنى الشفاعة الجائزة.

قال رحمه الله تعالى: [ فالنبي صلى الله عليه وسلم قد طلب من أمته أن يدعوا له، ولكن ليس ذلك من باب سؤالهم، بل أمره بذلك لهم كأمره لهم بسائر الطاعات ].

يقصد الشيخ هنا من قوله: (فالنبي صلى الله عليه وسلم قد طلب من أمته أن يدعو له) أي: أن يصلوا ويسلموا عليه، فإذا قلنا: صلى الله عليه وسلم. فهذا دعاء له، وطلب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك هو طلب من الأعلى إلى الأدنى، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعلى من غيره، وهذا بتشريع من الله عز وجل، فهو الذي أمرنا، والنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً أعلمنا بما أمرنا الله به كما ورد في القرآن وأيضاً في صحيح السنة، من الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والوعد في ذلك.

وأما بالنسبة لحديث عمر السابق فهو حديث ضعيف لا يعول عليه في تأسيس القاعدة، لكن الآثار قد توافرت في جواز هذا الأمر من غير هذا الحديث.

قال رحمه الله تعالى: [ بل أمره بذلك لهم كأمره لهم بسائر الطاعات التي يثابون عليها، مع أنه صلى الله عليه وسلم له مثل أجورهم في كل ما يعملونه، فإنه قد صح عنه أنه قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً)، وهو داعي الأمة إلى كل هدى، فله مثل أجورهم في كل ما اتبعوه فيه.

وكذلك إذا صلوا عليه، فإن الله يصلي على أحدهم عشراً، وله مثل أجورهم مع ما يستجيبه من دعائهم له، فذلك الدعاء قد أعطاهم الله أجرهم عليه، وصار ما حصل له به من النفع نعمة من الله عليه، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكاً، كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكل به: آمين، ولك مثل ذلك)، وفي حديث آخر: (أسرع الدعاء دعوة غائب لغائب) ].

قال رحمه الله تعالى: [ فالدعاء للغير ينتفع به الداعي والمدعو له، وإن كان الداعي دون المدعو له، فدعاء المؤمن لأخيه ينتفع به الداعي والمدعو له، فمن قال لغيره: ادع لي وقصد انتفاعهما جميعاً بذلك كان هو وأخوه متعاونين على البر والتقوى، فهو نبه المسئول وأشار عليه بما ينفعهما، والمسئول فعل ما ينفعهما بمنزلة من يأمر غيره ببر وتقوى، فيثاب المأمور على فعله، والآمر أيضاً يثاب مثل ثوابه؛ لكونه دعا إليه، لاسيما ومن الأدعية ما يؤمر بها العبد، كما قال تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، فأمره بالاستغفار، ثم قال: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64].

فذكر سبحانه استغفارهم، واستغفار الرسول لهم إذ ذاك مما أمر به الرسول، حيث أمره أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، ولم يأمر الله مخلوقاً أن يسأل مخلوقاً شيئاً لم يأمر الله المخلوق به، بل ما أمر الله العبد أمر إيجاب أو استحباب ففعله هو عبادة لله وطاعة وقربة إلى الله، وصلاح لفاعله وحسنة فيه، وإذا فعل ذلك كان أعظم لإحسان الله إليه، وإنعامه عليه، بل أجل نعمة أنعم الله بها على عباده أن هداهم للإيمان ].

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.