خطب ومحاضرات
تفسير سورة يس [20-30]
الحلقة مفرغة
قال الله تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس:20-21].
أرسل الله إلى أصحاب القرية رسولين فكذبوهما، فعززهم بثالث فكذبوا الكل وقالوا: لستم مرسلين، إن أنتم إلا بشر مثلنا.
وقد اختلف المفسرون: هل كانوا رسل الله أصالة، أو كانوا رسل عيسى إلى أصحاب هذه القرية، وهي قرية أنطاكية، فجاءوهم وقالوا لهم: آمنوا بالله، وأخلصوا له العبادة، واتركوا عبادة الأوثان، فبلغ ملك أنطاكية خبرهم فدعاهم وقال لهم: ما دليل نبوءتكم؟ وما معجزاتكم؟ وما الذي ستفعلونه لنا لنقبل ذلك؟ فقالوا: نحيي الموتى ونشفي المرضى. فكان له ولد قد مات منذ أيام، فأحيوه بإذن الله، وكان له مريض فيه مرض مزمن قد طال عليه سنوات، وإذا بهم يشفونه بإذن الله وأمره، ومع ذلك ما زادت هذه المعجزات والدلائل هذه القرية وأهلها إلا جحوداً وكفراناً، وأخذوا يضربونهم ويؤذونهم، ويهددونهم بالرجم وبالقتل إن لم يتركوا دعوتهم لهم إلى الله وإلى ترك الأصنام.
وفي أثناء هذه المحاورة والأخذ والعطاء إذا برجل يأتي من أقصى المدينة وضواحيها، وكان رجلاً يعبد الله في الغار على طريقته، ولم يرسل له رسول، ولا يعرف كيف بعبد الله، وكان مريضاً بالجذام، وقد أهلكه، فجاء إلى هؤلاء الرسل فسألهم: من الذي أرسلكم؟ قالوا: الله جل جلاله، قال: وما علامة رسالتكم ونبوءتكم، قالوا: نحن نشفي المرضى، فقال: أنا مريض فادعوا الله لي بالشفاء، فدعوا الله له فعاد كيوم ولدته أمه، وزال كل مرضه، وأثره، وعاد كما لم يكن مريضاً قط، والتفت إلى هؤلاء وهم يؤذونهم ويضربونهم ويهددونهم وينذرونهم بأنهم إن لم يتركوا هذا فسيرجمونهم وينالون منهم بالعذاب الأليم.
قال تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى [يس:20].
أي: فجاء مهرولاً مجهداً نفسه حتى وقف عليهم وحاورهم وأعلن إيمانه وإسلامه بهم.
قال تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس:20].
أي: التفت إليهم وقال لهم: يا قومي! ويا عشيرتي! اقبلوا ما دعوكم إليه من عبادة الله وحده وترك الأوثان والشركاء من دون الله.
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس:21].
أي: هؤلاء الأنبياء الثلاثة جاءوكم وما طلبوا منكم أجراً ولا ثمناً على دعوتهم لكم وعلى رسالتهم إليكم، وقد جاءوا وهم مهتدون، أي: حال كونهم قد هداهم الله إلى الطريق السوي الحق، وإلى عبادة الله الواحد، وبيان أن ما عداه كله أضاليل وأباطيل، لا تضر نفسها ولا تنفعها، فكيف تضر وتنفع غيرها؟
فسألوه: أأنت مؤمن بهم؟ وهل تركت عبادة قومك وآلهة عشيرتك وآمنت بهم؟
فكان جوابه: نعم قد آمنت، ثم قال: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ [يس:22] وهذا استفهام إنكاري تقريعي توبيخي، ومعناه: أنه يوبخهم ويقرعهم بأنه عبد الله الخالق الرازق الواحد، وترك الأوثان والشركاء، فقال: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [يس:22]، أي: خلقني على غير مثال سابق، والمعنى فما لي لا أعبد الخالق الذي خلقني وإياكم على غير مثال سابق، ونحن جميعاً إليه راجعون؟ فسنموت ثم نحيا ثم سنبعث يوم القيامة إلى الحشر والنشر والعرض على الله، فيحاسبنا على أعمالنا إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فمن يعمل خيراً يلقه، ومن يعمل سوءاً يلقه.
قال تعالى: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ [يس:23].
أي: أتريدون مني أن أتخذ مع الله آلهة لا تضر ولا تنفع، وهي آلهة مخلوقة جماد لا تحس ولا تشعر ولا تسمع شيئاً.
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ [يس:23].
أي: فإن عذبني الله وعاقبني فلا تستطيع آلهتكم هذه أن تنقذني من ذلك، ولا أن تكون نصيراً وولياً لي، فهي آلهة مزيفة باطلة لا تضر ولا تنفع، فأنا قد تركتها، واستجبت لدعوة هؤلاء المرسلين.
قال تعالى: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ [يس:23]، فلا تنقذني ولا تناصرني، ولا تدافع عني ولا أثر لها.
فالله جل جلاله يرحم المؤمنين الموحدين ويدخلهم الجنة، ويعذب الكافرين المشركين ويدخلهم النار، فإن أصابني ضر من الله على اتباعي للآلهة إن بقيت على عبادتها وإشراكها مع الله فهي لا تنقذني من عذاب الله، والله يعذب المشرك والجاحد كما يعذب كل كافر، وقد حرم الله جسده على الجنة.
قال تعالى: إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ [يس:23]، أي: لا يستطيعون الشفاعة ولا يدركون ذلك؛ لأن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله، وسواء كان المعبود جماداً وهو من الأصل لا يضر ولا ينفع، أو كان ملكاً كما كانت طوائف من الناس تعبد الملائكة، أو كان نبياً كما يعبد النصارى عيسى ومريم، أو كان جنياً كما يعبده الكثيرون، وحتى هؤلاء الملائكة أو الجن أو الأنبياء أو البشر كلهم لن يستطيعوا الشفاعة لكافر، بل ولن يستطيعوا الشفاعة حتى لمؤمن إلا إذا أذن الله، والله لا يأذن بالشفاعة للكافر، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116].
فهذا العابد الصابر اسمه حبيب النجار ، وعرف في التاريخ وفي السير بأنه حبيب صاحب آل ياسين، أي: صاحب سورة ياسين، لأنه كان المؤمن الوحيد الذي آمن بهؤلاء الرسل، وقال: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ [يس:23]، أي: لن يستطيعوا نفعي بشيء، ولن يستطيعوا إنقاذي من عذاب الله ومن ناره ومن غضبه.
قال تعالى: إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس:24]، أي: إن أنا فعلت ذلك وأشركت واتبعت دينكم، وتركت الإيمان بالله وبما جاء به هؤلاء الرسل إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس:24] أي: في خطأ وفي عماية وفي جهالة بينة ظاهرة لا تحتاج إلى دليل. فأنا لا أعبد إلا الخالق الرزاق، وأترك عبادة الأشياء التي لا تضر ولا تنفع ولا تدفع من أحد، سواء كانت من الأحياء أو من الأموات والجمادات، فالأمر كله بيد الله، ولا يعبد إلا الله. وهذا الذي قاله هؤلاء الأنبياء الثلاثة أنا معهم عليه، فأنا قد آمنت وتركت الشرك والأوثان ورجوت من الله المغفرة، وإن عدت إلى دينكم فأنا في خطأ وضلال ظاهر بين، ثم زاد وصرح وأعلن كما هو شأن المؤمن الثابت.
قوله: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:25]، فهو ليس ربي فقط، وإنما هو ربي وربكم، وقد آمنت به إلهاً واحداً وخالقاً رازقاً، بيده الخير كله، والشر كله، خلق الجنة والنار، خلقنا في الدنيا التي هي برزخ للآخرة، وخلق الآخرة للدوام، إما إلى جنة وإما إلى نار، فالنار للمشركين وعصاة المسلمين، من شاء الله أن يعذبه وشاء أن لا يغفر له، والنار للكافرين أبداً دواماً، فهؤلاء للأبد وهؤلاء للأبد فلا موت.
قوله: فَاسْمَعُونِ [يس:25].
أي: فاسمعوا هذا الكلام وافهموه، فأنا قد آمنت.
وقال هذا لما قالوا له: أأنت مؤمن بهؤلاء ومقر برسالتهم؟ وهل تركت دين قومك؟ فقال: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:22] إلى أن قال: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:25]. وفي هذه الساعة نفذ صبرهم، وانتصروا لشركهم وآلهتهم المزيفة الباطلة، فقاموا إليه ورجموه بالحجارة حتى الموت.
وقال الحسن البصري : ربطوه في حنجرته بعد أن أدخلوا فيها حديداً ورموه بالحجارة وعلقوه مصلوباً، كما قتلوا الأنبياء الثلاثة على ما ظهر منهم من بينات ومعجزات وعلامات على صدق رسالتهم ونبوتهم من إحياء الموتى وشفاء المرضى، ولم يخطر على بال أحد منهم أن يقول: إن هؤلاء ليسوا سحرة، فالساحر لا يحيي الموتى، ولا يشفي المرضى، وخاصة المريض المزمن، والذي يصاب بالجنون أو بالجذام، نسأل الله اللطف والسلامة.
فعندما مات قال له ربه: ادخل الجنة، وقال له الملائكة: ادخل الجنة، منعماً بلا حساب ولا عقاب؛ لأنه مات شهيداً في الدعوة إلى الله، وقد كان واقفاً بين هؤلاء غير عابئ بعصيانهم ولا بوعيدهم ولا بتهديدهم، وهذا مما أقرته شريعتنا ودعت إليه، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (سيد الشهداء
قال تعالى: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27].
فقد كان هذا الشهيد داعياً إلى الله في حياته وبعد موته، وقد كان يقول وهم يعذبونه ويمكرون به: (اللهم اهد قومي، اللهم أصلح قومي)، فعندما أفضى إلى ما قدم قيل له: ادخل الجنة، قيل: إنه انفصلت روحه عن جسده، فأصبح في الجنة مع الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، فعندما دخل الجنة وتمنى أن يعلموا حقيقة ما ظنوا فيه السوء، فقال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي [يس:26-27]، أي: من الذنوب السابقة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الإسلام يجب ما قبله).
فقوله: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي [يس:26-27] أي: بالذي غفر لي ربي معه لتوحيده، وللإيمان بأنبيائه، فلا أشك بما أتوا به.
قوله: وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:27].
أي: أكرمني بالمغفرة، وأكرمني بدخول الجنة بلا حساب ولا عقاب، ولكن قومه لم يعلموا ذلك، ولو علموا لكان سبباً لهم في مسيرة خلودهم، وفي دخلوهم إلى الجنات.
وقال ابن عباس : لقد كان حبيب النجار يسكن خارج القرية، فلما سمع بالأنبياء جاء إلى أهل القرية ودعاهم إلى توحيد الله وعبادته.
فقوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [يس:13]، ضربه الله مثلاً للذين يدعون قومهم وعشيرتهم، وعلى رأسهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو مثال لكل داعية، فقد كان صلى الله عليه وسلم، يدعو الناس إلى الإيمان بالله، والإيمان بكتبه، والإيمان برسله، والإيمان باليوم الآخر، والله ضرب هذا مثلاً للدعاة إلى الله.
قال تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [يس:28-29].
قال ابن جرير في تفسيره لهذه الآية: وما أنزلنا على قوم هذا المؤمن الذي قتله قومه لدعائه إياهم إلى الله ونصيحته لهم (من بعده) يعني: من بعده مهلكه، مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ [يس:28].
أي: من بعد دخوله الجنة ما أنزلنا على قومه جنداً من السماء ولا ملائكة من السماء، (وما كنا منزلين) أي: وما كنا لننزلهم ونأمرهم بضربهم والقضاء عليهم، فقد كانوا أقل من ذلك.
(إن كانت إلا صحية واحدة) فقد أمر جبريل الروح الأمين أن يصيح بهم، فتزلزل بهم الأرض وماتوا.
فقوله تعالى: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً [يس:29]، أي: لم تكن هناك إلا صحية واحدة، فقد أمر الله جبريل أن يصيح أهل القرية، (فإذا هم خامدون)، أي: ماتوا جميعاً البتة ومضوا، وهدأت أنفاسهم وحركاتهم، فلم يبق منهم شخص قائماً.
وقد ضرب الله هذه القصة مثلاً لكل عشيرة وقبيلة وفرد إذا أصروا وفعلوا مثل هؤلاء المشركين، فإن الله سيفعل بهم مثل ذلك، ومثل ما فعل بالسابقين الأولين.
قال تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ [يس:30-31].
هؤلاء ضربت لهم الأمثال والأشباه لعلهم يتعظون ويعون ويرجعون يوماً إلى أنفسهم ما دامت الحياة تجري في عروقهم، فيؤمنون بالله، ويقولون: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. فهؤلاء ألم يسمعوا ويبلغهم ما جرى على الأمم السابقة الذين مزقهم الله ودمرهم في الدنيا قبل الآخرة، وذهبوا بين غريق ومرجوم من السماء ومصاب بالصرعة وبالصيحة ومن خسفت به الأرض، وسويت به.
وكل أولئك قد قص الله علينا قصصهم من قوم نوح إلى عاد إلى ثمود إلى مدين إلى فرعون وهامان إلى قوم لوط، فقد قص الله علينا كل ذلك، لنتخذ منهم عبرة، لا لنسمع قصة ونسمر عليها، ولذلك القصص لا تذكر الأسماء ولا التواريخ؛ لأن العبرة ليست بذلك، وإنما ذكرت لأخذ العبرة منها، ولذلك لم يذكر هنا أسماء الأنبياء الثلاثة، وكون المفسرين ذكروا لهم أسماء مثل: صادق وصدوق، وشمعون ويوحنا، إلى أسماء أخرى، فهذا لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما نقلوا هذه الأسماء عن كعب الأحبار ووهب بن منبه ، وهم في الأصل كانوا أهل كتاب، فذكروا ذلك من كتب بني إسرائيل التي جمعت الغث والباطل والشرك وعبادة عزير، وعبادة العجل، وأنهم جميعاً أبناء الله، كما ذكروا ذلك في الإنجيل وفي التوراة، وجعلوا من التوراة والإنجيل كتابي شرك، وذكروا أنهم أبناء الله، وأن عيسى ابن الله، وأن مريم صاحبة الله، وأن العزير ابن الله، وأن العجل إلههم، وذلك من ضلالاتهم، فضلت أجيالهم من قبل؛ بما زادوا وأدخلوا عليها.
وأما حين جاء الإسلام فلا دين إلا الإسلام، كما قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، ولم يقبل الله سواه، وهكذا بالنسبة لكل العالم من الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعده وإلى يوم النفخ في الصور، قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، فهو النذير البشير، وهو الرسول المرسل من الله جل جلاله، لينذر ويبشر كل هذه العوالم منذ ظهر فيها في الأرض المقدسة، وقال له الله: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وقال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].
فهذه القصص ذكرت لأمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ممن عاصره ومن أتى بعده وإلى يوم القيامة حتى لا يصنعوا مثل الأمم السابقة من تكذيب الأنبياء، وتكذيب كتب الله المنزلة عليهم، وتكذيب ما جاء به رسل الله الكرام.
قال تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ [يس:28].
فلم نحتج لذلك، ولم نحتج في القضاء عليهم لإنزال جيش من الملائكة، وإنما أمرنا جبريل فصاح فيهم صحية فإذا هم خامدون هالكون ميتون، فلا حياة ولا حركة.
ثم قال تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس:30]، في قواعد لغة العرب ونظمها أن (يا حسرتي) كلمة تعجب، من الندم والحسرة، وهي نكرة، أي: يا ما أشد حسرتهم، وما أشد ندمهم، وما أشد عقوبتهم وأنكاها عليهم عندما يبعثون ويجدون أنفسهم قد تأكدوا أنهم كانوا في الدنيا ظالمين، فلم ينتهزوا حياتهم قبل موتهم، ولا شبابهم قبل شيخوختهم، ولا فراغهم قبل شغلهم، ولا صحتهم قبل سقمهم، حتى هلكوا وماتوا على الشرك وعلى الظلم.
قال تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ [يس:30] أي: الذين أشركوا وماتوا مشركين في جميع الأمم، من أمة آدم وذريته، إلى أمة إدريس، إلى نوح فمن بعده.
والحسرة أشد الندم، فهم يندمون ويتفجعون على ما فات ولا يعود.
قال تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ [يس:30]، أي: لا يأتيهم رسول إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الحجر:11]، أي: يسخرون ويكفرون ويجحدون ولا يهزأ بنبي إلا كافر، فيستهزئون معناها: أنهم أشركوا بالله وكفروا برسل الله، وهذا كفر بالله. أو ما جاءهم رسول من الله إلا استهزءوا به، وهكذا كل الأنبياء. ولذلك يقول ربنا لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
فأكثر أهل الأرض مشركون كافرون، ومن هنا علمنا أن نظام الأكثرية والأقلية في البرلمانات نظام يهودي، فهم يأتون إلى الأكثرية الجاهلية الظالمة الحمقى التي لا عقل لها، ويشترونها تارة بالمال وتارة بالنفود والسلطان وشهوات الدنيا ونزواتها؛ ليكونوا في صفهم وعلى رأيهم، والحق واحد لا يتعدد، ولو كان القائم به واحداً، ولقد كان النبي عليه الصلاة والسلام له أحكامه بين الخليقة كلها، وكان هو الجماعة، وهو الحق، ثم آمن به امرأة ورجل، وإلى بعد تسع سنوات لم يؤمن به أكثر من أربعين شخصاً، وكانت هذه القلة المؤمنة هي الحق، وهي الجماعة المأمورون نحن باتباعها.
فليس الحق بكثرة العدد ولا بكثرة الأصوات، ولكن الحق بالدليل والبرهان من الله، وأما هذه الندوات المزيفة والبرلمانات الكاذبة فهي نظم يهودية في أكثرها، يجتمع فيها الغث والجاهل والمأجور، ويقال لهم: ماذا ترون أنعود لشريعة الله فنحكم القرآن والسنة النبوية؟ فتقول الأكثرية: لا. فيلغون الحكم بهما، وهذا شرع، فالمجلس التشريعي شرع أن القرآن والسنة لم يعودا صالحين للحكم، والله قد قال عن الهادين الصالحين:
ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:13-14].
فليس الحق إلا مع من معه نص من قول الله أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الكثرة فهي على الضلال.
وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (إن أمتي بين الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود). فهي قلة قليلة، ومع ذلك فأكثر سكان الجنة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمم السابقة كانت أديانهم قومية، ورسالات أنبيائهم قومية، فكان الأتباع قلة.
أما نبينا عليه الصلاة والسلام فكان رسول الكل، ونبي الخلائق من مشارق الأرض ومغاربها، أبيضها وأسودها، من عاصره ومن أتى بعده وإلى يوم القيامة، فلا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، فكانت أمته أكثر الأمم، وكان المؤمنون به أكثر من المؤمنين بغيره من الأنبياء من آدم فمن بعده إلى آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى عليه السلام.
وهكذا أمرنا صلى الله عليه وسلم أن ندور مع الحق حيث دار، لا مع الكثرة، فالكثرة في أغلب الأحيان تكون على الباطل والضلال، كما قال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة يس [68-70] | 2077 استماع |
تفسير سورة يس [47-54] | 1987 استماع |
تفسير سورة يس [1-12] | 1823 استماع |
تفسير سورة يس [71-81] | 1628 استماع |
تفسير سورة يس [1-5] | 1488 استماع |
تفسير سورة يس [39-46] | 1334 استماع |
تفسير سورة يس [31-38] | 1252 استماع |
تفسير سورة يس [55-67] | 1010 استماع |
تفسير سورة يس [13-19] | 518 استماع |