خطب ومحاضرات
تفسير سورة يس [31-38]
الحلقة مفرغة
قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ [يس:31].
أي: ألم تر قريش والعرب والناس في مشارق الأرض ومغاربها أنهم ليسوا بخالدين ولا دائمين، وأنهم لا محالة ميتون؟ فلم يتساءلوا يوماً لم خرجنا إلى هذا الوجود؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين النهاية؟ وماذا بعد النهاية؟
وقد أجاب الله عن ذلك في قوله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
فما خلقنا هذه الدنيا التي هي مزرعة للآخرة وقنطرة إلى الآخرة، وبرزخ لها إلا لعبادة الله، وكما كنا أطفالاً في المدارس ننجح ونفشل، فهكذا الدنيا مدرسة، فمن نجح يوم القيامة أخذ كتابه بيمينه، وكان من الناجحين، وعند الامتحان يعز المرء أو يهان، ومن لم ينجح وكان راسباً أخذ كتابه بشماله، فكان أهل اليمين في الجنة، وكان أهل اليسار في النار.
ومن غريب ما يتلفظ به اليوم أن هل الضلال والباطل والإلحاد والكفر يقولون عن أنفسهم: إنهم يساريون، ويقولون عن المؤمنين الذين يؤمنون بالله وبرسل الله وبدعوة الله: إنهم يمينيون. ونرجو أن نكون من أهل اليمين، وأن يكرمنا الله يوم القيامة بالجنة مع أهل اليمين، وأن نأخذ كتابنا باليمين، وأن يجنبنا أهل اليسار في الدنيا والآخرة، فكان قول هؤلاء إرهاصاً لما يستقبل من أعمالهم، إلا من تاب وأناب.
قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ [يس:31].
أي: من الأمم، ويطلق القرن على الزمن وعلى أهل الزمن، والقرن قيل: مائة سنة، وقيل: أربعون سنة، وأصبح الاصطلاح الجاري أنه مائة سنة، فنقول مثلاً: مضى على الهجرة النبوية 14 قرناً، فالقرن مائة سنة.
ومعنى الآية: ألم تروا كم أهلكنا من القرون، فأين الأمم والشعوب الماضية؟ لقد هلكوا مع من هلك، وماتوا وانتهوا وذهب بكفارهم إلى النار، وكان المؤمنون منهم قلة، وهم أهل الجنة، كما قال تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:13-14].
فقوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا [يس:31] أي: ألم ير هؤلاء الكفار، كَمْ أَهْلَكْنَا [يس:31]، أي: أهلكنا كثيراً مِنَ الْقُرُونِ [يس:31]، أي: من العصور ومن الأجيال ومن الأمم. أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ [يس:31]. وهذا ينفي ما ادعاه أهل التناسخ من أنه في الدنيا تنتقل الروح من جسد إلى جسد، وأنهم يخرجون من الدنيا، فإن كانوا صلاحاً عادوا لجسد صالح، وإن كانوا فساقاً عادوا لجسد فاسق، أو بعثوا في شكل قرد أو كلب، وتلك عقائد الوثنيين وعقائد المجوس ممن يقولون بتناسخ الأرواح، والحق أنه لن يرجع إلى الدنيا أحد ممن مات فيها إلى أن يرجع الكل يوم القيامة، يوم العرض على الله، يوم البعث والنشور.
قال تعالى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:32].
يقول ربنا: وَإِنْ كُلٌّ [يس:32].
أي: كل الخلق من البشر والجن والملائكة والمخلوقات.
لَمَّا جَمِيعٌ [يس:32].
(لما) بمعنى إلا، أي: ليس كل الناس إلا يوم القيامة محضرون بين يدينا، وعائدون إلى قضاء الله والفصل بين الخلق، فللظالم جزاؤه، وللعادل جزاؤه، فهذا إلى الجنة وهذا إلى النار.
وذكر الله عن هؤلاء الذين هلكوا في القرون الغابرة أنهم ستتبعهم قرون، ثم الكل ممن مضى قبل ومن لا يزال في عصرنا ومن سيأتي بعدنا كلهم محضرون، وكلهم ستحضرهم الملائكة بين يدي الله يوم القيامة للحساب والقضاء والفصل بينهم في أنفسهم بالنسبة لمن مات مؤمناً ومن مات كافراً، وبينهم وبين غيرهم بالنسبة لمن ظلم ولمن جار وسفك الدماء وهتك الأعراض وأكل الأموال بالباطل.
قال تعالى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:32] أي: وليس كل هؤلاء إلا محضرون جميعاً بين يدينا، وسيبعثون ويعيشون بعد الموت، ويأتون يوم القيامة راضين أو كارهين للحساب، ليوم كان مقدراه ألف سنة مما تعدون.
قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس:33].
يقول ربنا: هؤلاء الذين أنكروا البعث والحياة بعد الموت، أفلم تكن لهم آية وعلامة ودليل وبرهان قاطع ما يرونه بأعينهم ويحسونه بأجسامهم من إحياء الأرض الميتة.
قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ، وقرئ الميّتة، وهما بمعنى واحد، أي: أفلم تكن لهم آية في الأرض؛ فأيام الشتاء تيبس أشجارها ويتحات ورقها وتصبح الأرض وكأنها لم تنبت يوماً، فإذا جاء فصل الربيع أخذت الأشجار في التلقيح، والأرض في الإنبات، ويرسل الله المطر والغيث، وإذا بها حية بعد الموت تهتز وتنبت وتربو وتصعد، فتنبت شجرها الذي يبس، وتنبت ما كان فيها من حب، ثم يصبح سنابل، ثم ثمر، ثم يصبح حباً وفواكه من كل نوع زوجان.
قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا [يس:33] بالماء والمطر والغيث، وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس:33]، بعد أن أحياها بالمطر أخرج منها حباً من القمح والشعير وما إلى ذلك، فنأكل منه نحن ودوابنا ومواشينا، فنحيا بذلك ونعيش عليه، وهذا الحب والقمح أنبته وخلقه الله جل جلاله، ولا تستطيع قوة في الأرض أن تخلقه أو تخلق مثله، بل لو اجتمعوا على أن يخلقوا ذباباً لما استطاعوا، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب.
قوله تعالى: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس:33] أي: منه يأكل الجاحدون والمؤمنون، ومنه تأكل دوابهم ومواشيهم وجميع الأحياء.
قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:34-35].
يذكر ربنا أنه جعل لنا من الأرض جنات وبساتين، فيها من الأشجار من كل نوع من الحب والفواكه والخضروات والثمار وكل ما يرجوه الإنسان ويشتهيه في الأرض، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [يس:34].
وذكر النخيل والأعناب لأنها ثمارها سيدة الفواكه، فالتمر طعام وفاكهة لنا ولدوابنا، وقد أثنى عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما سأل يوماً في المجلس: (أي الشجر هو كالإنسان لا فُضل فيه؟)، أو كما عليه الصلاة والسلام، وكان في المجلس عبد الله بن عمر وهو أصغرهم، فأخذ الحاضرون يقعون في شجر البوادي وكانوا من كبار القوم، كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الرعيل الأول يذكرون أنواع الشجر إلا النخلة لم يذكروها، إلى أن قال لهم عليه الصلاة والسلام: (هي عمتكم النخلة)، فقال عبد الله لأبيه عمر : والله يا أبي! لقد خطرت ببالي، ولكنني استحييت أن أقولها، قال: لو قلتها لكان أحب إلي من حمر النعم.
فقد أراد عمر أن يقول ولده هذه الكلمة؛ لتدل على ذكائه ونبوغه.
وقوله: (عمتكم النخلة) قالوا: لأن أبانا آدم خلق من تراب، وما بقي من صنعه وخلقه خلقت منه النخلة، فكانت أختاً لأبينا آدم.
والنخلة كلها: شجرها وجمارها وسعفها ينتفع منه، فالتمر يؤكل فاكهة لذيذة وحلوى، وما سوى ذلك يتخذ حطباً، والنوى تعلف به الإبل فتسمن منه وتقوى، وليس في التمرة ولا النخلة فضول أو زائد.
قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [يس:34]، فذكر النخلة لرفعتها والأعناب تأتي بعدها، وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ، أي: ومن باقي الثمرات والفواكه كلها.
قال تعالى: وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ [يس:34].
فجر الله الأرض عيوناً؛ لتسقي هذه الثمرات، وليعيش بها الإنسان، ويتقوى عليها إلى أن يموت كما يموت كل حي.
قوله تعالى: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ [يس:35].
خلق الله هذه البساتين والجنات والحبوب؛ ليأكل الناس من ثمرها -والثمر جمع ثمرة- ومن فواكهها ومن نتائجها ومما تنبت وتعطي، كما قال تعالى: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ [يس:35].
فهم لم يصنعوا ذلك بأيديهم وإنما الله هو الذي خلق التمر والثمر وكل نوع، والماء الذي نسقي به هو الذي خلقه، والتراب الذي ينبت هو الذي خلقه، واليد التي تحرثه وتستنبته هو الذي خلقها، والعقل الذي يفكر ويدبر ويخطط هو الذي خلقه، فالكل إذاً خلق الله، وليس لنا من ذلك شيء. وإذا أراد الله أن يظهر فضله عليك خلق ونسبه إليك، كما قال تعالى: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:35]. أي: قل لهؤلاء: إن هذه الثمار والجمال والسماء والأرض وما في أنفسكم وما رزقتم به؛ كل هذا من خلقه وصنعه، وإذا كان كذلك ولا يستطيعون جحوداً لذلك ولا إنكاراً أفلا يشكرون؟ وهو استفهام تقريري، أي: ينبغي أن يشكروه، والشكر يكون بالعمل وبالقول، ومن القول: لا إله إلا الله، وهي أعظم الشكر، والحمد لله، والشكر لله، ويكون بالعمل، مثل: الصلاة والصيام والزكاة والحج، وجميع الأعمال الصالحة التي هي عبادة لله، وكذلك ما كان خدمة لعباد الله وسعياً لمصالحهم.
قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36].
يقول تعالى: ( سبحان ) يسبح نفسه وينزهها عن قول الكافرين والجاحدين، أو يتعجب، والعربي إذا أراد العجب قال: يا سبحان الله! أو سبحان الله! فإذا كانت بمعنى العجب فهي صحيحة، وإذا كانت للتسبيح والتمجيد فهي صحيحة.
فينزه الله نفسه ويتعجب: أمع كل هذا الذي تراه العين وتسمعه الأذن ويحسه البدن لا يزال هؤلاء على الكفر والجحود والفرار عن دين الله ودين رسوله صلى الله عليه وسلم وكتاب الله المنزل ورسوله المرسل صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟! يا عجباً لهؤلاء!
أو أن الله يعظم نفسه، ويعلمنا أن نسبحه جل جلاله، ونصفه بكل كمال وننزهه عن كل نقص، وهو ربنا جل جلاله لا يشبه أحداً من خلقه ولا يشبهه أحد من خلقه، فليس كمثله شيء، ولم يكن له كفواً أحد.
والأزواج هنا: الأصناف والأنواع. فالله خلق من كل صنف من مخلوقاته زوجين، مثل صنف البشر، وصنف الجن، وصنف الدواب، وصنف الحيوانات، وصنف الطير، وصنف الحشرات، وصنف الجمادات جبالاً ووهاداً وبراراً وبحاراً وسماءً وأرضاً، وخلق أول ما خلق الماء، وكان عرشه على الماء، ثم خلق بعد ذلك الأرض، وخلق من الأرض الكل، فأنبت من الأرض الإنسان والحيوان والنبات والثمر، وخلق أبانا آدم من تراب، وأمنا حواء من ضلع من أضلاعه، ثم بعد ذلك خلقنا نحن من نطفة، وخلقنا ذكراً وأنثى، وهكذا خلق كل الخلق، كما قال ربنا: مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ [يس:36].
وخلق السماء وكانت جزءاً من الأرض. أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء:30]، وهؤلاء الضالون من أوروبا وأمريكا صعدوا إلى القمر، وأنزلوا بعض ترابه وحللوه فوجدوا أن التراب هي مادة القمر.
وقد أخبرنا الله منذ ألف وأربعمائة سنة وعلمنا أن السماء والأرض كانتا رتقاً، أي: قطعة واحدة وجزءاً واحداً، ففتقهما، أي: خلق منها السماء، وخلق السماء الثانية من الأولى، والثالثة من الثانية، وهكذا، والكل من الأرض من التراب.
قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ [يس:36].
وكذلك الله تعالى خلق منا نحن أزواجاً، فخلق من أبينا آدم زوجته حواء، ثم خلق منهما بواسطة النطفة ذرياتهما وأولادهما، وتزاوج الذكور والإناث، وهكذا دواليك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
قوله: وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36].
أي: خلق الله في الأرض خلقاً بعضه في قعر البحار، وبعضها في السموات مما لا نعلمه، ولم يره الآباء والأجداد ولم يحدثونا عنه البتة؛ إذ الدخول إلى قعر البحار إن تيسر في جهة لم يتيسر في الباقي، وإذا تيسر في الجهة التي ليست شديدة العمق فإنه يكون في لحظات لا تتجاوز وقتاً قصيراً، فما في البحار من خلق لا يعلمه إلا الله. وقد قال ربنا: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ [الشورى:29]، أي: ما أودع في السموات وفي الأرض من دابة، والدابة ما يدب على وجه الأرض، ومعناه: أن في الأفلاك والسموات العلا خلقاً من خلق الله تدب على الأرض، وليست هذه صفة الملائكة، إذ الملائكة ذوو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وما شاء الله بعد، ولا تطلق الدابة إلا على من دب على وجه الأرض، على اثنتين أو على أربع أو على أكثر من ذلك.
قال تعالى: وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36] فقد خلق من الخلق ما لا نعلمه نحن ولا آباؤنا ولا أجدادنا، وإن عرف ذلك البعض فلا يعلمه البعض الآخر، ولا شك أن الكثير من خلق الله لا يعلمه جميع الخلق، والله يلفت أنظارنا لنعلم ذلك، ونزداد لله تسبيحاً وعبادة وإيماناًً بقدرته، وأنه القادر على كل شيء، فهذه الأزواج والأصناف من أنواع المخلوقات الذي خلقها ورزقها ودبرها الله جل جلاله، ولم يخلقها رئيس ولا شريف.
قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ [يس:37].
أي: ومن آيات الله على قدرته وعلى إرادته وعلى وحدانيته، الليل وسلخ النهار منه.
وقوله: اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ [يس:37].
أي: نكشف وننزع ونأخذ ونزيل، فالآية لهؤلاء الكافرين الجاحدين أننا نأتي إلى الليل والظلام الدامس فننزع عنه نوره وضياءه، فإذا الناس مظلمون، أي: في ظلام.
يقال: أظلم إذا دخل في الظلام، وأظهر إذا دخل في وقت الظهر، وأمسى إذا دخل في وقت المساء، وأصبح إذا دخل في وقت الصباح، قال تعالى: فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ [يس:37]، أي: إذا هم يعيشون في ظلام، إذا أخرج الرجل يده لم يكد يراها، ومع ذلك أولج الله الليل في النهار والنهار في الليل، وذكر الليل، وأن الله نزع منه ضياءه ونوره.
فقوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ [يس:37].
أي: ننتزع ونستخرج ونأخذ، فهو يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، فيأخذ النهار والضياء والنور وينزعه عن الليل فيصبح ظلاماً، ويصبح الناس في ظلام، وهذا لا يفعله إلا الله، ولا يستطيع أحد من الخلق أن يفعله.
قال تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس:38].
وهذه الشمس التي تجري ليلاً ونهاراً إذا غربت عن المشرق أشرقت في المغرب، وإذا غربت عن المغرب أشرقت في المشرق، وهكذا دواليك.
وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام في مسجده النبوي وقد غربت الشمس، فدخل عليه أبو ذر الغفاري فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـأبي ذر : (أين ذهبت الشمس؟ فقال
وهكذا فسروا هذه الآية، وقال قوم: ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق، فهو لا يقول إلا الحق، ولكن الشمس مع ذلك هي دائماً تدور وتجري، ولا تكاد تشرق في أرض إلا وتغرب في أرض، فهي تجري دائماً، ومستقرها تحت العرش -كما قال عليه الصلاة والسلام- يوم القيامة عند نهايتها، عند فناء الأرض بأقمارها وبشموسها وبسمائها، وبكل من عليها.
وفي قراءة شاذة لـابن مسعود ولـابن عباس : (والشمس تجري لا قرار لها)، أي: تجري باستمرار وعلى الدوام ليس لها مستقر، واستقرارها يوم تفنى الدنيا في نهايتها، وهذا هو الذي فسروا به حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (تحت العرش تسجد) أي: عندما تنتهي الدنيا وتفنى، وفي الحديث الآخر في صحيح مسلم : (إن الشمس تجري لمستقرها تحت العرش فتسجد، فتستأذن الله في الطلوع فيأذن لها، إلى أن يأتيها يوم فتسجد، فتصلي وتغرب، فتستأذن في الشروق فلا يأذن لها، وإذا بها تشرق من مغربها، ثم تلا عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]) أي: عندما تشرق من مغربها.
وهي علامة من علامات الساعة الكبرى، وعندما تشرق من مغربها تتغير طبيعة الأرض، ويكون ذلك سبباً لانتهاء الدنيا وفنائها والقضاء عليها، وتصبح كلها كالعهن المنفوش، كما قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].
ومعنى قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [يس:38]: وآية لهم أن الشمس تجري إلى قرارها وإلى نهايتها، وهي تجري أبداً وباستمرار منذ خلقها الله وإلى يوم القيامة، وتلك آية من آيات ربنا، وعلامة من علامات توحيد الله وقدرته وألوهيته، فأين هؤلاء الجحدة الكفار؟ وأين عقولهم وفهمهم ومداركهم؟ وكيف غاب عنهم ذلك؟
ولذلك فالله تعالى في كتابه يلفت أنظارنا ويأمرنا بأن نعمل عقولنا وفكرنا ووعينا لنفهم عن الله، وقد خاطب الله في كتابه العقل قبل أن يخاطب أي شيء، ونحن نستطيع بما تلاه الله علينا وأنزله على نبينا صلى الله عليه وسلم أن نأتي بالأدلة القاطعة التي لا ينكرها عقل على قدرة الله ووحدانيته.
وهنا خاطب الله نبينا صلى الله عليه وسلم، والخطاب له خطاب لنا، فمن أنكر ذلك فقبل أن نصفه بكفر أو شرك نصفه كما وصفه الله بقوله: هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان:44]. وقوله: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:179].
قوله: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس:38] أي: جريانها إلى قرارها ومستقرها تقدير من الله جل جلاله، حيث جعل لها وقتاً وزمناً وقدراً لا تتقدم عنه ولا تتأخر، فإن حدث فذلك يوم القيامة، فهي تشرق وتغرب في زمن لا يتقدم ثانية ولا يتأخر، إلا ما كان من إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل، فيطول هذا ويأخذ من هذا، فيطول النهار ويأخذ من الليل، ويطول الليل ويأخذ من النهار، ويستويان بعد ذلك في زمن معروف معدود، وذلك علامة وآية على قدرة الله ووحدانيته.
فهذه مسلسل من الآي الكريمات، فالله جل جلاله يعلم بني آدم؛ ليروا أن الله جل جلاله خالق الكون ومدبره، وهو خالق الإنسان بما فيه من عجائب، وخالق السماء بما فيها من كواكب، وخالق الأرض بما فيها من جبال راسيات وبحار، وما عليها وعلى السماوات من خلق، تلك آيات من آيات الله، وتلك علامات على قدرة الله، لم يستطع ذلك أحد غير الله تعالى، فهذه المعبودات لا تضر نفسها ولا تنفعها فضلاً عن غيرها.
قال تعالى: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ والعزيز الذي من اعتز به عز، ومن اعتز بغيره ذل، وهو القادر على كل شيء بعزته وقدرته، والعليم هو العالم بكل شيء ظهر أو خفي، وما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.
استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة يس [68-70] | 2084 استماع |
تفسير سورة يس [47-54] | 1988 استماع |
تفسير سورة يس [1-12] | 1826 استماع |
تفسير سورة يس [71-81] | 1629 استماع |
تفسير سورة يس [1-5] | 1490 استماع |
تفسير سورة يس [20-30] | 1358 استماع |
تفسير سورة يس [39-46] | 1335 استماع |
تفسير سورة يس [55-67] | 1012 استماع |
تفسير سورة يس [13-19] | 520 استماع |