تفسير سورة يس [55-67]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس:55-57].

الله جل جلاله كما يقرن المؤمن بالكافر، يقرن الكافر بالمؤمن في الكلام، فيبشر المؤمنين بما أعد لهم في الجنات، وينذر الكافرين بما أعد لهم في النيران والجحيم.

ومضى الكلام على أولئك الجاهلين الكافرين، والآن نتكلم في بيان حال أهل الجنة، فقال ربنا جل جلاله: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [يس:55].

أي: إن سكانها وأهلها المقيمين فيها هم في شُغُل.

وقرئ: (شُغْل فاكهون)، أي: مسرورون ومشغولون بالنعيم المقيم الدائم مما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم تشته نفس، لهم فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وفيها من كل فاكهة زوجان، وهم فيها أبد الآباد ودهر الداهرين لا يملون.

وأما الكفار الجاحدون الذين كانوا في دار الدنيا يستهزئون بالمؤمنين، وكانوا يشركون بربهم، فها هم اليوم في العذاب المقيم.

وقوله: (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ).

أي: هؤلاء المؤمنون يسكنون الجنة هم وأزواجهم ممن كن على طريقتهم ديناً وإسلاماً وطاعة وإيماناً.

وقوله: (فِي ظِلالٍ).

الظلال: جمع ظلة، ويوم القيامة لا شمس ولا حر ولا قر، والظلال هناك أشبه بالصباح قبل أن تشرق الشمس، وأشبه بالعشي حينما تصير الشمس على رءوس الجبال والتلال، هكذا وصف الجنة، لا حر ولا قر، ليس فيها شمس، وإنما هم في الظلال الدائم المستمر.

وقوله: (عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ).

الأرائك: جمع أريكة، والأريكة السرير إذا كان عليه ظلته وحجلته، تلك التي ترى في السرير من فوق، فهم على الأرائك والسرر في غاية ما يكونون من النعيم، وفي غاية ما يكونون من اللذة والتمتع مع الحور العين، وهناك ولدان يخدمونهم كأنهم اللؤلؤ المكنون، وهم دائمون في هذا النعيم.

وقوله: (لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ) أي: لهم فيها من أنواع الفواكه مما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان، فيها من جميع ما تشتهيه النفس، وتلذ العين مما أكرمهم الله به.

والأمر كما قال عبد الله بن عباس: كل ما ذكر في الآخرة من النعيم ليس منه في الدنيا إلا الأسماء، وما عدا ذلك الله أعلم بحقيقته، ولكنه مع ذلك فيه لذة تتمتع بها جميع حواس الإنسان جسداً وروحاً، ولكن تلك اللذائذ وتلك المتع وذلك النعيم المقيم ليس مما في الدنيا شيء يشبهه.

وأتم النعم وأتم اللذائذ رؤية وجه الله الكريم جل جلاله، فهم على السرر متكئون، لهم مساند يستندون عليها من الحرير والديباج الذي يكون في الجنة لمن لم يلبس الحرير في الدنيا، هم متكئون على سرر، وهم في نعيم دائم، وهم في ظلال لا حر فيها ولا قر، ولم يتفرغوا لمكالمة أهل النار ولجوابهم لما هم فيه.

وقوله: (وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ) أي: لهم فيها ما يدعونه وما يطلبونه مما يخطر ببالهم، فهو يحضر في الحين، ولا يرد لهم طلب، حتى إن الشجرة المثمرة المثقلة بأنواع الفواكه، إذا اشتهاها ساكن الجنة إذا بها تتدلى إليه، يأخذ منها بغيته وغايته ورغبته، وإذا اشتهى أكل الطير تجده يقع بين يديه مطبوخاً مشوياً على الطريقة التي يريد، وهكذا بقية اللحوم، وكذلك الفواكه وبقية اللذائذ مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

قال الله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58].

أي: يسلم عليهم الله جل جلاله، وفي الحديث النبوي الثابت في مسلم : (أن الله يتجلى على سكان الجنة بنور يكاد يخطف الأبصار، فيقول لهم: هل تريدون شيئاً؟ هل تطلبون شيئاً؟ هل أزيدكم؟ فيقولون: يا رب قد رضيت علينا وأعطيتنا من كل ما نتمناه، ومن كل ما يخطر في بالنا، فماذا عسى أن نزداد؟ قال: أريكم وجهي، وإذا بالله الكريم يتجلى لهم فيرونه، فيكون ألذ شيء لهم في الآخرة).

فرؤية الله ألذ من الطعام والشراب واللباس والحور العين وكل ما في الجنة، وتلك هي اللذة الروحية التي إذا حصلت لهم داموا في لذتها وداموا في نعيمها، وعندما أخبر عليه الصلاة والسلام أصحابه أنهم سيرون ربهم، قالوا له: (يا رسول الله! كيف نرى ربنا وهو واحد ونحن كثير؟ قال: كما ترون القمر لا تضاهون فيه)، القمر نراه واحداً، ونحن نعد بملايين، بل نعد بالمليارات مع كونه واحداً ونراه جميعاً ولله المثل الأعلى.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر لا تضارون في ذلك)

وقد قال ربنا جل جلاله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وجوه ترى عليها نضرة النعيم والعافية والنعمة والسرور والبهجة، وفي هذه الحال هي إلى ربها ناظرة، تنظره بأبصارها، وكيفية هذا النظر لا يعلمه إلا الله، وكل ما يخطر ببال فربنا مخالف لذلك، لا يشبهه أحد من خلقه، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، وما قال ربنا كائن لا محالة، وما أخبر به نبينا كائن لا محالة؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

وقد قال قوم من شراح الآية: تقول الملائكة وهي تستقبل أهل الجنة عند الدخول: سلام عليكم من ربكم، وليس هناك تعارض ولا تناقض، فالله جل جلاله يسلم عليهم إكراماً لهم ورضاً عنهم، ومع ذلك فالملائكة يسلمون عليهم من ربهم، ويبشرونهم بأنه طابت حياتهم.

فقوله: (سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) أي: ربنا الخالق الرازق الرحيم بعباده، من استرحمه رحمه، ومن استغفره غفر له، وهكذا أهل الجنة يكونون في رحمات من الله متتالية متتابعة، وفي رضاً من الله دائماً أبدياً. هذه صفة أهل الجنة.

قال الله تعالى: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59].

خاطب أهل الجنة بالرحمة والرضا من الله وملائكته، وهنا أهل النار خوطبوا باللعنة والغضب والسخط الدائم.

فقوله: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59]، أي: ليمتز شريركم من خيركم وليبتعد عنه، أي: تميزوا أيها المجرمون عن المسلمين وابتعدوا عنهم، وافترقوا عن أهل الجنة؛ لأنه لا صلة لكم بهم ولا صلة لهم بكم.

ويوم القيامة يتفرقون ويتصدعون، وتصبح الخلائق فرقتين: فرقة أهل الجنة، وفرقة أهل النار، لا يليق إذ ذاك بالكافر الجاحد المجرم أن يقف مع المسلمين أهل الرضا وأهل الجنة؛ لأن أهل الجنة أشرف من ذلك، وأهل النار أقل وأحقر من ذلك، فيأمرهم الله أن يتميزوا عن المسلمين، أن يتميزوا عن أهل الجنة، ويبتعدوا حتى يساقوا من قبل ملائكة النار، ويسبحون على وجوههم إلى النار خالدين أذلاء ملعونين، ولا يكون ذلك إلا إذا تميزوا عن المحسنين، وأصبح المسلمون في جانب والكافرون في جانب.

وقوله: (أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أي: الذين أجرموا في حياتهم بخلافهم لأنبيائهم، وبعصيانهم لربهم، وبخروجهم عن طاعة الله ورسله. فقد آن الأوان بأن يعاقبوا.

قال الله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس:60].

أي: ألم آمركم وأنزل كتباً عليكم بواسطة أنبيائكم، فقد كانوا يأمرونكم بعبادة الله وتقواه، ويأمرونكم باتخاذ الشيطان عدواً، فهو لكم عدو، ويأمرونكم بأن تعبدوا الله وحده، وكانوا ينهونكم عن عبادة الشيطان وطاعته واتباعه في الكفر، والخروج عن أمر الله وأمر الأنبياء وطاعتهم.

فقوله: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) استفهام توبيخي تقريعي، أي: قد كان ذلك، فقد آن الأوان لأن يقرعوا ويوبخوا ويعاقبوا، وذلك بأن يسحبوا إلى النار.

فالله جل جلاله يعيد عليهم ما أنزله على أنبيائهم، وما أمرهم به أنبياؤهم.

وقوله: (يَا بَنِي آدَمَ) كلنا بنو آدم منذ آدم وإلى آخر إنسان في الوجود.

وقوله: (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) وعبادة الشيطان طاعته، وكل كافر وعاص وخارج عن أمر الله وعن دين الله الحق وعن أوامر نبيه هو عبد للشيطان؛ لأنه أطاعه فتعبده، وأصبح من حزبه ومن أنصاره.

وقوله: (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي: إنه لعدو لبني آدم، وعداوته بينة ظاهرة، من يوم أن أخرج أبويهم من الجنة، ومن يوم أبى أن يسجد لآدم، وقد خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم استكبر وقال: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، تعاظم بأصله، وتوهم أن النار أفضل وأعظم من النور.

وهكذا يتعالى الناقصون المجرمون بأحسابهم وأنسابهم، وقد تكون تلك الأنساب وتلك الأحساب آباء مجرمين، وأجداداً مجرمين من الكفار أو من الجاحدين، أو من أنصاف المسلمين في أقل تقدير.

قال تعالى: وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:61].

قوله: (وَأَنِ اعْبُدُونِي).

أي: أن اعبدوا الله وخصوه بالعبادة، وأطيعوه كما أمركم، والأمر الإلهي بالنسبة للمؤمن المسلم من شيعة النبي وأتباعه عليه الصلاة والسلام، أن نصلي لله خمس صلوات في اليوم والليلة، وأن نصوم شهراً من العام، وأن نزكي عن أموالنا، وأن نحج مرة في العمر، وأن نقصد بيت الله الحرام حاجين طائفين ساعين، واقفين في عرفات، رامين للجمرات، ونحن نقول: لبيك اللهم لبيك!، وأن نترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن نأتي من الأوامر ما نستطيع أن نطيقه، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا).

وقوله: (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ).

أي: هذا الدين الذي أمر به نبيه، وأرسله به إلى الناس كافة هو الطريق المستقيم، وهو الطريق السوي الذي لا عوج فيه، وليس فيه بنيات للطريق، وجاء في الحديث: (أن النبي عليه الصلاة والسلام خط خطاً، ثم جعل في جوانبه خطوطاً منعرجة، وقال: هذا الخط المستقيم هو الإسلام، وتلك الخطوط هي بنيات الطرق التي يدعو الشيطان فيها أولياءه وأنصاره وعابديه).

وقد قال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (لقد تركتم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك).

فالطريق المستقيم هو الإسلام، وهو ما نداوم عليه في كل ركعة من الفرائض والنوافل في الصلاة، فنقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7].

والذين أنعم الله عليهم هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم على ذلك من المؤمنين والمسلمين.

وقوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) أي: ليس طريق اليهود ولا صراطهم.

وقوله: (وَلا الضَّالِّينَ) أي: ولا صراط النصارى الذين ضلوا الطريق كذلك.

قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس:62].

أي: قد أضل الشيطان الذي عبدتموه منكم خلقاً كثيراً.

وقرئ: (جِبِلًّا) و(جُبُلًّا) في القراءات السبع. وقرئ: (جُبْلا). وفيها روايات.

والجبل: الخلق الكثير، كيف وقد أكد ذلك بالكثير، والمقصود أنه أضل خلقاً كثيراً.

فأضلهم الشيطان عن الصراط السوي، وعن الإسلام البين الواضح، وعن طاعة الله وأوامره في كتابه، وعن طاعة رسوله في سنته وحكمته، وأضل الكثير على مدى الدهر، منذ آدم إلى نبينا وإلى عصرنا وسيبقى كذلك، قال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، أي: أكثر الأمم وأكثر الناس قد ضلوا الطريق، وعبدوا الشيطان، وتركوا عبادة الله.

وقوله: (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ).

هذا استفهام توبيخي تقريعي، أي: ألم تكن لكم عقول؟ كيف تطيعون من عاداكم، ومن أخرج أبويكم من الجنة، ومن ألزم نفسه أن يفرغ حياته ووجوده وسلالته لإضلالكم وإفسادكم؟!

هو يريد أن يخرجكم من الجنة إلى النار، إلى أن تصبحوا معه في النار خالدين أبداً، أليس لكم عقول؟ لقد أنذركم الله وأنبياؤه من الشيطان، وأنه عدوكم، فلا تحققوا ظنه فيكم عندما قال: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [النساء:119]، وقد ألزم نفسه بما ألزم، وطلب من ربه أن ينظره وأن يؤجل موته إلى يوم الدين، وقد استجاب الله له؛ ليكون ذلك فتنة للناس، وليعلم الله المؤمن من الكافر، والصادق من الكاذب، وهو ابتلاء واختبار.

والمعنى: أليس لكم عقول تميزون بها بين الصديق والعدو، بين المحب والكاره؟ فهذا نبيكم دعاكم إلى الله، وهو الحريص على إيمانكم، وهو الذي قال الله له: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3] فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8].

فالنبي عليه الصلاة والسلام تألم لنا، وتوجع من أجل أتباعه ممن لم يؤمن منهم، أو عصى ممن آمن، وما هذا إلا لأنه رحمة ومحب، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

لقد تركتم الحبيب صلى الله عليه وسلم، واتبعتم الشيطان الذي أضلكم وأركسكم وأوقعكم فيما أوقعكم فيه.

قال تعالى: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [يس:63].

أي: هذه جهنم التي طالما أنكرتموها، وطالما سخرتم عندما أنذركم بها أنبياؤكم، فأنتم الآن فيها نتيجة كفركم وعصيانكم لأنبياكم، ونتيجة طاعتكم لعدوكم.

قال تعالى: اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [يس:64]، أي: هذه جهنم قد احتوتكم وسحبتم إليها سحباً، فقد أصبحوا فيها في العذاب الخالد الدائم السرمدي، كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.

والذي صنع بكم هذا هو عدوكم الذي عبدتموه وأطعتموه وعصيتم خالقكم وأنبياءكم، فادخلوها واصلوا نارها، واحترقوا بلهيبها، وتعذبوا بما فيها من أنواع العذاب الدائم السرمدي.

وقوله: (بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ).

أي: بسبب كفركم، وبسبب جحودكم، وبسبب خروجكم عن ربكم وعن أنبيائكم، هذا جزاء الذي ترك السبيل واتبع العدو، وجزاء من ترك أمر الله الخالق الرازق، وأبى إلا أن يعبد الشيطان العدو المضل، فالشيطان قد أضلكم الضلال الذي أوصلكم إلى ما أوصلكم إليه.

قال الله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65].

فقوله: (الْيَوْمَ) أي: يوم القيامة، يوم العرض على الله.

جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه، فقال لأصحابه: أتدرون لم ضحكت؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: من أناس يجادلون ربهم، فقد حل عليهم القول) هؤلاء جادلوا ربهم عندما حوسبوا، وعندما عرضوا عليه، وقيل لهم: كفرتم وأشركتم وآذيتم وأفسدتم وصنعتم وصنعتم؛ فأخذوا يقسمون: عشنا مطيعين، عشنا مؤمنين، لم نشرك قط، وأخذوا يقولون: إنك يا ربنا حرمت الظلم، فقال لهم: من تريدون أن يشهد عليكم؟ فأشهد عليهم أنفسهم، فقد ختم على أفواههم، واستشهد الأيدي والأرجل والجلود والأفخاذ، وقال لها: ما صنع صاحبكن؟ فيقلن: كذب وافترى، وأشرك وكفر وعصى وزنى وسرق وفعل وفعل..، وهو لا يجيب، ثم يطلق الله لسانه، فيقول ليديه ولرجليه: بئست شهادتكن أشهدتن علي، وما كنت أنافح إلا عنكن؟ فقلن: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء.

وهكذا يقول ربنا هنا: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ).

أي: يختم على أفواههم فتغلق، فلا يستطيعون الكلام بعد أن شهدوا زوراً على أنفسهم، وكذبوا الملائكة الذين كتبوا عنهم ما كتبوا، وكفى بالكرام الكاتبين عليكم شهوداً، وكفى بأنفسكم عليكم اليوم شهيداً، وإذا بالأيدي والأرجل تتكلم، وإذا بالجلود تتكلم، والله يعيد لهذا المجرم كلامه ولسانه، فيذهب يخاصم نفسه بنفسه، كالمجنون عندما يضرب خده وجسده وأعضاءه بيديه ورجليه، لم شهدتن علي وعنكن كنت أناضل؟!

وقوله: (أَفْوَاهِهِمْ) مفرد فم، والكلمة لا تكون إلا بالإضافة.

أي: إلا باتصالها بالهاء مثل: فوه، وفاه.

وقوله: (وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ) أي: بالشهادة عليهم وتكذيبهم.

وقوله: (وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) أول ما يشهد من ذلك الفخذ اليسرى كما في صحيح مسلم ، لأن هذه الأفخاذ تكتب للسوء وتكبت للفاحشة، فتكون أول شاهد على صاحبها.

وقوله: (بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) أي: بما كسبوا حال حياتهم، وبما ارتكبوا من موبقات وإجرام، وبما استحقوا أن يقال عنهم: إنهم المجرمون كما خاطبهم الله أو خاطبتهم ملائكة الرحمن بذلك.

سألني فاضل من الحضور عن معنى قوله تعالى: قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:52].

فقوله: (قَالُوا) أي: قال هؤلاء الكافرون عندما بعثوا وكانوا ينكرون البعث: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) أي: من أيقظنا ومن أعادنا؟ ومن أوجدنا وأحيانا؟ وهم كانوا ينكرون أن تكون هناك عودة ورجعة وحياة بعد الدنيا، وبعد موتهم.

وقوله: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ):

قال الجمهور: أي: أخذ بعضهم يجيب بعضاً وهم يتساءلون ويقول بعضهم لبعض: يا ولينا من بعثنا وأحيانا بعد هذا الرقود الطويل والموت الطويل، فيجيب بعضهم بعضاً: هذا ما وعد الرحمن!

فهم تذكروا أن أنبياءهم نزلت بكتب من الله جل جلاله، وأن الإيمان باليوم الآخر والإيمان بالبعث عقيدة من العقائد، فمن أنكرها أنكر الإسلام وأنكر الدين وأنكر الأنبياء والكتب.

وقوله: (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) اعترفوا حينئذٍ ولن يفيدهم اعترافهم، كما قال ربنا: لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، فهم اعترفوا بعد فوات الأوان.

وقال بعض المفسرين: الذي قال ذلك هم المؤمنون، قالوا لهم مقرعين موبخين: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ) أي: هذا الذي كان يتلى عليكم حال الحياة في الكتب المنزلة على أنبيائكم، وكنتم تنكرون ذلك.

وقيل: قالت ذلك الملائكة زيادة في الحسرة والألم والإيجاع؛ قالوا لهم: هذا ما أنكرتموه ووعدكم الرحمن به، وصدق المرسلون الذين نطقوا بهذا عن الله.

ولكن الجمهور من مفسري الآية قالوا: هم قالوا ذلك؛ لأنهم عندما بعثوا، رجعت لهم ذكراهم وعقولهم، وأن هذا الذي كانوا ينكرونه سبق أن وعدوا به في حال الحياة، وقال لهم الأنبياء منذ آدم إلى نبينا: إن الإيمان بالبعث والنشور حق، وإن من لم يؤمن بذلك كان كافراً لا محالة، فهم كانوا يتساءون: كيف نعيش بعد أن نصير رمماً وتراباً وبعد أن نفنى؟ كيف نعود للحياة ثانية، وتعود إلينا أجسادنا وعقولنا؟ فهم ماتوا على الإنكار ثم بعثوا، فعندما بعثوا تذكروا أن هذا هو الذي كانوا ينكرونه، فأخذ يقول بعضهم لبعض زيادة في الحسرة والألم والندم: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ).

إذ ذاك تحققوا من وعد الرحمن، وأنه كائن لا محالة، وتأكدوا من صدق المرسلين، ولكن هذا الاعتراف لن يفيد، بل الروح ما دامت في الجسد قبل أن تصل الغرغرة تفيدها التوبة إلى الله، أما إذا وصلت الروح إلى الحلقوم، ورأى ملائكة الموت، لم ينفعه ذلك.

قال الله تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ [يس:66].

أي: لو شاء ربنا وهو القادر على كل شيء، الفعال لما يريد، والخالق لما يريد جل جلاله، لو شاء لطمس أعين هؤلاء وهم لا يزالون في دار الدنيا، ولو شاء لجعلها مطموسة فلا يعميها فقط، بل يجعل مكان العين كالجبهة، فيطمس مكانها ألبتة بحيث لا يبقى لها وجود فتصبح هناك جبهة وأنف وفم، وأما العيون فلا أثر لها.

قوله: (فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ) أي: أخذوا يتسابقون في الطريق، ولكن كيف يبصرونه ولا بصر لهم؟ ولا يفيدهم هنا علاج ولا طبيب، إذ لا عين يعالجها، فالطبيب لا يخلق العضو، ولكن الطبيب كالكهربائي إذا انقطعت الأسلاك ربطها بعضها ببعض، وإذا احترقت تلك الأسلاك جددها، وأما أن يأتي بالعضو الذي انتهى فيجعل له عضواً آخر فهيهات هيهات، ليس ذلك في قدرة أحد، إنما ذلك في قدرة الواحد وحده جل جلاله.

وقوله: (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي: كيف يبصرون؟ وبم يبصرون؟ وأما البصائر فقد كانت عمياء من قبل، وحتى الأبصار لو شاء الله لأذهبها، قال تعالى: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].