تفسير سورة يس [71-81]


الحلقة مفرغة

قال الله جل جلاله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:71-73].

يقول تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا [يس:71]:

الاستفهام هنا استفهام إنكاري تقريعي توبيخي، أي: أولم ير هؤلاء المنكرون المكذبون بالبعث والنشور، واليوم الآخر، الكافرون بالله ورسله وكتبه، أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا [يس:71]؟!

أليس لهم أبصار تنظر؟! أليس لهم بصائر يعلمون بها أن هذه الأنعام التي يرونها في الأرض من إبل وبقر وغنم خلقناها لهم بأيدينا؟! فهل لشركائهم شرك في ذلك؟! وهل أعانوا الله على هذا؟! تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً؛ فهو المتصف بالخلق، وهو القادر على كل شيء، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

والأنعام جمع الجمع، فهو جمع نعم، والنعم يشمل الإبل والبقر والأغنام، والمفرد يختلف فهو في البقر بقرة وفي الإبل جمل أو بعير أو ناقة، وفي الغنم معز أو ضأن.

يقول تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس:71].

أي: خلقنا ذلك بقدرتنا وإرادتنا من غير معين يعين، ولا شريك، ولن يكون ذلك أبداً، فخلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون، فهم لهذه الأنعام مالكون قاهرون، ويتصرفون فيها كما شاءوا، فإنك ترى الطفل الصغير يسوق الإبل في الحيطان وكذلك البقر، فلا تكاد تتحرك أمامه، ولو هاج واحد منها لداسه برجليه وكأنه لم يكن.

فقوله تعالى: فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس:71] أي: قاهرون متصرفون فيها بيعاً وشراءً كما يريدون.

يقول تعالى: وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [يس:72].

قوله: (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ):

أي: سخرناها لهم، يتصرفون فيها كما شاءوا، فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [يس:72] أي: فمن هذه الأنعام ركوبهم، والركوب: المركوب.

ولم يكن من المركوب في الزمن الأول غير الإبل والخيل ونحوهما، وقد خلق الله لنا في هذا الزمن الركوب على الحديد براً وبحراً وجواً، وأشار تعالى إلى ذلك في قوله: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8].

فيخلق ما لا يُعلم من أنواع المركوبات، فقدر جل جلاله أنه في عصر من العصور وزمن من الأزمنة -وهو الذي نعيش فيه- سيكون هناك أنواع من المركوبات من غير الدواب، وقد قال ابن عباس هذا، وكان الأمر كذلك، فنحن الآن نقول: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8] كالخيل والبغال والحمير والسيارة والطيارة والقطار والصاروخ والبواخر، وما إلى ذلك.

ولم يخبر النبي عليه الصلاة والسلام الناس بذلك؛ لأنه كان يعلمنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم، فلو قال للناس: سيُركب الحديد وسيطار عليه في الأجواء، وسيقطع ما يقطع سنة في بضع ساعات، لقال الناس عن نبي الله: إنه مجنون، ولو أن أجدادنا الذين لم يدركوا هذا عاشوا ورأوا الحديد يطير لما صدقوا، وأما نحن فعشنا حتى رأينا ذلك وعرفنا حقيقته، فلم نعد نستغرب، وإلا فذلك يدعو إلى الغرابة، إن هذه الطائرة تحمل خلقاً وسلعاً وتخترق الآفاق في قليل من الزمن، فكيف حصل ذلك؟!

لقد حصل ذلك بقدرة الله، كما أن الأرض والسماء محمولتان على غير عمد.

فالطائرة تسبح في الفضاء كما تسبح جميع النجوم الكواكب، فالله جل جلاله أعطى الإنسان من العقل ومن الوعي ومن الإدراك ما أخذ يصنع به ذلك.

وهناك رجل من الأندلس اسمه عباس بن فرناس فهو الذي اخترع الطيران، فقد اخترع شيئاً لم يصل إليه أحد قبله، حيث اخترع لنفسه جناحين، فطار بهما في الأجواء، ولكنه حال طيرانه علم أنه قلد الطائر في جميع خصائصه سوى الذيل، فأخطأ ونسي، حيث كان يظن أن ذيل الطائر لا فائدة منه، ولا علاقة له بالطيران، وليس الأمر كذلك، فبقي يطير إلى أن تعب، وإذا به يسقط بغير تدريج فيصاب في مقاتله، وذكر هذا لمن حضر موته، ولذلك نرى الطائرات اليوم لها في مؤخرتها ما يشبه الذيل يساعدها على النزول، يساعدها جناحاها على الارتفاع، فتناطح السحاب علواً.

يقول تعالى: وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [يس:72] .

أي: منها المركوب، فالركوب: المركوب، كما تقول: شاة حلوب، أي: محلوبة، وبقرة حلوب، أي: محلوبة، فالله تعالى جعل من هذه الأنعام ما يركب، وجعل منها ما يؤكل.

قال تعالى: وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ [يس:73].

فينتفعون بأوبارها وشعورها، ويصنعون بذلك الألبسة والفرش والخيام وما هم في حاجة إليه، فقوله تعالى: وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ [يس:73] جمع منفعة، (ومشارب) جمع مشرب، فنحن نشرب من ألبانها، وننتفع بشعورها وأوبارها، وننتفع بها ركوباً بين البراري والقفار.

يقول تعالى: وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:73].

أي: أفلا يشكرون الله على هذه النعم المتواترة المستفيضة؟! فلولاها لما رحل الإنسان ولما استقر إلا بعذاب.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: (السفر قطعة من العذاب)، فالسفر هو العذاب نفسه، وقد يظن ظان اليوم أن السفر على الطائرات والبواخر وعلى السيارات غير عذاب، وذلك ظن في غير محله، فنحن نركب البواخر، وعندما تأخذ الباخرة في السير فتتلاعب بها الرياح وتتلاعب بها العواصف يشعر الإنسان بأنه ميت، ولا منقذ له إلا الله تعالى، فترى البحر كما وصفه عمرو بن العاص ، حيث قال: داخله مفقود، والخارج منه مولود، والفلك في البحر دود على عود.

بل السيارات كذلك، فنحن نرى ما يحصل فيها من حوادث، فهل هناك عذاب أكبر من الخوف ومن الغرق ومن السقوط والحوادث؟!

وجواب قوله ربنا: أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:73] أن نقول: بلى -يا ربنا- نشكرك بكل حواسنا وخلايا جسومنا، فلك الحمد وحدك، فأنت المتفضل، لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت نفسك.

قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ [يس:74-75].

فمع هذه النعم المتوالية، ومع هذا الذي تفضل به الله على عباده من هذه النعم العظيمة نجد الكافر بالله والكافر بنعم الله لا يشكر الله على نعمه، بل لا يزيده ذلك إلا جحوداً وكفراناً.

يقول تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ [يس:74].

أي: يظنون أن هذه الآلهة التي لا تضر ولا تنفع ستنصرهم، سواء أكانت ملائكة أم جناً، أم بشراً، ومن باب أولى إن كانت جمادات، فكل أولئك لا ينفعون ولا يضرون، بل لا ينفعون أنفسهم ولا يضرونها، فالله هو الخالق والرازق لها، ولكن هؤلاء عميت بصائرهم، وضاعت عقولهم، فأصبحوا يعبدون ما لا يضر ولا ينفع، فعبدوا الأوثان ظانين أنها ستنصرهم في الدنيا، وستكون لهم شافعة يوم القيامة، وهيهات هيهات!

يقول ربنا: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ [يس:75].

فلا يستطيعون أن ينصروهم، فهم أعجز من ذلك وأقل من ذلك؛ إن كانوا لا ينفعون أنفسهم ولا يضرونها، فكيف ينفعون غيرهم أو يضرونه؟! والنافع هو الله، والله جل جلاله بيده الأمر كله، فمن هداه فقد وفقه للخير، ومن علم فساده هداه للشر.

فهؤلاء الشركاء لا يستطيعون نصر المشركين، ولا ينقذونهم من عذاب الله ومن أليم نقمته.

قال تعالى: وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ [يس:75].

فهؤلاء المشركون يكونون جنداً حاضرين في نصرة أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم، وهم في ذلك واهمون كذبة، فقد توهموا أنهم سينصرونهم، وهم أعجز من ذلك.

وفسر الحسن البصري قوله تعالى: وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ [يس:75] بأنه في يوم القيامة تحضر هذه الآلهة معهم، فيكون ذلك أبلغ في تعجيزهم، لأنهم ما عبدوا إلا الباطل، وما تعلقوا إلا بآلهة لا تضر ولا تنفع، فيتبرأ هؤلاء كلهم منهم ومن عبادتهم ويقولون: لم نأمرهم بأن يعبدونا، فيقول عيسى: إنما دعوتهم لعبادة الله الواحد كما أمر الله، والملائكة يقولون: كانوا يعبدون الجن، والجن تتبرأ منهم، ويقولون لهم: لم نأمركم بذلك، وإنما هو كلام سمعتموه فاتبعتموه فعبدتم بأهوائكم ونوازعكم ونزغات العقول منكم، والكل يومئذ يتبرأ منهم، فحضور تلك المعبودات للبراءة منهم زيادة في حجة الله البالغة عليهم.

وأما الجمادات فإن حضورها لأجل أن يشعر هؤلاء إذ ذاك بضلالهم ويندمون، ولات حين مندم، فيعلمون أنه ليس بيدها شيء، وأنها لا تنطق ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع.

ورجح هذا الرأي الثاني الإمام ابن جرير شيخ المفسرين والمؤرخين.

قال تعالى يخاطب نبينا عليه الصلاة والسلام: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [يس:76].

أي: فلا يحزنك -يا رسول الله- قول هؤلاء عنك: إنك كاذب، وإنك مجنون.

وإنما يحزن النبي عليه الصلاة والسلام ذلك ويؤلمه من أجلهم، كما قال ربنا له: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3].

فلعلك مهلكها وضارها لأنهم لم يؤمنوا، ولم يهتدوا ليدخلوا الجنة، فهو حريص على هدايتنا، وحريص على إيماننا، يؤذيه عدم إيماننا رحمة بنا وشفقة بنا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام هو الرحمة المهداة من الله للبشر، وهو الذي بعثه الله رحمة للعالمين، فكان حريصاً على هداية الناس، فإذا لم يؤمنوا أحزنه ذلك صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وجزاه الله عنا أحسن الجزاء.

يقول تعالى: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ [يس:76].

أي: لا تحزن لذلك، ولا تتألم لأقاويلهم الكافرة الجاحدة.

إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [يس:76].

أي: نعلم ما يسرون من تكذيبك، ونعلم ما يعلنون ويجاهرون به من عبادة الأصنام والآلهة التي اتخذوها من دون الله، ومعنى ذلك أنه تعالى يتوعدهم بأنه سيجازيهم على أعمالهم بالعذاب الدائم المقيم، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56].

قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:77-78].

يقول جل جلاله: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ [يس:77] و(أل) هنا للجنس، أي: جنس الإنسان، وليس المراد إنساناً بعينه، بل المراد كل إنسان من بني آدم وحواء ، المؤمن منهم والكافر.

يقول تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ [يس:77].

فالله قد خلقنا من نطفة، وخلق أبانا آدم من تراب، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه، كما قال الله في كتابه: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف:189]، ثم خلقنا بعد ذلك من نطفة تكونت من صلب الرجل ومن المرأة كذلك، فنحن أبناء نطفة تكونت من ذكر وأنثى، وهكذا كل من ولد وكل من خلق من آبائنا وأجدادنا بعد آدم وحواء ، إلا عيسى عليه السلام، فقد خلقه الله من أم بلا أب، قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59].

يقول تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ [يس:77].

هذا الإنسان الذي طغى وتكبر، وذهب يقهر البشر، وذهب يأكل أموال الناس بالباطل، وذهب يكفر بخالقه ورازقه، فلم يتذكر خلقه الأول، فقد خلق من تراب، ثم خلق من نطفة مهينة، والنطفة هي القطرة من الماء، وهي من الإنسان قطرة خاصة هي البذرة البشرية بعد ذلك، فتخرج من الصلب، ثم تكون في رحم المرأة في قرار مكين إلى أجل معلوم.

ولذلك يقول الله جل جلاله: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس:77] فإذا بهذا المخلوق من نطفة ينسى أصله، فيخاصمنا ويجادلنا ويقول: مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] يقول ذلك زوراً وباطلاً، ويقول ذلك كفراً وشركاً، ويخاطب به أنبياءه ويجادلهم بكلام باطل، ولو تذكر نفسه وكيف خرجت، ولو رأى غيره مثله لما قال هذا ولما خطر له على بال.

يقول تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس:77] أي: شديد الخصومة، يتألى على الله ويقول: أنا ربكم الأعلى.

قال تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78].

جاء هذا المخاصم المجادل في الله يضرب الأمثال ويقول: كيف نبعث وقد أصبحنا عظاماً نخرة فانية؟! فكيف يجمع الله خلقنا؟! ليس هذا بواقع هكذا يزعم الكفرة الجاحدون.

يقول ربنا عن هذا: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78] نسي كيف خلق، وذلك أعظم من إعادته، إذ الإعادة أهون من الابتداء، والكل هين على الله جل جلاله، فهو القادر على كل شيء، فهذا الإنسان نسي كيف خلق، وهو يعلم أنه لم يكن شيئاً مذكوراً، ثم بعد ذلك تكون في رحم أمه، ثم بعد ذلك خرج وليداً ضعيفاً، لا يكاد يعي ولا يدرك ولا يعرف، ثم تدرج إلى يافع ثم إلى شاب ثم إلى كهل ثم إلى شيخ هرم، ثم يرد إلى أرذل العمر، ثم يعود إلى التراب كما جاء من تراب.

والقادر على خلق الإنسان أولاً قادر على إعادته.

وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بأن كل شيء من ابن آدم سيفنى وسيصبح تراباً إلا عجب الذنب، وعجب الذنب هو فقرة في آخر العمود الفقري، فهذه الفقرة لا تفنى، وهي بذرة بشرية، فعند النفخ في الصور النفخة الأخيرة يسقي الله الأرض مطراً، وإذا بهذا الإنسان يصبح بشراً سوياً كما كان، ويصبح ناظراً إلى آخرته، ويذهب إلى العرض على الله وإلى الحساب، فإما إلى جنة وإما إلى نار.

يقول تعالى: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] أي: رميمة، كقوله تعالى: وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم:28] أي: ما كانت بغية.

وسبب نزول هذه الآية هو أن العاص بن وائل -والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب- جاء إلى رسول الله ومعه عظم، فأخذ يفته ويذروه في الهواء، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتزعم أن ربك يحيي هذا العظم وهو رميم؟! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (سيميتك ثم يبعثك ثم يدخلك النار)، ومات مشركاً، فمصيره إلى جهنم وبئس المصير.

قال تعالى: قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79].

قل -يا رسولنا- لهؤلاء الجاحدين: يحيي هذه العظام الذي أنشأها أول مرة.

وهذا ضرب من القياس، حيث قاس الله خلقنا مرة ثانية على خلقنا أولاً، ففي البداية أنشأ خلقنا على غير مثال سابق قبل أن يكون، ولم يكن شيئاً مذكوراً.

فهؤلاء الملاحدة قالوا: كيف نحيا بعد أن نكون رمماً، وهل سيعود آباؤنا؟

فكان الجواب لهم ما علمنا الله أن نقول، وهو جواب بمنطق العقل، ومنطق الوعي والإدراك: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:79] أي: بعد أن لم تكن، فإذا كان الله قد خلقنا على غير مثال سابق، فهو جل جلاله أقدر على أن يحيينا مرة ثانية.

قال تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79] فهو العليم بجميع خلقه؛ لأنه خالقهم، والكل خلق الله، والكل سيفنى، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88].

قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:80].

وهذه الحجة حجة أخرى قاطعة، فهذا المنظر يراه كل إنسان، فالأرض ييبس ورقها، وإذا بفصل الربيع يأتي، فتعود الحياة إلى الشجر، ومن هذه الأشجار نأخذ حطباً نطبخ عليه الأكل، فصارت هذه الأخشاب بعد الخضرة مادة للنار بعد أن كان فيها الماء، فالله تعالى هو الذي خلق من الماء والشجر، وخلق من الشجر ناراً، ولولا هذه النار لكنا في غاية ما تكون المشقة، فجعل الله لنا من هذا الشجر الأخضر ناراً ننضج بها اللحم، وننضج بها الخبز.

فالله جل جلاله يعلمنا كيف نتكلم وكيف ندعو إلى الله، فنخاطبهم بلغة العقل بما يعجزهم عن الجواب وعن الرد ويدحض شركهم، فضرب تعالى لنا الأمثال في خلق الإنسان من نطفة إلى جسد شريف، ومن الشجر الأخضر الذي يصير إلى نار موقدة.

قال تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس:81].

بلى يا ربنا، فأنت القادر الذي خلق السموات، ونحن نراها مرفوعة، وخلق الأرض وما عليها من جبال وبحار وبشر.

فهذا الذي خلق ذلك أليس بقادر على أن يخلق مثل هؤلاء المضلين؟! أليس خلْق السموات والأرض أعظم من خلق الناس؟! فأين نحن من عظمة السموات والأرضين وما فيهما وما عليهما؟!

فالناس لا يخلقون ذبابة ولو اجتمعوا على خلقها، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب.

يقول تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس:81].

أي: أليس من خلق هذه السموات والأرضين قادراً على أن يخلق مثل هؤلاء البشر؟! بلى يا ربنا، فأنت القادر على كل شيء، ونؤمن بذلك بكل حواسنا وخلايا أجسامنا.

فالله تعالى يعلمنا الجواب لهؤلاء الكافرين، فهو الذي خلق السموات العلى، وهو الذي خلق الأرض، وهو الذي خلق ما بينهما، ولم يخلق ذلك معه شريك ولا معين ولا وزير، فجل جلاله وعز مقامه.

قال تعالى: بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس:81].

الخلاق: صيغة مبالغة، فهو الخالق لكل شيء، وهو العليم بكل شيء، لأنه خالقه ومدبره.